كان اسمه (محمود) ولكن الناس ينادونه (أبو شوارب)! ولعل الناس على حق؛ فهم لا يدعونه بمحمود لأنه في الحقيقة لم يكن محمود الصفات. وكانوا ينادونه (أبو شوارب) لأن خمسة عشر سنتمتراً من الشعر الأسود الكثيف كانت تغطي أعلى شفتيه!
ولو أردت نموذجاً، صادق التعبير، لصورة مجرم خطر، لما ترددت في أن أقدم إليك محموداً، فهو بعينيه الواسعتين، وشاربيه الطويلين، وأنفه الذي يشبه منقار الديك، وشعر رأسه الكث، الطويل، ليبدو لك ما يبدو المجرم الخطر في فيلم من الأفلام المصرية
وفوق ذلك كان يشتغل بالتهريب، وهو عريق في مهنته، يعرف كيف يضلل رجال الجمارك ويفلت من شباكهم، فكان ربحه كثيراً، ولكن مال الحرام للحرام - كما يقولون - فبقدر ما كان (أبو شوارب) يربح من طريق الحرام، كان ينفق من ربحه على الحرام أيضاً، حتى لم تبق في المدينة راقصة أو بائعة جسد إلا ذاقت لذة دنانيره الدسمة!
والمصيبة أنه كان متزوجاً، وله من زوجه ثلاثة أولاد أكبرهم في العاشرة، وأصغرهم في ربيعه الأول. . ولكنه والله لم يكن يدري أنه زوج لامرأة، وأب لثلاثة أولاد، اللهم إلا ساعة واحدة في كل أربع وعشرين ساعة!. . فهو في النهار يمارس مهنته في الخارج. وربما في خارج البلد، وفي المساء يقصد الملاهي والحانات ينشد المتعة بين كؤوس الخمر وأحضان الراقصات، فإذا عاد إلى بيته في ساعة متأخرة من الليل، عاد ثملاً، فاقد الوعي، فيرمى بجسده المتهالك على فراشه وكأنه خرقة بالية. . وقد لا يعود إليه رشده، إلا قبيل الشروق، ساعة يلتف حوله أولاده الصغار، يوقظونه ليتناول فطوره، لا هناه الله بفطور!
وزوجه المسكينة قد أذاقها صنوف العذاب، وجرعها كؤوس العلقم، حتى باتت المفجوعة تبتهل إلى الله في كل ساعة من ساعات يومها، وتطلب منه، أما أن يعيد زوجها إلى صوابه، وأما أن يميتها فينتهي في الأرض عذابها!. . ودموعها، ما كانت تجف لحظة من مآقيها!. . كيف لا تبكي، وهذا زوجها لا يكاد يلتفت إليها أو يحسب حساباً لبيته ولأولاده!
كانت تخافه وتخشاه لما عرفت فيه من خشونة وقسوة، ولكنها كثيراً ما كانت تضيق ذرعاً بأساها، وينفذ معين صبرها فتروح تعاتبه، أو تلومه، فتتلقى من يده الفولاذية عشرات اللكمات، وينزل على أم رأسها آلاف اللعنات!. . ولولا أنها كانت تنتهز فرصة سكره، واستغراقه في النوم، فتمد يدها إلى جيوبه، تبحث في زواياها عما أفلت من يد الراقصات أو المومسات، لما كانت تلقى ما تنفقه على أولادها وبيتها!
كانت الزوجة المسكينة تعاني كثيراً من العذاب والأسى والمرارة، ولشدة ما كانت تعاني جف اللبن في ثدييها وطفلها الثالث لا يزال رضيعاً، فاضطرت إلى الإسراع في فطامه وظل في حاجة إلى اللبن، وكان غذاؤه بسيطاً يعوزه الكثير من العناصر التي تساعد على النمو، فهزل جسده، وذبل عوده، ثم ما لبث أن لحقه السقام، ولم يعد يكف عن الأنين والتوجع. . . وكان كبد أمه يتفتت، ونياط قلبها يتمزق، حين تسمع أنين ولدها وتعجز عن تخفيف الألم عنه، وأبعاد الأذى عن جسده النحيل وأبوه القاسي القلب، لا يريد أن يعرف أن ولده يكاد يموت، وأنه في حاجة إلى الطبيب؛ لأن ذلك يكلفه مالاً! فراحت المسكينة تحمل ولدها من عجوز إلى عجوز، تطلب عندهن الدواء الرخيص والشفاء الكاذب!
وذات يوم كنت في مقصورة جانبية في أحد الملاهي، فرأيته يدخل الملهى مع أثنين من زملائه الأشرار، واتخذوا مجلسهم في مقصورة مجاورة لي، فكنت اسمعهم يتحدثون، وأراهم يشربون ويعبثون، حتى قفزت إلى المسرح راقصة فارسية راحت تبدي من فنها الرخيص ما يلهب الحواس وفي جسدها المكشوف ما يسير الشهوات، فإذا صاحبنا كله عيون وكله آذان، وإذا هو يبدي إعجابه بالراقصة ويعلن لزميله رغبته في مجالستها، وفعلاً ما كادت الفارسية تنتهي في أداء (نمرتها) حتى أشار إليها أحد الصديقين إشارة فهمت معناها، فأقبلت ضاحكة لاهية، وجلست على ركبتي صاحبنا (أبو شوارب) فإذا هو يفرط نشوته، يأمر بزجاجة كاملة من (الويسكي) يشهد الله أن سعرها لم يكن يقل يومئذ عن العشرين ديناراً إن لم يزد!
قلت لنفسي وأنا أرقبها من بعيد: (يا لها من خبيرة! إنها تعرف دخائل النفوس، وتجيد قراءة الوجوه. لقد رأت رغبة الرجل، وأحست بالنار المتأججة فيه، فعرفت كيف ترضيه، وكيف تسلبه محفظته المنتفخة بالدنانير.
كنت أرقبها خلسة، فرأيتها تضع رأسها وشعرها وتدفن عطرها ودلالها في صدر الرجل، وتداعب بأناملها اللطيفة وجهه وتفرك بلطف أذنيه، وسمعتها تتحدث إليه بالفارسية وقد رسمت على وجهها صورة صادقة التعبير لغرام عنيف وحب عظيم، وسمعت أحد الصديقين يفسر (لأبو شوارب) كلمات المرأة الفارسية على أنها غزل وغرام عاصف به، فانتشى (أبو شوارب) وانتفخت أوداجه، وتراقصت على شفتيه شواربه، وما كان منه إلا أن دس بين نهديها بورقة مالية ذات مائة دينار!
وفجأة. . رأيت صبياً صغيراً. أقترب من المقاصير وراح يتفرس في وجوه الجالسين، فلما وقعت عيناه على (أبو شوارب) أسرع إليه يصيح. . بابا. . بابا. . أسرع بربك. . . إن أمي لفي حاجة إليك.
ولكن بابا ساعتئذ كان في عالم آخر. . . قد أفقدته الخمرة شعوره، وسلبته الفارسية وقاره، فأخذها من يدها ومضى بها إلى مقصورة جانبية ليتم معها السهرة، ولما سمع صوت ولده وهو يبكي ويولي هارباً لفظ من فمه كلمة سباب ثقيلة استأنست بها الراقصة الفارسية - فأطلقت هي الأخرى كلمة مقابلة اتبعتها بضحكة فاجرة وسارت مع صيدها الثمين.
ومع خيوط الفجر الحمراء. . . عاد (أبو شوارب) إلى داره ولكنه ما كاد يقترب منه بضع خطوات، حتى ألفى الناس متجمهرين على بابه، وسمع صراخ النسوة يتعالى من داخله. . . فأطلق ضحكة طويلة، وقال: مات؟. . . الحمد لله.؟
وتابع سيره من غير أن يدخل الدار!
البصرة. عراق
يوسف يعقوب حداد
29 - 05 - 1950
ولو أردت نموذجاً، صادق التعبير، لصورة مجرم خطر، لما ترددت في أن أقدم إليك محموداً، فهو بعينيه الواسعتين، وشاربيه الطويلين، وأنفه الذي يشبه منقار الديك، وشعر رأسه الكث، الطويل، ليبدو لك ما يبدو المجرم الخطر في فيلم من الأفلام المصرية
وفوق ذلك كان يشتغل بالتهريب، وهو عريق في مهنته، يعرف كيف يضلل رجال الجمارك ويفلت من شباكهم، فكان ربحه كثيراً، ولكن مال الحرام للحرام - كما يقولون - فبقدر ما كان (أبو شوارب) يربح من طريق الحرام، كان ينفق من ربحه على الحرام أيضاً، حتى لم تبق في المدينة راقصة أو بائعة جسد إلا ذاقت لذة دنانيره الدسمة!
والمصيبة أنه كان متزوجاً، وله من زوجه ثلاثة أولاد أكبرهم في العاشرة، وأصغرهم في ربيعه الأول. . ولكنه والله لم يكن يدري أنه زوج لامرأة، وأب لثلاثة أولاد، اللهم إلا ساعة واحدة في كل أربع وعشرين ساعة!. . فهو في النهار يمارس مهنته في الخارج. وربما في خارج البلد، وفي المساء يقصد الملاهي والحانات ينشد المتعة بين كؤوس الخمر وأحضان الراقصات، فإذا عاد إلى بيته في ساعة متأخرة من الليل، عاد ثملاً، فاقد الوعي، فيرمى بجسده المتهالك على فراشه وكأنه خرقة بالية. . وقد لا يعود إليه رشده، إلا قبيل الشروق، ساعة يلتف حوله أولاده الصغار، يوقظونه ليتناول فطوره، لا هناه الله بفطور!
وزوجه المسكينة قد أذاقها صنوف العذاب، وجرعها كؤوس العلقم، حتى باتت المفجوعة تبتهل إلى الله في كل ساعة من ساعات يومها، وتطلب منه، أما أن يعيد زوجها إلى صوابه، وأما أن يميتها فينتهي في الأرض عذابها!. . ودموعها، ما كانت تجف لحظة من مآقيها!. . كيف لا تبكي، وهذا زوجها لا يكاد يلتفت إليها أو يحسب حساباً لبيته ولأولاده!
كانت تخافه وتخشاه لما عرفت فيه من خشونة وقسوة، ولكنها كثيراً ما كانت تضيق ذرعاً بأساها، وينفذ معين صبرها فتروح تعاتبه، أو تلومه، فتتلقى من يده الفولاذية عشرات اللكمات، وينزل على أم رأسها آلاف اللعنات!. . ولولا أنها كانت تنتهز فرصة سكره، واستغراقه في النوم، فتمد يدها إلى جيوبه، تبحث في زواياها عما أفلت من يد الراقصات أو المومسات، لما كانت تلقى ما تنفقه على أولادها وبيتها!
كانت الزوجة المسكينة تعاني كثيراً من العذاب والأسى والمرارة، ولشدة ما كانت تعاني جف اللبن في ثدييها وطفلها الثالث لا يزال رضيعاً، فاضطرت إلى الإسراع في فطامه وظل في حاجة إلى اللبن، وكان غذاؤه بسيطاً يعوزه الكثير من العناصر التي تساعد على النمو، فهزل جسده، وذبل عوده، ثم ما لبث أن لحقه السقام، ولم يعد يكف عن الأنين والتوجع. . . وكان كبد أمه يتفتت، ونياط قلبها يتمزق، حين تسمع أنين ولدها وتعجز عن تخفيف الألم عنه، وأبعاد الأذى عن جسده النحيل وأبوه القاسي القلب، لا يريد أن يعرف أن ولده يكاد يموت، وأنه في حاجة إلى الطبيب؛ لأن ذلك يكلفه مالاً! فراحت المسكينة تحمل ولدها من عجوز إلى عجوز، تطلب عندهن الدواء الرخيص والشفاء الكاذب!
وذات يوم كنت في مقصورة جانبية في أحد الملاهي، فرأيته يدخل الملهى مع أثنين من زملائه الأشرار، واتخذوا مجلسهم في مقصورة مجاورة لي، فكنت اسمعهم يتحدثون، وأراهم يشربون ويعبثون، حتى قفزت إلى المسرح راقصة فارسية راحت تبدي من فنها الرخيص ما يلهب الحواس وفي جسدها المكشوف ما يسير الشهوات، فإذا صاحبنا كله عيون وكله آذان، وإذا هو يبدي إعجابه بالراقصة ويعلن لزميله رغبته في مجالستها، وفعلاً ما كادت الفارسية تنتهي في أداء (نمرتها) حتى أشار إليها أحد الصديقين إشارة فهمت معناها، فأقبلت ضاحكة لاهية، وجلست على ركبتي صاحبنا (أبو شوارب) فإذا هو يفرط نشوته، يأمر بزجاجة كاملة من (الويسكي) يشهد الله أن سعرها لم يكن يقل يومئذ عن العشرين ديناراً إن لم يزد!
قلت لنفسي وأنا أرقبها من بعيد: (يا لها من خبيرة! إنها تعرف دخائل النفوس، وتجيد قراءة الوجوه. لقد رأت رغبة الرجل، وأحست بالنار المتأججة فيه، فعرفت كيف ترضيه، وكيف تسلبه محفظته المنتفخة بالدنانير.
كنت أرقبها خلسة، فرأيتها تضع رأسها وشعرها وتدفن عطرها ودلالها في صدر الرجل، وتداعب بأناملها اللطيفة وجهه وتفرك بلطف أذنيه، وسمعتها تتحدث إليه بالفارسية وقد رسمت على وجهها صورة صادقة التعبير لغرام عنيف وحب عظيم، وسمعت أحد الصديقين يفسر (لأبو شوارب) كلمات المرأة الفارسية على أنها غزل وغرام عاصف به، فانتشى (أبو شوارب) وانتفخت أوداجه، وتراقصت على شفتيه شواربه، وما كان منه إلا أن دس بين نهديها بورقة مالية ذات مائة دينار!
وفجأة. . رأيت صبياً صغيراً. أقترب من المقاصير وراح يتفرس في وجوه الجالسين، فلما وقعت عيناه على (أبو شوارب) أسرع إليه يصيح. . بابا. . بابا. . أسرع بربك. . . إن أمي لفي حاجة إليك.
ولكن بابا ساعتئذ كان في عالم آخر. . . قد أفقدته الخمرة شعوره، وسلبته الفارسية وقاره، فأخذها من يدها ومضى بها إلى مقصورة جانبية ليتم معها السهرة، ولما سمع صوت ولده وهو يبكي ويولي هارباً لفظ من فمه كلمة سباب ثقيلة استأنست بها الراقصة الفارسية - فأطلقت هي الأخرى كلمة مقابلة اتبعتها بضحكة فاجرة وسارت مع صيدها الثمين.
ومع خيوط الفجر الحمراء. . . عاد (أبو شوارب) إلى داره ولكنه ما كاد يقترب منه بضع خطوات، حتى ألفى الناس متجمهرين على بابه، وسمع صراخ النسوة يتعالى من داخله. . . فأطلق ضحكة طويلة، وقال: مات؟. . . الحمد لله.؟
وتابع سيره من غير أن يدخل الدار!
البصرة. عراق
يوسف يعقوب حداد
29 - 05 - 1950