بتاريخ: 25 - 10 - 1948
صديقي الأستاذ توفيق الحكيم
أشكر الظروف الطيبة التي هيأت لنا أسباب اللقاء، وتلك اللحظات الممتعة التي جمعت بيني وبينك حول مائدة الأدب والفن تحدثني وأحدثك، وتصغي إلى وأصغي إليك، ونغترف معا من شتى الطعوم والألوان. . .
ولقيتني لقاء الصديق، وكأننا كنا على ميعاد، وأشهد لقد أكبرت فيك كثيرا من نواحي الشخصية الإنسانية، تلك التي كنت أجهلها قبل أن ألقاك. ولقد قلت لنفسي بعد أول لقاء: ليتني قد عرفتك من قبل، لتستقيم لي النظرة إلى فنك على هدى الخصائص الأصيلة في شخصيتك. . . ومع ذلك قد هيا لي هذا اللقاء أن أبلغ منتصف الطريق إلى الغابة، وأن أكشف الغطاء عن كثير!
وكان لقاء آخر طويت فيه الطريق كله حتى بلغت منتهاه، والفضل في ذلك منسوب إليك؛ لأنك حدثتني عن نفسك وعن فنك حديثا طويلا لمست فيه حرارة الصدق المنزه عن الأغراض.
لقد هاجمتك في الأيام الأخيرة مرة هنا ومرات هناك، وعلى الرغم من هذا كله فقد أدبك أن تشد على يدي، وأن تثني على قلمي، وأن تلقني لقاء الصديق. . . ويشهد الله أنني ما هاجمتك إلا لأنني أقدرككل التقدير، وأحمل لك في نفسي رصيدا مذخورا من الذكريات الغالية. أنت في عالم معدن نفيس، ومن حقي أن أزيل بيد الناقد ما علق بالمعدن النفيس من غبار الحياة. . .
هذا ما كنت أقوله لك من يلقاني معاتبا على موقفي منك، وكنت أزيد على ذلك قولي: لقد عودني توفيق الحكيم أن ألقاه في القمم، فإذا ما هبط مره عن مستواه، فمن حقي أن أثور عليه لأرده بهذه الثورة إلى مكانه الطبيعي!
قلت لك هذا فقدرت الدافع وشكرت القصد، وملأت نفسي إعجابا برحابة صدرك وسماحة طبعك، وتقبلك النقد بروح مثالية هي روح الفنان.
وخضنا أيها الصديق الكريم في حديث طويل خرج منه الأدب والفن بنصيب كبير، وخرجت منه (أخبار اليوم) بتلك الكلمة القيمة التي كتبتها على أثر لقائنا وبوحي من نقاشن حول طبيعة الفن ورسالة الفنان. . .
أما حديثنا، فقد التقينا فيه حول الكثير، وافترقنا حول القليل، والفضل في ذلك أيضاً منسوب إليك؛ لأنك حين رحت تقص على كثيراً من المؤثرات النفسية والدوافع الوجدانية، تلك التي يستجيب لها قلمك ويخضع لها فنك، وضعت بين يدي كثرا من الوثائق التي يحتاج إليها الناقد، إذا ما أراد أن يقيم الميزان للعمل الفني مرتبطا بشخصية صاحبه، ومتصلا بأسباب النفس والحياة. . . ومن هنا حلت نظرة جديدة إلى فنك محل النظرة القديمة، تلك التي لم يكن أمامها لنتظر إليك غير طريق واحد، كل معالمه سطور وكلمات!
ما قصدت من وراء هذا المقال إلى أن أسجل ما دار بيني وبينك من نقاش حول طبيعة الفن ورسالة الفنان، وحول أمور أخرى تطرق إليها الحديث، لأنها تتصل بنقاش من قريب أو من بعيد، إن لذلك كله مناسبة أخرى أرجو أن أعرض فيها لكثير مما اتفقنا أو اختلفنا عليه. . .
كل ما أقصد إليه هو أن أكشف لقراء الرسالة عن ناحية من نواحي شخصيتك الأدبية والإنسانية تركت أثرها البعيد في نفسي؛ ومن حقك على أن أشير إليها في كثير من التقدير والإعجاب، وهي دعوتك المخلصة إلى توثيق عرى الصداقة في الأدب، وإيمانك العميق بجدوى الصفاء بين الأدباء. . .
واذكر أنك كتبت في هذا الموضوع مرة في (الرسالة)، وتعرضت في سبيل تلك الغاية الكريمة لهجوم بعض أصحاب الظنون ممن لم يؤمنوا بصدق دعوتك!
أما أنا، فقد لمست حرارة إخلاصك ونبل مقصدك في موفقين لن أنساهما لك: أولهما موقفك من الصديق النبيل صاحب (الرسالة) حين قلت فيه كلمة حق لا أدري لم غصت بهاحلوق فلم تنطق بها شفاه! وثانيهما موقفك من الدكتور طه حسين، حين لم يجد كلمة عزاء تنسيه وحشة الطريق وتنكر الصديق؛ لقد وفقت وحدك لتصافحه بروحك من وراء الآماد والأبعاد. . .
إنك بكلمتيك هاتين قد أقمت الدليل على أن الدنيا ما زالت بخير، وأن أصحاب الفضل لن يعدموا من يقول فيهم كلمة الحق، ولو حال بينها وبين الجهر بها كثير من الدوافع والأغراض! لقد كان حديثنا في آخر لقاء يدور حول هذا الموضوع لا يكاد ينأى عنه حتى يعود إليه. . . ولقد قالت لك فيما قلت: ليتنا يا صديقي نملك كثيرا من أمثالك؛ أولئك الذين يحفظون عهد الصديق، ويلتمسون سبل الخير، وينشدون وجه الحق، ولكن أين هم؟ أين من يطلق رأيا كرأيك بكلمة صدق تقال في الزيات؟ وأين من يرفع صوتا كصوتك بكلمة عزاء توجه إلى طه؟! لقد انتظرت رجع الصدى لما كتبت، فضاع الأمل وخاب الرجاء! أما أنت فقد أخجلتني حين قلت لي: يا أخي، حسبي أنك تقف إلى جانبي. . .
وحين رحت أقص عليك بعض ما أعلم وتعلم من جدوى الصداقة على الأدب، متمثلا ببعض النماذج الإنسانية في أدب العالم، عقبت على ذلك بقولك: يا أخي، إن الأدب الرفيع حق كله، وخير كله، وجمال كله. . . فلم نشوه الحق بالضغائن، ونطمس الخير بالسخائم، ونفرش طرق الجمال بالأحقاد؟! إننا نقبل هذا في دنيا السياسة، لأن رجالها قوم مشدودون إلى الأرض، ينظرون إلى يومهم وما فيه من أسلاب، ولا يتطلعون إلى غدهم وما فيه من أمجاد!
أما في دنيا الأدب، فما أوسع الشقة وأبعد الفارق، إن رجال الأدب قوم تربطهم بالسماء خيوط إلهية غير منظورة، وما أحرى المتصلين بالسماء أن يكونوا قدوة حسنة لهذا الجيل الصاعد في صفاء النفس ونقاء السريرة وشرف الغاية. . . .
ترى لو فقد الجيل الصاعد إيمانه بنا، نحن الذين أقمنا من أنفسنا هداة ندله على مواطن الخير ونرشده إلى معالم الطريق، فماذا يبقى له ليؤمن به؟!
لو تحقق الصفاء في الأدب لما أنكر حق من الحقوق، ولما ضاع قدر من الأقدار، ولما اختل في تحديد القيم ميزان!
يا صديقي توفيق، مرة أخرى أعود فأقول لك: ليتنا نملك كثيرا من أمثالك، أولئك الذين يحفظون عهد الصديق، ويلتمسون سبل الخير، وينشدون فيما يقولون وجه الحق.
أنور المعداوي
صديقي الأستاذ توفيق الحكيم
أشكر الظروف الطيبة التي هيأت لنا أسباب اللقاء، وتلك اللحظات الممتعة التي جمعت بيني وبينك حول مائدة الأدب والفن تحدثني وأحدثك، وتصغي إلى وأصغي إليك، ونغترف معا من شتى الطعوم والألوان. . .
ولقيتني لقاء الصديق، وكأننا كنا على ميعاد، وأشهد لقد أكبرت فيك كثيرا من نواحي الشخصية الإنسانية، تلك التي كنت أجهلها قبل أن ألقاك. ولقد قلت لنفسي بعد أول لقاء: ليتني قد عرفتك من قبل، لتستقيم لي النظرة إلى فنك على هدى الخصائص الأصيلة في شخصيتك. . . ومع ذلك قد هيا لي هذا اللقاء أن أبلغ منتصف الطريق إلى الغابة، وأن أكشف الغطاء عن كثير!
وكان لقاء آخر طويت فيه الطريق كله حتى بلغت منتهاه، والفضل في ذلك منسوب إليك؛ لأنك حدثتني عن نفسك وعن فنك حديثا طويلا لمست فيه حرارة الصدق المنزه عن الأغراض.
لقد هاجمتك في الأيام الأخيرة مرة هنا ومرات هناك، وعلى الرغم من هذا كله فقد أدبك أن تشد على يدي، وأن تثني على قلمي، وأن تلقني لقاء الصديق. . . ويشهد الله أنني ما هاجمتك إلا لأنني أقدرككل التقدير، وأحمل لك في نفسي رصيدا مذخورا من الذكريات الغالية. أنت في عالم معدن نفيس، ومن حقي أن أزيل بيد الناقد ما علق بالمعدن النفيس من غبار الحياة. . .
هذا ما كنت أقوله لك من يلقاني معاتبا على موقفي منك، وكنت أزيد على ذلك قولي: لقد عودني توفيق الحكيم أن ألقاه في القمم، فإذا ما هبط مره عن مستواه، فمن حقي أن أثور عليه لأرده بهذه الثورة إلى مكانه الطبيعي!
قلت لك هذا فقدرت الدافع وشكرت القصد، وملأت نفسي إعجابا برحابة صدرك وسماحة طبعك، وتقبلك النقد بروح مثالية هي روح الفنان.
وخضنا أيها الصديق الكريم في حديث طويل خرج منه الأدب والفن بنصيب كبير، وخرجت منه (أخبار اليوم) بتلك الكلمة القيمة التي كتبتها على أثر لقائنا وبوحي من نقاشن حول طبيعة الفن ورسالة الفنان. . .
أما حديثنا، فقد التقينا فيه حول الكثير، وافترقنا حول القليل، والفضل في ذلك أيضاً منسوب إليك؛ لأنك حين رحت تقص على كثيراً من المؤثرات النفسية والدوافع الوجدانية، تلك التي يستجيب لها قلمك ويخضع لها فنك، وضعت بين يدي كثرا من الوثائق التي يحتاج إليها الناقد، إذا ما أراد أن يقيم الميزان للعمل الفني مرتبطا بشخصية صاحبه، ومتصلا بأسباب النفس والحياة. . . ومن هنا حلت نظرة جديدة إلى فنك محل النظرة القديمة، تلك التي لم يكن أمامها لنتظر إليك غير طريق واحد، كل معالمه سطور وكلمات!
ما قصدت من وراء هذا المقال إلى أن أسجل ما دار بيني وبينك من نقاش حول طبيعة الفن ورسالة الفنان، وحول أمور أخرى تطرق إليها الحديث، لأنها تتصل بنقاش من قريب أو من بعيد، إن لذلك كله مناسبة أخرى أرجو أن أعرض فيها لكثير مما اتفقنا أو اختلفنا عليه. . .
كل ما أقصد إليه هو أن أكشف لقراء الرسالة عن ناحية من نواحي شخصيتك الأدبية والإنسانية تركت أثرها البعيد في نفسي؛ ومن حقك على أن أشير إليها في كثير من التقدير والإعجاب، وهي دعوتك المخلصة إلى توثيق عرى الصداقة في الأدب، وإيمانك العميق بجدوى الصفاء بين الأدباء. . .
واذكر أنك كتبت في هذا الموضوع مرة في (الرسالة)، وتعرضت في سبيل تلك الغاية الكريمة لهجوم بعض أصحاب الظنون ممن لم يؤمنوا بصدق دعوتك!
أما أنا، فقد لمست حرارة إخلاصك ونبل مقصدك في موفقين لن أنساهما لك: أولهما موقفك من الصديق النبيل صاحب (الرسالة) حين قلت فيه كلمة حق لا أدري لم غصت بهاحلوق فلم تنطق بها شفاه! وثانيهما موقفك من الدكتور طه حسين، حين لم يجد كلمة عزاء تنسيه وحشة الطريق وتنكر الصديق؛ لقد وفقت وحدك لتصافحه بروحك من وراء الآماد والأبعاد. . .
إنك بكلمتيك هاتين قد أقمت الدليل على أن الدنيا ما زالت بخير، وأن أصحاب الفضل لن يعدموا من يقول فيهم كلمة الحق، ولو حال بينها وبين الجهر بها كثير من الدوافع والأغراض! لقد كان حديثنا في آخر لقاء يدور حول هذا الموضوع لا يكاد ينأى عنه حتى يعود إليه. . . ولقد قالت لك فيما قلت: ليتنا يا صديقي نملك كثيرا من أمثالك؛ أولئك الذين يحفظون عهد الصديق، ويلتمسون سبل الخير، وينشدون وجه الحق، ولكن أين هم؟ أين من يطلق رأيا كرأيك بكلمة صدق تقال في الزيات؟ وأين من يرفع صوتا كصوتك بكلمة عزاء توجه إلى طه؟! لقد انتظرت رجع الصدى لما كتبت، فضاع الأمل وخاب الرجاء! أما أنت فقد أخجلتني حين قلت لي: يا أخي، حسبي أنك تقف إلى جانبي. . .
وحين رحت أقص عليك بعض ما أعلم وتعلم من جدوى الصداقة على الأدب، متمثلا ببعض النماذج الإنسانية في أدب العالم، عقبت على ذلك بقولك: يا أخي، إن الأدب الرفيع حق كله، وخير كله، وجمال كله. . . فلم نشوه الحق بالضغائن، ونطمس الخير بالسخائم، ونفرش طرق الجمال بالأحقاد؟! إننا نقبل هذا في دنيا السياسة، لأن رجالها قوم مشدودون إلى الأرض، ينظرون إلى يومهم وما فيه من أسلاب، ولا يتطلعون إلى غدهم وما فيه من أمجاد!
أما في دنيا الأدب، فما أوسع الشقة وأبعد الفارق، إن رجال الأدب قوم تربطهم بالسماء خيوط إلهية غير منظورة، وما أحرى المتصلين بالسماء أن يكونوا قدوة حسنة لهذا الجيل الصاعد في صفاء النفس ونقاء السريرة وشرف الغاية. . . .
ترى لو فقد الجيل الصاعد إيمانه بنا، نحن الذين أقمنا من أنفسنا هداة ندله على مواطن الخير ونرشده إلى معالم الطريق، فماذا يبقى له ليؤمن به؟!
لو تحقق الصفاء في الأدب لما أنكر حق من الحقوق، ولما ضاع قدر من الأقدار، ولما اختل في تحديد القيم ميزان!
يا صديقي توفيق، مرة أخرى أعود فأقول لك: ليتنا نملك كثيرا من أمثالك، أولئك الذين يحفظون عهد الصديق، ويلتمسون سبل الخير، وينشدون فيما يقولون وجه الحق.
أنور المعداوي