مضى وقت طويل على آخر مرة زرت فيها ذلك المكان , الذي عادة ما أزوره في واحدة فقط من حالتين اثنتين , فأما حين أشارك في تشييع جنازة ما , وإما في احد العيدين , حيث أضطر إلى أن اذهب وحدي أو مع أخي وأبناء عمي , حيث نصلي عادة في المسجد الذي يقبع على أطراف المقبرة , قبل أن نتوجه إلى أضرحة أحبائنا الذين مضوا , نقرأ الفاتحة على أرواحهم ونستذكرهم قليلا , قبل أن نعود أدراجنا , تبلل وجناتنا الدموع , ويلفنا الصمت , إلى أن نغادر محيط المقبرة .
كل مرة أجيء فيها إلى هذا المكان يهالني ما يكون قد ازداد فيه من مقبورين جدد , حتى كدت آخر مرة أن أتوه عن مرقد عمي , كما كنت أمر بين الأضرحة بحذر وغالبا ما أضطر للدوران , حتى أتجنب أن تدوس قدماي ضريحا حديثا , لم يقم أقرباء الميت بعد ببنائه بالحجر الأبيض أو الأسمنتي .
هذه المرة ما لفت انتباهي كان أمرا آخر , فليس بعيدا عما كنت أقف أمام شاهد قبر عمي , أقرأ الفاتحة , كان يجلس على كرسيه المتحرك جارنا أيمن, أمام ضريح غير مشهر بشكل لافت , لكنه بارز عن سطح الأرض , أمام شاهد , كان يذرف الدموع , ولا يبدو عليه الخشوع المعتاد الذي ينتابنا عادة في حضرة ذكرى الراحلين .
اقتربت منه حتى صرت وراء ظهره تماما , وحيث أني اعتقدت أن شخصا ما قد رحل من عائلتهم , حيث لابد لي أن أكسب اجر قراءة الفاتحة عليه , رغم أني قلبت في رأسي كل من رحلوا خلال الفترة الماضية , وعلى كثرتهم , ومتوالية الغارات التي أودت بحياة الكثيرين , إلا أني لم احدد بالضبط من الذي توفي من عائلة جيراننا ويمت لأيمن بصلة القرابة الأولى , حتى يتجشأ عناء ومشقة الزيارة , وهو الذي فقد ساقيه قبل بضعة أشهر فقط في آخر غارة على الحارة , وكان يمكنه حتى أن يقرأ الفاتحة على من يشاء في المنزل .
قبل أن ارفع يدي وأبدأ بتلاوة فاتحة الذكر الحكيم , صوبت عيني إلى شاهدة القبر لأقرأ اسم الفقيد . وفي لحظة كنت أجدني مشدوها , حين قرأت : هنا يرقد النصف السفلي للسيد أيمن , الذي غادره بعد الغارة الجوية التي شنها طيران العدو على حارة الشجاعية ...
لم أتمالك نفسي حينها , وفي لحظة كنت احتضنه , أو ما تبقى منه , أي نصفه العلوي , ودون إذن مني كانت يداي تمسحان دموعه التي كانت تنزلق على وجنتيه بصمت ., ثم قمت بمسك مقبض كرسيه المتحرك , وأدرته بالاتجاه الآخر , وعدت به إلى البيت .
هوامش :
_ أخبرتني أمه انه منذ فقد نصفه السفلي , وصحته ( في النازل ) بعد أن فقد شهيته للأكل , وبات انطوائيا , لا يحب أن يراه احد في هذه الحالة , وهو لا يخرج إلا لذاك المكان حيث التقيته قبل قليل .
_ أما زوجته فقالت لي أنه بات لا يطيق النظر في وجهي , بعد أن حارب الدنيا كلها حتى يتزوج مني , وأضافت بان الدمع يكاد لا يفارق وجنتيه , فيما النوم جافاه وهو لا ينام إلا وهو جالس .
_ أخوه همس في أذني قائلا : بأنهم قبل عدة ليال صحوا جميعا على صراخه وهو يحلم , حيث كان ينبش قبر ساقيه , ساعيا إلى إخراجها , وانه سأله يوما إن كان الطب يمكنه أن يعيد تركيب الساقين , ولو على شكل ساقين اصطناعيتين له , ليتعكز عليهما ؟
_ أخت صغيره له قالت لي وأنا أغادر , أن أيمن يرغب في الموت , فهو كل يوم يذهب إلى حيث ساقاه مدفونتان , ويعتقد أن الموت وحده يمكن أن يجمع بين أشلائه .
رجب أبو سرية
غزة
كل مرة أجيء فيها إلى هذا المكان يهالني ما يكون قد ازداد فيه من مقبورين جدد , حتى كدت آخر مرة أن أتوه عن مرقد عمي , كما كنت أمر بين الأضرحة بحذر وغالبا ما أضطر للدوران , حتى أتجنب أن تدوس قدماي ضريحا حديثا , لم يقم أقرباء الميت بعد ببنائه بالحجر الأبيض أو الأسمنتي .
هذه المرة ما لفت انتباهي كان أمرا آخر , فليس بعيدا عما كنت أقف أمام شاهد قبر عمي , أقرأ الفاتحة , كان يجلس على كرسيه المتحرك جارنا أيمن, أمام ضريح غير مشهر بشكل لافت , لكنه بارز عن سطح الأرض , أمام شاهد , كان يذرف الدموع , ولا يبدو عليه الخشوع المعتاد الذي ينتابنا عادة في حضرة ذكرى الراحلين .
اقتربت منه حتى صرت وراء ظهره تماما , وحيث أني اعتقدت أن شخصا ما قد رحل من عائلتهم , حيث لابد لي أن أكسب اجر قراءة الفاتحة عليه , رغم أني قلبت في رأسي كل من رحلوا خلال الفترة الماضية , وعلى كثرتهم , ومتوالية الغارات التي أودت بحياة الكثيرين , إلا أني لم احدد بالضبط من الذي توفي من عائلة جيراننا ويمت لأيمن بصلة القرابة الأولى , حتى يتجشأ عناء ومشقة الزيارة , وهو الذي فقد ساقيه قبل بضعة أشهر فقط في آخر غارة على الحارة , وكان يمكنه حتى أن يقرأ الفاتحة على من يشاء في المنزل .
قبل أن ارفع يدي وأبدأ بتلاوة فاتحة الذكر الحكيم , صوبت عيني إلى شاهدة القبر لأقرأ اسم الفقيد . وفي لحظة كنت أجدني مشدوها , حين قرأت : هنا يرقد النصف السفلي للسيد أيمن , الذي غادره بعد الغارة الجوية التي شنها طيران العدو على حارة الشجاعية ...
لم أتمالك نفسي حينها , وفي لحظة كنت احتضنه , أو ما تبقى منه , أي نصفه العلوي , ودون إذن مني كانت يداي تمسحان دموعه التي كانت تنزلق على وجنتيه بصمت ., ثم قمت بمسك مقبض كرسيه المتحرك , وأدرته بالاتجاه الآخر , وعدت به إلى البيت .
هوامش :
_ أخبرتني أمه انه منذ فقد نصفه السفلي , وصحته ( في النازل ) بعد أن فقد شهيته للأكل , وبات انطوائيا , لا يحب أن يراه احد في هذه الحالة , وهو لا يخرج إلا لذاك المكان حيث التقيته قبل قليل .
_ أما زوجته فقالت لي أنه بات لا يطيق النظر في وجهي , بعد أن حارب الدنيا كلها حتى يتزوج مني , وأضافت بان الدمع يكاد لا يفارق وجنتيه , فيما النوم جافاه وهو لا ينام إلا وهو جالس .
_ أخوه همس في أذني قائلا : بأنهم قبل عدة ليال صحوا جميعا على صراخه وهو يحلم , حيث كان ينبش قبر ساقيه , ساعيا إلى إخراجها , وانه سأله يوما إن كان الطب يمكنه أن يعيد تركيب الساقين , ولو على شكل ساقين اصطناعيتين له , ليتعكز عليهما ؟
_ أخت صغيره له قالت لي وأنا أغادر , أن أيمن يرغب في الموت , فهو كل يوم يذهب إلى حيث ساقاه مدفونتان , ويعتقد أن الموت وحده يمكن أن يجمع بين أشلائه .
رجب أبو سرية
غزة