أحماد بوتالوحت - قصة بلال الْحمرِي..

" واصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا ، وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ"
قرآن كريم .

صدح الديك على سطح السفينة " زمردة " هب بلال من نومه ، كانت زوجته قد إستيقظت منذ ساعة ، وأعدت له فطوره ، وضعت على مائدة في وسط المطبخ ، سلطانية من حساء الشعير وطبقاً من الثمر ، إنهمك في شرب الحساء وقضم حبات الثمر ، وخارج السفينة صارت السماء لازوردية و كانت قطعة منها تطل على بلال من زجاج إحدى النوافذ ، مضى زمن لم ير الرجل مثل تلك المسحة الساحرة المتوجة بقوس قزح ،كان السيد قد أوحى إلى الأرض أن تبلع ماءها وإلى السماء أن تقلع ، وكف الجو أن يكون باردا ومال ذلك الصباح إلى الإعتدال ،مما دعا بلالا أن يستغني عن قميصه الصوفي ودخل المطبخ بجدع عاري ، كان بلال فارعاً ، قوي العظام وكانت كفاه عريضتان و على ساعده الأيمن وشم لقلب يخترقه سهم ينز دماً ، وكان شعر صدره أثيثاً و كذلك شعرحاجبيه وكانت عيناه كأنما خرجتا من بين كومتين من القش ، وعلى كتفيه قبضتين من شعر أسود ، وجهه كان أسطورياً كأنما نحث من صخرة ، أما أنفه فكان معقوفاً ، وعيناه غائرتان .
تزوج بلال "هنية الحمرية " وهي بعدُ صغيرة ، بعد أن تخلت عن أسوإ عاداتها : مص إبهام يدها اليمنى وقضم أظافرها غير أنها لم تتخل عن لعبة الحجلة إلا لاحقاً ، وكانت "هنية الحمرية "ممتلئة وفارعة الطول كبشر ذلك الزمن ومتناسقة وكاملة البنيان ليس فيها ما يعيبها غير قلق غريب مفاجيء ينتابها فتبدأ بنكش إحدى فتحتي أنفها الأخنس، وكانت جميلة الوجه.
مفتونا بذلك الصباح الساحر خرج " بلال" إلى سطح السفينة بعد ان أنهى وجبة فطوره ، إتكأ على أحد درابزين السفينة وظل ينظر الى زرقة السماء وإلى إكليل قوس قزح ، طاف على سطح " زمردة " رأى الماء يطوقها من كل الجهات ويمتد في جميع الإتجاهات ، تذكر كيف سخر منه أهل المدينة وهو يصنع الفلك تنفيذاً لأوامر" السيد " وبعد ذلك كيف تصدى هو وأبناؤه الثلاثة لكل محاولات التسلل إلى داخل السفينة والنجاة من العقاب وكيف أحبطوا التمرد الذي تزعمه الزعيمين "الماموث و" الديناصور"
ومحاولتهما السطو على السفينة ، ودفعهما بالمتظاهرين إلى تكسير زجاج نوافذ السفينة ، تذكر كيف أردى الزعيمين بإ ستعمال الرصاص ، ومنع جنس الديناصور والماموث من الصعود إلى الجارية و فرق بعد ذلك بخراطيم المياه تجمهر الحيوانات ـ التي لم ترد أسماؤها في لائحة الناجين من الغرق ـ عند ابواب " زمردة " محتجين على الظلم والجور اللذان لحقا بهم، وقد ذهب بعضهم إلى حد إتهام أفراد من أسرة بلال بالتلاعب في لائحة الإختيار ، كما عبر أغلبهم عن إستياءهم ، رافضين أن يؤخدوا بجريرة المفسدين من البشر .
في الوقت الذي صعد فيه الحمري إلى سطح الجارية كانت زوجته " هنية الحمرية " وكُنَّاتُهَا تتأهبن لكنس وشطف وغسل إسطبلات البهائم ومضاجع الحيوانات ، لبسن أفرولاتهن التي من الجلد الرقيق واحتذين أحذية مطاطية ذوات أعناق كأعناق حيونات اللاما ، إستغرق منهن العمل ساعتان كاملتان من ساعات الصباح الأولى عدن بعدها إلى المطبخ لتناول فطورهن وأثناء ذلك فتحن صفحات من ثرثراتهن المعتادة حول الأزياء والحلي ومواد التجميل وحقائب اليد والعطور والأحذية والجزمات والأحزمة النسائية وحمالات الصدر والتبانات والتنانير والسراويل اللا صقة التي تشد أفخاد النساء وتمنحها تماسكا ، كما شمل حديثهن زوجات الأكابر وطريقة لباسهن و تربية أبناءهن والحرية التي يتمتعن بها وتساهل أزواجهن معهن . وفي غضون ذلك إنشغل بلال الذي عاد لتوه من على ظهر الفلك ، بقراءة الصحف التي جلبها معه ليستأنس بها أثناء السفر وفي أوقات الراحة لما ترسو السفينة .
ملأ جرس منبه الساعة ، الغرفة ضجيجا ، استحال على الفتية معه مواصلة النوم ، متكاسلين متثائبين هبوا من نومهم ،كانوا قد ناموا متأخرين ، الإبن البكر والإبن الأوسط قضوا الليل منكبين على رقعة الشطرنج يلعبون مقابلة تلوى أخرى مراهنين على قناني النبيذ وعلب السجائر الفاخرة ، أما أصغر الأبناء فقد جلس على مقربة منهما يعزف على قيثارته وكان لا يذخن ولا يشرب النبيذ ، لما حضر الثلاثة إلى المطبخ لم يسْلَمُوا من توبيخ بلال وذلك لتأخرهم في النوم ، أفطروا واقفين ثم هبطوا إلى مخزن السفينة مستعملين سلاليم من القنب المجدول كانوا قد نسوا أن يخبروا والدهم بتناقص المؤونة الخاصة بالحيوانات من القبو ، رجع آخر العنقود ليخبر الأب بذلك فيما بقي الآخران يذخنان في المخزن ويفتلان شاربيهما ، كان بلال الحمري مازال غائصا في صفحات إحدى الصحف ، إستمع الى الفتى دون أن يرفع عينيه عن الجريدة ، فكر ماذا يمكن أن يحصل لو إنعدم الزاد من المخزن ، ثم تذكر الصعوبات التي واجهته في بداية رحلة " زمردة ".
قام لتوه إلى مخزن المؤونة وبمساعدة أبنائه إنهمك في تحديد الحصص الجديدة لكل دابة مقلصا وجبة كل فرد إلى قدر يتيح لكل منهم الإستمرار في الحياة .
ـ لسنا في نزهة ! قال لأبنائه .
حمل أبناؤه الحصص ووزعوها على البهائم الذين فوجئوا بكون الوجبات غير كافية ، من مخزن الزاد سمع " بلال "صفير الإستنكار وشعارات تندد بالظلم الذي طال فريق الكائنات الحيوانية وعلى وجه السرعة حضر إلى مضاجع الدواب ، فاطلع البهائم على ضرورة الإقتصاد في الأكل نظرا لنقص الزاد ووعدهم بأرض قال عنها السيد أنها تفيض لبناً وعسلاً سترسو قريباً عليها "زمردة" وعلى هذه الأرض الموعودة سيكون خلاصهم وهناك سيعوضهم السيد جزاء ما صبروا جنات وحريرا.
كان الأسد يبدي استياء ويبرطم وكان بين فينة وأخرى يقاطع" الحمري " الذي كان يكظم غيضه ولا يريد أن يبديه أمام مجمع البهائم ، أخيرا وبعد أن إطمأن أنه أوصل الرسالة ، إنسحب مخفورا بأبناءه. وبتحريض من " الليث ملك القفار" كما أسماه الحمار في كتاب "قراءة الصغار" شيعته البهائم بصفير السخرية والإستهزاء ولم تمض أيام قلائل على هذا الحادث الذي أرَّخَهُ طائر البوم بماء الذهب ، و في ظروف غامضة إختفى الأسد من مضجعه و كان الحمار في قرارة نفسه سعيدا بإختفاء "إيزم " وفي كلام موارب غير صريح أبدى إستعداده لتسيير شؤون أمة البهائم فبدأ بين أصدقاءه حملة ترشيح سابقة لأوانها وأظهر بين هؤلاء سخاء لا نظير له ، بعد أيام سبعة ، ظهر ملك القفارعلى ظهر زمردة ، كان خائرا القوة ولبدته غارقة في البول والبراز وكان يرتعش ويتأتيء ، الديك كعادته ، صعد إلى سطح السفينة ليؤذن ، فرأى هناك الأسد غارقا في خراءه وملقيا على السطح ومن فمه يخرج زبد أصفر . بعد ظهور " إيزم " الجسور ،علق مجهول على أحد حيطان السفينة منشوراً يشرح للبهائم الوضع القائم على ظهر "زمردة" ويدعو إلى المساوات في الإستفادة من المؤونة بين أسرة النوتي "بلال " وبين الدواب المتوحشة والأليفة ويرى صاحب المنشور أنه في الوقت الذي تعج فِيهِ موائد بلال بجميع أصناف الطعام والشراب ، تشهد المَدَاوِدُ نقصاً في المؤونة وتمتليء المضاجع بالبعوض والبراغش والأوبئة وجميع شتى الأمراض المرتبطة بنقص التغذية وعدم سلامتها ، كما دعا المنشورـ الذي أُشْتُبِهَ في نسبه إلى الثعلب ـ إلى التكثل لمواجهة جميع الممارسات اللإنسانية والإختطاف والترهيب وسلب الحريات على مثن الجارية "زمردة" وحَمَّلَ المنشور بلالاً وأبناءه الوضع الإستثنائي الذي برز أخيراً على ظهر السفينة .
لم يكن قد مر يوم واحد على ظهور المنشور حتى اختفى الثعلب ليلاً ، وروجت بعض المصادر المجهولة أن الثعلب اخْتُطِفَ وحمل إلى جهة مجهولة وقد تكون هي الجهة التي حمل إليها " الليث ملك القفار " إلا أن " إيزم" لم يعد يتذكر شيئا عن سجنه ومكانه ، كان "أباغوغ " ليلتها عائدا من أمسية مسرحية أحياها بصحبة الغراب وكانت المسرحية من نص للكاتب الفرنسي " جان دي لافونتين " ، عنوانها " الثعلب والغراب" ولقد عثر على قطعة من الشاش ، يبدو أن المختطف أو المختطفون قد إستعملوها لتبنيج المتمرد ، وصباح اليوم التالي لإختفاء "أباغوغ " أُسْتُدْعِيَ الغراب إلى مكتب " بلال" كان بلال هو نفسه الذي إستدعاه عبر" الأنترفون"، سقط الغراب مغشياً عليه وهو يسمع صوت النوتي ـ الذي إرتجت له الجدران ـ يستدعيه إليه ، ولما صحا لم يعد يقو على الطيران فحمله العقاب على ظهره وأصلح هندامه قبل أن يجلسه على كرسي مواجه لمكتب النوتي بلال وينسحب ، أثنى ذو الوجه المنحوث من الصخر على فضائل أجداد الغراب وذكره بفضل جده الأول على قابيل حين أطلعه على كَيْفِيَةٍ يواري بها سوءة أخيه في التراب << ولولا ه لبقيت الأرض نثنة إلى يومنا هذا>> قال بلال . ومنذ ذلك الحين أصبح لنسل الغربان شأن ، ثم تطرق بلال إلى ما وقع في الأيام الأخيرة على وجه الجارية وهنا ! بدأت فرائص الطير ترتعد كما بدأت جبهته تتعرق وكان يستعجل بقية الخطاب ، ولم يهدأ حتى خلص النوتي إلى بيت القصيد وهو انتذاب"أغايوار" لإستكشاف آفاق الماء والبحث عن أرض تفيض لبنا وعسلاً لترسو عليها السفينة زمردة .
حَمَّل النوتي "أغايوار " بجراب وضع فيه بعض التينات وبعض حبوب الذرة وحبوب القمح ، طار الغراب فوق السفينة ثم بسط جناحيه ودفع صدره إلى الأمام فحلق فوق الماء مستكشفاً كل شبر منه ، نظر إلى الأمام . الماء.!..الماء ! ...لا شيء غير الماء! وفوق الماء ظهرت بعض قرون الأيائل النافقة وأطراف بعض الحيوانات وبعض رؤوس الأشجار والنخيل ، وهنا! وهناك !جثث آدميين في سراويلهم المنتفخة ، كانت الجثث قد بدأت تتفسخ ومن الماء تنطلق نثانة مغثية كانت السماء قد كفت عن الإمطار ، والأرض شرعت في بلع مائها. حط الغراب فوق ذؤابة شجرة ناثئة من الماء ليستريح ويتناول طعامه ، أغفى إغفاءات متفرقة ثم واصل سفره ، لم يتغير وجه الماء ، أوراق متقصفة وبعض الأغصان والثمارالمتعفنة وقش وغثاء وجثث آدميين وحيوانات نافقة في كل شبر ، وظل الطائر على تلك الحال محلقاً وفارداً جناحيه في الريح حتى هدَّهُ التعب وكاد أن يسقط فوق الماء ، وسأل نفسه لماذا أوكلت له هذه المهمة الصعبة بينما الذباب يتسافد على موائد " أمقران " ـ الرجل الكبيرـ الحافلة بأنواع الأنبذة وأفخر الأطعمة ثم خاطب نفسه << إن هذه الأرض التي شربت من دم هابيل ، لن ترتوي أبدا ، وستظل تطلب مزيدا من الدماء ، إلى أن يغرقها السيد أو يطوح بها خارج الكون >> اللعنة ! اللعنة ! قال الغراب ممتلئاً بالغضب ،إلتفت خلفه كان هيكل "زمردة " يبدو نقطة سوداء وأمامه لايابسة تبدو في المدى البعيد فتبشره بالخير ، لعن الغراب قوم بلال الحمري وما تسببوا فيه من دمار .
ـ لا شيء ينبيء عن وجود يابسة ؟ قال " أغايوار " لنفسه .
الشمس تكاد تجنح للمغيب ولم يشاهد الطير ولو رأس جبل يطل من الماء ، مرة أخرى لعن قوم بلال الحمري ، توجس أن يدركه الظلام ولا يجد مكاناً يقضي فيه الليل ، على بعد رأى أغصاناً بادية في الماء ، كانت شجرة متوحدة ، حط على غصن من أغصانها وشرع يأكل من زاده وينظر بين فينة وأخرى إلى وجه السماء الذي بدأ يغص بالظلام ، غفا على الغصن ولما إستيقظ ليتبول كان قطيع من النجوم يزين الأعالي وخلف القطيع قمرقال عنه الغراب << راعي يسوق خراف النجوم >> فكر أن يستعمل هذه الإستعارة في مسرحياته المقبلة ، نظر إلى أسفل الشجرة رأى النجوم على صفحة الماء ففكر :<< قطيع النجوم يورد الماء >>لام نفسه لأنه يفكر وكأنه في نزهة ،فكف عن الخوض فيما أسماه إستعارات الشعراء لما تذكر أن هؤلاء أشد الناس إفلاساً وأن التاريخ لما يذكرهم يذكرهم أمام أبواب الملوك ، والناس لا يتذكرونهم إلا وهم على فراش الموت .
حلق على مستوى الماء وحاول أن يلتقط نجمة يزين بها صدر الغرابة ، إنسل الجراب من عنقه وغرق في الماء ، لم ينم تلك الليلة عدا تلك الإغفاءات المتقطعة على الشجرة التي انتذبها ليقضي عليها الليل ، طلع عليه الصباح وهو يقفز هنا وهناك فوق الماء كلما بدا له شيء يتحرك ، أنهكه التعب والإجهاد ، وأزكمت رائحة النثانة أنفه القريب من سطح الماء . والجوع ! الجوع ! الذي بدأ يفري أحشاءه ، بالكاد الآن يحاول أن يثبت نفسه مستقيماً ويحاول أن يبقى متماسكاً ، رأى جثة آدمية غير بعيد عنه ، سروالها طافٍ على الماء ومنتفخ ، نهش أحشاءها و قضى منها إربه ، أغثته رائحتها لم يتم وجبته أحس بالمكان يدور به ، أوشك على السقوط ، تحامل على نفسه ، ألح عليه القيء لم يخرج من فمه غير ريح نثنة ، من بعيد بدت له خشبة يعبث بها الماء ، تمسك بها واضطجع عليها وهو يهتز ، تدفقت أحشاؤه بسائل أخضر ، لم يعد يعي نفسه ، طافت به الخشبة فوق الماء ، وبفعل ريح قوية هبت صدفة ، أخدت إتجاها معاكسا للإتجاه الذي قدم منه الطائر، كان قد أغمض عينيه ، سبحت الخشبة في إتجاه الريح.
في الليلة التي فقد فيها "أغايوار " جرابه رأت زوجته في المنام كبوساً أفزعها ، كان " أغايوار" يبدو في الحلم "مجذوباً " يمشي في طرقات مدينة مجهولة ، يلبس مسوحاً ، على ظهره كيس فيه مَاخَفَّ من الضروريات ، " هيدورة " للصلاة وخفٌّ وبعض حبات التين المجفف ، يتوعد الناس بيوم لا بيع فيه ولا شراء ،ويدعوهم إلى الخلاص بإقامة " إمارة الشرع " كما أسماها ، مضى عليه زمن وهو على تلك الحال يجوب شوارع المدينة يقتات من فضلاتها إلى أن اختفى ذات فجر أحد الأيام ثم تراءى لها بعد ذلك في نفس الحلم منتوف الريش هزيلا مخيفاً دامع العينين ، أفزعها النحول الذي طال جسمه حتى لم يفضل منه غير رأسه التي بدت كرأس آلة عودٍ ، في الصباح وبعد صياح الديك قصدت " تاغايوارت "إقامة " بلال الحمري" على ظهر السفينة ، قصت عليه الرؤيا ، خرج لتوه إلى سطح المركب ومعه منظاره ، أطل من فوق درابزين السفينة وتفحص الماء المحيط بهيكل الجارية لم يلاحظ شيئاً ، غير أن طائرنقارالخشب أثار إنتباهه إلى وجود خشبة مثاخمة للهيكل وعليها شيء ما ، تقرب الطائر من سطح الماء وصرخ :
ـ إنه طائر الغراب ! إنه طائر الغراب !
صرخ بلال في الضحية :
ـ ماذا فعلت بنفسك أيها المتغوط ؟؟؟
بالحبال أصعدوا " أغايوار " إلى ظهر السفينة كان ممتقعا وعيناه جاحظتان و منظره مروع ، أسعفوه وبعدها قضى ثلاثة أيام في زنزانة إنفرادية لأنه لم يتقيد بتعليمات بلال الحمري .
مضى شهر على عودة الغراب من مهمته المنحوسة كما كان يسميها هذا الأخير .
أثير نقاش بين أفراد أسرة بلال عن الطائر الذي يجب إنتذابه للبحث عن الأرض الموعودة حيث على " زمردة" أن ترسو ، و على أسرة "أمقران " أن تقيم حياة جديدة ، فتم الإتفاق بعد مناقشات طويلة على طائر الحمام لوفائه ونبله ولحرصه على الأمانة ، في ذلك الزمن لم يكن طائر الحمام يتبرج كنساء المدينة ولم تكن له سيقان جميلة ولا فساتين يتباهى بها وكان معروفاً كعداء عالمي وكساعي البريد وقد أهَّلَهُ لهذه المهنة الأخيرة حرصه على أسرار الناس التي كان يلقي بها في بئر عميق لا يعرفه إلا هو ،كما أنه لم يكن يسرح آنها في ساحات المدن الكبيرة ولم يكن يلوث هذه الاخيرة ببرازه ولم يكن يأكل الفشار من كفوف الصغار وكان فقيها متضلعاً في القانون الدولي وقانون البحار وهذاما جعل أسرة الرجل "امقران" بلال تصوت عليه بأغلبية مطلقة .
زود بلال طائر الحمام بجراب أثقله بما لذ وطاب من المأكولات التي يحبها الطائر أما "هنية " فقد خضبت غُرَّتَهُ بالحناء تيمناً برحلة ميمونة ، وزوده "أمقران" ببعض الوصايا ظن الحمام انها لن تنتهي .
ودع "اتبير" أفراد الحيوانات وأسرة بلال الحمري وطار بعيداً عن سطح الماء حيث النثانة لا تطاق كان مستوى الماء قد إنخفض قليلاً ، عاد لما يئس ، ولم يجد ولو شبراً من اليابسة يغرس فيه إبرة لكنه بغصنٍ سَبَرَ مستوى الماء وعمقه فاتضح له ان الماء سيغيض أكثر في الأسابيع المقبلة وربما سيعثر على مكان الارض الموعودة و أول ما سيظهرمنها رأسها ، سَرَّ بلال بهذا الخبر فأمهل الطائر اسبوعا ثم بعث به من جديد وما لبث " أتبير" أن عاد بعد أن أضناه السفر و كان قد رأى رأس يابسة ناتيء من الماء كلفه الوصول إليه جهداً كبيراً ، عاد وهو يحمل غصن زيتون مازال موحلا ومورقاً . أثنى الحمري على الحمام ، وهو يتفحص غصن الزيتون ، وبارك نسله وأعلنه رمزاً للسلام وقلده بوسام " السلام العالمي "، كما بارك الشجرة التي منها الغصن والتي قال عنها السيد أنها لا شرقية ولا غربية وأن زيتها يكاد يضيء وبارك الأرض التي ستقوم عليها الحياة الجديدة .
ليلة ذلك اليوم متع بلال نفسه وأسرته بعشاء فاخر وموائد تسر الناظرين كما أخرج الحمري من خزائن البيت ـ التي لم تخل قط خلال الرحلة بأطيب الأكل والشراب ـ أفخر الأنبذة ولأول مرة أباح لإبنه التي كان يلقبه ب "الرايس " ساخرا منه ، العزف على قيثارته وتشنيف آذان الأسرة بأعذب الالحان والاغاني ، رقص بلال في سرواله الفضفاض كما رقصت " هنية " بصحبته على ألحان" والله زمان "
وكانت في كامل زينتها ، كما رقص الأولاد مع زوجاتهم ، أما الأحفاد فكانوا يتراشقون بالاطباق في المطبخ ملطخين ثيابهم الجديدة ، وفي تلك الليلة ضاعف بلال الحمري حصص كل دابة من الأكل ، أما الذباب فقد أثخم على الموائد ،و في وقت متأخر من اليوم التالي أستأنفت الرحلة إلى الأرض الموعودة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أمقران : كبير القوم *
الرايس : المغني *
أسماء بعض الحيوانات باللهجة الأمازيغية
أتبير : ذكرالحمام *
أغايوار :الغراب *
أباغوغ : الثعلب *
إيزم : السبع *



بوتالوحت احماد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...