[ ليأت الليل ولتدق الساعة / وتمضي النهارات وأبقى أنا / تمر النهارات وتمر الأسابيع / لا زمن ماضٍ / ولا الحب يعود..]
(أبولينير)
***
كل مساء، ما أن يستلقي على سريره، تسكنه فكرتان، رغم وقع الحزن، تغمرانه بنشوة ذات مساء أطربته، فكرتان تؤنسانه، تشكلان معاً أملاً قائماً، ما يزال يحدوه هاجس تحقيقه، فكرتان تباغتانه كلما يجن الليل ويكون هو قد تجرد من متعلقاته الروتينية، تتماهيان فيه ويندمج هو في انتشاء تام ليغادر غرفته ويحط في مكان حفلت ذات مساء بسعادة لا توصف، لم تتنازل النشوة عن لذاتها الأوٌل، كأن فجوة ما حرست ينبوعها من آفة الزمن ورتبت أوقات بث ذلك الوميض الساحر، الأنيس القادم لانتشاله من رتابة الأيام وعزلته، في الصباح دائماً وأبدا، يكتشف أنه قد نال قسطاً وافراً وهانئاً من النوم، يتناول بلا ملل المنديل الجاثم فوق صدره، برفق يطويه وعناية، يشمه برغبة ويقبله بود، قبل أن يدسه في جيبه اليسار، كونه النديم الملامس للقلب، جيب خزن أسراره وفيه تراقصت الومضات السحرية لزمن عنيد ـ كان هو فارسه ـ يرفض التهرؤ..!!
***
لم يرغب أو تداعبه فكرة في لحظة ما أن ينسلخ من الهاجسين، رغم ضغط المصير، وتقلبات الظروف ، أكتشف أن ذاكرته تتجدد صباح كل يوم وتكون في ذروة التأجج ليلاً، ذاكرة تمده بما يجرده من تفاهة حاضره، تحاصره شلالات ضوئية ـ كلما يرخي جسده ـ تلفه وتأخذه إلى قلب فرح قديم ، إلى محراب فتاة جردته من دعاسيب الشيخوخة، وزرعت في ربوع قلبه نبتة الأمل، تهاوت أوراق عمره بلا اكتراث، وظل أميناً على أرخبيل ينبع منه أنبل مساء عاشه، حولته عشية ليلة وضحاها إلى كائن حالم، يمتلك قلباً تتدفق فيه رغبات بلا حدود، وله عينان تقرئان جوهر الأشياء..!!
***
فتاة.. ذات مساء بعيد، وقفت بجرأة أمامه، باغتته من حيث لم يحتسب، حاول لحظتها وفيما بعد أيضاً أن يستوعب ما حصل له، وقف مستفزاً ـ كسمكة في شبكة ـ يتأملها، ومشاعره تنفلت، لم يعد لسانه ملك إرادته، وعيناه تحجرتا على بقعة ضوء هل بعد خسوف ثقيل، في مكان غير آمن، مكان يثير الشبهات، في مدينة منغلقة، ناسها لا ترحم نسائها، تنبذ فكرة الحب وتعتبره جريرة لا تغتفر، وقفت برغبة وشجاعة أمامه، وجومها أشعره أنها تقصده هو بالذات، فشل أن يستوعب أسئلة عينيها، أو تفسير نداءاتها الواضحة، ربما ترصدته ـ هذا ما فكر به لاحقاً ـ اختارت الزمان المناسب والمكان المحدد، اخترقت ممراً خانقاً، اجتازت اشتباكات الأفنان المتهدلة للأشجار وجحافل القصب المسيّج للحدائق المهملة، مكان يندر أن يمر فيه أمرؤ، ليس لأنه عصي الاجتياز فقط، بل يفضي بشكل متعرج إلى نهر البلدة أيضاً..!!
***
لم يضطرب قلبه كما أضطرب في تلك اللحظة، ولم يتعثر لسانه كما تعثر، مازال كلما يستلقي حين يهبط المساء، تأخذه سفينة الأمل إلى مكان الواقعة، رغم بعد المسافة الزمنية الفاصلة، يشعر بحرارة اللحظة وحراجة الموقف، لم يشعر بهكذا امتحان، كائن ضئيل باغته ووضع بين يديه أسئلة الوجود دفعة واحدة، كان عليه أن يجب دفعة واحدة عن تلك الأسئلة الخالدة، ما زال يتدفأ بالنشوة ، يتذكر كيف ترجلت الكلمات من رأسه، كل ما هندس من أبيات شعرية، رآها خيول تهبط لتموت في أرض المجابهة، فتاة صادقة، من عينيها عرف ذلك، مسكونة بحلم غريب جديد، يتراقص وسط نيران لذيذة، سرت لفحاته إلى مساماته، وصار في طرفة جفن خارج الزمن وداخل جنينة ،
ابتسمت بشكل عجيب لحظة وقفت أمامه، لا تزال نصاعة أسنانها تعكس في خياله صورته، فيما بعد تذكر كيف ذاب في زرقة عينيها، وكيف اكتشف أعماق تضج بعصافير تخنقها أقفاص، ندم لأنه لم يحررها من الأسر، لقد كان مشلولاً، منتفض القلب، يغمره زفيرها وأمواج عينيها الناطقتين..
***
في ذلك المساء الجديد.. كان مترنماً يتهادى، تسكنه نشوة قصيدة جديدة، لسانه ينسج، وخياله حصان ينطلق في براري بلا حدود، هاجس يدفعه، أراد أن يصل إلى أصدقائه، هكذا كان كلما يكتب قصيدة، يشنف أسماعهم ويناقش ملاحظاتهم، لقد شعر أصيل ذلك اليوم بشيء مجهول يناوره ، وكان النهر خير أنيس له من فوضى الحياة، دائماً هو هناك، دائماً يكتشف كلمات تدحرجها الموجات المتصارعة، وكان يلتذ وهو يلتقطها جواهر برّاقة لبناء فكرته، كان أصيلا في غاية الألق ، مازال يصر أن ذهابه في ذلك المساء لم يكن بدافع من القصيدة فحسب، بل هاجس ما اكبر من إرادته، ساقه وجلس، لأن ربة الإلهام حملت قواميس الدنيا وبسطتها فوق وجه النهر، ليس ذلك فقط، حتى النسيم بلغ ذروة الانتعاش، انتهى من تدوينها وألقم النهر فائض أوراقه، قبل أن تباغته الفتاة، منتصف المسافة، ما بين حذاء النهر ورصيف الشارع الرئيس، لابد أنها حسبت ميقات عودته ، وعرف بعد حين أن الفتاة الصادقة لا تخطئ في حساباتها العاطفية، جاءت كما رسمت في بالها المشهد وما رغبت، لكنه ـ إلى الآن ـ يجهل كيف تبخرت القصيدة من ذهنه ولسانه، وكيف لم يشعر بالخيول تنسحب من مطارداتها المسائية، فيما بعد توصل إلى قناعة تامة، أن أمواج العيون ابلغ أثراً من موسيقى الوجدان، لقد ظنها قادمة من كوكب آخر، مازال الاعتقاد يغازله بذلك، في تلك الوقفة، تعطلت حواسه ونسى العالم كله، جاءت لتوقف حياته على لحظة شباب دائم، وتوجته كائناً متسامياً خارج واقعه، وقف.. لا يعرف ماذا يفعل، وناضل كثيراً كي يوقف هروب ذاكرته، موج أقوى منه جذبه وابتلعه، موج ازرق قادم من مصبين قصيين، وفي غمرة الذوبان التفت أذرع أخطبوط حوله، ولم يعد بإمكانه يعرف كيف تخلص من تلك الأذرع الملتفة حول رقبته..!!
***
كلما يأوي إلى منامه، تأتي عربة الأمل لتأخذه، ليس هناك ملل، في كل ليلة يسافر إلى مساء ساحر ، ليتناول باقة من عشبة الخلود، وحين يصل إلى المشهد بلا إرادة ترتفع يده ليتأكد أن كانت تلك الأذرع لا تزال تطوق رقبته، حرارة يداها، لهفة عيناها، إيقاعات قلبها، رجفات صدرها، قبل أن تختم جائحتها بقبلة ـ رغم المسافة الزمنية الفاصلة ـ لا تزال تحتفظ بصداها، ليس بوسعه أن يقتنع ، فاليقين يحدوه أن عيون تلصصت ورأت ما رأت، المكان مشبوه، يثير حفيظة كل مستطرق أو عابر سبيل، ممر مهمل رأسه شارع رئيس وذيله نهر لا يذهب أليه إلى صيّاد سمك أو هو بالذات كونه الفضاء الممول والمعين المفتوح لقريحته الشعرية، مكان ـ هكذا قرر ـ لا يجب لفتاة تمتلك عينان بلون السماء أن تتواجد فيه، يحاججه الظن أنها استقطبت ممن يرغب التلصص ومعرفة ما يجري في المنزويات الحافلة بالشبهات، وقف واجماً أمامها، يريد أن يعرف ماذا حدث وكيف حدث الذي حدث، رنين ثغر صرح بما فيه، كان ذلك آخر نغمة موسيقية ختمت المشهد، رآها ترتبك.. رآها تستدير.. رآها تمضي.. رآها تتعثر بالقصب المتمايل، وكان هو منشغلاً بما حدث وسكن على خده، وما بدأت تقذفه مساماته من مياه ساخنة..!!
***
لم يحصل أن رأى فتاة امتلكت جرأة تؤهلها أن تقذف نيرانها بوجه مشعلها، ولم يقرأ في يوم ما أن فتاة ما أسلمت أرادتها لرغبة عابرة، لكم سمع وقرأ وكتب، لا تعدو سوى إفرازات خيال أوان الجموح، إلاّ في مساء صار مساؤه، فتاة جاءت كنمرة جائعة، بها ضنا شوق وحرائق، رصدت الطريدة ونالت عشبة نقاهتها، لم يفكر في يوم ما بغير الشعر، لم يعرف قبل ذلك المساء، أن من الفتيات من يمتلكن وقاحة مؤدبة، ينطقن لا بلسانهن بل بالعينين، واحدة تربصت به ووقفت أمامه ، شلته، قالت ما يسكنها بعينيها المتكلمتين، وختمت صراحة اعترافاتها لا بلسانها بل بثغرها..!!
***
كان شاعر المدينة وعريف احتفالاتها، كلما يصعد إلى المسرح ، ينال تصفيقاً منقطع النظير، كثيرات يجلسن في الصفوف الأمامية، كان يتساءل دائماً، إن كانت ممن تحضر وتصفق له، فهو متأكد أنه ما احتفظ بوجه فتاة قط، ولا اهتم في لحظة ما بمسائل العاطفة إلاّ في كتاباته، في تلك الليلة لا يزال يتذكر كيف جفاه السهاد وكيف وقف أمام نافذة غرفته، وراح يبحث عن ذلك الممر الخانق رغم عتمة الليل، وجد نفسه أمام لوحة لم يكن هو مبدعها، بل هو إحدى العلامات الفارقة فيها..!!
***
شاب لم يدخل إلى مدرسة المسرات، تهبط أمامه فتاة تندلق من عينيها بحران، غابة أحراش.. أشجار واجمة.. رفوف قصب نائمة.. خيول تنطلق.. أوراق تتطاير، ما زال يريد أن يعرف لم وقفت الفتاة بدربه، قد تكون ربة الإلهام، تنكرت وجاءت لاسترداد ما أعطته لأنها أخطأت التقدير، هكذا ظن يتردد في ذهنه ، يريد أن يصل إلى جواب يريحه من الرحيل الدائم كلما يأتي الليل، لم أتت وأين ذهبت ، وكيف السبيل أليها..!!
***
مرت أيام قبل أن يقف هو أمامها،لا يمكن أن ينسى ذلك، اعتبر اللحظة،خاتمة لمفتتح حياة اختزلت تراجيدياتها ومآسيها في برق ومض وكانت السعادة وكانت الآمال وكانت المسير الطويل الممتع ، فاصلة زمنية من فواصل لا تتكرر، الآن يتذكر كيف وقف، كيف وقفت هي، كيف سقط المظروف من يده، كيف سقطت حزمة أوراق من يدها، كيف ارتعش، ابتسم، كيف ارتعشت، كيف فتحت ثغرها، (فيما بعد) تعذر عليه أن يكتشف فارقاً ما بين الوقفتين، ذات النصاعة للأسنان، نفس النداءات الذبيحة، نفس الحرائق، هزت شعرها، تقدمت منه وحدّقت في عينيه، كان مأخوذاً، لا يعرف (الآن) لم أصابه ذات الشلل الذي باغته يوم وقفت بدربه، رآها ترفع المظروف، رآها تجري اللازم، تجفل لحظة انساب خرير زلال وأطفأ نيرانه، كانت نهاية دراماتيكية، انتهى كل شيء ، وظلت بحوزته فكرتان، باحت له مكنونها، حرائقها الأبدية مذ رأته، ما عاد الليل فراشها المبثوث ، ولا النهار دار القرار، هو من قفل عقلها وسلب وجدانها، ما عاد الهواء يملأ رئتيها أن لم يكن شعره الأوكسجين المذاب فيه، كشفت الغطاء عن أسرارها، ويا ليتها ما فعلت، كانت تفتح رسائله وتستنسخ قصائده المرسلة إلى الصحف والمجلات، صارت كما صرحت له، طيراً بلا مأوى، وجدته العش، ريشة في مهب الريح، تحلق بحثاً عن مستقر، لا أحد غيره يرجع العواطف إلى سلة القلب..!!
***
كلما يأوي إلى فراشه، تقلقه قلقاً جميلاً، تأتي في الزمان المحدد، كما كانت في ذلك المساء السعيد ، (الآن) هو يمتلك كامل الرغبة ولديه استعداداً كي يقول لها أشياء جميلة، لكنها غدت ومضة برق في يوم غائم هكذا يصفها، لم يهمل زقاقاً واحدا، راقب أبواب منازل المدينة كلها، وقف في كراج نقل المسافرين، وقف بباب دائرة البريد صباحاً ومساء، حضر إلى احتفالات الأعراس، مضى صوب كل إشاعة أو واقعة، تحرى عن فتيات متن بغموض، استفسر عن فتيات ألقين أنفسهن في نهر المدينة ، دائماً يعود من تجوالاته وكله يقين أنه في يوم ما، في مكان ما واجدها..!!
***
تمر الأيام.. الأشهر.. السنوات، اكتشف نفسه أسيرة لأمل قائم، أمل صار سفينة في متاهات بحار ومحيطات، كل مساء لحظة ينتهي من أعماله ويتأكد أن القصيدة خارج أفلاك زمنه، تحط قربه لتأخذه إلى شجرة سعادته، كما كانت بكل لوعتها تهل، كقمر في لحظة اتساق، ليل يأتي وليل يمضي ، لا شيء يتبدل، الليل لا يزال يجثم على آثام العالم، يفتح آفاقه أمام سفينته، النهر ما زال يلهث إلى حتفه، الكلاب تنبذ حداثة الحياة، لمّا تزل تتمسك بعادتها القديمة، النباح.. النباح، وليذهب العالم إلى الجحيم، يرسل نظره إلى السديم المتهالك تحت سياط النجوم، يسحب المنديل من جيبه الملتصق بالقلب، يفرده برفق، هناك بقعة ضوء، في مساء بعيد، شع وسكن، مساء وقفت حياته، لأن فتاة وقفت بدربه، ليس ثمة شك أنها قصدته، طالما تركت الجرم المشهود، وقفت بدربه وقالت أشياء كثيرة بعينيها لم تعد تهمه الآن، خنقته بذراعيها ونست ثغرها على خده اليمين، لحظة فرّت من أمامه، أراد أن يتخلص من ماء وجهه، أراد أن يمسك روحه كي لا تغادره، لم يدرك أنه أرّخ الواقعة، وصنع بلا تخطيط مسبق سفينة هذا الرحيل المفرح الدائم، ثغر دام يتواجد كما كان، ما زال يتذكر كيف عاد إلى غرفته، كيف نسى رفاقه في المقهى، لقد كان يحتضن العالم كله بين أضلعه، هكذا شعور تملكه في ذلك المساء الجديد، شعر أنه أصبح أنساناً فوق العادة، مؤهلاً للأحلام الكبيرة، وعرف لحظتها أيضاً أن القصيدة مهما بلغت أعجازيتها لا تمنح هكذا سعادة، ثغر فتاة يتواجد معه بكل ألق وشوق ورغبة يرتسم على منديل لا يريد أن يتهرأ، ثغر لا يزال كما كان يرافقه إلى أبد الآبدين..!!
***
أراد أن يتأكد من نفسه، شكله مازال كما كان، هيكله لم يجر عليه أي تغير، لقد عصف به زلزال بلا استشعار، لم يحاور نفسه حول كيفية وصوله إلى غرفته في فندق المدينة، يتذكر (الآن) لحظة وصوله، كيف هرع إلى المرآة، لقد ظنّ كل الظنِّ، أن شيئاً ما قد حدث، يشعر به ـ لا يزال ـ كلما يأتيه الليل ويكون هو داخل سفينة الأمل، أقدامه لم تعد أقدامه، شكله يحاور نسائم جديدة، عيناه تريان ألوان لم يكتشفها التشكيليون، قامته صارت تنطح الغيم، قلبه يفيض كشلالات مائية تنحدر بألق، (أراد أن يتأكد) يتذكر كيف أحتد لحظة رأى (وشم ) ثغر فتاة أتته ووقفت أمامه، لقد كان يرتسم بكل تحدي ورغبة، ثغر يلتصق على خده اليمين، أحمر بلون الدم، مازال يحتفظ بوهج المساء، مازال ينطق، ما زال يغرد كلما يريد أن يتجرد من أعباء النهارات المملة، مازال يتذكر كيف سحب من جيبه المنديل، كيف شدهتا عيناه، كيف انفتح فمه: لقد نست ثغرها..!! (هكذا صرخ) لحظتها ولا يزال حتى هذه اللحظة يتبرك به، يشعره كل ليلة أنه إنسان مفعم بالحياة، يراوده أملاً يتفرع إلى هاجسين، هاجس القصيدة التي سبتت وهاجس فتاة ذات مساء ودود وقفت بدربه ورحلت من غير إعلام، كله يقين أن الهاجسين ينبعان من معين واحد ويرتبطان روحياً بينبوعين، أحدهما سيفجر الآخر، أن تبرعم أحدهما، ستورق الحياة وتنطلق خيول الذاكرة صوب مهاد الشعر والحب..!!
***
يتكرر المشهد.. كلما ينهض من نومه، يجد القلم يائساً (يشخر) بين الأوراق المبعثرة، ينهض، يتهندم ، يلبس نظارته، يتناول عكازه، يلقي نظرات متوجسة إلى الصباح المستفيق، يحاول أن يستوعب التغيرات الجارية في هندام الحياة، يحاول أن يرصد الشوارع المتقاطعة، الأزقة الحديثة المتداخلة، وكلما تترآى له فتاة، ينطلق أليها (قد تكون هي)، ربما احتفظت بسر جمالها، ربما ظلت صغيرة لا تريد أن تكبر، مثلما هو لا يريد أن ينسلخ من مساء بعيد حفل بسعادته المؤجلة، يلهث كلما يرى فتاة، لا يهمه أن تقهقر، المهم أنه يؤدي ما عزم عليه وأقسم على ذلك مذ وقفت الفتاة أمامه وتركت صراحة على منديله ثغرها..!!
***
تمر الأيام.. الأشهر.. السنوات.. لا جديد، يستعيد التقويم دورته، يبدأ بتقليب أوراقه من جديد.. تواصل الشمس شروقها وغروبها.. الفصول تتعاقب.. عليه أن يواصل الانتظار، مادام الأمل يحدوه.. مادام يتسلح بثغر عذب ناطق.. ثغر يذكره بمساء مسراته.. مساء بعيد.. مساء سعيد .. مساء جديد.. مساء يذكره بفتاة هبطت من كوكب منسي، وقفت أمامه، ودونما شعور منه، طوقت رقبته ورسمت على خده اليمين فجوة الأمل..!!
** منشورة ضمن المجموعة القصصية (ثغرها على منديل) الحائزة على جائزة الإبداع في مسابقة ناجي نعمان الثقافية ـ لبنان ـ في دورتها الخامسة 2007 .ستصدر نهاية هذا العام.
(أبولينير)
***
كل مساء، ما أن يستلقي على سريره، تسكنه فكرتان، رغم وقع الحزن، تغمرانه بنشوة ذات مساء أطربته، فكرتان تؤنسانه، تشكلان معاً أملاً قائماً، ما يزال يحدوه هاجس تحقيقه، فكرتان تباغتانه كلما يجن الليل ويكون هو قد تجرد من متعلقاته الروتينية، تتماهيان فيه ويندمج هو في انتشاء تام ليغادر غرفته ويحط في مكان حفلت ذات مساء بسعادة لا توصف، لم تتنازل النشوة عن لذاتها الأوٌل، كأن فجوة ما حرست ينبوعها من آفة الزمن ورتبت أوقات بث ذلك الوميض الساحر، الأنيس القادم لانتشاله من رتابة الأيام وعزلته، في الصباح دائماً وأبدا، يكتشف أنه قد نال قسطاً وافراً وهانئاً من النوم، يتناول بلا ملل المنديل الجاثم فوق صدره، برفق يطويه وعناية، يشمه برغبة ويقبله بود، قبل أن يدسه في جيبه اليسار، كونه النديم الملامس للقلب، جيب خزن أسراره وفيه تراقصت الومضات السحرية لزمن عنيد ـ كان هو فارسه ـ يرفض التهرؤ..!!
***
لم يرغب أو تداعبه فكرة في لحظة ما أن ينسلخ من الهاجسين، رغم ضغط المصير، وتقلبات الظروف ، أكتشف أن ذاكرته تتجدد صباح كل يوم وتكون في ذروة التأجج ليلاً، ذاكرة تمده بما يجرده من تفاهة حاضره، تحاصره شلالات ضوئية ـ كلما يرخي جسده ـ تلفه وتأخذه إلى قلب فرح قديم ، إلى محراب فتاة جردته من دعاسيب الشيخوخة، وزرعت في ربوع قلبه نبتة الأمل، تهاوت أوراق عمره بلا اكتراث، وظل أميناً على أرخبيل ينبع منه أنبل مساء عاشه، حولته عشية ليلة وضحاها إلى كائن حالم، يمتلك قلباً تتدفق فيه رغبات بلا حدود، وله عينان تقرئان جوهر الأشياء..!!
***
فتاة.. ذات مساء بعيد، وقفت بجرأة أمامه، باغتته من حيث لم يحتسب، حاول لحظتها وفيما بعد أيضاً أن يستوعب ما حصل له، وقف مستفزاً ـ كسمكة في شبكة ـ يتأملها، ومشاعره تنفلت، لم يعد لسانه ملك إرادته، وعيناه تحجرتا على بقعة ضوء هل بعد خسوف ثقيل، في مكان غير آمن، مكان يثير الشبهات، في مدينة منغلقة، ناسها لا ترحم نسائها، تنبذ فكرة الحب وتعتبره جريرة لا تغتفر، وقفت برغبة وشجاعة أمامه، وجومها أشعره أنها تقصده هو بالذات، فشل أن يستوعب أسئلة عينيها، أو تفسير نداءاتها الواضحة، ربما ترصدته ـ هذا ما فكر به لاحقاً ـ اختارت الزمان المناسب والمكان المحدد، اخترقت ممراً خانقاً، اجتازت اشتباكات الأفنان المتهدلة للأشجار وجحافل القصب المسيّج للحدائق المهملة، مكان يندر أن يمر فيه أمرؤ، ليس لأنه عصي الاجتياز فقط، بل يفضي بشكل متعرج إلى نهر البلدة أيضاً..!!
***
لم يضطرب قلبه كما أضطرب في تلك اللحظة، ولم يتعثر لسانه كما تعثر، مازال كلما يستلقي حين يهبط المساء، تأخذه سفينة الأمل إلى مكان الواقعة، رغم بعد المسافة الزمنية الفاصلة، يشعر بحرارة اللحظة وحراجة الموقف، لم يشعر بهكذا امتحان، كائن ضئيل باغته ووضع بين يديه أسئلة الوجود دفعة واحدة، كان عليه أن يجب دفعة واحدة عن تلك الأسئلة الخالدة، ما زال يتدفأ بالنشوة ، يتذكر كيف ترجلت الكلمات من رأسه، كل ما هندس من أبيات شعرية، رآها خيول تهبط لتموت في أرض المجابهة، فتاة صادقة، من عينيها عرف ذلك، مسكونة بحلم غريب جديد، يتراقص وسط نيران لذيذة، سرت لفحاته إلى مساماته، وصار في طرفة جفن خارج الزمن وداخل جنينة ،
ابتسمت بشكل عجيب لحظة وقفت أمامه، لا تزال نصاعة أسنانها تعكس في خياله صورته، فيما بعد تذكر كيف ذاب في زرقة عينيها، وكيف اكتشف أعماق تضج بعصافير تخنقها أقفاص، ندم لأنه لم يحررها من الأسر، لقد كان مشلولاً، منتفض القلب، يغمره زفيرها وأمواج عينيها الناطقتين..
***
في ذلك المساء الجديد.. كان مترنماً يتهادى، تسكنه نشوة قصيدة جديدة، لسانه ينسج، وخياله حصان ينطلق في براري بلا حدود، هاجس يدفعه، أراد أن يصل إلى أصدقائه، هكذا كان كلما يكتب قصيدة، يشنف أسماعهم ويناقش ملاحظاتهم، لقد شعر أصيل ذلك اليوم بشيء مجهول يناوره ، وكان النهر خير أنيس له من فوضى الحياة، دائماً هو هناك، دائماً يكتشف كلمات تدحرجها الموجات المتصارعة، وكان يلتذ وهو يلتقطها جواهر برّاقة لبناء فكرته، كان أصيلا في غاية الألق ، مازال يصر أن ذهابه في ذلك المساء لم يكن بدافع من القصيدة فحسب، بل هاجس ما اكبر من إرادته، ساقه وجلس، لأن ربة الإلهام حملت قواميس الدنيا وبسطتها فوق وجه النهر، ليس ذلك فقط، حتى النسيم بلغ ذروة الانتعاش، انتهى من تدوينها وألقم النهر فائض أوراقه، قبل أن تباغته الفتاة، منتصف المسافة، ما بين حذاء النهر ورصيف الشارع الرئيس، لابد أنها حسبت ميقات عودته ، وعرف بعد حين أن الفتاة الصادقة لا تخطئ في حساباتها العاطفية، جاءت كما رسمت في بالها المشهد وما رغبت، لكنه ـ إلى الآن ـ يجهل كيف تبخرت القصيدة من ذهنه ولسانه، وكيف لم يشعر بالخيول تنسحب من مطارداتها المسائية، فيما بعد توصل إلى قناعة تامة، أن أمواج العيون ابلغ أثراً من موسيقى الوجدان، لقد ظنها قادمة من كوكب آخر، مازال الاعتقاد يغازله بذلك، في تلك الوقفة، تعطلت حواسه ونسى العالم كله، جاءت لتوقف حياته على لحظة شباب دائم، وتوجته كائناً متسامياً خارج واقعه، وقف.. لا يعرف ماذا يفعل، وناضل كثيراً كي يوقف هروب ذاكرته، موج أقوى منه جذبه وابتلعه، موج ازرق قادم من مصبين قصيين، وفي غمرة الذوبان التفت أذرع أخطبوط حوله، ولم يعد بإمكانه يعرف كيف تخلص من تلك الأذرع الملتفة حول رقبته..!!
***
كلما يأوي إلى منامه، تأتي عربة الأمل لتأخذه، ليس هناك ملل، في كل ليلة يسافر إلى مساء ساحر ، ليتناول باقة من عشبة الخلود، وحين يصل إلى المشهد بلا إرادة ترتفع يده ليتأكد أن كانت تلك الأذرع لا تزال تطوق رقبته، حرارة يداها، لهفة عيناها، إيقاعات قلبها، رجفات صدرها، قبل أن تختم جائحتها بقبلة ـ رغم المسافة الزمنية الفاصلة ـ لا تزال تحتفظ بصداها، ليس بوسعه أن يقتنع ، فاليقين يحدوه أن عيون تلصصت ورأت ما رأت، المكان مشبوه، يثير حفيظة كل مستطرق أو عابر سبيل، ممر مهمل رأسه شارع رئيس وذيله نهر لا يذهب أليه إلى صيّاد سمك أو هو بالذات كونه الفضاء الممول والمعين المفتوح لقريحته الشعرية، مكان ـ هكذا قرر ـ لا يجب لفتاة تمتلك عينان بلون السماء أن تتواجد فيه، يحاججه الظن أنها استقطبت ممن يرغب التلصص ومعرفة ما يجري في المنزويات الحافلة بالشبهات، وقف واجماً أمامها، يريد أن يعرف ماذا حدث وكيف حدث الذي حدث، رنين ثغر صرح بما فيه، كان ذلك آخر نغمة موسيقية ختمت المشهد، رآها ترتبك.. رآها تستدير.. رآها تمضي.. رآها تتعثر بالقصب المتمايل، وكان هو منشغلاً بما حدث وسكن على خده، وما بدأت تقذفه مساماته من مياه ساخنة..!!
***
لم يحصل أن رأى فتاة امتلكت جرأة تؤهلها أن تقذف نيرانها بوجه مشعلها، ولم يقرأ في يوم ما أن فتاة ما أسلمت أرادتها لرغبة عابرة، لكم سمع وقرأ وكتب، لا تعدو سوى إفرازات خيال أوان الجموح، إلاّ في مساء صار مساؤه، فتاة جاءت كنمرة جائعة، بها ضنا شوق وحرائق، رصدت الطريدة ونالت عشبة نقاهتها، لم يفكر في يوم ما بغير الشعر، لم يعرف قبل ذلك المساء، أن من الفتيات من يمتلكن وقاحة مؤدبة، ينطقن لا بلسانهن بل بالعينين، واحدة تربصت به ووقفت أمامه ، شلته، قالت ما يسكنها بعينيها المتكلمتين، وختمت صراحة اعترافاتها لا بلسانها بل بثغرها..!!
***
كان شاعر المدينة وعريف احتفالاتها، كلما يصعد إلى المسرح ، ينال تصفيقاً منقطع النظير، كثيرات يجلسن في الصفوف الأمامية، كان يتساءل دائماً، إن كانت ممن تحضر وتصفق له، فهو متأكد أنه ما احتفظ بوجه فتاة قط، ولا اهتم في لحظة ما بمسائل العاطفة إلاّ في كتاباته، في تلك الليلة لا يزال يتذكر كيف جفاه السهاد وكيف وقف أمام نافذة غرفته، وراح يبحث عن ذلك الممر الخانق رغم عتمة الليل، وجد نفسه أمام لوحة لم يكن هو مبدعها، بل هو إحدى العلامات الفارقة فيها..!!
***
شاب لم يدخل إلى مدرسة المسرات، تهبط أمامه فتاة تندلق من عينيها بحران، غابة أحراش.. أشجار واجمة.. رفوف قصب نائمة.. خيول تنطلق.. أوراق تتطاير، ما زال يريد أن يعرف لم وقفت الفتاة بدربه، قد تكون ربة الإلهام، تنكرت وجاءت لاسترداد ما أعطته لأنها أخطأت التقدير، هكذا ظن يتردد في ذهنه ، يريد أن يصل إلى جواب يريحه من الرحيل الدائم كلما يأتي الليل، لم أتت وأين ذهبت ، وكيف السبيل أليها..!!
***
مرت أيام قبل أن يقف هو أمامها،لا يمكن أن ينسى ذلك، اعتبر اللحظة،خاتمة لمفتتح حياة اختزلت تراجيدياتها ومآسيها في برق ومض وكانت السعادة وكانت الآمال وكانت المسير الطويل الممتع ، فاصلة زمنية من فواصل لا تتكرر، الآن يتذكر كيف وقف، كيف وقفت هي، كيف سقط المظروف من يده، كيف سقطت حزمة أوراق من يدها، كيف ارتعش، ابتسم، كيف ارتعشت، كيف فتحت ثغرها، (فيما بعد) تعذر عليه أن يكتشف فارقاً ما بين الوقفتين، ذات النصاعة للأسنان، نفس النداءات الذبيحة، نفس الحرائق، هزت شعرها، تقدمت منه وحدّقت في عينيه، كان مأخوذاً، لا يعرف (الآن) لم أصابه ذات الشلل الذي باغته يوم وقفت بدربه، رآها ترفع المظروف، رآها تجري اللازم، تجفل لحظة انساب خرير زلال وأطفأ نيرانه، كانت نهاية دراماتيكية، انتهى كل شيء ، وظلت بحوزته فكرتان، باحت له مكنونها، حرائقها الأبدية مذ رأته، ما عاد الليل فراشها المبثوث ، ولا النهار دار القرار، هو من قفل عقلها وسلب وجدانها، ما عاد الهواء يملأ رئتيها أن لم يكن شعره الأوكسجين المذاب فيه، كشفت الغطاء عن أسرارها، ويا ليتها ما فعلت، كانت تفتح رسائله وتستنسخ قصائده المرسلة إلى الصحف والمجلات، صارت كما صرحت له، طيراً بلا مأوى، وجدته العش، ريشة في مهب الريح، تحلق بحثاً عن مستقر، لا أحد غيره يرجع العواطف إلى سلة القلب..!!
***
كلما يأوي إلى فراشه، تقلقه قلقاً جميلاً، تأتي في الزمان المحدد، كما كانت في ذلك المساء السعيد ، (الآن) هو يمتلك كامل الرغبة ولديه استعداداً كي يقول لها أشياء جميلة، لكنها غدت ومضة برق في يوم غائم هكذا يصفها، لم يهمل زقاقاً واحدا، راقب أبواب منازل المدينة كلها، وقف في كراج نقل المسافرين، وقف بباب دائرة البريد صباحاً ومساء، حضر إلى احتفالات الأعراس، مضى صوب كل إشاعة أو واقعة، تحرى عن فتيات متن بغموض، استفسر عن فتيات ألقين أنفسهن في نهر المدينة ، دائماً يعود من تجوالاته وكله يقين أنه في يوم ما، في مكان ما واجدها..!!
***
تمر الأيام.. الأشهر.. السنوات، اكتشف نفسه أسيرة لأمل قائم، أمل صار سفينة في متاهات بحار ومحيطات، كل مساء لحظة ينتهي من أعماله ويتأكد أن القصيدة خارج أفلاك زمنه، تحط قربه لتأخذه إلى شجرة سعادته، كما كانت بكل لوعتها تهل، كقمر في لحظة اتساق، ليل يأتي وليل يمضي ، لا شيء يتبدل، الليل لا يزال يجثم على آثام العالم، يفتح آفاقه أمام سفينته، النهر ما زال يلهث إلى حتفه، الكلاب تنبذ حداثة الحياة، لمّا تزل تتمسك بعادتها القديمة، النباح.. النباح، وليذهب العالم إلى الجحيم، يرسل نظره إلى السديم المتهالك تحت سياط النجوم، يسحب المنديل من جيبه الملتصق بالقلب، يفرده برفق، هناك بقعة ضوء، في مساء بعيد، شع وسكن، مساء وقفت حياته، لأن فتاة وقفت بدربه، ليس ثمة شك أنها قصدته، طالما تركت الجرم المشهود، وقفت بدربه وقالت أشياء كثيرة بعينيها لم تعد تهمه الآن، خنقته بذراعيها ونست ثغرها على خده اليمين، لحظة فرّت من أمامه، أراد أن يتخلص من ماء وجهه، أراد أن يمسك روحه كي لا تغادره، لم يدرك أنه أرّخ الواقعة، وصنع بلا تخطيط مسبق سفينة هذا الرحيل المفرح الدائم، ثغر دام يتواجد كما كان، ما زال يتذكر كيف عاد إلى غرفته، كيف نسى رفاقه في المقهى، لقد كان يحتضن العالم كله بين أضلعه، هكذا شعور تملكه في ذلك المساء الجديد، شعر أنه أصبح أنساناً فوق العادة، مؤهلاً للأحلام الكبيرة، وعرف لحظتها أيضاً أن القصيدة مهما بلغت أعجازيتها لا تمنح هكذا سعادة، ثغر فتاة يتواجد معه بكل ألق وشوق ورغبة يرتسم على منديل لا يريد أن يتهرأ، ثغر لا يزال كما كان يرافقه إلى أبد الآبدين..!!
***
أراد أن يتأكد من نفسه، شكله مازال كما كان، هيكله لم يجر عليه أي تغير، لقد عصف به زلزال بلا استشعار، لم يحاور نفسه حول كيفية وصوله إلى غرفته في فندق المدينة، يتذكر (الآن) لحظة وصوله، كيف هرع إلى المرآة، لقد ظنّ كل الظنِّ، أن شيئاً ما قد حدث، يشعر به ـ لا يزال ـ كلما يأتيه الليل ويكون هو داخل سفينة الأمل، أقدامه لم تعد أقدامه، شكله يحاور نسائم جديدة، عيناه تريان ألوان لم يكتشفها التشكيليون، قامته صارت تنطح الغيم، قلبه يفيض كشلالات مائية تنحدر بألق، (أراد أن يتأكد) يتذكر كيف أحتد لحظة رأى (وشم ) ثغر فتاة أتته ووقفت أمامه، لقد كان يرتسم بكل تحدي ورغبة، ثغر يلتصق على خده اليمين، أحمر بلون الدم، مازال يحتفظ بوهج المساء، مازال ينطق، ما زال يغرد كلما يريد أن يتجرد من أعباء النهارات المملة، مازال يتذكر كيف سحب من جيبه المنديل، كيف شدهتا عيناه، كيف انفتح فمه: لقد نست ثغرها..!! (هكذا صرخ) لحظتها ولا يزال حتى هذه اللحظة يتبرك به، يشعره كل ليلة أنه إنسان مفعم بالحياة، يراوده أملاً يتفرع إلى هاجسين، هاجس القصيدة التي سبتت وهاجس فتاة ذات مساء ودود وقفت بدربه ورحلت من غير إعلام، كله يقين أن الهاجسين ينبعان من معين واحد ويرتبطان روحياً بينبوعين، أحدهما سيفجر الآخر، أن تبرعم أحدهما، ستورق الحياة وتنطلق خيول الذاكرة صوب مهاد الشعر والحب..!!
***
يتكرر المشهد.. كلما ينهض من نومه، يجد القلم يائساً (يشخر) بين الأوراق المبعثرة، ينهض، يتهندم ، يلبس نظارته، يتناول عكازه، يلقي نظرات متوجسة إلى الصباح المستفيق، يحاول أن يستوعب التغيرات الجارية في هندام الحياة، يحاول أن يرصد الشوارع المتقاطعة، الأزقة الحديثة المتداخلة، وكلما تترآى له فتاة، ينطلق أليها (قد تكون هي)، ربما احتفظت بسر جمالها، ربما ظلت صغيرة لا تريد أن تكبر، مثلما هو لا يريد أن ينسلخ من مساء بعيد حفل بسعادته المؤجلة، يلهث كلما يرى فتاة، لا يهمه أن تقهقر، المهم أنه يؤدي ما عزم عليه وأقسم على ذلك مذ وقفت الفتاة أمامه وتركت صراحة على منديله ثغرها..!!
***
تمر الأيام.. الأشهر.. السنوات.. لا جديد، يستعيد التقويم دورته، يبدأ بتقليب أوراقه من جديد.. تواصل الشمس شروقها وغروبها.. الفصول تتعاقب.. عليه أن يواصل الانتظار، مادام الأمل يحدوه.. مادام يتسلح بثغر عذب ناطق.. ثغر يذكره بمساء مسراته.. مساء بعيد.. مساء سعيد .. مساء جديد.. مساء يذكره بفتاة هبطت من كوكب منسي، وقفت أمامه، ودونما شعور منه، طوقت رقبته ورسمت على خده اليمين فجوة الأمل..!!
** منشورة ضمن المجموعة القصصية (ثغرها على منديل) الحائزة على جائزة الإبداع في مسابقة ناجي نعمان الثقافية ـ لبنان ـ في دورتها الخامسة 2007 .ستصدر نهاية هذا العام.