كنت أكتب الشعر خلسة بالصمغ الأسود فوق اللوح الحجري اللون، وبأقلام قصبية، حتى سمعت الزغاريد، فأقسمت أن أعود. هزني حنين غريب إلى البلد؛ وأهل البلد؛ والأحباب؛ والأشجار؛ والأحجار؛ والحيطان، الحيطان خاصة.
جمعت متاعي وتوجهت إلى الأستاذ أستأذن منه بالانصراف.
_ كان بودي أن تكمل دروسك في فاس لتصبح قاضيا، أو عادلا، أو كاتبا في أحد الدواوين السلطانية.
_ أنت تعرف سيدي أنه لا طموح لي في كل هذا، حفظت القرآن؛ والموطأ؛ وبعض أجزاء البخاري، وسيدي خليل، وأنا الآن احفظ الألفية لأتقن اللغة العربية من أجل فهم القرآن والأحكام. تدربت عندكم على قسمة التركات وكتابة وثائق المعاملات، وهذا يكفي، وهو غاية ما يحتاجه أهل قريتي.
_ وحفظت الأوراد والشعر الأمازيغي أيضا، أتظن أني لا أعرف.
_ نعم معلمي، يسر لي بلدكم مجالسة الأخيار من الفقراء والجوالين بين افريقيا؛ والحج؛ والأندلس، وفاس. وتهت في الصحراء خارج الأسوار أصغي لشعراء الأعراس ومنازلات البدو.
مسح على رأسي ووهبني بعض المال الذي أقسمت ألا أصرفه ليكون بركة لي ولأهل بلدتي.
ورحلت من المدينة التي لا ترى فيها النساء إلا من وراء حجاب لأعود إلى المزرعة والبساتين والسواقي، والغزل ونسج الكلام المباح.
بعد أيام من وصولي نفق مخزون الملح من الدار، وانتدبني الأعمام للسفر لأعلى الوادي حيث المناجم لأقايض المعدن بالتمر. فرحت وحزنت في نفس الوقت، فرحت لأسافر إلى حيث منابع وادينا الضخم، حيث يتغير الحال من النخيل والزيتون نحو الخوخ والجوز، ومن الامتداد إلى المضايق. وحزنت لأنهم لم يمهلوني حتى أسترجع أنفاسي وأزور المزرعة فدانا فدانا كما كنت أفعل من قبل.
أقمت عند معارفنا في أعلى الوادي، أبناؤهم مثل إخوتي، في الخريف يحلون عندنا لجمع التمر، وفي الصيف ربما رحل عندهم أحدنا لأكل الخوخ وجمع الجوز. وكنت كل عشية أتسكع في حقولهم غير المشجرة أداعب فتياتهم بحلو الكلام البريء. حتى ذلك اليوم الذي اقتربت فيه نحونا صغراهم.
_ لا مكان للأطفال معنا.
قلت
_ لست طفلة فجربني بالشعر وما شئت.
في المساء جمعت قواي وجرأتي وطلبت يد الفتاة، وأقام أهلها عرسا حتى دون أن أخبر أهلي.
عندما رجعت سألني أهلي عن الملح، وأشرت إلى الهودج.
بعد قصة الملح أقمت إماما في الحارة التي توجد وراء الوادي. وجدتهم فضلاء وكراما وأغدقواعلي بالشعير والقمح والفواكه. غير أن عوائدهم كانت خوارجية، كانوا يحتقرون التراتبية السنية وأفضلية آل البيت. وكثيرا ما كنت أنهاهم عن ذلك حتى ضاقوا بي درعا وأدخلوا حمارا إلى المقصورة، قالوا نفضله عليك.
غضبت ودعوت عليهم ألا يكتمل عندهم أربعون فارسا حتى لا يحسب لهم حساب بين القبائل. وهاجرت إلى أحراش حرقتها وبنيت بها خلوة؛ ومدرسة قرآن؛ ومقبرة؛ وزاوية أحمي بها من لا عصبة له؛ وأطعم الفقير وابن السبيل، بحطب يأتيني من الحارة التي دعوت عليها غفرانا وتذللا.
وعمرت الدار، وملكت ماء ساقية ليوم وليلة في الأسبوع، وتمددت المزرعة نحو الصحراء بسواعد الخماسين والعبيد.
حتى جاء النصارى واستعلموا بالمقاومة الشرسة سلاحا وفكرا للزاوية. منعونا من السقي وجعلوا الماء مشاعا، فأجهزوا على كل شيء. وربما حسنا فعلوا.
قسطاني بن محمد
جمعت متاعي وتوجهت إلى الأستاذ أستأذن منه بالانصراف.
_ كان بودي أن تكمل دروسك في فاس لتصبح قاضيا، أو عادلا، أو كاتبا في أحد الدواوين السلطانية.
_ أنت تعرف سيدي أنه لا طموح لي في كل هذا، حفظت القرآن؛ والموطأ؛ وبعض أجزاء البخاري، وسيدي خليل، وأنا الآن احفظ الألفية لأتقن اللغة العربية من أجل فهم القرآن والأحكام. تدربت عندكم على قسمة التركات وكتابة وثائق المعاملات، وهذا يكفي، وهو غاية ما يحتاجه أهل قريتي.
_ وحفظت الأوراد والشعر الأمازيغي أيضا، أتظن أني لا أعرف.
_ نعم معلمي، يسر لي بلدكم مجالسة الأخيار من الفقراء والجوالين بين افريقيا؛ والحج؛ والأندلس، وفاس. وتهت في الصحراء خارج الأسوار أصغي لشعراء الأعراس ومنازلات البدو.
مسح على رأسي ووهبني بعض المال الذي أقسمت ألا أصرفه ليكون بركة لي ولأهل بلدتي.
ورحلت من المدينة التي لا ترى فيها النساء إلا من وراء حجاب لأعود إلى المزرعة والبساتين والسواقي، والغزل ونسج الكلام المباح.
بعد أيام من وصولي نفق مخزون الملح من الدار، وانتدبني الأعمام للسفر لأعلى الوادي حيث المناجم لأقايض المعدن بالتمر. فرحت وحزنت في نفس الوقت، فرحت لأسافر إلى حيث منابع وادينا الضخم، حيث يتغير الحال من النخيل والزيتون نحو الخوخ والجوز، ومن الامتداد إلى المضايق. وحزنت لأنهم لم يمهلوني حتى أسترجع أنفاسي وأزور المزرعة فدانا فدانا كما كنت أفعل من قبل.
أقمت عند معارفنا في أعلى الوادي، أبناؤهم مثل إخوتي، في الخريف يحلون عندنا لجمع التمر، وفي الصيف ربما رحل عندهم أحدنا لأكل الخوخ وجمع الجوز. وكنت كل عشية أتسكع في حقولهم غير المشجرة أداعب فتياتهم بحلو الكلام البريء. حتى ذلك اليوم الذي اقتربت فيه نحونا صغراهم.
_ لا مكان للأطفال معنا.
قلت
_ لست طفلة فجربني بالشعر وما شئت.
في المساء جمعت قواي وجرأتي وطلبت يد الفتاة، وأقام أهلها عرسا حتى دون أن أخبر أهلي.
عندما رجعت سألني أهلي عن الملح، وأشرت إلى الهودج.
بعد قصة الملح أقمت إماما في الحارة التي توجد وراء الوادي. وجدتهم فضلاء وكراما وأغدقواعلي بالشعير والقمح والفواكه. غير أن عوائدهم كانت خوارجية، كانوا يحتقرون التراتبية السنية وأفضلية آل البيت. وكثيرا ما كنت أنهاهم عن ذلك حتى ضاقوا بي درعا وأدخلوا حمارا إلى المقصورة، قالوا نفضله عليك.
غضبت ودعوت عليهم ألا يكتمل عندهم أربعون فارسا حتى لا يحسب لهم حساب بين القبائل. وهاجرت إلى أحراش حرقتها وبنيت بها خلوة؛ ومدرسة قرآن؛ ومقبرة؛ وزاوية أحمي بها من لا عصبة له؛ وأطعم الفقير وابن السبيل، بحطب يأتيني من الحارة التي دعوت عليها غفرانا وتذللا.
وعمرت الدار، وملكت ماء ساقية ليوم وليلة في الأسبوع، وتمددت المزرعة نحو الصحراء بسواعد الخماسين والعبيد.
حتى جاء النصارى واستعلموا بالمقاومة الشرسة سلاحا وفكرا للزاوية. منعونا من السقي وجعلوا الماء مشاعا، فأجهزوا على كل شيء. وربما حسنا فعلوا.
قسطاني بن محمد