أحتاجك قليلا عندما تسقط أسناني وتئن مني الملامح.. تشد لي خيوطي، فأتحرك، لأسمع ما تسمعون، وأبصر الذي يروح ويجيء.. وأحكم الغطاء عليك والأنات حتى لا تشرد.. كيف تراني وكيف عرفتك مشاعري.. أيقنت أنك مني، وعلامات السوط الأزرق على جلدك وحول سلسلة ظهرك وفي المعرض اليومي على الورق للجمهور.
كان الليل أقصر الطرق الى حارة الجوع الكافر.. جلس القرفصاء والانحناء تحت شمس وسماء قمر فضي. زهور المائدة مرسومة باردة على طلعتك.. تراني لا أرد، فتأمر..ولا أمرض، ولا أغضب.. فتستوي على ظهري الطموحات وتكبر المفاتيح.
في حدود حروف الهجاء، وكانت الحارة تبرهن على خصوماتها وأفراحها بأصوات حادة مبتورة.. مع أننا فوق الأرض، ونوافذنا عند حافة الاقدام.. لا تضايقني أعمل معروف، لم يتبين الصوت، رغم اتساع رئتيه وشفتيه الغليظتين. أحلام فقيرة الدواء والماء والكساء.. في زقاق مسوس، الضوضاء مع صياح الديكة حتى ينتهي ارسال التليفزيون.. جئنا معا هنا، الظهيرة دفء الطعام، والليل أغنية في أذن طفل وامرأة.
في حالة الحارة لا تقيس نفسك بنفسك، ولا تقارن امرأة بامرأة.. حتى الشمعة لا تضيء هنا مثلما تضيء هناك.. حين تتقدم تخطي، فينكرونك ويشاهدونك في دوسيه الرغبات خلال ممرات الحلاق والبقال والخباز والعجلاتي. لن ترضيهم بغير الذي يفهمونه عن عشرة النساء وأنفاس السجائر المبطنة بالمزاج، واهتزاز البطون بنكتة قبيحة عن ملامحهم.
قررت مغادرة المقهى دون اشتباك معه، ببطء الدوران على ركبتين عاريتين أمام مرمى البصر. كان وعيه منزوعا، صامتا، جافا يقلب شفتيه بالسبابة والابهام دخل الأب لينام فأفزعه من رقدته بين الحمام والباب العمومي،
– انهض.. لا أريد رؤيتك.
– أبي.. ماذا قلت..؟
– لقد سمعتني.
أخرج.. لماذا.. والى أين
– مشكلتك.
… أبي… هذا ليس صوتك.
– قلت لك.. لا أريدك معي.
– كيف ؟!
– هي.. كلمة..
– سأقول لأمي.. وهي تحكم.
– لا شأن لك بها.
– أنا.. ماذا فعلت؟
– قد تعلمت.. وكبرت.. لماذا تبقى بعد الآن ؟
-.. أنت تطردني.. تهينني.. أقنعني.
-.. مع السلامة.
.. خرج لأن سكين الجزار عبث باللحم كثيرا.. واقتربت منه فتاة خافتة المصباح.. أنقاض عذراء.. هز ذراعيه ليمسح ظله الملقى على الأرض.. لا يقدر.. حاول. أمسك بذيل حيوان يعبر الطريق خلسة.. تبعه ملاصقا كظله.. عيون الصبية والبنات تتقارب، وتتباعد.. خائفين.. وجدتني ذيلا طويلا لمسافات لا أعرفها.. تهامسوا الى حد هطول الظلام عند القدمين.. عند آخر الحارة حائط. مرتفع جدا.. لا نطوله.. حاولت البكاء. رسم جملا بأنف أفطس وذيل حصان وأقدام فأر.. عدت الى التجوال في الحارة.. فأنت تستطيع البقاء في تفريعاتها ليالي، ولأن الحارة ضيقة فقد خصصوا لها مائدة لكرة البنج بالطول.. ليس لها عرض، وهتف الصبية في غلام ضخم الجثة بأنه الجمل.. وأمطروه بالحجارة فسقط على الأرض يبكي ظلمهم،والبنات يحجلن حوله في دائرة مسكونة بأغنية، وبائع الليمون السريع يمسك عنق نفسه.. تدحرجت مثل كرة البنج وفي يقيني أن الذي يتدحرج أفضل من غيره.. ها هي القمامة شعيلة تكبر وتعلو وتتورم.. أقف فوقها فأطول الحائط واتفرج على أبي…يقصم لي أظافري فلا تطول فروة رأسي.. لا أهرش جلدي.. أبي منعني أن أستمتع بجلدي, يأكل بعض.. تلفت خلفه، ها هي أمك عاجزة عن الحركة.. غابت في السوق المفلس شهورا وعمرا مديدا نقعها الحادث في شهيق الفقر.. ولم تجد سوى قميصها المشجر تذهب به في ليلة عرس بنت جارتها.. وجدني ممسكا ذيل حمار وأنا نائم في فناء المسجد.. نهرني الحارس ودفعني الى الخلاء.. مدة طويلة يردني، مستخفا بروحي.
-.. تطردني.. من بيت الله.
-.. الأمر.. لصاحب الأمر..
-.. نعم !
… انفتح الباب لحال سبيلي.. طويت قبضة يدي تحت إبطي على مواء قطط في ردهة المسجد وتحت شجيرات مبعثرة قصيرة.. ضربت الأرض بقدمي.. جرت القطط، جريت مثلها، جريت أنا والقطط لاستفيد من ملقائية البعثرة.. سقطت على ظهري، وجعلت راسي بين ساقي، متهاويا زاحفا.. الصدر بأسراره يعلو وينخفض.. الساكن الوحيد في زمن مضى، يحمل توقيعك وحسن نيتك وحلمك الكاذب.
.. وحارس المسجد يدفعه الى خارج الفناء..
– .. هون علبك..
– صدقني.. لست سيئا.. أبي طردني بلا ذنب.
-.. عد الى أهلك أولا..
-.. هل تتضايق إذا تكلمنا؟
– ما أكثر الكلام.
– لو سمحت.. لا أريد موعظة!
– ترفع صوتك في وجهي..
– عندما تيقنت أنك بلا بصر ولا بصيرة..
.. ابتعد عن المسجد، في تنقل مستمر من شارع الى شارع، يحدوه جسد بلا صوت، ولونه استحال معتما حتى الآن.. بقدر ما يبتعد، ويسافر، ويتوه في عدم انتظام الراحة والسؤال وخيبة الأمل، يحتج عند دقات قدميه على الأرض كأنه يدوس سائلا جرى من عروق أبيه اليه.. وفيرا صاخبا..ملتويا.. وباء.. ابعد من ذلك سوف أستمر من حلق مبحوح.. في تلك الحجرة المتدفقة بالحكايات.. تنخفض به مساند المقعد في آخر ترام نازل الى محطة الرمل , أني أبتلع كياني لأعي فقرة فقرة من عمود ظهري.. أشعر أني أعترض نفسي خلف ظلي.. أقاوم ما تبقى في نظارتي الى ما تحت سور الكورنيش، وأتلذذ بظلم الروح روحي والحقل حقلي.. على ظهر سنوات مجهولة الملامح.. ليلة الجراحة.. دخل معي غرفة الانتظار ونام على سرير المرافق.. عادة يظل المنتظر للجراحة، واقفا مثل شاهد المقابر، يلملم ذنوبه ويحاصر عيوبه ويجمع الدقائق ويطرحها من باقي مظروف العيوب ليتجرد.. عاريا إذا تم.. كان مقبولا، واذا امتد به الزيف الفخاري.. ضم الى الماض صفحات جديدة كأحكم ما يكون الضم، في بهو الحياة الضاحكة،، لكنه لم ينافق.. وظل عظيما.. فلم أحلم بالموت في مشرط الجراحة، وكنت عضوا في جسده إذا توضأ وصلى وقرأ وسبح واستغرق وتمنى واغرورقت عيناه في المقاصد والحضرة العلوية،، ليس آخر صبح والأبيض ينازع الأبيض تحت ست ثر رائحتها أدوية.. وأقبلت أمه من عند ربها تدفعه لا يدري لماذا؟ ويستجيب لبن الأم متدفقا بسيطا.. ومدد السر يذوب عند الافصاح عنه.. وطبعك الصمت ملفوفا الأعماق.. الذئب يعترض ويبتعد.. الذئب يروع ويجيء.. رأسه كبير بحجم كراهيته لغير نفسه وأولاده.. أسفل رئتيه ترقد الذئاب الصغيرة عندما تنام.. لا ينزع عند المكروه، في أعواد الذرة يختبيء حتى لا يرده الطيبون،.. في أمره لا يرتاب أحد حتى ينهش لحمه , لأنه شديد الحركة والنشاط في شهر ابريل، فقد زعموا ميلاده فيه وأطلقوه عليه.
– متى عدت يا ابريل ؟
-..أنا موجود..من أخبرك أني غائب !
– أسالك فتسألني.. ولا ترد..
– جئت الآن يا عم.,
– أعوذ بالله ,من غضب الله.
-.. لم أحك لك. غيابي كان في الخير.. أرادوا جمع تبرعات لمسجد القرية التي كنا فيها، بإدعاء أن دورة المياه معطلة. ناسين أني كنت هناك منذ أيام وكانت جديدة ليس بها أي عطل، ولما جمعوا المال من سعادتهم القادرين، وقبل أن ينصرفوا.. كشفت أمرهم، هبطت بهم الى الأرض، وحاول الشيخ تبرير الجمع الآن.. لسداد ديونهم المستحقة للسباك الذي تطوع بالاصلاح الفوري.. المهم جعلتهم يعودون منكسي الرؤوس، وأرجعت النقود لفاعلي الخير..
– منك يا ابريل.
-… الحق.. حق.
– أي خير فعلت ؟ وأي حق تهدف ؟ لا حول ولا قوة إلا بالله.
-.. شكرا لك مما فعلت.
-.. طبعا موقف سييء جدا منك.!
.. سأضع المفتاح الجديد منفردا في حلقة الحديد، في جيب سترتي.. يتأرجح كلما تحركت، فيحك المدبب أسفل منتصف الصدر.. يحدث عصرا خفيفا لشعيرات الصدر الدائرية في انطواء لوني الأبيض والأسود.. طبيعي أن باقي المفاتيح حسب طول لسانها متشابكة ومتنافرة، عند ضغطها في قبضة الأصابع تجد لها رائحة.. ذلك القصير الصديء ذو الرأس الكاوتش.. ما وراءه وأمامه ضعفاه يتبعون جهل أنفسهم بما يدور، في ثقوب غرف دورات المياه.. أما الرأس الكاوتش.. مقروء بوضوح في الخزينة، وحده يظل في حاجة الى الفتح والقفل.. يتأرجح في منطقة أمان مستقلة ليس تابعا لأحد، محترما.. قريبا من علبة السجائر الأجنبية والولاعة الذهبية، والثمار كثيرة تتساقط على لسانه.. وتسببت في فسادها بالصدأ لكنه.. تزحلق من فوق علبة السجائر، الى أرض الحديقة.. الطين.. بدون صوت.. أقدام الأطفال والكبار تدوس غروره.. إنغرس في بلل الطين، وحذاء الهانم المدبب ضغط عليه، كنت ورأس الكاوتش مجموعا تحت. الكعب مباشرة.. توسلت بكل قوتي أن أكون مثل قطعة القطن المزنوقة بين اصبعي قدميها.. لم يلتفت لي مخلوق ما.. لا يراني أحد لأني غير موجود أمامهم.
المنظر: غرفة عمليات بمستشفى.. مريض تجرى له جراحة وحوله ثلاثة أطباء (د. كامل د. واعد. د. مفتون).
د. واعد:.. من هنا نبدأ.. يجب أن نتتبع هذا الشرخ.
د. مفتون:.. من السهل تتبعه.. المهم.. هل هو الشرخ الوحيد في الجمجمة.
د. كامل:.. يكفينا علاج الشرخ الواضح.. كلما قابلنا شرخا نعالجه وهكذا..
د. مفتون:.. يا دكتور كامل.. أنت بذلك.. ماشي حسب التساهيل.
د. كامل:.. تقصد أيه ؟
د. مفتون:.. نتكلم بصراحة.. نحدد أولا.. هل هو شرخ كبير أم شرخ صغير؟
د. واعد:.. يا دكتور كامل.. المريض سييء السمعة طبيعي.
د. كامل:.. تتوقع أن نهمل في حقه ؟
د. واعد:.. أقصد.. لا داعي للتوتر.
د. كامل:.. كلما صادفنا شرخا.. عالجناه..
د. مفتون:.. إذا أنكرنا أننا أمام مشكلة صعبة ومعقدة.. فلن نكون في صف واحد.
د.كامل:..لم يبق ما يستحق المناقشة.
د. واعد:.. ها هو الشرخ.. يمتد ويتعمق..
د. مفتون:.. نطلب من أجد أقاربه يشرح لنا.. كيف ضرب فوق رأسه.؟
د. كامل.. لماذا؟
د. واعد… عاد ينزف..
د. كامل:.. النزف داخلي.. ساعدوني..
د. واعد:..الموقف سييء..
د. مفتون:.. المريض سوف..
د. كامل:.. أرجوكم..!
د. واعد:..لا تنفعل يا دكتور كامل.. مرضانا بسبعة أرواح..
.. يرفع المريض ذراعيه وهو يتحرك مفسدا للجراحة قائلا لمن حوله في غرفة العمليات وهو يغادرها.. (لا تصدقوا..) حجم النوافذ المفتوحة في الغرفة لا تتجاوز فتحة أو فتحتين.. حتى في وجود قوائم انتظار تدريب الأطباء في المستشفيات الحكومية المجانية.. الأطباء جميعا يدخنون السجائر.. أفاق من المخدر، واضاف الى اعوجاج حالة.. نزوله من النافذة رغم انتشار خبر هروبه أثناء الجراحة.. عكس اتجاه الداخلين الى المستشفى تخلص من مناقشتهم وجذب أدنى قدرة على الحركة فوق فلنكات السكة الحديد.. القمامة على جانبي شريط القطار.. كل مخلفات سكان الشريط فوق الشريط الحديد.. يشعلون نارا هنا.. ويطفئون نارا هناك.. أخذ يكح ويسعل وغلبه البول فلم يفكر وتصرف في التو.. هل يجد عملا إضافيا يسد به حاجة العلاج المجاني، قطن، أقراص مقوية، أقراص مانعة للأمراض، أقراص أو حقن مهدئة، أقراص فوارة للمعدة، استحلاب أقراص للهضم.. ومكان هاديء ليس يمر منه باعة البواقي واعلانات الوفاة وباقي المبوبة من الأطعمة.. وترام قادر على نزعك من نفسك وادخالك برنامجا مشوشا، فأنت لا تدري على وجه اليقين.. لماذا ركبت الترام..؟ ليس في نيته العودة الى بيت أبيه… وبيت الله لم يستوعبه.. طرح ذراعيه في ميدان سعد زغلول وهو يرد عليه كلمة بكلمة.. عبثوا بقامته المديدة وخنقوه بحبل طائرة ورقية تدلى ذيلها عند الظهر.. صار سعد بذيل ملون وهو أعلى واحد واقف في الميدان.. قلت للسلالم هيا.. فلم نقدر.. والتف حوله مصورون يحتفلون بشنقه في ميدانه.. كانوا يدوسون سائلا جرى منه اليهم.. مطابقا للمواصفات القياسية لكل الواقفين في الميدان، خاف منه حارس المسجد وأرشدهم عند مقبرة أبيه.. نفحه عملة ورقية كبيرة فناوله المفتاح ذا الرأس الكاوتش المفقود.. وهمس في أذنه طويلا بأنواع الكلام المستهلك.
محمود عوض عبدالعال
كان الليل أقصر الطرق الى حارة الجوع الكافر.. جلس القرفصاء والانحناء تحت شمس وسماء قمر فضي. زهور المائدة مرسومة باردة على طلعتك.. تراني لا أرد، فتأمر..ولا أمرض، ولا أغضب.. فتستوي على ظهري الطموحات وتكبر المفاتيح.
في حدود حروف الهجاء، وكانت الحارة تبرهن على خصوماتها وأفراحها بأصوات حادة مبتورة.. مع أننا فوق الأرض، ونوافذنا عند حافة الاقدام.. لا تضايقني أعمل معروف، لم يتبين الصوت، رغم اتساع رئتيه وشفتيه الغليظتين. أحلام فقيرة الدواء والماء والكساء.. في زقاق مسوس، الضوضاء مع صياح الديكة حتى ينتهي ارسال التليفزيون.. جئنا معا هنا، الظهيرة دفء الطعام، والليل أغنية في أذن طفل وامرأة.
في حالة الحارة لا تقيس نفسك بنفسك، ولا تقارن امرأة بامرأة.. حتى الشمعة لا تضيء هنا مثلما تضيء هناك.. حين تتقدم تخطي، فينكرونك ويشاهدونك في دوسيه الرغبات خلال ممرات الحلاق والبقال والخباز والعجلاتي. لن ترضيهم بغير الذي يفهمونه عن عشرة النساء وأنفاس السجائر المبطنة بالمزاج، واهتزاز البطون بنكتة قبيحة عن ملامحهم.
قررت مغادرة المقهى دون اشتباك معه، ببطء الدوران على ركبتين عاريتين أمام مرمى البصر. كان وعيه منزوعا، صامتا، جافا يقلب شفتيه بالسبابة والابهام دخل الأب لينام فأفزعه من رقدته بين الحمام والباب العمومي،
– انهض.. لا أريد رؤيتك.
– أبي.. ماذا قلت..؟
– لقد سمعتني.
أخرج.. لماذا.. والى أين
– مشكلتك.
… أبي… هذا ليس صوتك.
– قلت لك.. لا أريدك معي.
– كيف ؟!
– هي.. كلمة..
– سأقول لأمي.. وهي تحكم.
– لا شأن لك بها.
– أنا.. ماذا فعلت؟
– قد تعلمت.. وكبرت.. لماذا تبقى بعد الآن ؟
-.. أنت تطردني.. تهينني.. أقنعني.
-.. مع السلامة.
.. خرج لأن سكين الجزار عبث باللحم كثيرا.. واقتربت منه فتاة خافتة المصباح.. أنقاض عذراء.. هز ذراعيه ليمسح ظله الملقى على الأرض.. لا يقدر.. حاول. أمسك بذيل حيوان يعبر الطريق خلسة.. تبعه ملاصقا كظله.. عيون الصبية والبنات تتقارب، وتتباعد.. خائفين.. وجدتني ذيلا طويلا لمسافات لا أعرفها.. تهامسوا الى حد هطول الظلام عند القدمين.. عند آخر الحارة حائط. مرتفع جدا.. لا نطوله.. حاولت البكاء. رسم جملا بأنف أفطس وذيل حصان وأقدام فأر.. عدت الى التجوال في الحارة.. فأنت تستطيع البقاء في تفريعاتها ليالي، ولأن الحارة ضيقة فقد خصصوا لها مائدة لكرة البنج بالطول.. ليس لها عرض، وهتف الصبية في غلام ضخم الجثة بأنه الجمل.. وأمطروه بالحجارة فسقط على الأرض يبكي ظلمهم،والبنات يحجلن حوله في دائرة مسكونة بأغنية، وبائع الليمون السريع يمسك عنق نفسه.. تدحرجت مثل كرة البنج وفي يقيني أن الذي يتدحرج أفضل من غيره.. ها هي القمامة شعيلة تكبر وتعلو وتتورم.. أقف فوقها فأطول الحائط واتفرج على أبي…يقصم لي أظافري فلا تطول فروة رأسي.. لا أهرش جلدي.. أبي منعني أن أستمتع بجلدي, يأكل بعض.. تلفت خلفه، ها هي أمك عاجزة عن الحركة.. غابت في السوق المفلس شهورا وعمرا مديدا نقعها الحادث في شهيق الفقر.. ولم تجد سوى قميصها المشجر تذهب به في ليلة عرس بنت جارتها.. وجدني ممسكا ذيل حمار وأنا نائم في فناء المسجد.. نهرني الحارس ودفعني الى الخلاء.. مدة طويلة يردني، مستخفا بروحي.
-.. تطردني.. من بيت الله.
-.. الأمر.. لصاحب الأمر..
-.. نعم !
… انفتح الباب لحال سبيلي.. طويت قبضة يدي تحت إبطي على مواء قطط في ردهة المسجد وتحت شجيرات مبعثرة قصيرة.. ضربت الأرض بقدمي.. جرت القطط، جريت مثلها، جريت أنا والقطط لاستفيد من ملقائية البعثرة.. سقطت على ظهري، وجعلت راسي بين ساقي، متهاويا زاحفا.. الصدر بأسراره يعلو وينخفض.. الساكن الوحيد في زمن مضى، يحمل توقيعك وحسن نيتك وحلمك الكاذب.
.. وحارس المسجد يدفعه الى خارج الفناء..
– .. هون علبك..
– صدقني.. لست سيئا.. أبي طردني بلا ذنب.
-.. عد الى أهلك أولا..
-.. هل تتضايق إذا تكلمنا؟
– ما أكثر الكلام.
– لو سمحت.. لا أريد موعظة!
– ترفع صوتك في وجهي..
– عندما تيقنت أنك بلا بصر ولا بصيرة..
.. ابتعد عن المسجد، في تنقل مستمر من شارع الى شارع، يحدوه جسد بلا صوت، ولونه استحال معتما حتى الآن.. بقدر ما يبتعد، ويسافر، ويتوه في عدم انتظام الراحة والسؤال وخيبة الأمل، يحتج عند دقات قدميه على الأرض كأنه يدوس سائلا جرى من عروق أبيه اليه.. وفيرا صاخبا..ملتويا.. وباء.. ابعد من ذلك سوف أستمر من حلق مبحوح.. في تلك الحجرة المتدفقة بالحكايات.. تنخفض به مساند المقعد في آخر ترام نازل الى محطة الرمل , أني أبتلع كياني لأعي فقرة فقرة من عمود ظهري.. أشعر أني أعترض نفسي خلف ظلي.. أقاوم ما تبقى في نظارتي الى ما تحت سور الكورنيش، وأتلذذ بظلم الروح روحي والحقل حقلي.. على ظهر سنوات مجهولة الملامح.. ليلة الجراحة.. دخل معي غرفة الانتظار ونام على سرير المرافق.. عادة يظل المنتظر للجراحة، واقفا مثل شاهد المقابر، يلملم ذنوبه ويحاصر عيوبه ويجمع الدقائق ويطرحها من باقي مظروف العيوب ليتجرد.. عاريا إذا تم.. كان مقبولا، واذا امتد به الزيف الفخاري.. ضم الى الماض صفحات جديدة كأحكم ما يكون الضم، في بهو الحياة الضاحكة،، لكنه لم ينافق.. وظل عظيما.. فلم أحلم بالموت في مشرط الجراحة، وكنت عضوا في جسده إذا توضأ وصلى وقرأ وسبح واستغرق وتمنى واغرورقت عيناه في المقاصد والحضرة العلوية،، ليس آخر صبح والأبيض ينازع الأبيض تحت ست ثر رائحتها أدوية.. وأقبلت أمه من عند ربها تدفعه لا يدري لماذا؟ ويستجيب لبن الأم متدفقا بسيطا.. ومدد السر يذوب عند الافصاح عنه.. وطبعك الصمت ملفوفا الأعماق.. الذئب يعترض ويبتعد.. الذئب يروع ويجيء.. رأسه كبير بحجم كراهيته لغير نفسه وأولاده.. أسفل رئتيه ترقد الذئاب الصغيرة عندما تنام.. لا ينزع عند المكروه، في أعواد الذرة يختبيء حتى لا يرده الطيبون،.. في أمره لا يرتاب أحد حتى ينهش لحمه , لأنه شديد الحركة والنشاط في شهر ابريل، فقد زعموا ميلاده فيه وأطلقوه عليه.
– متى عدت يا ابريل ؟
-..أنا موجود..من أخبرك أني غائب !
– أسالك فتسألني.. ولا ترد..
– جئت الآن يا عم.,
– أعوذ بالله ,من غضب الله.
-.. لم أحك لك. غيابي كان في الخير.. أرادوا جمع تبرعات لمسجد القرية التي كنا فيها، بإدعاء أن دورة المياه معطلة. ناسين أني كنت هناك منذ أيام وكانت جديدة ليس بها أي عطل، ولما جمعوا المال من سعادتهم القادرين، وقبل أن ينصرفوا.. كشفت أمرهم، هبطت بهم الى الأرض، وحاول الشيخ تبرير الجمع الآن.. لسداد ديونهم المستحقة للسباك الذي تطوع بالاصلاح الفوري.. المهم جعلتهم يعودون منكسي الرؤوس، وأرجعت النقود لفاعلي الخير..
– منك يا ابريل.
-… الحق.. حق.
– أي خير فعلت ؟ وأي حق تهدف ؟ لا حول ولا قوة إلا بالله.
-.. شكرا لك مما فعلت.
-.. طبعا موقف سييء جدا منك.!
.. سأضع المفتاح الجديد منفردا في حلقة الحديد، في جيب سترتي.. يتأرجح كلما تحركت، فيحك المدبب أسفل منتصف الصدر.. يحدث عصرا خفيفا لشعيرات الصدر الدائرية في انطواء لوني الأبيض والأسود.. طبيعي أن باقي المفاتيح حسب طول لسانها متشابكة ومتنافرة، عند ضغطها في قبضة الأصابع تجد لها رائحة.. ذلك القصير الصديء ذو الرأس الكاوتش.. ما وراءه وأمامه ضعفاه يتبعون جهل أنفسهم بما يدور، في ثقوب غرف دورات المياه.. أما الرأس الكاوتش.. مقروء بوضوح في الخزينة، وحده يظل في حاجة الى الفتح والقفل.. يتأرجح في منطقة أمان مستقلة ليس تابعا لأحد، محترما.. قريبا من علبة السجائر الأجنبية والولاعة الذهبية، والثمار كثيرة تتساقط على لسانه.. وتسببت في فسادها بالصدأ لكنه.. تزحلق من فوق علبة السجائر، الى أرض الحديقة.. الطين.. بدون صوت.. أقدام الأطفال والكبار تدوس غروره.. إنغرس في بلل الطين، وحذاء الهانم المدبب ضغط عليه، كنت ورأس الكاوتش مجموعا تحت. الكعب مباشرة.. توسلت بكل قوتي أن أكون مثل قطعة القطن المزنوقة بين اصبعي قدميها.. لم يلتفت لي مخلوق ما.. لا يراني أحد لأني غير موجود أمامهم.
المنظر: غرفة عمليات بمستشفى.. مريض تجرى له جراحة وحوله ثلاثة أطباء (د. كامل د. واعد. د. مفتون).
د. واعد:.. من هنا نبدأ.. يجب أن نتتبع هذا الشرخ.
د. مفتون:.. من السهل تتبعه.. المهم.. هل هو الشرخ الوحيد في الجمجمة.
د. كامل:.. يكفينا علاج الشرخ الواضح.. كلما قابلنا شرخا نعالجه وهكذا..
د. مفتون:.. يا دكتور كامل.. أنت بذلك.. ماشي حسب التساهيل.
د. كامل:.. تقصد أيه ؟
د. مفتون:.. نتكلم بصراحة.. نحدد أولا.. هل هو شرخ كبير أم شرخ صغير؟
د. واعد:.. يا دكتور كامل.. المريض سييء السمعة طبيعي.
د. كامل:.. تتوقع أن نهمل في حقه ؟
د. واعد:.. أقصد.. لا داعي للتوتر.
د. كامل:.. كلما صادفنا شرخا.. عالجناه..
د. مفتون:.. إذا أنكرنا أننا أمام مشكلة صعبة ومعقدة.. فلن نكون في صف واحد.
د.كامل:..لم يبق ما يستحق المناقشة.
د. واعد:.. ها هو الشرخ.. يمتد ويتعمق..
د. مفتون:.. نطلب من أجد أقاربه يشرح لنا.. كيف ضرب فوق رأسه.؟
د. كامل.. لماذا؟
د. واعد… عاد ينزف..
د. كامل:.. النزف داخلي.. ساعدوني..
د. واعد:..الموقف سييء..
د. مفتون:.. المريض سوف..
د. كامل:.. أرجوكم..!
د. واعد:..لا تنفعل يا دكتور كامل.. مرضانا بسبعة أرواح..
.. يرفع المريض ذراعيه وهو يتحرك مفسدا للجراحة قائلا لمن حوله في غرفة العمليات وهو يغادرها.. (لا تصدقوا..) حجم النوافذ المفتوحة في الغرفة لا تتجاوز فتحة أو فتحتين.. حتى في وجود قوائم انتظار تدريب الأطباء في المستشفيات الحكومية المجانية.. الأطباء جميعا يدخنون السجائر.. أفاق من المخدر، واضاف الى اعوجاج حالة.. نزوله من النافذة رغم انتشار خبر هروبه أثناء الجراحة.. عكس اتجاه الداخلين الى المستشفى تخلص من مناقشتهم وجذب أدنى قدرة على الحركة فوق فلنكات السكة الحديد.. القمامة على جانبي شريط القطار.. كل مخلفات سكان الشريط فوق الشريط الحديد.. يشعلون نارا هنا.. ويطفئون نارا هناك.. أخذ يكح ويسعل وغلبه البول فلم يفكر وتصرف في التو.. هل يجد عملا إضافيا يسد به حاجة العلاج المجاني، قطن، أقراص مقوية، أقراص مانعة للأمراض، أقراص أو حقن مهدئة، أقراص فوارة للمعدة، استحلاب أقراص للهضم.. ومكان هاديء ليس يمر منه باعة البواقي واعلانات الوفاة وباقي المبوبة من الأطعمة.. وترام قادر على نزعك من نفسك وادخالك برنامجا مشوشا، فأنت لا تدري على وجه اليقين.. لماذا ركبت الترام..؟ ليس في نيته العودة الى بيت أبيه… وبيت الله لم يستوعبه.. طرح ذراعيه في ميدان سعد زغلول وهو يرد عليه كلمة بكلمة.. عبثوا بقامته المديدة وخنقوه بحبل طائرة ورقية تدلى ذيلها عند الظهر.. صار سعد بذيل ملون وهو أعلى واحد واقف في الميدان.. قلت للسلالم هيا.. فلم نقدر.. والتف حوله مصورون يحتفلون بشنقه في ميدانه.. كانوا يدوسون سائلا جرى منه اليهم.. مطابقا للمواصفات القياسية لكل الواقفين في الميدان، خاف منه حارس المسجد وأرشدهم عند مقبرة أبيه.. نفحه عملة ورقية كبيرة فناوله المفتاح ذا الرأس الكاوتش المفقود.. وهمس في أذنه طويلا بأنواع الكلام المستهلك.
محمود عوض عبدالعال