وائل سعيد - بحث ميداني

يوم أن نزلت التحرير للبحث عن زوجتي في 30 يونيو؛ كنتُ والله نازلاً فقط من أجل البحث عنها، لا أكثر ولا أقل..

.................

وأنا في الشارع كان المنظر غريبًا عليَّ وعلي التاريخ المصري بأكمله، جميع تليفزيونات البلد مفتوحة علي أعلي صوت والكل ساكت، حفلات الست نفسها لم تحظي بهذا الصمت! ذلك اليوم التي أعطت فيه القوات المسلحة مهلة للجميع وكان صوت السيسي وهو لازال وزيرًا للدفاع ينتشر في كل الشوارع، تقريباً لا يُسمع غير صوته في ذلك الوقت تحديداً: (خلليني أقول لكم أنهي مروءة دي اللي..... وأرجو أن يُدرك الجميع ذلك).

كنت أتنقل بين الشوارع في مُحيط بيتنا، بينما هو واقف في شاشات التليفزيون يقرأ من أوراق أمامه ويُرسل الإشارات.. (في مسئولية أخلاقية ووطنية..)، أول ما سمعت أن المسئولية ليست واحدة بل مسئوليتان – أخلاقية ووطنية – تسمرت قدماي فجأة أمام إحدى الشاشات وكانت لتليفزيون 20 بوصة تقريباً علي باب مقلة لب: (لن نقبل ولن نوافق أو نسمح بدخول مصر في نفق مُظلم من الصراع أو الاقتتال الداخلي أو الحرب الطائفية..).

هناك آخرون تسمرت أقدامهم معي في نفس الفجاءة، وبالطبع أمام نفس مقلة اللب التي يقف صاحبها خلف أهرامات اللب والسوداني يمد يده باستمرار كيفما اتفق ليغرف من أي كومة ويحدف علي فمه، ولما كان هو والجميع منشغلين بالمتابعة تسللت بعض الأيادي لتغرف هي الأخرى لكن من أكوام بعيده نسبياً عن مجاله البصري وتصعد في خفوت تاركة اللب وقشره في الأفواه، والسيسي يُكمل (أو بفتنة في مؤسسة من مؤسسات الدولة).

ولما أسالوا لُعابي ورائحة اللب كانت مُغرية فعلاً، اشتريت ثُمن أبيض مملح. لو كنت قريباً من الأكوام مثلهم كنت غرفت مرة أو مرتين وخلاص.. مشاركة حتى لتلك الجماهير الشعبية؛ لكن الأكوام بعيدة بشكل ملحوظ عن متناول يدي، أي اقتراب مني سيكون بالنسبة لهم إقتحاماً أو تسلل على أقل تقدير، خاصة وأجواء الخطاب المسموع مشحونة بفتن وأنفاق مظلمة واقتتالات داخلية!

لم انشغل بثُمن اللب المملح؛ أنهِي مروءة، يُدرك الجميع، مسئولية أخلاقية.. الرجل عازم لا محالة علي تحميل الجيش المسئولية الوطنية كاملة بصفته وزير الدفاع، من حوالي 20 سنة وأنا في الجيش كنت أسمع أن طنطاوي لو رأي أي بدلة عسكرية أمامه أثناء عبوره من مكان لمكان فإن صاحبها ذهب وراء الشمس لا محالة. إذا كان مجند سيفقد دفعة، لو ضابط سينخرب بيته..

حقاً مؤسسة ذات وزن وثقل، المرة الوحيدة التي سُحب فيها كارنيهي كان الساحب لواءً من الذين تمتلأ سُتراتهم بالنياشين، يجلس داخل عربة مكتوب عليها رقم 2، كنت خارجاً برفقة زميل من جهاز مشروعات الخدمة الوطنية بشارع الطيران، ورغم أننا نظرنا وراءنا وعن يميننا وشمالنا خوفاً من وجود أي فرد شرطة عسكرية هنا أو هنا؛ إلا أننا في أقل من ثانية وجدنا العربة رقم 2 تقف أمامنا مباشرة وينزل منها ضابطان وصول يُكلبشانا بأياديهم وأحدهما يُردد: إدي التحية.. إدي التحية..

حييناه عسكرياً ومؤخرتانا تنز خوفاً وأخرجنا كارنيهينا فأخذهما أحد الضباط وأعطاهما للواء، الذي بص فيهما لبُرهة وهو يبتسم ويُبلغنا (قولوا لمشعل اني اخدت كارنيهاتكوا..) فيما كان الضابطان والصول يعودون مرة أخرى لأماكنهم وتختفي العربة في أقل من ثانية أيضاً مثلما ظهرت.

ياااه... معقول ثُمن لب مملح ينتهي في الفترة التي كان طنطاوي والرجل الثاني يلفان الشوارع المحيطة بوزارة الدفاع!!، آه..؛ الكارنيهات قام بارجاعها أحد الصولات العفاريت من مكتب مدير جهاز مشروعات الخدمة الوطنية "سيد عبده مصطفي مشعل" والذي سيترقي بعد خروجي من الجيش بسنوات كثيرة لوزير دولة وسرعان ما يقعد في بيتهم بعد الترقي، اللواء مشعل لم يكن ليرضى أن يُعلم عليه أحد؛ لا الرجل الثاني ولا أي رجل آخر ويتم سحب كارنيه واحد لفرد علي قوة الجهاز حتى إذا كان هذا الفرد مُجند.

اللب انتهي فعلاً؛ لم أعثر علي حبة واحدة وأنا بغوص بكفي داخل جيب البنطلون.. هل كنتُ جائع لهذا الحد! لماذا تتداخل الشوارع بهذه الطريقة في بعضها؟ ما الذي أنزلني أصلاً من البيت؟!

غريبة فكرة النسيان لما يصل بها الحد لحد البيت نفسه؛ طريق العودة مُسح من ذاكرتي البصرية، يعني تُهت مُرغماً بين نفس الوجوه والشوارع اليومية. لما تشيلك الدنيا وتهبدك آلاف المرات لا تنتظر جبلاً لتصعده ثم تتدحرج من أعلاه علي أمل أن يُسجل التاريخ أسطورتك!

أسطورة، وتاريخ، وتوهان... الواحد ساعات المواضيع بتعلي جداً معاه من غير لزوم، شارعنا قدامي الآن دون لبس، محل القماش، السمكري، الجامع.. بيتنا بعد الجامع مباشرة وهي هي نفس السلالم اليومية ومعي نفس مفتاح الشقة. أخيراً بين جدران شقتنا.

لكن الجو ساكت، ساكت.. ولن يمنعني ذلك من عادتي وسط الأحداث الساخنة في فتح التليفزيون فور الدخول: إعادة؛ (إن القوات المسلحة تدعو الجميع دون أي مزايدات حفاظاً علي الشرعية لإيجاد صيغة تفاهم وتواصل ومصالحة حقيقية لحماية مصر وشعبها..).

مصر وشعبها؟! هو النهارده إيه في أيام ربنا؟ يا نهار اسود! أكيد عملتها ونزلت!!

.................

كنت راجع من دوامة دماغية وتقريباً كان سبب نزولي من البيت خناقة بسيطة شبت بيننا، ولا يُفكر أحدٌ منكم أن يكون سبب اختفائها من البيت غضباً ما عند أهلها مثلاً؛ المرة الوحيدة التي غضبت وتركت البيت لجأت لبيتنا ولم تفعلها مرة أخرى، أيضاً البنت نائمة بالداخل، يعني أكيد نفذت وعدها بالنزول الذي لم تستطيعه في 25 يناير.

قبل ذلك بأسبوعين كان عرض عليا أحد الأصدقاء سيارة فيات 128 بحالة جيدة، ثمنها لا يتعدى ستة آلاف، وأكد الصديق أن تخليص أوراقها ونقل الملكية وخلافة سيكون في حدود 500ج، فقلنا طالما ربنا رزقنا بستة آلاف مرتب الشهر الماضي؛ نتوكل عليه ونشتريها.

لهذا ولأني لم أتمكن بعد من قيادتها كما ينبغي؛ تركت المفتاح وورقها علي رف فرش الأسنان أعلي حوض الحمام، البنت أول ما تصحى ستدخل الحمام وهي تغسل يديها علي الحوض ستجد ميراثها إذا جدت في الأمور أمور.

الناس في المترو كلهم تقريباً مُنصهرون مع العلم المصري إما حملاً أو رسماً علي الوجوه ومنهم من ارتدي ملابس تجمع ألوانه الثلاثة، شعب عجيب وبالتالي ثوراته عجيبة مثله؛ ينزلون كي يثوروا أو يتظاهروا كأنهم ذاهبون لمهرجان إحتفالي. يشترون اللب والشيبسي والمياه الغازية والمعدنية ويسهرون لحد الصُبح يغنون ويهتفون (هو يمشي.. مش هنمشي..).

والمنظر في التحرير كما تنقله الشاشات بالفعل؛ فرشات الساقع والشاي والساندوتشات، ذرة مشوى وترمس ولب ونظارات وكروت شحن وسجائر، محافظ جلدية وتحويجات جنسية ومقوية.. كرنفال، سوق، مهرجان.. لن يبتعد وصف التجمع عن ذلك بأي حال من الأحوال. ولن يمنع هذا من وجود مُصورين ومُذيعين وشباب يعلق شارات موحدة ينتشرون بوضوح بين الجمع، علاوة علي المُتشعلقين أعلي عواميد النور والمُلتفون في حلقات يغنون أو يهتفون.

أول مكالمة لم ترد، كيف ستسمع رنة الموبايل! مع الرنة الثالثة تقريباً حلقت طائرات الهليكوبتر أعلي المُجمع والناس تهلل والطائرات ترمي أعلام صغيرة وحاجات أخرى لم أتبينها. خامس، سابع... عاشر رنة؛ انفتح التليفون؛

- الو.. انتي فين يا بنتي؟!
- الو.. أيوة يا استاذ.. المدام بتدور عليك..
- المدام! لو سمحت إديهالي.
- ثواني يا استاذ..

تيت.. تيت.. تيت.. تيت..

جرس آخر، وآخر، وآخر... وانفتح التليفون؛

- أيوة يا بني.. انت فين؟
- يا بني آدمة أنا اللي فين! انتي اللي فين؟؟
- أنا قدام المجمع علي طول..
- وأنا كمان، فين بالظبط

تيت.. تيت.. تيت.. تيت..

- الو..
- الو.
- الاستاذ؟
- تحت أمرك.
- أصل المدام عايزة تكلمك. ماتخفش؛ أنا أخوك محمدين وده رقمي...

تيت.. تيت.. تيت.. تيت..

- الو.. الحاج صابر يا بني معاك، المدام عايزة تكلمك

تيت.. تيت.. تيت.. تيت..

- مساء الخير يا ابني، ابوك كرلوس يا حبيبي

تيت.. تيت.. تيت.. تيت..

وحدة وطنية سخيفة!!!!

- يا ابني انا تحت يافطة عثمان أحمد عثمان

تيت.. تيت.. تيت.. تيت..

لعنت انفتاح السادات والثورات وكل تجمعات الشعوب، وبعد 128 تيت تقريباً رأيتها بجوار رجل أسمر طويل، أول ما رآني أخذني بالحضن..

- يا استاذ عمالين نقولك تحت يافطة عثمان احمد عثمان، اتفضل المدام.

تعلقت زوجتي بذراعي وكانت مُمسكة بيدها الأخرى علم مصر، سرنا مدفوعين من البشر بإتجاه مخرج كوبري قصر النيل..

- والأخ ده مين؟ محمدين وللا الحاج وللا أبونا!!
- ده أبو أشرف. طلع من جنب بيتنا..
- بيتنا!!
- والله ناس زي الفل، مرضيوش يخلوني انحشر وسط الزحمة وفضلوا محاوطني لغاية ما وصلت انت..

تيت.. تيت.. تيت.. تيت..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...