يا سُلطانَةَ الزُّهُور
إِنّني غََريبٌ في هذا البَلدِ،
ولمْ أَجِد، بَعدَُْ، خانَ العَرَبِ
ـ إبن حافت ـ
…. وكان السكران فتى غريبا، كما عرفت من حفرياتي الخاصة في التلال التي يربو عددها على المائة في بطائح ميسان وحماداتها. هذا المجهود الشخصي الذي رافقني منذ سنة 1956، عندما اصطحبنا مدرس مادةالرسم والأعمال الجميلةبمدرسة الماجدية عيسى باش آغا رحمه الله، الى موقع السروط، حيث رأيت ما جعلني اعود الى هذه اليشن بعد عدة سنوات أنا الذي اعتبر نفسي ابن النهر ، وأترك وظيفتي في دائرة جمارك ومكوس مدينة العمارة، وأقيم في صريفة من قصب الهور وبرديّه، كان الجوّال البريطاني ثسيكر ، قد اعجب بمثيلة لها في هذه البطائح حيث سمع بحكاية سِدرَةِ السَّكْران ـ حسب تسمية مفضلة عنده ، بعد زيارته للأهوار سنة 1951، مدفوعا بأشواق خاصة الى التعرف على مملكة ميسان، او بلاد ما بعد جنوبي بابل، كما اخبرني في احدى زياراته لمدينة ابوظبي في سنة 1981 . 1
…. وحدثنا ابن قريتنا، المعروف لخلق مملكة ميسان باسم المواطن . او شايع الشرقي، كما هو معروف عندي وعند المشتغلين في صناعة الكلام والتدوين ، انه قال كان ابي رحمه الله، يسألني من دون ان يَكلّ او يَملّ من اعادة طرح سؤاله الأثير عليَّ .. وهل بقي في السروط من يعرف المبرقع السكران، ويتذكر حكايته مع السِّدرَة؟ .
بلى. يا والدي،… انا وربعي . يقول ابي الخير في امثالكم الى آخر ساعة في الزمان. فلا تقوم لليشن قائمة، ولا يستأهل رجل مُعَقَّلٌ عقاله، ولا يبقى معنى للحج والصلوات والصوم والزكوات والجهاد والعدل، اذا ما نسي شباب قرانا شيوخها وأشياخهم .
صدق والدي، تغمده الله برحمته الواسعة. فهذا الرجل الذي عرفه جدي في صباه حق المعرفة، وتحرَّيتُ حياته، وإطلعتُ على المخبوء من اسراره ، لم يسقط اسمه من ذاكرة شباب هذه الأيام من أبناء مدينتنا الذين تزدحم بهم الحانات والبارات والخانات والطرقات والمارستانات والبازارات والمنديات والمساجد والصوامع والزوايا والتكايا والكنائس والكُنُس.
أنا أكيد من هذا، مثلما انا على يقين من أن القلّة الباقية من الشعراء الجوالين، يعرفون سُروط السكران، او مجنون فليفلة ، كما يطيب لبعض الشباب تسميته. فلم نكن نعرف نحن الفتية الذين كبرنا كما كانت تنهض انهارمملكة ميسان في فصل الربيع اي مهنة معلومة بعينها يمتهنها مثل بقية ابناء بلدتنا. فهو صياد سمك وجاني افاعي وعنافيش حيناً، ومربي جواميس وتاجر جلود احياناً، ومروّض خيل ومضمِر نياق وعاطل عن العمل مرات، وطاوي مسافات وعابر أنهار من اجل حل مشكلات الناس مرات ومرات، وصديق للمطربين الشعبيين والمطاريد والحرامية التائبين في أحيان كثيرة. ولكن المأثور المشهور عنهفي قريتنا بانه المشّاء الجوال الذي يقتفي اثر الصقور بين بساتين النخيل والبوادي المترامية الأطراف، ومطاردة قمم الجبال وذرا الأشجار في البلدات النائية.
كان الناس ينادون عليه يا بو غايب ، حتى كدنا ننسى اسمه الأول. وعندما يتوجهون اليه بتلك الكنية، كانوا يتصرفون معه كأنهم يعرفونه، او يطلبون منه ما يعتقدون انه مُجاب مسبقاً. تلك هي هيبته ومهابته ووقاره، حتى عندما يكون في ذروة رقصته الفريدة التي لا يجيدها غيره. بل ان سلطة مخفر الشرطة كانت تبدو متواضعة أمام حضور اسمه او ذكرحوادثه بين الناس، رغم انه ليس من أهل الثروة والجاه. وكانت اي انثى ميسانية تتعرض الى ضيم، او تتصور انها مُضامة، تشهر ذراعيها، وتضع اصابع كفيها في عيني الذي يقصدها بالأذيّة، قائلة للمخفر ما اروح. انا شِيَلْتِي بِعْقال بوغايب
اما الشباب الذين كانوا يقعون في الحبّ وتحول بينهم وبين من يحبون اسباب عائلية واجتماعية، وما اكثرهم في قريتنا في زمانه فإن الواحد منهم كان يقصدسروط السكران.
صبري قرَّب يخلص، يا سكران.
اصبر. بلى.. اصبر، ثم اصبر.. يا وليدي .
حالي في هذا الحين مثل شاة بيد قصاب .
يلتفت السكران الى صقره الحُرّ الفضيّ، الذي لم يره احد من دون برقعه حتى حدث ما حدث بعد تلك الليلة الشباطية ، ثم يستمر في حديثه أو تخشى الغزالة من سلخ جلدها بعد ان يتخثَّر دمها في عروقها بعد ان تطاردها كلاب الصيد؟ .
نَشَفَ دمي . يقول العاشق ثم يواصل ملتاعاً طاح حيلي، ويبست عروقي .
ومحبوبك؟ ، فيرد العاشق ساكت. آخ من سكتة المحبوب يا سُروط .
يا وليدي، اسمع مني هذا المقال اذا سكت المحبوب فهو في قمة الشقاء. وإذا ما تكلم كان هو وجهنم سواء بسواء. فهل تريد له زيادة في الشقاء وهو في عزّ جهنم الحمراء؟.
حاشى لله . ويمدّ الصقر رقبته قليلا ويفرد جناحيه الأشهبين، فيقول سُروط زين. عليك قبول شقائك وسعادة محبوبك . كان السكران يعرف كيف يجعل الفتى العاشق يختار في حبيبته، الحب الذي يعجز الكلام عن وصفه او الأحاطة به، حتى ينسى نفسه تماما، ولا يعود يرى سوى الحب في شخص المحبوبة. وكان يعرف كيف يتغلب على اي مشكلة تواجه اي انسان يقصده.
بعد صلاة المغرب يقول والدي ، حيث تبدأ بيوتنا الأستعداد لوجبة العشاء بعد صلوات متصلة في ذيل صلاة المغرب، وتخمد رويدا رويدا نيران تنانير امهاتنا، ويعود الرعيان من مربعانياتهم، ويدخل صوت بَنانَة المدّاح الى زقاقنا المعتم، في اطلالاته القليلة التي لا موعد محددا لها، كان ابن سكران يجتاز الباب الخشبي العريض لداره المطلة على نهر المشرّح، بعد ان يلتفت نحو صقره المبرقع، وهو في زينته الكاملة، كما لو انه في اليوم الاول من العيد الصغير، بدشداشته العتيقة النظيفة، وعقاله الذي من كور ذي قار، وكوفيته الدستميسانية التي كان قد ابتاعها من قَمّاش ديزفولي، والتي تهبط نهايات مقدمتها على حاجبيه مثل برقع، ومركوبه النظيف المصنوع من جلد شاة، ومَزْوِيَّته العباسية السوداء المأثور بهذا الخصوص انها منسوجة من وير بعير اسود، كان يهيم في حَمادات خُوًيط السلطان، ملقياً الرعب في قلوب البشر والحيوان، فنفر اليه سكران اللامي، وحيداً فريداً الاّ من طيره الحر الذي كان يرافقه وفالته التي لا تفارقه، ثم تفرس في وجه البعيرالهائج، وحرك شفتيه كأنه يهمس بكلام لا يسمعه سوى البعير، عرفت ان هذا النوع من الطيور هو المحبوب لدى احفاد الشيخ حافظ اللامي، الجد الأشهر لسروط من بين اجداده الذين لا يعرف النسابون تعدادهم بالتمام والكمال من دون ان يشهر فالته بوجهه. فلزم البعيرمكانه، وأخذ يتشمم الأرض المبرقعة بالطِرْطَيع والحلفاء والعاقول. بعد ذلك رفع رقبته عاليا، ثم ارغى وأزبد مثل فصيل تم ذبحه توّاً، وخفض رقبته قليلا قليلا، حتى برك على الأرض وارسل برطمبه الى حيث قدمي سكران اللامي ـ الكاتب .
تناقل الركبان ما سمعوا به من هذا العجبان في حينه، فقالوا نهض الصقر، وعرض صدره المهيب المزين بريش اشقر لامع لشمس الظهيرة، ثم انطلق نحو البعير الأسود، وحط فوق هامته، وطفق يصطفق بجناحيه برهة، ثم اطلق صيحة تشبه صهيل حصان يستعد لتقفيز انثاه بعد حبسه عن الفرس ثلاثة اشهر متصلة. ومنذ تلك اللحظة، لم نَرَ في حمادات المملكة او في خُويط السلطان بعيرا اسود . وعلى هذا المنوال كان السكران يتعامل مع منازل الناس الذين يقصدهم. ينقر سروط بسبابة كفه اليمنى على باب الدارنقراً خفيفاً، فيهرع رب البيت اليه وخلفه آله، ثم يسير الجمع الى الرّبعة. يجلس على سجادة لاميّة، ويستل مكواره من حزامه المربوط الى نطاق من قماش سندي عند خاصرته اليسرى، بينما يركن فالته السومرية الى الجدار خلفه، فيعرف أهل الدار ان السكران قصدهم من أجل مشكلة ينبغي ان يجد حلاًّ لها.
تهون يا وليدي، سبحان ربي العظيم الجميل . تلك هي اللازمة التي ينطق يها لسان ابن سكران، نقلا عن جده، بعدما يتربع على السجادة، ويسلم على الرسول وآل البيت، ثم يختتم بالمأثور المنقول عنه الدنيا دِنِيَّة ووسخة، وروح الآدمي تعاف الوساخة . ثم يتطلع ناحية مِركاز صقره،الذي يحرص على اصطحابه معه في مثل هذه االزيارات.
وبعد ان يشيع جوا من الطرافة على الحاضرين فهو يحتفظ بمرويات كثيرة لا تخلو من مسرات لطيفة غالبا ما تكون ابنة لحظتها ، يروي حكاية قديمة ومعروفة اصبحت على طرف لسان كل امراة ورجل في قريتنا، لكنه يعيد سردها حسب مقتضى الحال، عن تجواله بين اليشن المائية، وتطوافه بين فِرجان بيوت الشعر والطين عند اليابسة في عيلام وديزفول وباكسّايا، او حين ضرب في حمادات اهله والقبائل الاخرى حتى وصل الى المحمَّرة، عند ذَنَايِبِ شط الكرخة، حيث حيث التقى بالصفران والحمران والشقران والسودان العائدين من بلالد يأجوج وماجوج وخراسان والهند عابرين الصحاري والبحار والقرى والبساتين التي لم يسمع بها احد غيره في قريتنا. ثم يترنم ببيت من الشعر ينسبه الى غيره بينما هو من قصيده، يفصح عن حال احد العشاق الذين تعرّف اليهم في تلك الأيام، ويربط اطرافها بحكاية تختص بشاب احب فتاة، إلا ان قوة غاشمة كأداء تقف عقبة في طريق زواج الشاب بها. ثم يستمر في سرد الأوجاع التي يتعرض لها العاشقان، ويستنجد بقصص الصالحين وأخبارهم، او يسترجع قصص العشق في الأيام التي عاشها أجداده، او سمع بها من افواه اصحابها، ثم تتحرك شفتاه هامسا
ولوْ أنّني أسْتغْفِرُ الله كُلّما..
ذكرتكِ، لمْ تُكْتَبْ عليّ ذنوبُ
وفي لحظة من ساعات تلك الجلسة التي ربما تستمر الى ما بعد منتصف الليل هكذا أخبرني والدي ، وفي العتمة المضاءة بسراج تتغذى فتيلته على زيت السمسم الذي يبتاعه من اليهودي ساسون الذي الذي يتخذ من دار النبي إسحق في سوق العلافين مقراً لتجارته، تطفر آهة حرّى من عمق صدره، فيسود الصمت، ويريم السكون على الرّبعة، ذلك الصمت الذي لا إشارة الى نهايته سوى حركات من اصابع كفه اليمنى وهو يلاعب خرزات مسبحته الكرمانيَّة، ليعرف القوم وأضيافهم، ان سُروط السكران جاء يطلب منهم جوابا.
انت تأمر، ونحن على السمع والطاعة، يا بو غايب .
الإنسان قول وفعل .
بعدها، ينهض سروط فتبدو نهايات كوفيته وقد غطت عينيه لم يتحدث اي من الخلق انه شاهد عيني السكران، الا ان همسا يدور بين الناس مفاده انه اصيب بمرض الجدري الذي ضرب ميسان في سنة الجدري المعروفة في سنوات ما بعد قدوم المشعشعين ، وتنتصب قامته المهيبة عابرة طوف الربعة حتى تتلاشى في ظلمة البرية، ثم يبسط عباءته على بساط الرَّبعة، ويقتبل بيت الله، فيعرف اهل الدار ان سُروط السكران يرغب في تناول ما قسمه الله من زاد التحتومة عندهم.
وعندما تُشرقُ هلهولة ميسانية من بيت في محلتنا في تلك الآونة،كان الخلق يعرفون ان طلب ابن سكران قد تمَّ الأستجابة له. كان ذلك كله يحدث، وغيره الكثير، قبل ان يغلق ابن سكران بن الشيخ نصيري بن الشيخ إِرْحمة بن الشيخ براك بن الشيخ حافظ اللامي، باب دار اجداده، ولينطلق صقره الذي لم يره احد من دون برقعه، بعد تلك الليلة التي من شهر شباط اللّبّاط.
مرة واحدة ووحيدة هكذا سجّل كاتب هذا النص ، لم يُجب الجار جبار بن سيد كصب المكاري، طلباً لأبن سكران. ولو اتيح لك، يا من تقرأ هذه القصة، ان تزور قريتنا في تلك العقود، وتسال احد السابلة رحمة الله على والديك، اريد بيت جبار بن سيد كصب؟ ، لردّ عليك في الحال ما عندنا مثل هذا الإسم .
وكان باب دار والد سُروط بن سكران اللامي، يقابل باب بيت ابو فليفلة السدرة وهي سدرة مباركة كما كان يصفها الناس، فلها ايام معروفات بين المحرم والمحرم من السنة التالية، تظهر فيها على الخلق في البرية، تشخص حال زينب بنت علي بن أبي طالب، في اليوم العاشر من شهر محرم الحرام. وهناك ما هو منسوب الى قابلة بلدتنا المعروفة بين القاصي والداني باسم معصومة خاتون. قالت الخاتون نزل الطلق على على العلوية خديجة بنت السيد احمد ابو تريكات وهي في الطريق لزيارة باب الحوائج موسى الكاظم، فجلست على حافة ترعة صغيرة، ونادت بصوت موجوع العون ياجدي، الغوث الغوث ، فهبطت من بين فخذيها رضيعة مغسولة بماء الورد الجوري. ذهلت العلوية اول الامر، لكنها عادت الى وعيها بعدما شاهدت نفسها تجلس تحت اغصان شجرة سدر ضخمة . هذه هي الحقيقة، يا قاريء كتابي. فقد نسيت قريتنا اسم جبار، وإسم ابيه سيد كصب الرّادود المنبري المشهور في نواحي ميسان، والمرافق لجنازات موتانا من ميسان وخُويط السلطان مرورا ببادية السيد احمد الرفاعي في واسط ـالكوت حتى نصل الى النجف الاشرف بعدما طاف اسم ابنته فليفلة وسدرتها على بيوتنا كلها، والناس تتابع سنة من بعد اخرى، تفصيلات واحدة من اكثر قصص الحب نبالة في تاريخ مملكة ميسان العتيدة
عشر سنوات مرت على هذا المشهد الذي تبدّى لسُروط مثل حلم في فجر يوم صيفي هكذا اخبرني ويلفرد ثسيكر ذات يوم ـ الكاتب ، جمعت بين هاتين الروحين. لم يقل أحد ان سُروطاً التقى السدرة خلسة. ولم يخبر شاب رفاقاً له، انه وقف في بستان بيت النِيادة الذي يقود الى نهر الكحلاء، ورأى السكران يتبع اثر قدمي فليفة، وحيدة او مع رفيقاتها، أوعائدة الى دارها وفوق كتفها اليسرى مصخنة الماء. وعند ذلك يعرف الناس، ان المغني سوف يعيد على السامعين، حكاية شاب شهم أحب فتاة نجيبة حبا ملك فؤاده، واستولى على كيانه. لكن احوال هذه الدنيا الدنيّة حالت بينه وبين حبيبته، فرضي بسعادة محبوبته حيثما تكون.
لكن الناس كانت تعرف، ان السكران، يحضر حفلات اعراس المدينة، وانه في لحظة من اللحظات النادرة في حياته يرفع برقعه الى اعلى نجمة تحت السماء السابعة، عندما تجتمع الزوجات والبنات فوق سطح منزل صاحب الدار، فهو متيقن ان السدرة هناك حتى بعدما تقدم بها العمر، والتصقت امعاؤها بقفاها. عندئذٍ يتقدم الى المغني الذي يحيي حفل العرس، وهولا بد ان يكون من بين اصدقائه، ويسرّ في اذنه اليسرى بضع كلمات.
قال والدي اسكنه الله فسيح جنانه يُكَفِّن بوغايب في تلك اللحظات التي تدوم حتى اقتراب اذان الفجر، كيانه كله بعباءته، منحنياً ببرقعهً حتى نكاد نحسب انه سيسقط بين قدميه، بينما يكون قلبه على راحة كفه اليسرى . وهكذا كان صوت بَنانَة المّدّاح، في موعد قدومه المفاجيء حين كان يطوف على بيوت مدائن ميسان وقصباتها، وهو يعيد رواية قصة الحب التي جمعت بين المقداد بن الاسود الكندي والميّاسة.
اما فليفة السدرة، لا سيما بعد ان كفت عن تشخيص مصيبة زينب في ذلك اليوم الحزين، فوق سطح الدار بين صويحباتها وجاراتها، بعدما تقدمت بها السنون الى ما بعد الستين فهي تجاوزت الثمانين، بعد ان اختفى السكران عن بريتنا ـ كما يقول جدي ، فكانت تعرف ان المغني يذكرها بلسانه، ولكن بقلب السكران، ولو طرى باله اسم حَمدَة، او ورد على لسانه اسم زينب او وَرْدَة او هَيْلَة، او زهرة، او مَصِر، او مَايْهِن.
وعندما يبلغ المغني قمة المصيبة، حيث تذكرالحكاية رفض والد الفتاة القبول بالشاب زوجا لأبنته، يتقدم سُروط السكران الى مجلس المغني وعازف الكمنجة وضارب الطّار، ثم يضع عقاله حول رقبته، ويلف عباءته على ساعد يده اليسرى، ويسحب مكواره بقبضة يده اليمنى من عند خاصرته اليسرى، ويبدأ ينود مثل اعجاز نخل هاوية تتقاذفها ريح صرصر عاتية، تميد به ذات اليمين وذات الشمال. ولله في خلقه شؤون، اذ ان الشائع الى ايام الناس هذه، ان اي حفلة عرس في قريتنا، يعقبها كلام ترويه شفة الى اذن، عن فانوسين يشرقان مثل نجم الثريا في فضاء الحفل، يرى الناس في زجاجتيهما صورتي وجهي فليفة والسكران .
ولا ينتهي هذا المشهد الا حين تُكبِّر مئذنة مسجد قريتنا، فيسقط بوغايب مغشياً عليه، وقد غطت كوفيته صفحة وجهه كله، فيبرد جسده، ويتوقف نبض قلبه، ويفوح تفاله الأبيض من فمه، فنعود الى وصيته التي عرفها الشباب والشيوخ من دون ان يعلنها احد لصاحبه نوجه رأسه المغطى بغترته نحو بيت السدرة، ثم يمرق بيننا شبح مُكَفَّن بعباءة سوداء. تقول النساء تنحني السدرة في تلك الأثناء على روحها، وتفكّ عقدة من جديلتها التي تصاحبها، ثم تقرّب ذؤاباتها من خشم سُروط السكران، الذي ياخذ وعيه بالعودة اليه نفسا بعد نفس، حتى يرتاح اخيرا عند اقرب عمود يسند كتفيه اليه .
كنت ارافقه في تلك الساعات قال جدي لوالدي ، في تلك السنوات العشر المعروفة لنا، فاقترب منه كثيرا، واضع اذني عند قلبه، فاسمعه يردد مثل بعير ذبيح فليفة.. فليفة يا سدرة الجنّة ، ثم ينقطع نفسه، ويتوقف قلبه. قال والدي ؛ يقول والدي اقسم بشرف إبن الِمْلوَّحْ ان جدتي كانت تقول ان السدرة هي التي فكت عقدة من جديلتها جديلتها التي تحتفظ بها منذ تلك الليلة الشباطيّة عند رأس ابن سكران، بعدما جزّت شعر رأسها كله من عروقه . وفي أعلى الدار، عند السطح المطوق باشجار السدر والغَرَب ونخلات البريم والزهدي والديري والخستاوي والأسطهعمران والخضراوي والبربن، كانت فليفلة لا تزال تسمر مع صاحباتها الشابات، او وحيدة ساهمة داخل عباءتها، بعدما تجاوزت الستين. بيد اننا كنا نعرف انها كانت تنتحب مثل الغزالة المذبوحة.
هذه هي احوال الدنيا ، يعلق ابي. ثم يتذكر انه وربعه يعرفون تلك الحكاية منذ بدايتها مع جبار بن سيد كصب المكاري، فهي مكتوبة مثل دقّ الوشم على زنود العشاق الأحرار. قال رحمه الله ذات ليلة شباطيّة، قصد ابن سكران، ومعه صقره الحر الأبيض، دار جبار بن المكاري.
تفضل يا سُروط . كان فنجان قهوته لا يزال امامه، بينما كانت اصابع كفه اليمنى تلاعب خرزات مسبحته. كلك فضل، ياعم ،.. واستمر السُروط في حديثه بعدما عرف ان ابن السيد يستزيده في الكلام جئت ومعي راية العباس .
أنعم وأكرم ببُو فاضل . وخلع السيد كوفيته وطرحها على الارض.
اريد اكمال ديني يا عمّ؟ . لم ينتبه جبار المكاري الى الحركة القلقة على برقع الصقر. يا زين ما تفعل يا سُروط. بَسْ من هي المحظوظة؟ . سال والد فليفة. اخرج سُروط بن سكران قطعة القماش الخضراء المعروفة للبعيد والقريب من عبّه اريد السدرة زوجة لي، على سنة الله ورسوله وحب آل البيت . يفرد الصقر جناحيه، وترتفع هامته عاليا.
هذا مستحيل .
يا عم، أذكر الله .
هذا مستحيل يا ابن سكران، البنت مُعَلَّقة لإبن عمها .
سيد إخْلَيف ماتْ. الله يرحم موتانا كلهم .
هِيْ كِلْمَة وإنْقالَتْ. وهيْ راية وإنْشَدَّتْ. بنات السادة للسادة، بالدنيه وبالآخرة .
اعاد ابن سكران العلم الأخضر الى عبّه،واختصر وجوده كله داخل عباءته، ثم تطلع بقلبه في وجه جبار بن سيد كصب، فرآى فيه قسوة الدهور وجبروت الأعراف. وانهى ابن كصب الجلسة بقوله انت عندي هذي الليلة تنشد عن صحتي. فلا تطري ما دار بيني وبينك امام بشر او حيوان اوحجر
افتكر سُروط السكران برهة، ثم قال لجبار بن سيد كصب وشِنْهِيْ هُوْ رآي البِنْتْ؟. أجابه السيد اسمع يا ابن سكران، هذي سِنايَن اهالينا. اتركْ البنيَّة للمقدَّرْ والمقسوم .
زين، يا عم،وين ما تكون السدرة فرحانة، انا هناك فرحان .
انتفض الصقر. حرك برقعه يمينا وشمالا 2 ، فعرف سُروط ان طيره يريد ان يطير، فربت على يافوخه، كأنما يودعه. قفَّ ريش الصقر حتى صار مثل نهايات سكاكين عمياء، وأخذ بياضه يتحول الى لون اسود داكن، ثم مرق مثل سهم الى الظلام، خارج دار جباربن السادة.
واستمر سُروط السكران لائذاً في صمته، متكوراً داخل كفنه الأسود. كان الطقس بارداً، والغيوم تلبدت تحت سماء سوداء. وللمرة الأولى في تاريخ اليشن، قال الناس انهم لم يعودوا يرون نوراً يضيء بيت دار سكران اللامي، او يبصرون بو غايب يخرج ومعه طيره الحر من باب بيته الذي يقابل بيت فليفة. بل شاهدوا سراجين تضيء زجاجتيهما فتيلتان خضراوان يعرجان في سماء القرية، عندما يرخي الليل سدوله، ويرتفعان نحو نقطة قصية حتى يتلاشيان في ضوء مبهر بعيد جدا، ثم يعودان الى الإشراق ثانية في الميقات عينه من الليل التالي.
… وبعد تلك الليلة الشباطية كما جاء في قصايد بَنانَة المدّاح اغلق سُروط السكران باب دار اجداده، بحائط من الطابوق الأحمر المفخور ثم انقطعت اخباره عن الناس ـ فمنهم من قال انه اعتكف في بيته، ومنهم من قال انه عاد الى معاشرة البدو المهاجرين في قصبة الزبير. لكنه كان يظهر وحيدا من دون صقره الغائب، في حفل أي عرس في قريتنا. كما لم يتخلف عن أداء رقصته الشهيرة. تماماً كما تفعل السدرة. لكنها ـ على عادة نسائنا عندما يعلن رفضهن وحزنهن ـ كانت تحضر الى حفلة العرس بعد ان تكون قد جزَّت شعر رأسها من عروقه، ولسان حالها يقول
أيا حَسِنَ العَينينِ أنتَ قَتَلتَنِي
وَيا فارِِسَ الخَيلَينِ أنتَ شفائيا
ــــــــ
1 ـ رايت القارب الذهبي يشرق من عمق المياه الخضراء، وعند صدره جلس داحي الباب ، كما صورت ذلك تصويراً دقيقا في قصة تاريخ العار في بلاد النفطار . ومن المفارقات الجديرة بالتسجيل بهذا الخصوص ما اخبرني به صديقي مبارك بن لندن بعد ذلك اللقاء بسنة ونيف. قال السير ثسيكر شاهدت السفينة الذهبية بعينيَّ الإثنتين هاتين. رأيت ملاحيها الإثني عشر، والرجل الذي جلس كما يجلس العرب عند صدر القارب. ابصرت رجلا يبدو ربع القامة، حنطي اللون، غزير شعر اللحية، يفيض مهابة وجلالا، والى يمينه ثمة اسد، او صورة لسبع ذي لبد اشقر مشوب بلون اسود. وقد التقطت صورة لهذا المشهد بكاميرتي الشخصية. وحين قمت بتظهير الفيلم بعد عودتي الى لندن، لم اجد صورة ذلك الرجل. وجدت رسما للمسيح على صليبه، كما هو شائع في لوحات الرسامين الأيطاليين للمشهد المتداول لجلجلة عيسى وصلبه، وتحتها هذه العبارة باللغة العربية لا يُصَوِّرُني إلاّ مُصَوِّري .
ـ وحدثني السير ولفرد ثسيكر، فقال أقمت في قرى الأهوار سنين عددا، متقصيا اخبار بنانة المداح الذي يرد اسمه في كثير من حكايات العشاق وترنيمات الأٌمهات عند مهود رضعانهن في ليالي الشتاء الميسانية الطويلة. كان هذا الشاعر الجوال، الذي يشبه في كثير من صفاته الجسمانية، صفات سُروط السكران، يحل في قريات اهوارالعمارة، كما في بلدتنا، من دون إخبار مسبق، فيسمع الناس صوته الجهير اولا، ثم ينادي بجملته الشهيرة وينكم يا عشاق النبي ، بعد ذلك يظهر بقامته الراهية، وخلفه بعيره الأبيض، يحمل عدلين من ملح ممالح الجزر المجنونة، بينما يربض على سنامه صقر اسود اللون من غير برقع، ثم يتوقف موكبه قبالة بيت سيد كصب المكاري.
اقول معقبا يا صديقي مبارك. هذه مقالة جديدة، لم يسبقك اليها حتى ابناء ميسان .
ما اخبرك به هو من السنة ثقاة اهل ميسان. وانا اشعر بأسف شديد لأني لم اسجل ما سمعت به في هذا الشان في محاضرتي التي القيتها على اعضاء الجمعية الآسيوية الملكية بلندن في صيف سنة 1953 .
لا يزال في الوقت متسع، عزيزي ويلفرد .
الوقت يسرع. الهور يسير الى كارثة .
كنت اعرف ان الحرب تعني الكارثة بعينها عند رجل خبر ثقافة الحروب، فأردت ان اعود الى حكايته مع اهل الاهوار الميسانية ماذا قدمت لهم؟ . قال ليس الكثير، اقراص اسبرين . ثم صمت لحظة وعاد يسألني هل تعتقد ان تلك الأقراص البيض كانت كافية؟ . قلت نعم. فمن عادات اهلنا انهم يامنون جانب من يقدم العون لهم .
يا صديقي اللامي ، يستمر السير ويلفرد ، انا كنت اقدم اقراص الأسبرين الى اهلك.. اما هم فاعطوني ثقتهم، وتفصيلات مثيرة عن شخصية هذه المسطحات المائية، من بينها شخصية بنانة .
توقف برهة ينظر الى بحر الخليج العربي، ثم قال سمعت مزيد بن حمدان يقصد بذلك شيخ قبيلة العيسى، يقول قال جدي رحمة الله عليه شفت بعيني اللتين سيأكلهما الدود، صورة ابن سكران في وجه بنانة الذي كان يتبرقع كما يتبرقع سُروط السكران، حتى ظننت ان بنانة هو السُّروط. فسالته من انت، مشَّيت عليك الحسين ابو عبدالله؟ . فسمعت صوته العميق الحزين
تَداوَيتُ مِنْ نََثْْري بِصقري، مِنَ الهَوى
كما يَتداوى شاربُ الخَمرِ بالخَمرِ
إذا ذُكِرَتْ يَرْتاحُ قَلْبي لِذِكْرِها،
كما انْتَفَضَ العُصْفُور، بَلَّلَه القَطْرُ
وما ان انتهى من إنشاد هذا الشعر، حتى انطلق صقره نحو دار جبار بن سيد كصب المكاري وغاب عني فترة من الوقت، ثم صفر بنانة بنغمة خافتة طويلة، فأشرق الصقر في سماء دارفليفة السدرة، وعاد وحط على سنام البعير، فشاهدت حول رقبته جديلة سوداء يميل لونها الى الاحمرار، مضفورة بأصابع إمرأة هاشمية .
…. وفي احدى زياراتي لمقبرة الأطفال في إيشان السروط، اعترض بحثي لوح من جصّ النورة مكتوب على وجهه يا قاريء هذا الكتاب لا تسل عن اسمي وأصلي وفصلي. انا مُدَوّن قصص الحب وحكايات العشاق في دستميسان . وبعده تذييل هذا نصه .. هذه قصة عشت تفصيلاتها كلها، عندما كنت اقوم بجمع قصص الحب بين الخلق . ثم يلي هذه الكلمات هذا التاريخ الأول من شهر نضوج الرطب، من بعد السنة الرابعة بعد المئة، لبلد سماه اهله إيراك، اوالبلاد السفلى، او وادي ابناء السماء
ولم اجد ختماً على يمين او شمال، او غرب او شرق اللوح الذي خطه كاتبه باللغة السريانية . وهكذا ترى عزيزي القاريء، انني لم اقم الا بجهد تحقيق ما كتبه مدوّن قصص الحب وحكايات العشاق في دستميسان .
ولله الفضل من بعد ومن قبل، وهو العالم بسرائر القلوب.
إِنّني غََريبٌ في هذا البَلدِ،
ولمْ أَجِد، بَعدَُْ، خانَ العَرَبِ
ـ إبن حافت ـ
…. وكان السكران فتى غريبا، كما عرفت من حفرياتي الخاصة في التلال التي يربو عددها على المائة في بطائح ميسان وحماداتها. هذا المجهود الشخصي الذي رافقني منذ سنة 1956، عندما اصطحبنا مدرس مادةالرسم والأعمال الجميلةبمدرسة الماجدية عيسى باش آغا رحمه الله، الى موقع السروط، حيث رأيت ما جعلني اعود الى هذه اليشن بعد عدة سنوات أنا الذي اعتبر نفسي ابن النهر ، وأترك وظيفتي في دائرة جمارك ومكوس مدينة العمارة، وأقيم في صريفة من قصب الهور وبرديّه، كان الجوّال البريطاني ثسيكر ، قد اعجب بمثيلة لها في هذه البطائح حيث سمع بحكاية سِدرَةِ السَّكْران ـ حسب تسمية مفضلة عنده ، بعد زيارته للأهوار سنة 1951، مدفوعا بأشواق خاصة الى التعرف على مملكة ميسان، او بلاد ما بعد جنوبي بابل، كما اخبرني في احدى زياراته لمدينة ابوظبي في سنة 1981 . 1
…. وحدثنا ابن قريتنا، المعروف لخلق مملكة ميسان باسم المواطن . او شايع الشرقي، كما هو معروف عندي وعند المشتغلين في صناعة الكلام والتدوين ، انه قال كان ابي رحمه الله، يسألني من دون ان يَكلّ او يَملّ من اعادة طرح سؤاله الأثير عليَّ .. وهل بقي في السروط من يعرف المبرقع السكران، ويتذكر حكايته مع السِّدرَة؟ .
بلى. يا والدي،… انا وربعي . يقول ابي الخير في امثالكم الى آخر ساعة في الزمان. فلا تقوم لليشن قائمة، ولا يستأهل رجل مُعَقَّلٌ عقاله، ولا يبقى معنى للحج والصلوات والصوم والزكوات والجهاد والعدل، اذا ما نسي شباب قرانا شيوخها وأشياخهم .
صدق والدي، تغمده الله برحمته الواسعة. فهذا الرجل الذي عرفه جدي في صباه حق المعرفة، وتحرَّيتُ حياته، وإطلعتُ على المخبوء من اسراره ، لم يسقط اسمه من ذاكرة شباب هذه الأيام من أبناء مدينتنا الذين تزدحم بهم الحانات والبارات والخانات والطرقات والمارستانات والبازارات والمنديات والمساجد والصوامع والزوايا والتكايا والكنائس والكُنُس.
أنا أكيد من هذا، مثلما انا على يقين من أن القلّة الباقية من الشعراء الجوالين، يعرفون سُروط السكران، او مجنون فليفلة ، كما يطيب لبعض الشباب تسميته. فلم نكن نعرف نحن الفتية الذين كبرنا كما كانت تنهض انهارمملكة ميسان في فصل الربيع اي مهنة معلومة بعينها يمتهنها مثل بقية ابناء بلدتنا. فهو صياد سمك وجاني افاعي وعنافيش حيناً، ومربي جواميس وتاجر جلود احياناً، ومروّض خيل ومضمِر نياق وعاطل عن العمل مرات، وطاوي مسافات وعابر أنهار من اجل حل مشكلات الناس مرات ومرات، وصديق للمطربين الشعبيين والمطاريد والحرامية التائبين في أحيان كثيرة. ولكن المأثور المشهور عنهفي قريتنا بانه المشّاء الجوال الذي يقتفي اثر الصقور بين بساتين النخيل والبوادي المترامية الأطراف، ومطاردة قمم الجبال وذرا الأشجار في البلدات النائية.
كان الناس ينادون عليه يا بو غايب ، حتى كدنا ننسى اسمه الأول. وعندما يتوجهون اليه بتلك الكنية، كانوا يتصرفون معه كأنهم يعرفونه، او يطلبون منه ما يعتقدون انه مُجاب مسبقاً. تلك هي هيبته ومهابته ووقاره، حتى عندما يكون في ذروة رقصته الفريدة التي لا يجيدها غيره. بل ان سلطة مخفر الشرطة كانت تبدو متواضعة أمام حضور اسمه او ذكرحوادثه بين الناس، رغم انه ليس من أهل الثروة والجاه. وكانت اي انثى ميسانية تتعرض الى ضيم، او تتصور انها مُضامة، تشهر ذراعيها، وتضع اصابع كفيها في عيني الذي يقصدها بالأذيّة، قائلة للمخفر ما اروح. انا شِيَلْتِي بِعْقال بوغايب
اما الشباب الذين كانوا يقعون في الحبّ وتحول بينهم وبين من يحبون اسباب عائلية واجتماعية، وما اكثرهم في قريتنا في زمانه فإن الواحد منهم كان يقصدسروط السكران.
صبري قرَّب يخلص، يا سكران.
اصبر. بلى.. اصبر، ثم اصبر.. يا وليدي .
حالي في هذا الحين مثل شاة بيد قصاب .
يلتفت السكران الى صقره الحُرّ الفضيّ، الذي لم يره احد من دون برقعه حتى حدث ما حدث بعد تلك الليلة الشباطية ، ثم يستمر في حديثه أو تخشى الغزالة من سلخ جلدها بعد ان يتخثَّر دمها في عروقها بعد ان تطاردها كلاب الصيد؟ .
نَشَفَ دمي . يقول العاشق ثم يواصل ملتاعاً طاح حيلي، ويبست عروقي .
ومحبوبك؟ ، فيرد العاشق ساكت. آخ من سكتة المحبوب يا سُروط .
يا وليدي، اسمع مني هذا المقال اذا سكت المحبوب فهو في قمة الشقاء. وإذا ما تكلم كان هو وجهنم سواء بسواء. فهل تريد له زيادة في الشقاء وهو في عزّ جهنم الحمراء؟.
حاشى لله . ويمدّ الصقر رقبته قليلا ويفرد جناحيه الأشهبين، فيقول سُروط زين. عليك قبول شقائك وسعادة محبوبك . كان السكران يعرف كيف يجعل الفتى العاشق يختار في حبيبته، الحب الذي يعجز الكلام عن وصفه او الأحاطة به، حتى ينسى نفسه تماما، ولا يعود يرى سوى الحب في شخص المحبوبة. وكان يعرف كيف يتغلب على اي مشكلة تواجه اي انسان يقصده.
بعد صلاة المغرب يقول والدي ، حيث تبدأ بيوتنا الأستعداد لوجبة العشاء بعد صلوات متصلة في ذيل صلاة المغرب، وتخمد رويدا رويدا نيران تنانير امهاتنا، ويعود الرعيان من مربعانياتهم، ويدخل صوت بَنانَة المدّاح الى زقاقنا المعتم، في اطلالاته القليلة التي لا موعد محددا لها، كان ابن سكران يجتاز الباب الخشبي العريض لداره المطلة على نهر المشرّح، بعد ان يلتفت نحو صقره المبرقع، وهو في زينته الكاملة، كما لو انه في اليوم الاول من العيد الصغير، بدشداشته العتيقة النظيفة، وعقاله الذي من كور ذي قار، وكوفيته الدستميسانية التي كان قد ابتاعها من قَمّاش ديزفولي، والتي تهبط نهايات مقدمتها على حاجبيه مثل برقع، ومركوبه النظيف المصنوع من جلد شاة، ومَزْوِيَّته العباسية السوداء المأثور بهذا الخصوص انها منسوجة من وير بعير اسود، كان يهيم في حَمادات خُوًيط السلطان، ملقياً الرعب في قلوب البشر والحيوان، فنفر اليه سكران اللامي، وحيداً فريداً الاّ من طيره الحر الذي كان يرافقه وفالته التي لا تفارقه، ثم تفرس في وجه البعيرالهائج، وحرك شفتيه كأنه يهمس بكلام لا يسمعه سوى البعير، عرفت ان هذا النوع من الطيور هو المحبوب لدى احفاد الشيخ حافظ اللامي، الجد الأشهر لسروط من بين اجداده الذين لا يعرف النسابون تعدادهم بالتمام والكمال من دون ان يشهر فالته بوجهه. فلزم البعيرمكانه، وأخذ يتشمم الأرض المبرقعة بالطِرْطَيع والحلفاء والعاقول. بعد ذلك رفع رقبته عاليا، ثم ارغى وأزبد مثل فصيل تم ذبحه توّاً، وخفض رقبته قليلا قليلا، حتى برك على الأرض وارسل برطمبه الى حيث قدمي سكران اللامي ـ الكاتب .
تناقل الركبان ما سمعوا به من هذا العجبان في حينه، فقالوا نهض الصقر، وعرض صدره المهيب المزين بريش اشقر لامع لشمس الظهيرة، ثم انطلق نحو البعير الأسود، وحط فوق هامته، وطفق يصطفق بجناحيه برهة، ثم اطلق صيحة تشبه صهيل حصان يستعد لتقفيز انثاه بعد حبسه عن الفرس ثلاثة اشهر متصلة. ومنذ تلك اللحظة، لم نَرَ في حمادات المملكة او في خُويط السلطان بعيرا اسود . وعلى هذا المنوال كان السكران يتعامل مع منازل الناس الذين يقصدهم. ينقر سروط بسبابة كفه اليمنى على باب الدارنقراً خفيفاً، فيهرع رب البيت اليه وخلفه آله، ثم يسير الجمع الى الرّبعة. يجلس على سجادة لاميّة، ويستل مكواره من حزامه المربوط الى نطاق من قماش سندي عند خاصرته اليسرى، بينما يركن فالته السومرية الى الجدار خلفه، فيعرف أهل الدار ان السكران قصدهم من أجل مشكلة ينبغي ان يجد حلاًّ لها.
تهون يا وليدي، سبحان ربي العظيم الجميل . تلك هي اللازمة التي ينطق يها لسان ابن سكران، نقلا عن جده، بعدما يتربع على السجادة، ويسلم على الرسول وآل البيت، ثم يختتم بالمأثور المنقول عنه الدنيا دِنِيَّة ووسخة، وروح الآدمي تعاف الوساخة . ثم يتطلع ناحية مِركاز صقره،الذي يحرص على اصطحابه معه في مثل هذه االزيارات.
وبعد ان يشيع جوا من الطرافة على الحاضرين فهو يحتفظ بمرويات كثيرة لا تخلو من مسرات لطيفة غالبا ما تكون ابنة لحظتها ، يروي حكاية قديمة ومعروفة اصبحت على طرف لسان كل امراة ورجل في قريتنا، لكنه يعيد سردها حسب مقتضى الحال، عن تجواله بين اليشن المائية، وتطوافه بين فِرجان بيوت الشعر والطين عند اليابسة في عيلام وديزفول وباكسّايا، او حين ضرب في حمادات اهله والقبائل الاخرى حتى وصل الى المحمَّرة، عند ذَنَايِبِ شط الكرخة، حيث حيث التقى بالصفران والحمران والشقران والسودان العائدين من بلالد يأجوج وماجوج وخراسان والهند عابرين الصحاري والبحار والقرى والبساتين التي لم يسمع بها احد غيره في قريتنا. ثم يترنم ببيت من الشعر ينسبه الى غيره بينما هو من قصيده، يفصح عن حال احد العشاق الذين تعرّف اليهم في تلك الأيام، ويربط اطرافها بحكاية تختص بشاب احب فتاة، إلا ان قوة غاشمة كأداء تقف عقبة في طريق زواج الشاب بها. ثم يستمر في سرد الأوجاع التي يتعرض لها العاشقان، ويستنجد بقصص الصالحين وأخبارهم، او يسترجع قصص العشق في الأيام التي عاشها أجداده، او سمع بها من افواه اصحابها، ثم تتحرك شفتاه هامسا
ولوْ أنّني أسْتغْفِرُ الله كُلّما..
ذكرتكِ، لمْ تُكْتَبْ عليّ ذنوبُ
وفي لحظة من ساعات تلك الجلسة التي ربما تستمر الى ما بعد منتصف الليل هكذا أخبرني والدي ، وفي العتمة المضاءة بسراج تتغذى فتيلته على زيت السمسم الذي يبتاعه من اليهودي ساسون الذي الذي يتخذ من دار النبي إسحق في سوق العلافين مقراً لتجارته، تطفر آهة حرّى من عمق صدره، فيسود الصمت، ويريم السكون على الرّبعة، ذلك الصمت الذي لا إشارة الى نهايته سوى حركات من اصابع كفه اليمنى وهو يلاعب خرزات مسبحته الكرمانيَّة، ليعرف القوم وأضيافهم، ان سُروط السكران جاء يطلب منهم جوابا.
انت تأمر، ونحن على السمع والطاعة، يا بو غايب .
الإنسان قول وفعل .
بعدها، ينهض سروط فتبدو نهايات كوفيته وقد غطت عينيه لم يتحدث اي من الخلق انه شاهد عيني السكران، الا ان همسا يدور بين الناس مفاده انه اصيب بمرض الجدري الذي ضرب ميسان في سنة الجدري المعروفة في سنوات ما بعد قدوم المشعشعين ، وتنتصب قامته المهيبة عابرة طوف الربعة حتى تتلاشى في ظلمة البرية، ثم يبسط عباءته على بساط الرَّبعة، ويقتبل بيت الله، فيعرف اهل الدار ان سُروط السكران يرغب في تناول ما قسمه الله من زاد التحتومة عندهم.
وعندما تُشرقُ هلهولة ميسانية من بيت في محلتنا في تلك الآونة،كان الخلق يعرفون ان طلب ابن سكران قد تمَّ الأستجابة له. كان ذلك كله يحدث، وغيره الكثير، قبل ان يغلق ابن سكران بن الشيخ نصيري بن الشيخ إِرْحمة بن الشيخ براك بن الشيخ حافظ اللامي، باب دار اجداده، ولينطلق صقره الذي لم يره احد من دون برقعه، بعد تلك الليلة التي من شهر شباط اللّبّاط.
مرة واحدة ووحيدة هكذا سجّل كاتب هذا النص ، لم يُجب الجار جبار بن سيد كصب المكاري، طلباً لأبن سكران. ولو اتيح لك، يا من تقرأ هذه القصة، ان تزور قريتنا في تلك العقود، وتسال احد السابلة رحمة الله على والديك، اريد بيت جبار بن سيد كصب؟ ، لردّ عليك في الحال ما عندنا مثل هذا الإسم .
وكان باب دار والد سُروط بن سكران اللامي، يقابل باب بيت ابو فليفلة السدرة وهي سدرة مباركة كما كان يصفها الناس، فلها ايام معروفات بين المحرم والمحرم من السنة التالية، تظهر فيها على الخلق في البرية، تشخص حال زينب بنت علي بن أبي طالب، في اليوم العاشر من شهر محرم الحرام. وهناك ما هو منسوب الى قابلة بلدتنا المعروفة بين القاصي والداني باسم معصومة خاتون. قالت الخاتون نزل الطلق على على العلوية خديجة بنت السيد احمد ابو تريكات وهي في الطريق لزيارة باب الحوائج موسى الكاظم، فجلست على حافة ترعة صغيرة، ونادت بصوت موجوع العون ياجدي، الغوث الغوث ، فهبطت من بين فخذيها رضيعة مغسولة بماء الورد الجوري. ذهلت العلوية اول الامر، لكنها عادت الى وعيها بعدما شاهدت نفسها تجلس تحت اغصان شجرة سدر ضخمة . هذه هي الحقيقة، يا قاريء كتابي. فقد نسيت قريتنا اسم جبار، وإسم ابيه سيد كصب الرّادود المنبري المشهور في نواحي ميسان، والمرافق لجنازات موتانا من ميسان وخُويط السلطان مرورا ببادية السيد احمد الرفاعي في واسط ـالكوت حتى نصل الى النجف الاشرف بعدما طاف اسم ابنته فليفلة وسدرتها على بيوتنا كلها، والناس تتابع سنة من بعد اخرى، تفصيلات واحدة من اكثر قصص الحب نبالة في تاريخ مملكة ميسان العتيدة
عشر سنوات مرت على هذا المشهد الذي تبدّى لسُروط مثل حلم في فجر يوم صيفي هكذا اخبرني ويلفرد ثسيكر ذات يوم ـ الكاتب ، جمعت بين هاتين الروحين. لم يقل أحد ان سُروطاً التقى السدرة خلسة. ولم يخبر شاب رفاقاً له، انه وقف في بستان بيت النِيادة الذي يقود الى نهر الكحلاء، ورأى السكران يتبع اثر قدمي فليفة، وحيدة او مع رفيقاتها، أوعائدة الى دارها وفوق كتفها اليسرى مصخنة الماء. وعند ذلك يعرف الناس، ان المغني سوف يعيد على السامعين، حكاية شاب شهم أحب فتاة نجيبة حبا ملك فؤاده، واستولى على كيانه. لكن احوال هذه الدنيا الدنيّة حالت بينه وبين حبيبته، فرضي بسعادة محبوبته حيثما تكون.
لكن الناس كانت تعرف، ان السكران، يحضر حفلات اعراس المدينة، وانه في لحظة من اللحظات النادرة في حياته يرفع برقعه الى اعلى نجمة تحت السماء السابعة، عندما تجتمع الزوجات والبنات فوق سطح منزل صاحب الدار، فهو متيقن ان السدرة هناك حتى بعدما تقدم بها العمر، والتصقت امعاؤها بقفاها. عندئذٍ يتقدم الى المغني الذي يحيي حفل العرس، وهولا بد ان يكون من بين اصدقائه، ويسرّ في اذنه اليسرى بضع كلمات.
قال والدي اسكنه الله فسيح جنانه يُكَفِّن بوغايب في تلك اللحظات التي تدوم حتى اقتراب اذان الفجر، كيانه كله بعباءته، منحنياً ببرقعهً حتى نكاد نحسب انه سيسقط بين قدميه، بينما يكون قلبه على راحة كفه اليسرى . وهكذا كان صوت بَنانَة المّدّاح، في موعد قدومه المفاجيء حين كان يطوف على بيوت مدائن ميسان وقصباتها، وهو يعيد رواية قصة الحب التي جمعت بين المقداد بن الاسود الكندي والميّاسة.
اما فليفة السدرة، لا سيما بعد ان كفت عن تشخيص مصيبة زينب في ذلك اليوم الحزين، فوق سطح الدار بين صويحباتها وجاراتها، بعدما تقدمت بها السنون الى ما بعد الستين فهي تجاوزت الثمانين، بعد ان اختفى السكران عن بريتنا ـ كما يقول جدي ، فكانت تعرف ان المغني يذكرها بلسانه، ولكن بقلب السكران، ولو طرى باله اسم حَمدَة، او ورد على لسانه اسم زينب او وَرْدَة او هَيْلَة، او زهرة، او مَصِر، او مَايْهِن.
وعندما يبلغ المغني قمة المصيبة، حيث تذكرالحكاية رفض والد الفتاة القبول بالشاب زوجا لأبنته، يتقدم سُروط السكران الى مجلس المغني وعازف الكمنجة وضارب الطّار، ثم يضع عقاله حول رقبته، ويلف عباءته على ساعد يده اليسرى، ويسحب مكواره بقبضة يده اليمنى من عند خاصرته اليسرى، ويبدأ ينود مثل اعجاز نخل هاوية تتقاذفها ريح صرصر عاتية، تميد به ذات اليمين وذات الشمال. ولله في خلقه شؤون، اذ ان الشائع الى ايام الناس هذه، ان اي حفلة عرس في قريتنا، يعقبها كلام ترويه شفة الى اذن، عن فانوسين يشرقان مثل نجم الثريا في فضاء الحفل، يرى الناس في زجاجتيهما صورتي وجهي فليفة والسكران .
ولا ينتهي هذا المشهد الا حين تُكبِّر مئذنة مسجد قريتنا، فيسقط بوغايب مغشياً عليه، وقد غطت كوفيته صفحة وجهه كله، فيبرد جسده، ويتوقف نبض قلبه، ويفوح تفاله الأبيض من فمه، فنعود الى وصيته التي عرفها الشباب والشيوخ من دون ان يعلنها احد لصاحبه نوجه رأسه المغطى بغترته نحو بيت السدرة، ثم يمرق بيننا شبح مُكَفَّن بعباءة سوداء. تقول النساء تنحني السدرة في تلك الأثناء على روحها، وتفكّ عقدة من جديلتها التي تصاحبها، ثم تقرّب ذؤاباتها من خشم سُروط السكران، الذي ياخذ وعيه بالعودة اليه نفسا بعد نفس، حتى يرتاح اخيرا عند اقرب عمود يسند كتفيه اليه .
كنت ارافقه في تلك الساعات قال جدي لوالدي ، في تلك السنوات العشر المعروفة لنا، فاقترب منه كثيرا، واضع اذني عند قلبه، فاسمعه يردد مثل بعير ذبيح فليفة.. فليفة يا سدرة الجنّة ، ثم ينقطع نفسه، ويتوقف قلبه. قال والدي ؛ يقول والدي اقسم بشرف إبن الِمْلوَّحْ ان جدتي كانت تقول ان السدرة هي التي فكت عقدة من جديلتها جديلتها التي تحتفظ بها منذ تلك الليلة الشباطيّة عند رأس ابن سكران، بعدما جزّت شعر رأسها كله من عروقه . وفي أعلى الدار، عند السطح المطوق باشجار السدر والغَرَب ونخلات البريم والزهدي والديري والخستاوي والأسطهعمران والخضراوي والبربن، كانت فليفلة لا تزال تسمر مع صاحباتها الشابات، او وحيدة ساهمة داخل عباءتها، بعدما تجاوزت الستين. بيد اننا كنا نعرف انها كانت تنتحب مثل الغزالة المذبوحة.
هذه هي احوال الدنيا ، يعلق ابي. ثم يتذكر انه وربعه يعرفون تلك الحكاية منذ بدايتها مع جبار بن سيد كصب المكاري، فهي مكتوبة مثل دقّ الوشم على زنود العشاق الأحرار. قال رحمه الله ذات ليلة شباطيّة، قصد ابن سكران، ومعه صقره الحر الأبيض، دار جبار بن المكاري.
تفضل يا سُروط . كان فنجان قهوته لا يزال امامه، بينما كانت اصابع كفه اليمنى تلاعب خرزات مسبحته. كلك فضل، ياعم ،.. واستمر السُروط في حديثه بعدما عرف ان ابن السيد يستزيده في الكلام جئت ومعي راية العباس .
أنعم وأكرم ببُو فاضل . وخلع السيد كوفيته وطرحها على الارض.
اريد اكمال ديني يا عمّ؟ . لم ينتبه جبار المكاري الى الحركة القلقة على برقع الصقر. يا زين ما تفعل يا سُروط. بَسْ من هي المحظوظة؟ . سال والد فليفة. اخرج سُروط بن سكران قطعة القماش الخضراء المعروفة للبعيد والقريب من عبّه اريد السدرة زوجة لي، على سنة الله ورسوله وحب آل البيت . يفرد الصقر جناحيه، وترتفع هامته عاليا.
هذا مستحيل .
يا عم، أذكر الله .
هذا مستحيل يا ابن سكران، البنت مُعَلَّقة لإبن عمها .
سيد إخْلَيف ماتْ. الله يرحم موتانا كلهم .
هِيْ كِلْمَة وإنْقالَتْ. وهيْ راية وإنْشَدَّتْ. بنات السادة للسادة، بالدنيه وبالآخرة .
اعاد ابن سكران العلم الأخضر الى عبّه،واختصر وجوده كله داخل عباءته، ثم تطلع بقلبه في وجه جبار بن سيد كصب، فرآى فيه قسوة الدهور وجبروت الأعراف. وانهى ابن كصب الجلسة بقوله انت عندي هذي الليلة تنشد عن صحتي. فلا تطري ما دار بيني وبينك امام بشر او حيوان اوحجر
افتكر سُروط السكران برهة، ثم قال لجبار بن سيد كصب وشِنْهِيْ هُوْ رآي البِنْتْ؟. أجابه السيد اسمع يا ابن سكران، هذي سِنايَن اهالينا. اتركْ البنيَّة للمقدَّرْ والمقسوم .
زين، يا عم،وين ما تكون السدرة فرحانة، انا هناك فرحان .
انتفض الصقر. حرك برقعه يمينا وشمالا 2 ، فعرف سُروط ان طيره يريد ان يطير، فربت على يافوخه، كأنما يودعه. قفَّ ريش الصقر حتى صار مثل نهايات سكاكين عمياء، وأخذ بياضه يتحول الى لون اسود داكن، ثم مرق مثل سهم الى الظلام، خارج دار جباربن السادة.
واستمر سُروط السكران لائذاً في صمته، متكوراً داخل كفنه الأسود. كان الطقس بارداً، والغيوم تلبدت تحت سماء سوداء. وللمرة الأولى في تاريخ اليشن، قال الناس انهم لم يعودوا يرون نوراً يضيء بيت دار سكران اللامي، او يبصرون بو غايب يخرج ومعه طيره الحر من باب بيته الذي يقابل بيت فليفة. بل شاهدوا سراجين تضيء زجاجتيهما فتيلتان خضراوان يعرجان في سماء القرية، عندما يرخي الليل سدوله، ويرتفعان نحو نقطة قصية حتى يتلاشيان في ضوء مبهر بعيد جدا، ثم يعودان الى الإشراق ثانية في الميقات عينه من الليل التالي.
… وبعد تلك الليلة الشباطية كما جاء في قصايد بَنانَة المدّاح اغلق سُروط السكران باب دار اجداده، بحائط من الطابوق الأحمر المفخور ثم انقطعت اخباره عن الناس ـ فمنهم من قال انه اعتكف في بيته، ومنهم من قال انه عاد الى معاشرة البدو المهاجرين في قصبة الزبير. لكنه كان يظهر وحيدا من دون صقره الغائب، في حفل أي عرس في قريتنا. كما لم يتخلف عن أداء رقصته الشهيرة. تماماً كما تفعل السدرة. لكنها ـ على عادة نسائنا عندما يعلن رفضهن وحزنهن ـ كانت تحضر الى حفلة العرس بعد ان تكون قد جزَّت شعر رأسها من عروقه، ولسان حالها يقول
أيا حَسِنَ العَينينِ أنتَ قَتَلتَنِي
وَيا فارِِسَ الخَيلَينِ أنتَ شفائيا
ــــــــ
1 ـ رايت القارب الذهبي يشرق من عمق المياه الخضراء، وعند صدره جلس داحي الباب ، كما صورت ذلك تصويراً دقيقا في قصة تاريخ العار في بلاد النفطار . ومن المفارقات الجديرة بالتسجيل بهذا الخصوص ما اخبرني به صديقي مبارك بن لندن بعد ذلك اللقاء بسنة ونيف. قال السير ثسيكر شاهدت السفينة الذهبية بعينيَّ الإثنتين هاتين. رأيت ملاحيها الإثني عشر، والرجل الذي جلس كما يجلس العرب عند صدر القارب. ابصرت رجلا يبدو ربع القامة، حنطي اللون، غزير شعر اللحية، يفيض مهابة وجلالا، والى يمينه ثمة اسد، او صورة لسبع ذي لبد اشقر مشوب بلون اسود. وقد التقطت صورة لهذا المشهد بكاميرتي الشخصية. وحين قمت بتظهير الفيلم بعد عودتي الى لندن، لم اجد صورة ذلك الرجل. وجدت رسما للمسيح على صليبه، كما هو شائع في لوحات الرسامين الأيطاليين للمشهد المتداول لجلجلة عيسى وصلبه، وتحتها هذه العبارة باللغة العربية لا يُصَوِّرُني إلاّ مُصَوِّري .
ـ وحدثني السير ولفرد ثسيكر، فقال أقمت في قرى الأهوار سنين عددا، متقصيا اخبار بنانة المداح الذي يرد اسمه في كثير من حكايات العشاق وترنيمات الأٌمهات عند مهود رضعانهن في ليالي الشتاء الميسانية الطويلة. كان هذا الشاعر الجوال، الذي يشبه في كثير من صفاته الجسمانية، صفات سُروط السكران، يحل في قريات اهوارالعمارة، كما في بلدتنا، من دون إخبار مسبق، فيسمع الناس صوته الجهير اولا، ثم ينادي بجملته الشهيرة وينكم يا عشاق النبي ، بعد ذلك يظهر بقامته الراهية، وخلفه بعيره الأبيض، يحمل عدلين من ملح ممالح الجزر المجنونة، بينما يربض على سنامه صقر اسود اللون من غير برقع، ثم يتوقف موكبه قبالة بيت سيد كصب المكاري.
اقول معقبا يا صديقي مبارك. هذه مقالة جديدة، لم يسبقك اليها حتى ابناء ميسان .
ما اخبرك به هو من السنة ثقاة اهل ميسان. وانا اشعر بأسف شديد لأني لم اسجل ما سمعت به في هذا الشان في محاضرتي التي القيتها على اعضاء الجمعية الآسيوية الملكية بلندن في صيف سنة 1953 .
لا يزال في الوقت متسع، عزيزي ويلفرد .
الوقت يسرع. الهور يسير الى كارثة .
كنت اعرف ان الحرب تعني الكارثة بعينها عند رجل خبر ثقافة الحروب، فأردت ان اعود الى حكايته مع اهل الاهوار الميسانية ماذا قدمت لهم؟ . قال ليس الكثير، اقراص اسبرين . ثم صمت لحظة وعاد يسألني هل تعتقد ان تلك الأقراص البيض كانت كافية؟ . قلت نعم. فمن عادات اهلنا انهم يامنون جانب من يقدم العون لهم .
يا صديقي اللامي ، يستمر السير ويلفرد ، انا كنت اقدم اقراص الأسبرين الى اهلك.. اما هم فاعطوني ثقتهم، وتفصيلات مثيرة عن شخصية هذه المسطحات المائية، من بينها شخصية بنانة .
توقف برهة ينظر الى بحر الخليج العربي، ثم قال سمعت مزيد بن حمدان يقصد بذلك شيخ قبيلة العيسى، يقول قال جدي رحمة الله عليه شفت بعيني اللتين سيأكلهما الدود، صورة ابن سكران في وجه بنانة الذي كان يتبرقع كما يتبرقع سُروط السكران، حتى ظننت ان بنانة هو السُّروط. فسالته من انت، مشَّيت عليك الحسين ابو عبدالله؟ . فسمعت صوته العميق الحزين
تَداوَيتُ مِنْ نََثْْري بِصقري، مِنَ الهَوى
كما يَتداوى شاربُ الخَمرِ بالخَمرِ
إذا ذُكِرَتْ يَرْتاحُ قَلْبي لِذِكْرِها،
كما انْتَفَضَ العُصْفُور، بَلَّلَه القَطْرُ
وما ان انتهى من إنشاد هذا الشعر، حتى انطلق صقره نحو دار جبار بن سيد كصب المكاري وغاب عني فترة من الوقت، ثم صفر بنانة بنغمة خافتة طويلة، فأشرق الصقر في سماء دارفليفة السدرة، وعاد وحط على سنام البعير، فشاهدت حول رقبته جديلة سوداء يميل لونها الى الاحمرار، مضفورة بأصابع إمرأة هاشمية .
…. وفي احدى زياراتي لمقبرة الأطفال في إيشان السروط، اعترض بحثي لوح من جصّ النورة مكتوب على وجهه يا قاريء هذا الكتاب لا تسل عن اسمي وأصلي وفصلي. انا مُدَوّن قصص الحب وحكايات العشاق في دستميسان . وبعده تذييل هذا نصه .. هذه قصة عشت تفصيلاتها كلها، عندما كنت اقوم بجمع قصص الحب بين الخلق . ثم يلي هذه الكلمات هذا التاريخ الأول من شهر نضوج الرطب، من بعد السنة الرابعة بعد المئة، لبلد سماه اهله إيراك، اوالبلاد السفلى، او وادي ابناء السماء
ولم اجد ختماً على يمين او شمال، او غرب او شرق اللوح الذي خطه كاتبه باللغة السريانية . وهكذا ترى عزيزي القاريء، انني لم اقم الا بجهد تحقيق ما كتبه مدوّن قصص الحب وحكايات العشاق في دستميسان .
ولله الفضل من بعد ومن قبل، وهو العالم بسرائر القلوب.