إبراهيم درغوثي - الجدار العالي.. قصة قصيرة

السلامه
إذا أردت السلامة
وخشيت الانفراد
فقل كما قيل
وانتظر طلوع الشمس

الندامة
وإن خشيت الندامة
وأحببت القلوب البيضاء
فلا تقل كما قيل
واطلع مكان الشمس .

- صالح القرمادي
من ديوان : اللحمة الحية

* إهداء : إلى صالح القرمادي وغزالدين المدني .


ركن السيارة الفارهة في الظلّ الممدود تحت الجدار العالي وأسكت المحرك بعصبية ظهرت في حركات أصابعه وفي التقطيبة بين الحاجبين ثم دس المفتاح في حافظة جلدية أخرجها من جيبه ، ومد يده إلى قارورة صغيرة من العطر الفاخر( في الظاهرفقط ، أما في الحقيقة فهو مغشوش/ فالصو لأنه مصنوع- سو ليسنس - في إحدى البلدان العربية ) . رشّ من العطر على يديه وتحت إبطيه وخبّأ القارورة في جيب جمازته القطنية ونزل من السيارة متثاقلا . ظل مدة واقفا بجانب السيارة ثم أغلق الباب ومشى في الساحة الوسيعة بخطوات عسكرية. ( هكذا تظهر لمن لا يعرفه ، أما بالنسبة لمن يدقق النظر فإنه يرى خطوات الرجل مرتبكة ، شديدة الارتباك ) .

هذه بداية عادية جدا لنص قصصي ككل القصص التي يمكن لك أن تقرأها في صحيفة أو مجلة أدبية أو كتاب يدعي صاحبه أنه مجموعة قصصية . ولكنني أرغب في كتابة نص مختلف . هي مجرد رغبة قابلة للتحقيق ، كما هي قابلة للفشل أي أن سبيل نجاحي في تحقيق هذه الرغبة محفوفة بالمخاطر، كأن يتوقف قارئ هذا النص عن قراءته انتقاما من ادعائي قائلا ( هذا كاتب دعوة هاو بالحرام ما قريت قصته ) ويرمي بالمجلة المسكينة عرض الحائط .
لست أدري إن لاحظتم ذلك أم لا فأنا أرجعت فشلي إلى القارئ منذ البداية ولم أقل إنني سبب هذا الفشل ، أي أن إفشال خطتي في الإتيان بما لم يستطعه الأوائل يتحمل وزره المتقبل وليس الكاتب .
هنا أرجو أن أعود بكم إلى بضع سنين خلت يعني بداية تسعينات القرن الماضي . أيامها كنت (أحبو الكلمات ) على رأي الشاعر الكبير منور صمادح فقد طلبت من سارد روايتي الدراويش يعودون إلى المنفى أن يعفيني من مواصلة الكتابة لأنني لا أصلح لهذا الفن ولأنني مجرد كاتب هاو لا يتقن أساليب السرد وفنون القتال العصرية . ( أنظروا الفرق بين الأمس واليوم ، مسكنة واستعطاف يقابلها تعال ونرجسية ، وعين الشمس كما هو معروف للقاصي والداني لا يمكن أن تغطيها ثقوب الغربال ) . وبالمناسبة فإن تصرف القارئ الذي تنبأت قبل قليل بأنه سيرمي بالمجلة التي بها قصتي عرض الحائط يصبح منطقيا لأن الكاتب الذي يتعامل معه كاتب دعي بشهادته عن نفسه الأمارة بالسوء ، خرج من جلده وصار يظن أنه وحيد زمانه وقطب أركان دولة الأدب . ( يا دين السماء وين ماشي بينا هالمجنون )
وبما أنني واع بهذا الأمر فسأظل أمشي بحذر في هذه السبيل الوعرة المزروعة بالألغام ( أولا باش ما ناكلش راسي ونضحك على روحي الخلق ، وثانيا باش انكذب إدعاءات الذين في قلوبهم مرض عافانا وعافاكم الله من شر الأمراض الظاهرة والمختبئة في ريش الطير وفي قعر البير ) .
وتوه هاو الصحيح . سأقص عليكم أجمل القصص ( أنا كاتب هذا النص : إبراهيم بن الرحومين محمد بن خليفة الدرغوثي السدادي من جهة وابن محبوبة بنت أحمد بن صالح ( مشو أحمد بن صالح صاحب الوزارات المتعددة زمن المجاهد الأكبر الجبيب بورقيبة الله إيجيرنا منو ومن تعاضدو . جدي من أمي أحمد بن صالح بن جلول لكريزي الجريدي ) وسيتناوب معي القص تابعي وراوي حكاياتي السارد المحترم الذي سأسميه إبراهيم الكاتب ، فأنا أعرف هذا الشخص الذي بدأ سارد هذا النص في الحديث عنه في الأسطر الأولى من القصة معرفة شخصية ولكنني ( عامل روحي مانيش داري ) حتى أترك له حرية تخريج القصة على هواه . ولكنني، مع ذلك لن أترك له الحرية كاملة بل سأظل وراءه كظله أراقب حديثه مراقبة صارمة ( تحت حس مس ) . سأسكن تحت لسانه يا سادتي الكرام ولن أترك له فرصة اللعب بكم. هكذا قررت ولن أتراجع في قراري أبدا ولو تقاول عني النقاد ووصفوا هذه الكتابة بالفجاجة والتسطح....
اقترب الرجل ، صاحب السيارة الفارهة من الباب الكبير فأحس بالاضطراب والخوف ( قلتلكمش راهي الحكاية فيها إن ) وبدقات قلبه تزداد في تسارعها ( علاش يالله ) ، لكنه تماسك وواصل السير إلى أن اعترضته لافتة كبيرة معلقة فوق الباب ( إهنا باش نتسائل، أولا علاش يقول باب بركة ، باب مهمل ، باب واش ياسي خوي ، باب اشكون ياسيدي، الله ورسوله أعلم كيفاش يزي ماتبرويط يزي مالكذب عديها على غافل أما أوخيك الكاتب إبراهيم راهو يعرف رواندك كاشف ألاعيبك ياسي السارد ماكش حاب اتقول باب واش علخاطر راك خايف قول راني خايف وكفى الله المؤمنين شرالقتال /. ثانيا علاش ما قلتناش إن اللافتة مصنوعة من البلار وأن الضو شاعل فيها الليل والنهار ما يطفاش على مر الأيام وكر الأدهار- يعني الدهور بفصيح العبارة أما آنا راني اخترت الأدهار حتى يستقيم الوزن وتروق القافية في لغتنا العربية الأنيقة الشفافة ، أليست لغة خير أمة أخرجت للناس ، لا يقربها الخناس ولا يلعب بها الوسواس الدساس ) . مسح رجل قارورة العطر الفاخر اللافتة سريعا بعينيه وواصل التقدم ، إلا أنّ الدق داخل صدره ازداد حتّى كاد قلبه ينخلع من مكانه. وبدأ عرق غزير ينزّ من بدنه . عرق لزج نتانته ( قبل قليل كان إبراهيم الكاتب يتحدث عن قارورة عطر فاخر رش منها هذا الرجل تحت إبطيه ، فلماذا تفوح النتانة من هذا الرجل الأنيق هذا ما سكت عنه السارد حتى هذه الساعة ) ملأت الفضاء الواسع ، يعني النتانة ، وانتشرت في الجوّ انتشار النّار في الهشيم . ( بلاغة قديمة مقصودة جاءت بعد تدخل سافر من الكاتب إبراهيم الذي الجم إبراهيم الكاتب ولم يترك له حتى فرصة إكمال جملته) .
شمّ الرجل الرّائحة فارتبك وكاد يعود على عقبيه ( يعني يرجع امنين جا ) . شم الرائحة ولاحظ أن فتحتي أنفه صارتا واسعتين كفتحتي أنف القوريل ( والقوريل يا سادة هو مخلوق ينحدر من جنس القرود التي عاشرت إنسان النياندرتال منذ أكثر من ثلاثة ملايين سنة حسب تقويم علماء الأنتروبولوجيا الكفار الذين خالفوا ما جاء في توراة بني إسرائيل التي تتحدث عن خلق آدم أب البشر أجمعين وتعود به إلى خمسة آلاف سنة فقط . فمن نصدق يا ترى خمسة آلاف سنة أم ثلاثة ملايين .لا أريد التعليق فقط ذكرت هذه الإضافة التي سكت عنها السارد إن سهوا أو عمدا . والظاهر أنه سكت عنها عمدا لأنني أعرف أن هذا الراوي جبان وما يحبش جبدان البلا . وقد قال لي مرة حين أغلظت له القول وجرحته وشرحته : أنت يا سيدي تنسى لأنك من جنس بني الإنسان والإنسان مبني عن النسيان ، أما أنا فلا أنسى لأنني أولا شخصية ورقية ورثت التطريس عن جلد البقر يعني راسي كاسح كيف راس الثور وثانيا وبما أن ذاكرتك سريعة التلف فإنني أريد أن أذكرك بكتابك القصصي : الخبز المر فهل تذكر الخبز المر يا صاحبي . فبهت الذي كفر . سقط في يدي كما تقول البلاغة العربية القديمة . وجمت وكدت أكف عن التعاليق لولا رحمة من رب العالمين ألهمتني نسيان ما ذكر هذا السارد المتعالم ، ومسحت كلامه من ذاكرتي كما يمسح الإيمان الكفر ، فواصلت التعليق بحذر متهيبا خبثه الباذخ . ) تحسس الرجل الفتحتين العظيمتين بأصابعه فخيل إليه أنه صار قردا . قرد بذنب يتدلى وراء ظهره وأنياب حادة وعينين صغيرتين حادتين فوق الجبهة . قرد يتقافز فوق السيارات وبين الرجال المحترمين الذاهبين إلى البناية المحترمة . تخيل الرجل أنه صار قردا بن أم القردة فحاول النكوص على عقبيه ( صرتم تعرفون الآن معنى هذه العبارة فلا داعي إذن لتكرار الشرح ) . لكنّه أحسّ وكأنّ يدا خفيّة تدفع به إلى الأمام ( فانتسطيك ياعيني ) . يد جبارة قاسية كالصلب المسبوك تمسك به من تلابيبه وتدفع به إلى أن وصل قرب صفّ طويل من الرّجال المحترمين . لاحظ الصمت المخيم على المكان ورأى الوجوم على الوجوه فحاذى الواقفين وتسمر في مكانه . ( مجبورعلى الوقوف ما هواش ابشهوته ) . استدار نحوه من كان يقف أمامه وقاسه بنظرة اشمئزاز وقرف . هل حقيقة أنا قرد قال في نفسه . وعاد إلى أنفه يتحسسه بأصابع يديه الاثنتين. و عاد الرجل الواقف أمامه إلى التأفف . فهم بالعودة من حيث جاء، لكن اليد الجبارة، يد الصلب المسبوك، سمرته في مكانه. وسمع صوتا محايدا لا يشبه أصوات البشر ، صوت معدني من سيليكون ونحاس يطلب منه أن يظل في مكانه حتى لا يتعرض للمساءلة قبل الأوان . واستمر الترديد داخل أذنيه حتى كادتا تنفجران . فنسي معنى الهروب وتسمر في مكانه كتمثال من البرونز. ظل واقفا أكثر من دهر إلى أن بدأ الصف الطويل في التقدم نحو الباب .
كان كلما اقترب أحد الرجال من المدخل ( مدخل بناية الجدار العالي الذي ذكره السارد في بداية القصة ولكنه سكت عن التفاصيل ) رأى وكأن رمحين متقاطعين يسدانه ، ثم وكان يدا تندس داخل جوفه ، ( يعني جوف الرجل الذي تقدم ناحية الرمحين )، تخرج منه قلبه ، تنظر فيه مليا ، ( نسي السارد مرة أخرى أن يقو ل لكم أن هذه اليد تغسل القلب بالثلج والماء البارد الممزوج بالعطور أو ترمي به في سطل مليء بالقطران والزفت المحمى ) ثم تدسه من جديد داخل الصدر.
وينفرج الرمحان تارة ، فيدخل الرجل . ( وأنا أي ابراهيم بن محمد بن خليفة الدرغوثي بلحمه وشحمه ، أراقب المشهد من بعيد ، رأيت أن عد د الداخلين إلى بناية الجدار العالي المذكور آنفا قليل جدا مقارنة بعدد الواقفين في الصف الطويل طول يوم القيامة ) .
وتنقدح نارعند تقاطع الرمحين تارة أخرى . نار خافته ( كيف التريسيتي ) تكاد لاترى بالعين المجردة ، فتهوي على قفا الرجل ( رجل الصف لا رجل السيارة الفارهة ) يد غليظة ( هاك الفنتاسطيك اللي حكيت عليه قبل إشوي )، فيسقط على وجهه سقطة لا يعلم طولها إلا الله ( قالك ساعتها يكون سي خونا شاف مكانه في النار. وأنا أقصد هنا نار الدنيا الفانية لا نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة ) لأن الرجل حين يقف من سقطته تكون ملامحه قد تبدلت كثيرا اسود وجهه وشاب شعر رأسه ، وهو الرجل الشاب الأبيض الأملس قبل الضربة . ويعود إلى الوقوف مرعوبا ، لتباغته ضربة رجل (زكور كيف ما انقولو في الجنوب التونسي أو شلوت على رأي إخواننا في المحروسة مصر) على مؤخرته فيهوي من جديد على وجهه ويتكدس فوق من سبقه من الرجال المفزوعين . ( هنا درجات الفزع متنوعة فمن بين الرجال من يعول كالثكالى ومنهم من يولول ولولة الصبيان ، ومنهم من يكثر من النهنهة ، ومنهم من يكتفي بإظهار الخوف والجزع دون أن يعبر عنه بصريح العبارة ) .
ويواصل الصف تقدمه نحو الباب . ويتواصل الذبح والسلخ وشي اللحم و العياط والشياط والبكاء والنهنهه وصيحات الانتصار والفوز المبين . وهذا الإنسان الصفر لا يدري ما يفعل به . ( عرفتو توة علاش اهديت قصتي لعزالدين المدني ، أما سبب الإهداء لصالح القرمادي فأتركه لنباهة النابهين فقط ) .
ويتواصل فزع الرجل ( الذي لم يذكر لكم السارد حتى الآن سبب مجيئه لساحة الحشر هذه ، هذا الرجل الذي جاء هناك بمحض إرادته ، قلت - ساحة الحشر- ، أستغفر الله العظيم وأتوب إليه ، ما كنت أقصد ولكنه الشيطان الرجيم رمى في قلبي بهذا الكلام فالتبس علي الأمر، لأن تلك الساحة لا يعلمها إلا الله ، وإنما كنت أقصد الساحة المجاورة للجدار العالي والمؤدية للبناية الكبيرة ، الجهمة) ، فتصطك أسنانه ،( أي أسنان رجل السيارة ) ويسيل على وجهه عرق بارد ويسيل بين فخذيه البول...

أنهى السارد القصة عند هذا المشهد بعد أن شطب في آ خر لحظة وصفا مهينا لكرامة هذا الرجل قال فيه إنه ضراط أو كما قال بالضبط: يا ضراط ، لأنه رأى أنه كان يتطاوس قبل النزول من السيارة المرسيدس- بنز، وأنه كان يقول بالصوت العالي وهو في طريقه إلى بناية الجدار العالي : ( إش يا ذبانة ما ثمة في الدنيا كان آنا ) ، لكنني شخصيا أنا الكاتب إبراهيم بن محمد بن خليفة الدر غوثي ، سيد هذا المتكلم باسمي،( على الأقل حسب ظني واعتقادي وإن كان بعض السادة النقاد لا يشاركونني هذا الظن وهذا الاعتقاد) ، لم أقتنع بهذه النهاية رغم ما خوفني به السارد من وقائع صحيحة وأدلة ثابتة تناسيتها لكنه لم ينسها . هذه النهاية التي بدت لي متسرعة ، خائفة ، لا تشفي غليل المتلقي الذي يود أن لا تختلط عليه أمور الدنيا والآخرة ، وأن نعطي لله مالله ولقيصر ما لقيصر ( هذه الجملة الأخيرة زائدة – حشو كما يقول النحاة ولكنني أردت أن أزين بها هذه الخطبة حتى يقال عني أنني فطحل أعرف كثيرا من علوم الكلام وفنون القول ) . هذا المتلقي الذي يريد أن يفهم أكثر لأن في كلام السارد الذي شاركني القص كثير من الغموض والتورية و التبهنيس أيضا .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...