كان العمل لإنشاء سور الصين العظيم قد انتهى في أقصى ركنه الشمالي بعد أن كان قد امتد علي طول قطاعين من الجنوب الشرقي والجنوب الغربي ليلتحما بعده في ذلك الركن. وكان أسلوب الإنشاء المتقطع قد طُبق على مستوى أصغر من ِقبل كلا جيشي البناء العظيمين، الشرقي و الغربي. كان العمل يتم كما يلي :
يتم تشكيل فرقة من حوالي العشرون عاملاً يناط بها إنجاز جزء من السور بطول خمسمائة يارده، بينما تكون مجموعة مماثلة منهمكه في بناء طول مماثل من السور ليقابل الجزء الأول. وعند انتهاء عمل الوصلة فإن البناء لن يبدء مرة أخرى حيث انتهت هذه الياردات الألف، وبدلاً من ذلك فإن مجموعتي العمل تلك تنقلان لتبدآ البناء في منطقة أخرى. ومن البديهي أنه وبهذه الطريقة لا بد وأن تبقى ثغرات كبيرة لا يتم إغلاقها إلاّ تدريجياً وجزءاً بعد جزء ، بل وإن بعضها لم يتم ذلك فيها نهائياً، إلاّ بعد الإعلان الرسمي لانتهاء بناء السور. وفي الواقع، يقال أن هناك فجوات لم يتم إغلاقها إطلاقاً ، وربما كانت هذه أسطورة من الأساطير التي أثارها بناء السور والتي لا يمكن التحقق منها بواسطة فرد من الأفراد يحكُم على ذلك رأي العين وخاصة لو أُخذ طول السور في الإعتبار. ورب قائل، بعد نظرة أولى، أنه كان من الأجدى ، في جميع الأحوال، لو أن بناء السور تم بطريقة متصلة ، علي الأقل في ما بين الجزئين الرئيسيين، أولم يكن الهدف من بناء السور كما كان معلوماً ومعلناً بصفة عامة هو أن يكون حماية لنا من شعوب الشمال؟ فكيف إذن يمكن لسور أن يحمي إن لم يكن صرحاً متصلاً؟ أوليس لمثل هذا السور أن يعجز عن الحماية إضافة على أن ما يوجد منه نفسه يبقى معرضا لخطر مستمر، فكتـل السور القائمة في المناطق المهجورة يمكن تدميرها بسهوله، وخاصة أن تلك القبائل التي أقـلـقـتها عمليات التشييد كانت تـتـنـقل وتبدل مواقع مخيماتها بصورة مذهلة كأسراب الجراد تماماً،ً وعليه فإنه من الممكن أنه كان لديها نظرة عامه عن تقدم البناء أفضل مما كان لدينا نحن البناؤون. ومع ذلك فإنه من المحتمل أنه لم يكن هناك طريقة أخرى لإنجاز البناء . ولفهم ذلك علينا الأخذ بالأعتبارات التالية: كان على السور أن يكون حماية لقرون طويلة و بناءاً على ذلك كانت أكثر التصميمات دقة في البناء ، وتطبيق كل فنون المعمار في كل العصور وعند حميع الشعوب مع الإحساس المتواصل بالمسؤولية لدى كل بنّاء ، لوازم مسبقة لا يمكن الإستغناء عنها من أجل هذا العمل. صحيح أنه قد استـُخدم عمال بالأجر اليومي من بين الجهله من العامة، رجال ونساء وأطفال، أدوا أعمالهم مقابل أجر في مهمات ذات طبيعة عضليه صرفة ولكن الإشراف كان يتطلب، حتى على العمال الذين يعملون لأربعة أيام، خبيراً ضليعاً في فن البناء، رجلاً يمكنه الإحساس بكل فؤاده والنفاذ فيما يتضمنه العمل، وكلما كانت المهمة أرقى كلما كانت المسؤلية أكثر ثقلاً كذلك. ومن الناحية العملية فإنه كان من اللازم الحصول على مثل هؤلاء الرجال، حتى وإن لم يكونوا بنفس الوفرة التي كان يمكن لأعمال البناء أن تمتصها بالرغم من أعدادهم الكبيرة. وأما بالنسبة للعمل فإنه لم يُباشر فيه بدون رويّ ة، فقبل خمسون عاماً من وضع الحجر الأول، رُسّـِم فن المعمار، وفن البناء منه خاصة، كأهم فرع من فروع المعرفة على كل امتداد ذلك الجزء من الصين الذي كان على السور أن يحيط به. وأما سائر الفنون الأخرى فإنها لم تفز على الإعتراف بها إلاّ فيما كان منها ذي علاقة بفن المعمار. وإنني ما زلت أتذكر جيداً حين كنا أطفالاً صغاراً، ونحن لا نكاد نثق بأننا نقف على أقدامنا، وفي حديقة معلمنا حين أخذنا في بناء ما يشبه السور من الرمل بناءاً على أمر منه، ثم أن المعلم استند بكامل طوله عليه وهو يثبِّت رداءه فانهار السور طبعاً، مما أدى بالمعلم لتوبيخنا بلهجة شديدة على عملنا الردئ فأخذنا،والدموع تملأ عيوننا، نعدوا في شتى الإتجاهات نحو أباءنا.
كنت ذو طالع سعيد في ما يتعلق بنجاحي في الإختبار النهائي بالمدرسة الصغرى وأنا في العشرين من عمري في نفس ذلك لوقت الذي بدأ فيه إنشاء السور. أقول ذو حظ سعيد، لأن كثيرين من الذين نالوا أعلى الدرجات العلمية الممكنه قبلي ، لم يجدوا شيئاً يفعلونه سنة إثرأخرى فأخذوا يهيمون على وجوههم على غير هدي، وهم يحملون في رؤسهم تصاميم معمارية رائعة وغرقوا في غياهب اليأس بالألوف. غير أن الذين استُـخدِم منهم للعمل في بناء السور كملاحظين في نهاية الأمر، وبالرغم من أن هذا ربما كان من أقل الأعمال درجة، فإنهم كانوا حقاً أكفاء لأداء مهامهم. كانوا بنائين دائمي التفكير في قيام السور، رجال أحسوا بأنهم جزء من السور منذ وضع أول حجر أساس على الأرض. ومن الطبيعي أن بناؤن من هذا الطراز لم تكن لديهم الرغبة في انجاز عملهم على الوجه الأكمل فحسب، بل أنه لم يكن لديهم من الصبرمايكفي لرؤية السور قائماً تام الكمال. وأما عمال اليومية فلم يكن لديهم نفاذ الصبر هذا لأنه لم يكونوا ليرون سوى أجورهم. وأما كبار المشرفون ومتوسطي الدرجة بينهم، فإنه كان لهم مما يرونه من التقدم المتعدد الجوانب للسور ما كان يُـبْـقي معنوياتهم مرتفعه. وكان لا بد من اتخاذ إجراءات أخرى لتشجيع المشرفين ذوي الدرجات الدنيا، والذين كان من الواضح أنهم متـفوقون ثقافياً على مهماتهم التافهة تـفوقاً كبيراً. ومثالاً على ذلك فإنه لم يكن لينتظر منهم أن يضعوا الحجر فوق الحجر لشهور وربما لسنوات بلا انقطاع، في مناطق جبلية مهجورة وعلى بعد مئات الأميال من مواطنهم، أسرى للقنوط الملازم لمثل هذا العمل الشاق والذي لن ينتهي حتي في حياة أطول الناس عمراً ، كل هذا كان يمكن أن يقذف بهم إلى مهاوي اليأس ويجعلهم، علاوة على ذلك، أقل قدرة على العمل. ولقد اعتـُمِد نظام العمل المتقطع في البناء لعين هذا السبب ، فخمسمائة ياردة يمكن إنجازها في حوالي خمسة سنوات وفيها يكون المشرفون،على كل حال وحتماً، مستـنـفـَذي القوى وفاقدو كل إيمان بأنفسهم وبالسور وبالعالم أيضاً. وعليه فإنه وأثناء الإحتفالات المقامه بمناسبة إتمام الألف يارده وتكريمهم فإنهم يرسلون بعيداً... بعيداً جداً حيث يمرون أثناء رحلتهم بقطاعات من السور تم بناءها، تقف شامخة هنا وهناك، ويمرون أثناء ذلك بمقر القيادة العليا حيث تقدم لهم أنواط الشرف ويرون ابتهاجات جيوش العمال الجديدة التي تمر بهم قادمة من أعماق الوطن، ويرون كذلك الغابات وهي تُقطَّع لاستعمالها دعامات للسور والجبال تكحت وتُحول إلي حجارة فيه، ويستمعون للأناشيد تـُؤدَّى في المقامات المقدسة حيث يصلي الأتقياء من أجل بناء السور، فكان كل هذا يخفف من حدة نفاذ صبرهم.
وفي مواطنهم ،حيث الحياة الهادئة، يريحون أنفسهم لبعض الوقت فـتـتجدد قواهم. ولقد كان الإصغاء، والتصديق المتواضع الذي تقابل به تقاريرهم، ،والإيمان الذي كان يكنّه مواطنيهم البسطاء المسالمين بحتمية إتمام السور يملأ قلوبهم بالحبور ، وكالأطفال المفعمين بالرجاء الأبدي يودعون ذوييهم والرغبة في مزيد من سور الأمة قد أصبح هاجساً لا يقاوم، فيبدأون رحلتهم مبكرين أكثر مما يلزمهم فتصاحبهم نصف القرية لمسافات بعيدة، وجماعات من الناس على كل الطرقات تلوح الألوية والأعلام. ولم يكن ليلاحظوا قبلاً كم هي بلادهم ثرية وجميلة وجديرة بالحب. كل مواطن كان أخاً من أجله يُبنى السور لحمايته وهذا الأخ، بدوره، سيكون مديناً له بالشكر طيلة حياته. الإتحاد !الإتحاد! حلقة من الأخوة ..تياراً من الدم لم يعد محصوراً ضمن دورة ضيقة لجسم واحد بل يتدفق عذوبة ليعود أبداً من خلال الاعماق اللانهائيه للصين. وهكذا إذن يمكن فهم نظام البناء المتقطع . غير أنه كانت توجد هناك أسباب أخرى بنفس الدرجة من الأهمية ، ويجب ألاّ ينظر باستغراب لتوقفي عند هذه المسألة لوقت طويل لأنها أهم مشكلة في كامل عملية تشييد السور مهما بدت وكأنها ليست كذلك عند النظرة الأولى. وإذا كان علي أن أنقل أفكار ذلك العصر وأجعلها قابلة للفهم فإنه لن يكون بمقدوري الغوص في ذات هذه المسألة بما فيه الكفاية.
إذن يجب أن يقال أنه في تلك الأيام كان من النادر تحقيق أي شئ أقـل شأناً من عملية تشييد (برج بابل) بالرغم من أن الإستحسان الإلهي ، طبقاً للتقليد الإنساني ، كان مخالفاً لذلك العمل أشد المخالفة. أقول هذا لأنه في الفترة المبكرة من البناء أخرج أحد المثقفين كتاباً تطرق فيه لمقارنة تعالج الموضوع كاملاً. وفي هذا الكتاب حاول المؤلف إثبات أن برج بابل فشل في الوصول لهدفه ليس للأسباب التي قُـدمت بدون استثناء ، أو لأنه في سياق الأسباب المعترف بها لم يتضمن أهمها كلها. وكانت براهينه مستمدة ليس فقط من التقارير والوثائق المكتوبة ، بل أنه أجرى بحوثاً ميدانية فاكتشف أن البرج قد سقط ، وكان من المحتم أن يسقط ، نظراً لهشاشة أساسه. وفي ما يتصل بهذا فإن عصرنا على كل حال متفوق تـفوقـاً عظيماً على العصر القديم، وتقريباً فإن كل رجل متعلم في عصرنا هوفي نفس الوقت بناءًا محترفًا معصومًا في ما يخص وضع الأساسات. وعلى كل حال فإن هذا لم يكن ما يسعى مثقفنا للبرهنة عليه، بل أن ما كان يؤكده بالحجة، هو أن السور العظيم فقط هو الذي يمكن أن يزود ، ولأول مرة في تاريخ الإنسانية، الأساس المأمون لبرج بابل الجديد. إذن السور أولاً ثم البرج بعده. ولذا كان كتاب مثقفنا هذا في يد كل إنسان في ذلك الوقت، ولكنني اعترف أنني حتى يومنا هذا لم استطع أن أرى كيف تصور الكاتبُ ذلك البرجَ. كيف يمكن للسور الذي لم يشكل حتى ولو دائرة ، بل ربع أو نصف دائرة، كيف إذن يمكن له أن يزود برجاً بالأساسات. من الواضح أن هذا غير ممكن إلاّ إذا قُـصد بذلك تحميله معنىً روحياً. وإذا كانت الحالة هي هذه فِلم إذن ُيْنشأ هذا السور المادي الملموس في كل الأحوال والذي كان ثمرة عمل العديد من البشر بطول حياتهم؟ ولماذا ، أيضاً، كانت هناك في الكتاب مخططات للبرج، بالرغم من أنه يجب الإعتراف هنا بأنها كانت مبهمة، ومقترحات مفصلة لتعبئة طاقات الشعب من أجل هذا العمل الجديد، الهائل.
كانت هناك في ذلك العصـر أفكار جامحة في أذهان الناس - ولم يكن كتاب مثـقـفنا هذا سوى مثال لأحداها- ربما وبكل بساطة لأن الناس كانوا يريدون ضم قواهم لأقصى ما في استطاعتهم من مدى لإنجاز هدف فريد. إن الطبيعة الإنسانية، المتغيره جوهرياً وغير المستـقرة كالغبار تماما،ً لا يمكنها أن تحتمل الكبح ، فإن ألزمت نفسها فإنها سرعان ما تبدأ في تمزيق وثاقها بجنون بل وتمزق كل شئ إرباً، السور والوثاق وحتى ذاتها.
وهناك احتمال أن نفس هذه الإعتبارات والتي كانت تعمل ضد بناء السور على الإطلاق لم تكن غائـبة من حسبان القيادة العليا عند الأخذ بنظام البناء المتقطع، ونحن – وعندما أقول نحن فإنني أتحدث باسم الكثيرين من الناس- نحن أنفسنا لم نكن نعلم حتى أنعمنا النظر في مراسيم القيادة العليا، واكتشفنا أنه بدون هذه القيادة لم يكن ليكفي ما تعلمناه من كتبنا أو حتى من إدراكنا الإنساني لإنجاز المهمات المتواضعة التي أنيطت بنا في إطار ذلك الكل العظيم.
وفي مكتب القيادة - الذي لا يعلم أحد ممن سألتهم في ذلك الوقت أو في وقتنا هذا أين يكون أو حتى من يجلس في ذلك المكتب، من الممكن للواحد منا أن يثــق أن كل الأماني الإنسانية تـتعاقب في دائرة، بينما تـتعاقب الأهداف والإنجازات في دائرة معاكسة. ومن خلال النافذه تنعكس العوالم الإلهية الرائعة وتسقط على أيدي القادة و هم يتـقصون مخططاتهم. ومن هنا فإن المراقب الفطن لا بد وأن يعتقد أن القيادة، إن كانت تريد ذلك بحق، كان بإمكانها التغلب على الصعوبات التي حالت دون الأخذ بنظام البناء المستمر. وعليه فإنه لم يبقى إذن سوى الوصول إلى نتيجة تذهب إلى القول بأن القيادة قد اختارت نظام التشييد المتقطع هذا بصفة متعمدة. ولكن هذا نظام مجهد وبالتالي غير ملائم، مما يجعل النتيجة المتبقية هي أن القيادة إنما أرادت شيئاً غير ملائماً. نتيجة غريبة! وإنها حقاً كذلك. وهناك الشئ الكثير مما يقال لدعم صحتها ، وربما كان مناقشة ذلك الآن مأموناً، ولكنه في تلك الأيام كان الكثيرون من الناس، ومن بينهم أفضلهم، يعيشون وفق حكمة سرية تقول : " حاول أن تفهم مراسيم القيادة العليا، ولكن لمدىً معين ، وبعدها تجنب الذهاب في تأملاتك إلى أبعد من ذلك". حكمة بليغة، تم تطويرها إلى حكمة أخرى تنص على تجنب المزيد من التأمل ولكن ليس لأن ذلك قد يكون ضاراً ، فليس هناك ما يؤكد أنه كذلك، أضف على ذلك أن ما هو ضار أو غير ضار ليس له دخل بالمسألة، وبدلاً من ذلك تأمل النهر في فصل الربيع وهو يرتـفع وينمو ويصبح أكثر قوة ويغذي تلك التربة الممتدة على شاطئيه بوفرة أكبر وهو يحافظ على مساره حتى يصل البحر حيث يُسْـتـقبل بترحاب كبير لكونه حليفاً يُعْتدُّ به. وإلى هذا الحد يمكنك أن تـتابع تأملاتك عن مراسيم القيادة العليا. وبعد هذا فإن النهر يفيض على شطـئانه ويفقد مساره وشكله ويبطئ من سرعة تياره ويحاول تجاهل مصيره بخلق بحور صغيره في الأرض الداخلية فيدمر الحقول، ومع ذلك فإنه لا يستطيع أن يـبـقي على نفسه طويلاً في توسعه الجديد وعليه بدلاً من ذلك أن يجري عائداً إلى ما بين شاطـئـيه مرة أخرى ، بل وسوف يجف بائـساً في فصل الصيف الذي يلي هذا الفصل. وإلى هنا لا يمكنك متـابعة تأملاتك عن مراسيم القيادة العليا.
والآن وبالرغم من أن هذه الحكمة كان لها شأن وقوة غير عاديين خلال بناء السور فإنه في ما يتصل بمقالتي هذه، ذات علاقة محدودة. إن مبحثي هذا تاريخي محض، ولم تعد موجودة تلك الومضات الباهرة من تلك السحابة الرعدية والتي اختفت منذ وقت طويل، وعليه فإنني ربما أجازف في البحث عن تفسير لنظام البناء المتقطع الذي قد يذهب لأبعد مما كان يرضي الناس في ذلك الوقت، علماً بأن الحدود التي تـَضْرِبها عليّ طاقتي في التفكير ضيقة بما فيه الكفاية بينما اتساع الأرض المطلوب تجاوزها غير محدود.
ضد من كان السور العظيم يقف سداً؟ ضد شعوب الشمال. إنني من جنوب شرق الصين، ولا يوجد هناك شعب شمالي يهدِّدنا. نقرأ عنهم في كتب الأقدمين.ونقرأ عن الفظائع التي ارتكبوها طبقاً لطبائعهم فتجعلنا نتـنهد في تعريشاتنا الهادئة. وتمثلات الفنان الصادقة تظهر لنا وجوههم الملعونة، بأفواههم الفاغرة ذات الأسنان المدببة، وعيونهم نصف المغلقة وكأنها تبحث عن الضحية التي ستمزقها أسنانهم وتلتهمها. وعندما يجمح أطفالنا فإننا نريهم هذه الصور وفي الحال يقذفون بأنفسهم على أذرعنا وعيونهم تـقـطر دموعاً. وأكثر من هذا فإننا لا نعرف شيئاً كثيراً عن أولئك الشماليين ولم تقع عيوننا عليهم وإن لزِمنا قرانا فإننا لن نراهم أبداً حتى لو اتجهوا يقصدوننا على ظهور جيادهم المتوحشه- فالمسافة شاسعه ولن تـتـيح لهم أن يدركونا فـتـنتهي رحلتهم هباءاً منثوراً.
لماذا إذن، إذا كان الأمر كذلك، تركنا مواطننا والنهر بجسوره ، وأمهاتنا ، وأباءنا، وزوجاتنا الدامعات وأطفالنا الذين يحتاجون لعنايتنا، وغادرنا إلى مدينة بعيدة للتدرب هناك بينما ترحل أفكارنا لمسافات أبعد حيث السور في الشمال. لماذا؟ سؤال يطرح على القيادة . إن قادتنا يعرفوننا، وهم في خضم همومهم العملاقة يعرفون عنا وعن اهتماماتنا الصغيرة فيستحسنون أو يستهجنون صلوات المساء التي يتـلوها الأب وهو بين أفراد عائلته. وإذا ما سمح لي أن أعبر عن مثل هذه الأفكار بشأن القيادة العليا فإنني سوف أقول أنها قد وُجِدت منذ زمن قديم ولم تعقد إجتماعاً ، فلنقل، مثل تلك الإجتماعات التي يعقدها الماندرين[ii] حيث يدعون للإجتماع على عجل لمناقشة حلم جميل حلمه أحدهم ، وينفض الإجتماع بمثل السرعة التي عُقِد بها لتدق الطبول التي تُـخرِج الناس من أسِرّتهم في نفس الليلة لتنفيذ ما تقرر حتى لو كان حفلة نارية تقام على شرف أحد الآلهة الذي قد يكون أظهر فضلاً كبيراً لوجهائهم ، ليسوقهم في اليوم التالي إلى ركن مظلم وهو يهوي بضربات الهراوة عليهم وقبل أن تخمد أضواء الألعاب النارية تقريباً. ومن الأحرى بي أن أقول أن القيادة العليا قد ُوُجِدت منذ الأزل وكذلك قرار بناء السور. غير مدركين هم، شعوب الشمال الغافلون ، الذين يظنون أنهم تسببوا في بناءه وغير مدرك هو ذلك الإمبراطور الذي ظن أنه أصدر القرار ببناءه. ولكننا نحن ، بناة السور ندرك أن الأمر لم يكن كذلك ولكننا نمسك عن التفوه به.
وفي أثناء ومنذ بدء بناء السور أشغلت نفسي وحصرياً تقريباً، بدراسة علم الأجناس المقارن – وهناك مسائل محددة يمكن البحث فيها حتى النخاع- وكأنها هي الطريقة الوحيدة – واكتشفت أننا نحن الصينيين نمتلك مؤسسات شعبية وسياسـيـة فريدة في وضوحها وأخرى فريدة في غموضها. والرغبة في تـقـصي هذه الظواهر، والأخيرة منها بوجه خاص، أثارت وما زالت تثير اهتمامي ، وبناء السور نفسه يتعلق جوهرياً بهذه المسائل.
وأما أعظم مؤسـساتنا الأكثر غموضاً فهي الإمبراطورية ذاتها. ومن الطبيعي أن يكون هناك في بيكنج وفي البلاط الإمبراطوري بعض الوضوح في هذا الموضوع مع أن ذلك أكثر ما يكون وهماً منه حقيقة. ويزعم أساتذة القانون السياسي والتاريخ في المدارس العليا أنهم يملكون المعرفة الدقيقة عن هذه الأمور وأنهم قادرون على نقل معرفتهم هذه إلى تلامذتهم- ومن المتوقع أنه كلما أخذنا في الهبوط درجات إلى المدارس الأقل مرتبة كلما وجدنا أن يقين الأساتذة و طلبتهم في علمهم يـتـسرب من بين أيديهم لنرى السطحية تـناطح الجبال علواً، حتى تبلغ عنان السماء، وتتخذ لها محوراً من المفاهيم القليلة التي غرست في أذهان الناس لقرون....مفاهيم ، رغم أنها لم تفقد شيئاً من حقيقتها الأزلية فإنه تبقى إلى الأبد غير مرئية في هذا الضباب من الإرتباك. ويبقى إن هذا السؤال بالضبط ، والخاص بالإمبراطورية، هو في اعتقادي الذي يجب أن يوجه للشعب ليجيب عليه. أوليس الشعب هو السند النهائي للإمبراطورية!؟ وهنا علي أن أعترف بأنني إنما أتحدث عن مسقط رأسي فقط . وباسـتـثـناء آلهة الطـبـيعة وطـقـوسها على مدى العام بكامله بتـناوباتها الجميله الغنـية ، فإنـنا لا نفكر إلاّ في الإمبـراطـور، ولكن، ليس الإمبراطـور الحالي؛ وكان حرياً بنا أن نفكر فيه لو كنا نعلم من يكون أو لو كنا نعلم أي شيئ محـدد عنه. هذا حق – وهو الفضول الوحيد الذي يملؤنا-إننا نحاول دائماً الحصول على المعلومات عن هذا الموضوع ، ولكن ، وحتى لو بدا الأمر غريـباً ، فإنه من المستحيل إكتـشاف أي شيئ سواء من الحُجّاج، مع أنهم تجولوا داخل الكثير من بلادنا، أو حتى من الملاّحين الذين أبحروا ليس على أنهرِنا الصغيرة فحسب بل وحتى على الأنهار المقدسة. صحيح أن الواحد منّا يسمع الكثير جداً ولكن ليس من المستطاع جمع أي شيئ محدد.
إن وطننا أرض شاسعة جداً وليس بمقدور أية أسطورة أن تفي حقها في ذلك بل إن السموات ذاتها بالكاد أن تكون ممتدة عليها ، وبيكينج نفسها ليست إلاّ نقطة عليه والقصر الإمبراطوري أقل من نقطــة . والإمبراطور بما هو كذلك، أقوى وأعلى سلطـة من بين رتب الدنيا؛ إننا نقبل هذا ولكن الإمبراطور الحالي رجل مثلنا، ومثلنا أيضا يضطجع علي سرير بحجم مبالغ فيه وربما كان من الممكن أن ذلك السرير جد ضيق وقصير، ومثلنا أيضاً يستلقي أحياناً وعندما يكون مرهقاً جداً فإنه يـتـثائب بفمه الرقيق القـَطْـع. ولكن كيف يمكننا أن نعرف أي شئ عن ذلك – ونحن على بعد آلاف الأميال جنوباً وعند حدود مرتفعات التبت ؟ وإضافة علي ذلك فإن أية أنباء، إن وصلتنا، فإنها لن تصل إلاّ متأخرة جداً لدرجة أنه عندها تكون قد أصبحت باليه قبل ذلك بزمن طويل. والإمبراطور محاط دائماً بحاشية من النبلاء الغامضون الأذكياء الخبـثاء - الضغينة في قناع من الخدم والأصدقاء- وكان هؤلاء يشكلون وزناً معاكساً للسلطة الإمبراطورية ويعملون دائماً على إطاحة الحاكم من موقعه باستعمال السهام المسمومة. فالإمبراطورية خالدة لا تموت ولكن الإمبراطور يترنح ويهوي من عرشه ، نعم، سلالات ملكية بكاملها تغرق في نهاية الأمر، وتـلفظ أنفاسها الأخيرة في حشرجة موت واحدة. وأما أفراد الشعب فإنهم لن يعرفوا عن هذه الصراعات والشدائد، وكأنهم بلغوا متأخرين ،كغرباء في مدينة، يقفون في نهاية طريق جانبي يخنقه الإزدحام وهم يقضمون بسلام الطعام الذي أتوا به معهم بينما، بعيداً في المقدمة، في ساحة السوق، قلب المدينة، يجري إعدام حاكمهم.
وهناك اسطورة تصف هذا الموقف جيداً. وتمضي الأسطورة هكذا: إن الإمبراطور قد أرسل إليك رسالة أيها المواطن المتواضع، أيها الظل الحقير الذي يرتعد فرقاً وهو في أبعد الأبعاد من الشمس الإمبراطورية. إن الإمبراطور قد أرسل وهو على فراش موته رسالة إليك وحدك. أمر الرسول أن يركع بجانب السرير ثم همس بالرسالة له. ولقد كانت الرسالة من الأهمية بمكان أنه أمر الرسول أن يعيد همس الرسالة في أذنه، ثم بإيماءة من رأسه أكد صحتها. نعم ، أمام مشاهدي وفاته المجتمعون- كانت قدأزيلت كل الجدران العائقة – وعلى الدرجات المفتوحة الفسيحة العالية، وقف في حلقة، أمراء الإمبراطورية العظماء- وأمام كل هؤلاء تسلّم الرسول الرسالة فبدأ رحلته مباشرة . كان رجلاً قوياً لا يكِلّ، يدفع بيده اليمنى تارة وباليسرى تارة أخرى ، ويشق طريقه بين الحشد ، فإذا ما قابلته مقاومة ما فإنه يشير إلى صدره حيث يلمع رمز الشمس ، فيُسهّل له بأكثر مما لو كان لرجل آخر. ولكن الحشود كبيرة وأعدادها لا نهاية له. لو استطاع الوصول للحقول المفتوحة فما كان أسرعه في الطيران، وفي الحال ، وبدون شك كنت لترحب أنت بطرقات قبضته على بابك. ولكنه بدلاً من ذلك فإنه يـبـدد طاقـته بلا طائل.....ما زال يشق طريقه في الغرف الداخلية ..ولن يستطيع أبداً الوصول إلى آخرها ...وإذا وُفق في ذلك فلا فائدة ترجى من ذلك، فهناك الساحات التي يجب ان يعبرها وبعدها هناك القصر الخارجي الثاني ، ومرة أخرى هناك الدرجات والساحات ثم قصر آخر....وهكذا لآلاف الأعوام . وإذا نجح أخيراً في الإندفاع والنفاذ من أقصى البوابات الخارجية – وهذا لن يحدث أبداً ...أبداً- فإن العاصمه الإمبراطورية سوف تبـسط نفسها أمامه... مركز العالم محشوة بنفاياتها لدرجة الإنفجار ولا أحد يسـتطيع شق طريقه من هنا حتى لو كان يحمل رسالة من رجل ميت.
وهكذا، وبمثل هذا القنوط والرجاء، يتعلق شعبنا بالإمبراطور. إن شعبنا لا يعرف أي إمبراطور يحكمه وهناك شكوك حتى في ما يخص اسم الأسرة الملكية. وفي المدرسة يُدرّس الكثير عن هذه الأسرات مع تواريخ تعاقبها ولكن الشك الشامل المحيط بهذه المسألة كبير جداً بحيث يجر كثيرين من المثـقـفين للخوض فيه. وفي قريتنا يُظَنُّ في الأباطره الذين ماتوا منذ زمن طويل وكانهم ما زالوا منصبين على عروشهم حتى أن أحد الذين لم يعودوا أحياء إلا في الأغاني قُـرِأ له مؤخراً بلاغ من على المذبح بواسطة أحد الكهنة. معارك قديمة أصبحت تاريخاً منذ زمن طويل هي جديدة في حسباننا، ورُب جار لأحدهم، أخذ بعدها يعدو والبهجة تعلو وجهه، لينقل تلك الأخبار. وأزواج الإمبراطور المدللات المتعجرفات يـغويهن أفراد الحاشيه الماكرون ويلهبهن الجشع وتـسيطر عليهن شهواتهن الجامحة فيرتكبن رذائلهن مرة بعد المرة. وكلما أوغلن في الزمن كلما كانت الألوان التي يطوين فيه أعمالهن أكثر توهجاً ، وبصرخة جزع عالية تـسمع قريتنا في نهاية الأمر كيف أن إمبراطورة ما شربت دماء زوجها في فصل جفاف طويل قبل آلآف السنين.
هكذا إذن يتعامل أفراد شعبنا مع الأباطرة الراحلين، ويخلطون بين من يحكم الآن وأولئك الذين رحلوا. وإذا حدث مرة، مرة واحدة في حياة رجل ما، أن أتى أحد رسميي الإمبراطورية أثناء جولة له في الأقاليم وتصادف أن نزل في قريـتـنا، ثم أذاع بعض البلاغات باسم الدولة، وفحص قوائم الضرائب ، وفتش مدارس الأطفال، وسأل الكاهن عن أعمالنا وشؤننا ، وبعد ذلك وقبل أن يصعد على كرسي محفته فإنه يلخص انطباعاته ويسهب في النصح على القرية المحتشدة أمامه، حيث تمر ابتـسامة على كل وجه ، ويختلسون النظرات فيما بينهم، وينحنون على أطفالهم حتى يتجنبوا انتباهة الموظف الإمبراطوري لهم، ثم يأخذون في التـفكير، ويسألون أنفسهم لماذا يتكلم عن رجل ميت هكذا وكأنه ما زال حياً؟. إن عاهله الذي يتحدث عنه قد مات منذ زمن طويل والأسرة قد امحت وبادت ولا بد أن هذا الموظف الرسمي يهزء بنا، ولكننا سوف نعالج هذا وكأننا لم نـتـنـبه له حتى لا نكدره ، ولكنه لن يكون لنا طاعة إلا لحاكمنا الحالي، لأن فعل خلاف ذلك جريمة.
ومن خلف محفة الموظف الرسمي المغادرة، يقوم بجبروته كحاكم للقرية، رمز يُـبـجّـل عَرَضاً، يقوم من جرة حفظ رماد الموتى التي تـفـتـتت وأصبحت غباراً.
وبالمثل فإن شعبنا قليل التأثر بالثورات الداخلية والحروب المعاصرة ، وإنني لأتذكر تلك الحادثة في صباي عندما اندلعت الثورة في الإقليم المجاورلنا- مع أنه بعيد عنا أيضاً بشكل ما. لم أعد أتذكر ما الذي تسـبب في تلك الثورة، ولم يعد ذلك الآن مهماً . فمسـبـبات الثورة موجودة هناك في أي وقت والناس هناك قابلون للإثارة. وعلى أية حال وفي يوم من الأيام جاء متسول إلى دار أبي وهو يحمل معه ورقة نشرها الثوار حين مروره بذلك الإقليم . ولقد تصادف أن كان ذلك اليوم يوم عيد وكانت غرف منزلنا مكتظة بالضـيوف فأخذ القسـيس الذي كان يتوسط الجمع بدراسة الورقة، وفجأة أخذ الكل في الضحك وفي خضم هذا الإرتباك تمزقت الورقة وطُرد المتسول، الذي كان قد أخذ، على كل حال ، ما يكفيه من الصدقات قبل ذلك ، تلاحقه الضربات. وتفرق الضـيوف للإسـتـمتاع بذلك اليوم الجميل. لماذا؟ لقد كانت لهجة ذلك الإقليم المجاور تختلف عن لهجتنا في بعض مظاهرها الجوهرية وهذا الإختلاف يحدث أيضاً في جزء معين من اسلوب كتابة الكلمات بما كان يمثل لدينا مظهراً عتيقاً ، فلم يكد القسيس يكمل قراءة صفحتين فقط حتى كنا قد توصلنا لقرارنا. إن التاريخ القديم قد أخبرنا أن أحزان الماضي القديم قد بَرُأت منذ زمن طويل. ومع أن بشاعة الحياة – أو هكذا يبدو لي عند التذكر في الوقت الحاضر- قدمت لنا كلمات ذلك المتسول بشكل لا يمكن نـقـضه، فإننا أخذنا نضحك ونهز رؤوسنا ثم رفضنا مواصلة الإصغاء. إن شعبنا مصاب بهاجس نفي الحاضر.
وإذا كان هناك من يسـتـنـتج أنه في الحقيقة ليس لدينا إمبراطور، فإنه لن يكون بعيداً عن إصابة الحقيقة. ومرة تلو الأخرى فإنه يجب تكرار: أنه ربما لا يوجد هناك شعب أكثر ولاءاً للإمبراطور من شعبنا في الجنوب. ولكن الإمبراطور لم يستـمد الفائده من ولائنا لصالحه. وحقاً، فإن التـنين المقدس يقف على ذلك العمود الصغير في أطراف قريـتـنا وهو منذ بداية ذاكرة الإنسان يزفر أنفاسه النارية في اتجاه بيكينج، رمزاً للولاء- ولكن بـيكينج ذاتها أكثر غربة للناس في قريتـنا من العالم الآخر. هل يعـقـل أن تكون هناك قرية تصطف بيوتها جنباً إلى جنب وتغطي مساحات تعادل كل الحقول التي يراها أحدنا من فوق تلالنا ولمسافات أبعد كثيرا . وهل يمكن أن يكون هناك أناس مكدسون في هذه البـيوت وبينها ليلاً ونهاراً؟ إننا نجد تصوير ذلك أكثر عسراً من تصوير أن بيكينج وإمبراطورها كائن واحد، قل، سحابة تمر تحت الشمس على مدار الدهور.
والآن فإن اعتـناق مثل هذه الآراء إجمالاً إنما هو فوز بحياة حرة وغير مخـتـنـقه بشكل عام، وهي بأي حال من الأحوال ليست لا أخلاقية. ولم أكد أجد في رحلاتي مثل هذه الأخلاقيات النقية التي تـتـمتع بها قريتي ومسقط رأسي مع أنها لم تتعرض لأي قانون عصري ولا تـنـكب إلأ على المواعظ والتحذيرات التي تصل إلينا من أقدم العصور.
إنني أتجنب وأحذر التعميم فلا أؤكد أن الحال هي كذلك في العشرة آلاف قرية في إقليمنا وأقل من ذلك تأكيداً هو مايخص كل الخمسمائة إقليم في الصين. ومع ذلك فإنه ربما كان علي المجازفة بالقول بناءاَ على كل الذي كتب عن هذا الموضوع وقرأته، وبناءاً على ملاحظاتي، أقول أن بناء السور بما أتاحه من وفرة خاصة في المادة الإنسانية قد قدمت فرصة لإنسان يتمتع بالمعقولية لمسح وتقصي روح كل الأقاليم – وبناءاً على كل ذلك يمكنني أن أجازف وأؤكدأن الموقف السائد تجاه الإمبراطور يُظهر شيئاً متـناسقاً وشاملاً شمولاً أساسياً مع ذلك السائد في قريتـنا . وهنا لا أريد أن أصور هذا الموقف وكأنه فضيلة . وعلى العكس من ذلك فإنني أرى أن مسؤلية ذلك تقع على عاتق أقدم إمبراطورية على وجه الأرض وهي التي لم تنجح بعد في تطوير، أو أهملت تطوير، مؤسـسة الإمبراطورية بحيث تكتـسب دقة تـتـيح لها العمل والإمتداد مباشرة وبدون توقف حتى أقصى حدود الأرض ، وعلى كل حال هناك أيضاً شيئ من الضـعف في العقيدة والقدرة على التخيل عند الشعب، مما يمنعهم من انـتـشال الإمبراطورية من وهدة الركود في بيكينج وضمها إلى صـدورهم بكل حقائق حياتها الواضحة، وهي لا تريد شيئاً أفضل من تلك اللمسة والتي من بعدها تقضي أجلها. وهكذا إذن فإن هذا الموقف ليس من الفضيلة في شيئ . والأكثر من هذا جدارة بالملاحظة هو أن هذا الضعف كان يجب أن يبدو وكأنه أحد المؤثرات العظمى التي توحد شعبنا، وحقاً، فإن الواحد منا إن أراد أن يذهب هذا المذهب ويعبرعنه لقال أن هذا هو الأرضيه التي نعيش في كنفها . وإذا ما تهيئنا لتعيين عيب أساسي هنا فإن ذلك يعني ليس ضمائرنا فحسب، ولكن ما هو أكثر سوءاً، وأعني بذلك إرتعاش أقدامنا. ولهذا السـبـب فإنني لن أمضي أبعد من هذا في هذه المرحلة من بحثي في هذه المـسـألة في هذا الوقت.
اسطورة برج بابل وردت ضمن إنجيل العهد القديم لتفسير اختلاف ألسنة الأمم. وتنص الأسطورة على أن الأجيال التي أعقبت الطوفان العظيم (طوفان نوح) كانت تتحدث بلسان واحد ثم حلّت هذه الأجيال بأرض "شنار" بعد هجرتها شرقا. وهناك اتفقوا على بناء مدينة وبرجا يصلهم طوله بالسماء. وعندما رأى الرّب طموحاتهم فخلط عليهم كلامهم بحيث لا يفهم أحد الآخر فتفرق شملهم في كل أرجاء الدنيا.
(المترجم مقتطفة من موسوعة الويكيبديا عن نفس برج بابل هذا)
[ii] (الماندرين هم الموظفون الكبار في امبراطورية الصين القديمة- (المترجم)
يتم تشكيل فرقة من حوالي العشرون عاملاً يناط بها إنجاز جزء من السور بطول خمسمائة يارده، بينما تكون مجموعة مماثلة منهمكه في بناء طول مماثل من السور ليقابل الجزء الأول. وعند انتهاء عمل الوصلة فإن البناء لن يبدء مرة أخرى حيث انتهت هذه الياردات الألف، وبدلاً من ذلك فإن مجموعتي العمل تلك تنقلان لتبدآ البناء في منطقة أخرى. ومن البديهي أنه وبهذه الطريقة لا بد وأن تبقى ثغرات كبيرة لا يتم إغلاقها إلاّ تدريجياً وجزءاً بعد جزء ، بل وإن بعضها لم يتم ذلك فيها نهائياً، إلاّ بعد الإعلان الرسمي لانتهاء بناء السور. وفي الواقع، يقال أن هناك فجوات لم يتم إغلاقها إطلاقاً ، وربما كانت هذه أسطورة من الأساطير التي أثارها بناء السور والتي لا يمكن التحقق منها بواسطة فرد من الأفراد يحكُم على ذلك رأي العين وخاصة لو أُخذ طول السور في الإعتبار. ورب قائل، بعد نظرة أولى، أنه كان من الأجدى ، في جميع الأحوال، لو أن بناء السور تم بطريقة متصلة ، علي الأقل في ما بين الجزئين الرئيسيين، أولم يكن الهدف من بناء السور كما كان معلوماً ومعلناً بصفة عامة هو أن يكون حماية لنا من شعوب الشمال؟ فكيف إذن يمكن لسور أن يحمي إن لم يكن صرحاً متصلاً؟ أوليس لمثل هذا السور أن يعجز عن الحماية إضافة على أن ما يوجد منه نفسه يبقى معرضا لخطر مستمر، فكتـل السور القائمة في المناطق المهجورة يمكن تدميرها بسهوله، وخاصة أن تلك القبائل التي أقـلـقـتها عمليات التشييد كانت تـتـنـقل وتبدل مواقع مخيماتها بصورة مذهلة كأسراب الجراد تماماً،ً وعليه فإنه من الممكن أنه كان لديها نظرة عامه عن تقدم البناء أفضل مما كان لدينا نحن البناؤون. ومع ذلك فإنه من المحتمل أنه لم يكن هناك طريقة أخرى لإنجاز البناء . ولفهم ذلك علينا الأخذ بالأعتبارات التالية: كان على السور أن يكون حماية لقرون طويلة و بناءاً على ذلك كانت أكثر التصميمات دقة في البناء ، وتطبيق كل فنون المعمار في كل العصور وعند حميع الشعوب مع الإحساس المتواصل بالمسؤولية لدى كل بنّاء ، لوازم مسبقة لا يمكن الإستغناء عنها من أجل هذا العمل. صحيح أنه قد استـُخدم عمال بالأجر اليومي من بين الجهله من العامة، رجال ونساء وأطفال، أدوا أعمالهم مقابل أجر في مهمات ذات طبيعة عضليه صرفة ولكن الإشراف كان يتطلب، حتى على العمال الذين يعملون لأربعة أيام، خبيراً ضليعاً في فن البناء، رجلاً يمكنه الإحساس بكل فؤاده والنفاذ فيما يتضمنه العمل، وكلما كانت المهمة أرقى كلما كانت المسؤلية أكثر ثقلاً كذلك. ومن الناحية العملية فإنه كان من اللازم الحصول على مثل هؤلاء الرجال، حتى وإن لم يكونوا بنفس الوفرة التي كان يمكن لأعمال البناء أن تمتصها بالرغم من أعدادهم الكبيرة. وأما بالنسبة للعمل فإنه لم يُباشر فيه بدون رويّ ة، فقبل خمسون عاماً من وضع الحجر الأول، رُسّـِم فن المعمار، وفن البناء منه خاصة، كأهم فرع من فروع المعرفة على كل امتداد ذلك الجزء من الصين الذي كان على السور أن يحيط به. وأما سائر الفنون الأخرى فإنها لم تفز على الإعتراف بها إلاّ فيما كان منها ذي علاقة بفن المعمار. وإنني ما زلت أتذكر جيداً حين كنا أطفالاً صغاراً، ونحن لا نكاد نثق بأننا نقف على أقدامنا، وفي حديقة معلمنا حين أخذنا في بناء ما يشبه السور من الرمل بناءاً على أمر منه، ثم أن المعلم استند بكامل طوله عليه وهو يثبِّت رداءه فانهار السور طبعاً، مما أدى بالمعلم لتوبيخنا بلهجة شديدة على عملنا الردئ فأخذنا،والدموع تملأ عيوننا، نعدوا في شتى الإتجاهات نحو أباءنا.
كنت ذو طالع سعيد في ما يتعلق بنجاحي في الإختبار النهائي بالمدرسة الصغرى وأنا في العشرين من عمري في نفس ذلك لوقت الذي بدأ فيه إنشاء السور. أقول ذو حظ سعيد، لأن كثيرين من الذين نالوا أعلى الدرجات العلمية الممكنه قبلي ، لم يجدوا شيئاً يفعلونه سنة إثرأخرى فأخذوا يهيمون على وجوههم على غير هدي، وهم يحملون في رؤسهم تصاميم معمارية رائعة وغرقوا في غياهب اليأس بالألوف. غير أن الذين استُـخدِم منهم للعمل في بناء السور كملاحظين في نهاية الأمر، وبالرغم من أن هذا ربما كان من أقل الأعمال درجة، فإنهم كانوا حقاً أكفاء لأداء مهامهم. كانوا بنائين دائمي التفكير في قيام السور، رجال أحسوا بأنهم جزء من السور منذ وضع أول حجر أساس على الأرض. ومن الطبيعي أن بناؤن من هذا الطراز لم تكن لديهم الرغبة في انجاز عملهم على الوجه الأكمل فحسب، بل أنه لم يكن لديهم من الصبرمايكفي لرؤية السور قائماً تام الكمال. وأما عمال اليومية فلم يكن لديهم نفاذ الصبر هذا لأنه لم يكونوا ليرون سوى أجورهم. وأما كبار المشرفون ومتوسطي الدرجة بينهم، فإنه كان لهم مما يرونه من التقدم المتعدد الجوانب للسور ما كان يُـبْـقي معنوياتهم مرتفعه. وكان لا بد من اتخاذ إجراءات أخرى لتشجيع المشرفين ذوي الدرجات الدنيا، والذين كان من الواضح أنهم متـفوقون ثقافياً على مهماتهم التافهة تـفوقاً كبيراً. ومثالاً على ذلك فإنه لم يكن لينتظر منهم أن يضعوا الحجر فوق الحجر لشهور وربما لسنوات بلا انقطاع، في مناطق جبلية مهجورة وعلى بعد مئات الأميال من مواطنهم، أسرى للقنوط الملازم لمثل هذا العمل الشاق والذي لن ينتهي حتي في حياة أطول الناس عمراً ، كل هذا كان يمكن أن يقذف بهم إلى مهاوي اليأس ويجعلهم، علاوة على ذلك، أقل قدرة على العمل. ولقد اعتـُمِد نظام العمل المتقطع في البناء لعين هذا السبب ، فخمسمائة ياردة يمكن إنجازها في حوالي خمسة سنوات وفيها يكون المشرفون،على كل حال وحتماً، مستـنـفـَذي القوى وفاقدو كل إيمان بأنفسهم وبالسور وبالعالم أيضاً. وعليه فإنه وأثناء الإحتفالات المقامه بمناسبة إتمام الألف يارده وتكريمهم فإنهم يرسلون بعيداً... بعيداً جداً حيث يمرون أثناء رحلتهم بقطاعات من السور تم بناءها، تقف شامخة هنا وهناك، ويمرون أثناء ذلك بمقر القيادة العليا حيث تقدم لهم أنواط الشرف ويرون ابتهاجات جيوش العمال الجديدة التي تمر بهم قادمة من أعماق الوطن، ويرون كذلك الغابات وهي تُقطَّع لاستعمالها دعامات للسور والجبال تكحت وتُحول إلي حجارة فيه، ويستمعون للأناشيد تـُؤدَّى في المقامات المقدسة حيث يصلي الأتقياء من أجل بناء السور، فكان كل هذا يخفف من حدة نفاذ صبرهم.
وفي مواطنهم ،حيث الحياة الهادئة، يريحون أنفسهم لبعض الوقت فـتـتجدد قواهم. ولقد كان الإصغاء، والتصديق المتواضع الذي تقابل به تقاريرهم، ،والإيمان الذي كان يكنّه مواطنيهم البسطاء المسالمين بحتمية إتمام السور يملأ قلوبهم بالحبور ، وكالأطفال المفعمين بالرجاء الأبدي يودعون ذوييهم والرغبة في مزيد من سور الأمة قد أصبح هاجساً لا يقاوم، فيبدأون رحلتهم مبكرين أكثر مما يلزمهم فتصاحبهم نصف القرية لمسافات بعيدة، وجماعات من الناس على كل الطرقات تلوح الألوية والأعلام. ولم يكن ليلاحظوا قبلاً كم هي بلادهم ثرية وجميلة وجديرة بالحب. كل مواطن كان أخاً من أجله يُبنى السور لحمايته وهذا الأخ، بدوره، سيكون مديناً له بالشكر طيلة حياته. الإتحاد !الإتحاد! حلقة من الأخوة ..تياراً من الدم لم يعد محصوراً ضمن دورة ضيقة لجسم واحد بل يتدفق عذوبة ليعود أبداً من خلال الاعماق اللانهائيه للصين. وهكذا إذن يمكن فهم نظام البناء المتقطع . غير أنه كانت توجد هناك أسباب أخرى بنفس الدرجة من الأهمية ، ويجب ألاّ ينظر باستغراب لتوقفي عند هذه المسألة لوقت طويل لأنها أهم مشكلة في كامل عملية تشييد السور مهما بدت وكأنها ليست كذلك عند النظرة الأولى. وإذا كان علي أن أنقل أفكار ذلك العصر وأجعلها قابلة للفهم فإنه لن يكون بمقدوري الغوص في ذات هذه المسألة بما فيه الكفاية.
إذن يجب أن يقال أنه في تلك الأيام كان من النادر تحقيق أي شئ أقـل شأناً من عملية تشييد (برج بابل) بالرغم من أن الإستحسان الإلهي ، طبقاً للتقليد الإنساني ، كان مخالفاً لذلك العمل أشد المخالفة. أقول هذا لأنه في الفترة المبكرة من البناء أخرج أحد المثقفين كتاباً تطرق فيه لمقارنة تعالج الموضوع كاملاً. وفي هذا الكتاب حاول المؤلف إثبات أن برج بابل فشل في الوصول لهدفه ليس للأسباب التي قُـدمت بدون استثناء ، أو لأنه في سياق الأسباب المعترف بها لم يتضمن أهمها كلها. وكانت براهينه مستمدة ليس فقط من التقارير والوثائق المكتوبة ، بل أنه أجرى بحوثاً ميدانية فاكتشف أن البرج قد سقط ، وكان من المحتم أن يسقط ، نظراً لهشاشة أساسه. وفي ما يتصل بهذا فإن عصرنا على كل حال متفوق تـفوقـاً عظيماً على العصر القديم، وتقريباً فإن كل رجل متعلم في عصرنا هوفي نفس الوقت بناءًا محترفًا معصومًا في ما يخص وضع الأساسات. وعلى كل حال فإن هذا لم يكن ما يسعى مثقفنا للبرهنة عليه، بل أن ما كان يؤكده بالحجة، هو أن السور العظيم فقط هو الذي يمكن أن يزود ، ولأول مرة في تاريخ الإنسانية، الأساس المأمون لبرج بابل الجديد. إذن السور أولاً ثم البرج بعده. ولذا كان كتاب مثقفنا هذا في يد كل إنسان في ذلك الوقت، ولكنني اعترف أنني حتى يومنا هذا لم استطع أن أرى كيف تصور الكاتبُ ذلك البرجَ. كيف يمكن للسور الذي لم يشكل حتى ولو دائرة ، بل ربع أو نصف دائرة، كيف إذن يمكن له أن يزود برجاً بالأساسات. من الواضح أن هذا غير ممكن إلاّ إذا قُـصد بذلك تحميله معنىً روحياً. وإذا كانت الحالة هي هذه فِلم إذن ُيْنشأ هذا السور المادي الملموس في كل الأحوال والذي كان ثمرة عمل العديد من البشر بطول حياتهم؟ ولماذا ، أيضاً، كانت هناك في الكتاب مخططات للبرج، بالرغم من أنه يجب الإعتراف هنا بأنها كانت مبهمة، ومقترحات مفصلة لتعبئة طاقات الشعب من أجل هذا العمل الجديد، الهائل.
كانت هناك في ذلك العصـر أفكار جامحة في أذهان الناس - ولم يكن كتاب مثـقـفنا هذا سوى مثال لأحداها- ربما وبكل بساطة لأن الناس كانوا يريدون ضم قواهم لأقصى ما في استطاعتهم من مدى لإنجاز هدف فريد. إن الطبيعة الإنسانية، المتغيره جوهرياً وغير المستـقرة كالغبار تماما،ً لا يمكنها أن تحتمل الكبح ، فإن ألزمت نفسها فإنها سرعان ما تبدأ في تمزيق وثاقها بجنون بل وتمزق كل شئ إرباً، السور والوثاق وحتى ذاتها.
وهناك احتمال أن نفس هذه الإعتبارات والتي كانت تعمل ضد بناء السور على الإطلاق لم تكن غائـبة من حسبان القيادة العليا عند الأخذ بنظام البناء المتقطع، ونحن – وعندما أقول نحن فإنني أتحدث باسم الكثيرين من الناس- نحن أنفسنا لم نكن نعلم حتى أنعمنا النظر في مراسيم القيادة العليا، واكتشفنا أنه بدون هذه القيادة لم يكن ليكفي ما تعلمناه من كتبنا أو حتى من إدراكنا الإنساني لإنجاز المهمات المتواضعة التي أنيطت بنا في إطار ذلك الكل العظيم.
وفي مكتب القيادة - الذي لا يعلم أحد ممن سألتهم في ذلك الوقت أو في وقتنا هذا أين يكون أو حتى من يجلس في ذلك المكتب، من الممكن للواحد منا أن يثــق أن كل الأماني الإنسانية تـتعاقب في دائرة، بينما تـتعاقب الأهداف والإنجازات في دائرة معاكسة. ومن خلال النافذه تنعكس العوالم الإلهية الرائعة وتسقط على أيدي القادة و هم يتـقصون مخططاتهم. ومن هنا فإن المراقب الفطن لا بد وأن يعتقد أن القيادة، إن كانت تريد ذلك بحق، كان بإمكانها التغلب على الصعوبات التي حالت دون الأخذ بنظام البناء المستمر. وعليه فإنه لم يبقى إذن سوى الوصول إلى نتيجة تذهب إلى القول بأن القيادة قد اختارت نظام التشييد المتقطع هذا بصفة متعمدة. ولكن هذا نظام مجهد وبالتالي غير ملائم، مما يجعل النتيجة المتبقية هي أن القيادة إنما أرادت شيئاً غير ملائماً. نتيجة غريبة! وإنها حقاً كذلك. وهناك الشئ الكثير مما يقال لدعم صحتها ، وربما كان مناقشة ذلك الآن مأموناً، ولكنه في تلك الأيام كان الكثيرون من الناس، ومن بينهم أفضلهم، يعيشون وفق حكمة سرية تقول : " حاول أن تفهم مراسيم القيادة العليا، ولكن لمدىً معين ، وبعدها تجنب الذهاب في تأملاتك إلى أبعد من ذلك". حكمة بليغة، تم تطويرها إلى حكمة أخرى تنص على تجنب المزيد من التأمل ولكن ليس لأن ذلك قد يكون ضاراً ، فليس هناك ما يؤكد أنه كذلك، أضف على ذلك أن ما هو ضار أو غير ضار ليس له دخل بالمسألة، وبدلاً من ذلك تأمل النهر في فصل الربيع وهو يرتـفع وينمو ويصبح أكثر قوة ويغذي تلك التربة الممتدة على شاطئيه بوفرة أكبر وهو يحافظ على مساره حتى يصل البحر حيث يُسْـتـقبل بترحاب كبير لكونه حليفاً يُعْتدُّ به. وإلى هذا الحد يمكنك أن تـتابع تأملاتك عن مراسيم القيادة العليا. وبعد هذا فإن النهر يفيض على شطـئانه ويفقد مساره وشكله ويبطئ من سرعة تياره ويحاول تجاهل مصيره بخلق بحور صغيره في الأرض الداخلية فيدمر الحقول، ومع ذلك فإنه لا يستطيع أن يـبـقي على نفسه طويلاً في توسعه الجديد وعليه بدلاً من ذلك أن يجري عائداً إلى ما بين شاطـئـيه مرة أخرى ، بل وسوف يجف بائـساً في فصل الصيف الذي يلي هذا الفصل. وإلى هنا لا يمكنك متـابعة تأملاتك عن مراسيم القيادة العليا.
والآن وبالرغم من أن هذه الحكمة كان لها شأن وقوة غير عاديين خلال بناء السور فإنه في ما يتصل بمقالتي هذه، ذات علاقة محدودة. إن مبحثي هذا تاريخي محض، ولم تعد موجودة تلك الومضات الباهرة من تلك السحابة الرعدية والتي اختفت منذ وقت طويل، وعليه فإنني ربما أجازف في البحث عن تفسير لنظام البناء المتقطع الذي قد يذهب لأبعد مما كان يرضي الناس في ذلك الوقت، علماً بأن الحدود التي تـَضْرِبها عليّ طاقتي في التفكير ضيقة بما فيه الكفاية بينما اتساع الأرض المطلوب تجاوزها غير محدود.
ضد من كان السور العظيم يقف سداً؟ ضد شعوب الشمال. إنني من جنوب شرق الصين، ولا يوجد هناك شعب شمالي يهدِّدنا. نقرأ عنهم في كتب الأقدمين.ونقرأ عن الفظائع التي ارتكبوها طبقاً لطبائعهم فتجعلنا نتـنهد في تعريشاتنا الهادئة. وتمثلات الفنان الصادقة تظهر لنا وجوههم الملعونة، بأفواههم الفاغرة ذات الأسنان المدببة، وعيونهم نصف المغلقة وكأنها تبحث عن الضحية التي ستمزقها أسنانهم وتلتهمها. وعندما يجمح أطفالنا فإننا نريهم هذه الصور وفي الحال يقذفون بأنفسهم على أذرعنا وعيونهم تـقـطر دموعاً. وأكثر من هذا فإننا لا نعرف شيئاً كثيراً عن أولئك الشماليين ولم تقع عيوننا عليهم وإن لزِمنا قرانا فإننا لن نراهم أبداً حتى لو اتجهوا يقصدوننا على ظهور جيادهم المتوحشه- فالمسافة شاسعه ولن تـتـيح لهم أن يدركونا فـتـنتهي رحلتهم هباءاً منثوراً.
لماذا إذن، إذا كان الأمر كذلك، تركنا مواطننا والنهر بجسوره ، وأمهاتنا ، وأباءنا، وزوجاتنا الدامعات وأطفالنا الذين يحتاجون لعنايتنا، وغادرنا إلى مدينة بعيدة للتدرب هناك بينما ترحل أفكارنا لمسافات أبعد حيث السور في الشمال. لماذا؟ سؤال يطرح على القيادة . إن قادتنا يعرفوننا، وهم في خضم همومهم العملاقة يعرفون عنا وعن اهتماماتنا الصغيرة فيستحسنون أو يستهجنون صلوات المساء التي يتـلوها الأب وهو بين أفراد عائلته. وإذا ما سمح لي أن أعبر عن مثل هذه الأفكار بشأن القيادة العليا فإنني سوف أقول أنها قد وُجِدت منذ زمن قديم ولم تعقد إجتماعاً ، فلنقل، مثل تلك الإجتماعات التي يعقدها الماندرين[ii] حيث يدعون للإجتماع على عجل لمناقشة حلم جميل حلمه أحدهم ، وينفض الإجتماع بمثل السرعة التي عُقِد بها لتدق الطبول التي تُـخرِج الناس من أسِرّتهم في نفس الليلة لتنفيذ ما تقرر حتى لو كان حفلة نارية تقام على شرف أحد الآلهة الذي قد يكون أظهر فضلاً كبيراً لوجهائهم ، ليسوقهم في اليوم التالي إلى ركن مظلم وهو يهوي بضربات الهراوة عليهم وقبل أن تخمد أضواء الألعاب النارية تقريباً. ومن الأحرى بي أن أقول أن القيادة العليا قد ُوُجِدت منذ الأزل وكذلك قرار بناء السور. غير مدركين هم، شعوب الشمال الغافلون ، الذين يظنون أنهم تسببوا في بناءه وغير مدرك هو ذلك الإمبراطور الذي ظن أنه أصدر القرار ببناءه. ولكننا نحن ، بناة السور ندرك أن الأمر لم يكن كذلك ولكننا نمسك عن التفوه به.
وفي أثناء ومنذ بدء بناء السور أشغلت نفسي وحصرياً تقريباً، بدراسة علم الأجناس المقارن – وهناك مسائل محددة يمكن البحث فيها حتى النخاع- وكأنها هي الطريقة الوحيدة – واكتشفت أننا نحن الصينيين نمتلك مؤسسات شعبية وسياسـيـة فريدة في وضوحها وأخرى فريدة في غموضها. والرغبة في تـقـصي هذه الظواهر، والأخيرة منها بوجه خاص، أثارت وما زالت تثير اهتمامي ، وبناء السور نفسه يتعلق جوهرياً بهذه المسائل.
وأما أعظم مؤسـساتنا الأكثر غموضاً فهي الإمبراطورية ذاتها. ومن الطبيعي أن يكون هناك في بيكنج وفي البلاط الإمبراطوري بعض الوضوح في هذا الموضوع مع أن ذلك أكثر ما يكون وهماً منه حقيقة. ويزعم أساتذة القانون السياسي والتاريخ في المدارس العليا أنهم يملكون المعرفة الدقيقة عن هذه الأمور وأنهم قادرون على نقل معرفتهم هذه إلى تلامذتهم- ومن المتوقع أنه كلما أخذنا في الهبوط درجات إلى المدارس الأقل مرتبة كلما وجدنا أن يقين الأساتذة و طلبتهم في علمهم يـتـسرب من بين أيديهم لنرى السطحية تـناطح الجبال علواً، حتى تبلغ عنان السماء، وتتخذ لها محوراً من المفاهيم القليلة التي غرست في أذهان الناس لقرون....مفاهيم ، رغم أنها لم تفقد شيئاً من حقيقتها الأزلية فإنه تبقى إلى الأبد غير مرئية في هذا الضباب من الإرتباك. ويبقى إن هذا السؤال بالضبط ، والخاص بالإمبراطورية، هو في اعتقادي الذي يجب أن يوجه للشعب ليجيب عليه. أوليس الشعب هو السند النهائي للإمبراطورية!؟ وهنا علي أن أعترف بأنني إنما أتحدث عن مسقط رأسي فقط . وباسـتـثـناء آلهة الطـبـيعة وطـقـوسها على مدى العام بكامله بتـناوباتها الجميله الغنـية ، فإنـنا لا نفكر إلاّ في الإمبـراطـور، ولكن، ليس الإمبراطـور الحالي؛ وكان حرياً بنا أن نفكر فيه لو كنا نعلم من يكون أو لو كنا نعلم أي شيئ محـدد عنه. هذا حق – وهو الفضول الوحيد الذي يملؤنا-إننا نحاول دائماً الحصول على المعلومات عن هذا الموضوع ، ولكن ، وحتى لو بدا الأمر غريـباً ، فإنه من المستحيل إكتـشاف أي شيئ سواء من الحُجّاج، مع أنهم تجولوا داخل الكثير من بلادنا، أو حتى من الملاّحين الذين أبحروا ليس على أنهرِنا الصغيرة فحسب بل وحتى على الأنهار المقدسة. صحيح أن الواحد منّا يسمع الكثير جداً ولكن ليس من المستطاع جمع أي شيئ محدد.
إن وطننا أرض شاسعة جداً وليس بمقدور أية أسطورة أن تفي حقها في ذلك بل إن السموات ذاتها بالكاد أن تكون ممتدة عليها ، وبيكينج نفسها ليست إلاّ نقطة عليه والقصر الإمبراطوري أقل من نقطــة . والإمبراطور بما هو كذلك، أقوى وأعلى سلطـة من بين رتب الدنيا؛ إننا نقبل هذا ولكن الإمبراطور الحالي رجل مثلنا، ومثلنا أيضا يضطجع علي سرير بحجم مبالغ فيه وربما كان من الممكن أن ذلك السرير جد ضيق وقصير، ومثلنا أيضاً يستلقي أحياناً وعندما يكون مرهقاً جداً فإنه يـتـثائب بفمه الرقيق القـَطْـع. ولكن كيف يمكننا أن نعرف أي شئ عن ذلك – ونحن على بعد آلاف الأميال جنوباً وعند حدود مرتفعات التبت ؟ وإضافة علي ذلك فإن أية أنباء، إن وصلتنا، فإنها لن تصل إلاّ متأخرة جداً لدرجة أنه عندها تكون قد أصبحت باليه قبل ذلك بزمن طويل. والإمبراطور محاط دائماً بحاشية من النبلاء الغامضون الأذكياء الخبـثاء - الضغينة في قناع من الخدم والأصدقاء- وكان هؤلاء يشكلون وزناً معاكساً للسلطة الإمبراطورية ويعملون دائماً على إطاحة الحاكم من موقعه باستعمال السهام المسمومة. فالإمبراطورية خالدة لا تموت ولكن الإمبراطور يترنح ويهوي من عرشه ، نعم، سلالات ملكية بكاملها تغرق في نهاية الأمر، وتـلفظ أنفاسها الأخيرة في حشرجة موت واحدة. وأما أفراد الشعب فإنهم لن يعرفوا عن هذه الصراعات والشدائد، وكأنهم بلغوا متأخرين ،كغرباء في مدينة، يقفون في نهاية طريق جانبي يخنقه الإزدحام وهم يقضمون بسلام الطعام الذي أتوا به معهم بينما، بعيداً في المقدمة، في ساحة السوق، قلب المدينة، يجري إعدام حاكمهم.
وهناك اسطورة تصف هذا الموقف جيداً. وتمضي الأسطورة هكذا: إن الإمبراطور قد أرسل إليك رسالة أيها المواطن المتواضع، أيها الظل الحقير الذي يرتعد فرقاً وهو في أبعد الأبعاد من الشمس الإمبراطورية. إن الإمبراطور قد أرسل وهو على فراش موته رسالة إليك وحدك. أمر الرسول أن يركع بجانب السرير ثم همس بالرسالة له. ولقد كانت الرسالة من الأهمية بمكان أنه أمر الرسول أن يعيد همس الرسالة في أذنه، ثم بإيماءة من رأسه أكد صحتها. نعم ، أمام مشاهدي وفاته المجتمعون- كانت قدأزيلت كل الجدران العائقة – وعلى الدرجات المفتوحة الفسيحة العالية، وقف في حلقة، أمراء الإمبراطورية العظماء- وأمام كل هؤلاء تسلّم الرسول الرسالة فبدأ رحلته مباشرة . كان رجلاً قوياً لا يكِلّ، يدفع بيده اليمنى تارة وباليسرى تارة أخرى ، ويشق طريقه بين الحشد ، فإذا ما قابلته مقاومة ما فإنه يشير إلى صدره حيث يلمع رمز الشمس ، فيُسهّل له بأكثر مما لو كان لرجل آخر. ولكن الحشود كبيرة وأعدادها لا نهاية له. لو استطاع الوصول للحقول المفتوحة فما كان أسرعه في الطيران، وفي الحال ، وبدون شك كنت لترحب أنت بطرقات قبضته على بابك. ولكنه بدلاً من ذلك فإنه يـبـدد طاقـته بلا طائل.....ما زال يشق طريقه في الغرف الداخلية ..ولن يستطيع أبداً الوصول إلى آخرها ...وإذا وُفق في ذلك فلا فائدة ترجى من ذلك، فهناك الساحات التي يجب ان يعبرها وبعدها هناك القصر الخارجي الثاني ، ومرة أخرى هناك الدرجات والساحات ثم قصر آخر....وهكذا لآلاف الأعوام . وإذا نجح أخيراً في الإندفاع والنفاذ من أقصى البوابات الخارجية – وهذا لن يحدث أبداً ...أبداً- فإن العاصمه الإمبراطورية سوف تبـسط نفسها أمامه... مركز العالم محشوة بنفاياتها لدرجة الإنفجار ولا أحد يسـتطيع شق طريقه من هنا حتى لو كان يحمل رسالة من رجل ميت.
وهكذا، وبمثل هذا القنوط والرجاء، يتعلق شعبنا بالإمبراطور. إن شعبنا لا يعرف أي إمبراطور يحكمه وهناك شكوك حتى في ما يخص اسم الأسرة الملكية. وفي المدرسة يُدرّس الكثير عن هذه الأسرات مع تواريخ تعاقبها ولكن الشك الشامل المحيط بهذه المسألة كبير جداً بحيث يجر كثيرين من المثـقـفين للخوض فيه. وفي قريتنا يُظَنُّ في الأباطره الذين ماتوا منذ زمن طويل وكانهم ما زالوا منصبين على عروشهم حتى أن أحد الذين لم يعودوا أحياء إلا في الأغاني قُـرِأ له مؤخراً بلاغ من على المذبح بواسطة أحد الكهنة. معارك قديمة أصبحت تاريخاً منذ زمن طويل هي جديدة في حسباننا، ورُب جار لأحدهم، أخذ بعدها يعدو والبهجة تعلو وجهه، لينقل تلك الأخبار. وأزواج الإمبراطور المدللات المتعجرفات يـغويهن أفراد الحاشيه الماكرون ويلهبهن الجشع وتـسيطر عليهن شهواتهن الجامحة فيرتكبن رذائلهن مرة بعد المرة. وكلما أوغلن في الزمن كلما كانت الألوان التي يطوين فيه أعمالهن أكثر توهجاً ، وبصرخة جزع عالية تـسمع قريتنا في نهاية الأمر كيف أن إمبراطورة ما شربت دماء زوجها في فصل جفاف طويل قبل آلآف السنين.
هكذا إذن يتعامل أفراد شعبنا مع الأباطرة الراحلين، ويخلطون بين من يحكم الآن وأولئك الذين رحلوا. وإذا حدث مرة، مرة واحدة في حياة رجل ما، أن أتى أحد رسميي الإمبراطورية أثناء جولة له في الأقاليم وتصادف أن نزل في قريـتـنا، ثم أذاع بعض البلاغات باسم الدولة، وفحص قوائم الضرائب ، وفتش مدارس الأطفال، وسأل الكاهن عن أعمالنا وشؤننا ، وبعد ذلك وقبل أن يصعد على كرسي محفته فإنه يلخص انطباعاته ويسهب في النصح على القرية المحتشدة أمامه، حيث تمر ابتـسامة على كل وجه ، ويختلسون النظرات فيما بينهم، وينحنون على أطفالهم حتى يتجنبوا انتباهة الموظف الإمبراطوري لهم، ثم يأخذون في التـفكير، ويسألون أنفسهم لماذا يتكلم عن رجل ميت هكذا وكأنه ما زال حياً؟. إن عاهله الذي يتحدث عنه قد مات منذ زمن طويل والأسرة قد امحت وبادت ولا بد أن هذا الموظف الرسمي يهزء بنا، ولكننا سوف نعالج هذا وكأننا لم نـتـنـبه له حتى لا نكدره ، ولكنه لن يكون لنا طاعة إلا لحاكمنا الحالي، لأن فعل خلاف ذلك جريمة.
ومن خلف محفة الموظف الرسمي المغادرة، يقوم بجبروته كحاكم للقرية، رمز يُـبـجّـل عَرَضاً، يقوم من جرة حفظ رماد الموتى التي تـفـتـتت وأصبحت غباراً.
وبالمثل فإن شعبنا قليل التأثر بالثورات الداخلية والحروب المعاصرة ، وإنني لأتذكر تلك الحادثة في صباي عندما اندلعت الثورة في الإقليم المجاورلنا- مع أنه بعيد عنا أيضاً بشكل ما. لم أعد أتذكر ما الذي تسـبب في تلك الثورة، ولم يعد ذلك الآن مهماً . فمسـبـبات الثورة موجودة هناك في أي وقت والناس هناك قابلون للإثارة. وعلى أية حال وفي يوم من الأيام جاء متسول إلى دار أبي وهو يحمل معه ورقة نشرها الثوار حين مروره بذلك الإقليم . ولقد تصادف أن كان ذلك اليوم يوم عيد وكانت غرف منزلنا مكتظة بالضـيوف فأخذ القسـيس الذي كان يتوسط الجمع بدراسة الورقة، وفجأة أخذ الكل في الضحك وفي خضم هذا الإرتباك تمزقت الورقة وطُرد المتسول، الذي كان قد أخذ، على كل حال ، ما يكفيه من الصدقات قبل ذلك ، تلاحقه الضربات. وتفرق الضـيوف للإسـتـمتاع بذلك اليوم الجميل. لماذا؟ لقد كانت لهجة ذلك الإقليم المجاور تختلف عن لهجتنا في بعض مظاهرها الجوهرية وهذا الإختلاف يحدث أيضاً في جزء معين من اسلوب كتابة الكلمات بما كان يمثل لدينا مظهراً عتيقاً ، فلم يكد القسيس يكمل قراءة صفحتين فقط حتى كنا قد توصلنا لقرارنا. إن التاريخ القديم قد أخبرنا أن أحزان الماضي القديم قد بَرُأت منذ زمن طويل. ومع أن بشاعة الحياة – أو هكذا يبدو لي عند التذكر في الوقت الحاضر- قدمت لنا كلمات ذلك المتسول بشكل لا يمكن نـقـضه، فإننا أخذنا نضحك ونهز رؤوسنا ثم رفضنا مواصلة الإصغاء. إن شعبنا مصاب بهاجس نفي الحاضر.
وإذا كان هناك من يسـتـنـتج أنه في الحقيقة ليس لدينا إمبراطور، فإنه لن يكون بعيداً عن إصابة الحقيقة. ومرة تلو الأخرى فإنه يجب تكرار: أنه ربما لا يوجد هناك شعب أكثر ولاءاً للإمبراطور من شعبنا في الجنوب. ولكن الإمبراطور لم يستـمد الفائده من ولائنا لصالحه. وحقاً، فإن التـنين المقدس يقف على ذلك العمود الصغير في أطراف قريـتـنا وهو منذ بداية ذاكرة الإنسان يزفر أنفاسه النارية في اتجاه بيكينج، رمزاً للولاء- ولكن بـيكينج ذاتها أكثر غربة للناس في قريتـنا من العالم الآخر. هل يعـقـل أن تكون هناك قرية تصطف بيوتها جنباً إلى جنب وتغطي مساحات تعادل كل الحقول التي يراها أحدنا من فوق تلالنا ولمسافات أبعد كثيرا . وهل يمكن أن يكون هناك أناس مكدسون في هذه البـيوت وبينها ليلاً ونهاراً؟ إننا نجد تصوير ذلك أكثر عسراً من تصوير أن بيكينج وإمبراطورها كائن واحد، قل، سحابة تمر تحت الشمس على مدار الدهور.
والآن فإن اعتـناق مثل هذه الآراء إجمالاً إنما هو فوز بحياة حرة وغير مخـتـنـقه بشكل عام، وهي بأي حال من الأحوال ليست لا أخلاقية. ولم أكد أجد في رحلاتي مثل هذه الأخلاقيات النقية التي تـتـمتع بها قريتي ومسقط رأسي مع أنها لم تتعرض لأي قانون عصري ولا تـنـكب إلأ على المواعظ والتحذيرات التي تصل إلينا من أقدم العصور.
إنني أتجنب وأحذر التعميم فلا أؤكد أن الحال هي كذلك في العشرة آلاف قرية في إقليمنا وأقل من ذلك تأكيداً هو مايخص كل الخمسمائة إقليم في الصين. ومع ذلك فإنه ربما كان علي المجازفة بالقول بناءاَ على كل الذي كتب عن هذا الموضوع وقرأته، وبناءاً على ملاحظاتي، أقول أن بناء السور بما أتاحه من وفرة خاصة في المادة الإنسانية قد قدمت فرصة لإنسان يتمتع بالمعقولية لمسح وتقصي روح كل الأقاليم – وبناءاً على كل ذلك يمكنني أن أجازف وأؤكدأن الموقف السائد تجاه الإمبراطور يُظهر شيئاً متـناسقاً وشاملاً شمولاً أساسياً مع ذلك السائد في قريتـنا . وهنا لا أريد أن أصور هذا الموقف وكأنه فضيلة . وعلى العكس من ذلك فإنني أرى أن مسؤلية ذلك تقع على عاتق أقدم إمبراطورية على وجه الأرض وهي التي لم تنجح بعد في تطوير، أو أهملت تطوير، مؤسـسة الإمبراطورية بحيث تكتـسب دقة تـتـيح لها العمل والإمتداد مباشرة وبدون توقف حتى أقصى حدود الأرض ، وعلى كل حال هناك أيضاً شيئ من الضـعف في العقيدة والقدرة على التخيل عند الشعب، مما يمنعهم من انـتـشال الإمبراطورية من وهدة الركود في بيكينج وضمها إلى صـدورهم بكل حقائق حياتها الواضحة، وهي لا تريد شيئاً أفضل من تلك اللمسة والتي من بعدها تقضي أجلها. وهكذا إذن فإن هذا الموقف ليس من الفضيلة في شيئ . والأكثر من هذا جدارة بالملاحظة هو أن هذا الضعف كان يجب أن يبدو وكأنه أحد المؤثرات العظمى التي توحد شعبنا، وحقاً، فإن الواحد منا إن أراد أن يذهب هذا المذهب ويعبرعنه لقال أن هذا هو الأرضيه التي نعيش في كنفها . وإذا ما تهيئنا لتعيين عيب أساسي هنا فإن ذلك يعني ليس ضمائرنا فحسب، ولكن ما هو أكثر سوءاً، وأعني بذلك إرتعاش أقدامنا. ولهذا السـبـب فإنني لن أمضي أبعد من هذا في هذه المرحلة من بحثي في هذه المـسـألة في هذا الوقت.
اسطورة برج بابل وردت ضمن إنجيل العهد القديم لتفسير اختلاف ألسنة الأمم. وتنص الأسطورة على أن الأجيال التي أعقبت الطوفان العظيم (طوفان نوح) كانت تتحدث بلسان واحد ثم حلّت هذه الأجيال بأرض "شنار" بعد هجرتها شرقا. وهناك اتفقوا على بناء مدينة وبرجا يصلهم طوله بالسماء. وعندما رأى الرّب طموحاتهم فخلط عليهم كلامهم بحيث لا يفهم أحد الآخر فتفرق شملهم في كل أرجاء الدنيا.
(المترجم مقتطفة من موسوعة الويكيبديا عن نفس برج بابل هذا)
[ii] (الماندرين هم الموظفون الكبار في امبراطورية الصين القديمة- (المترجم)