عثمان حامد - بيننا الإنتظار والندى

"إليها. وقد إنتبذتْ لنفسها مكاناً قصيّـاً في القلب."

الرابعة إلا الربع، مساءً. ليست تلك هي المرة السابعة، منذ بعد ظهر اليوم، التي يُحدِّق فيها صوب الساعة، تلك الجاثمة على حائط ضلوعه الفائرة. فقبل تسع دقائق فقط، كان قد نظر إليها بتوهن وتوسلٍ جم

إنه الإنتظار. حُمىّ المواعيد. وخروج الروح لمعانقة الروح.

جلس قبالة الساعة الحائطية، تماماً. بحيث تـُـطِـلُ عليه، للوهلة الأولى، بمجرد أن يشحذ بصره إلى أعلى. يدّعي، أحياناً، وفي تحدٍ هش، أنه لن يبالي بملاحقة الزمن. فتجده يجوس’ بطريقة ماكرة، بنظرةِ في أنحاء الغرفة، وفي إتجاهات مختلفة. متحاشياً، بذلك، ساعة الحائط. يراقب مرة حركة الطيور داخل القفص ليشغل نفسه ويبالغ، تارة، في التكهُن بمعرفة موديل السيارات المارة على الطريق الخلفي لحديقة المنزل. وذلك حسب أصواتها، لينكمش لحظة أخرى على أحلامه المتدفقة، المرصّعة بخيالات بهيجة. ولكنه أخيراً، وفي هزيمة ظافرة وأليفة، يهجم بعيونه، دفعة واحدة، على ساعة الحائط.

قبل أيام.

أو قل الأسبوع الفائت.

كان قد هاتـفها كالعادة. فها هو، لا يزال يبلل أشواقه بعصير أنفاسها، وعبير مواعيدها القادمة. كان لقاءً هاتفياً متألقاً، لقاءً مشحوناً بالوعود، وتصورٍ لمستقبل مشتعل بالإنجازات الثرة.

ـ ألمْ أقل لكَ كفانا من تشاؤم؟!.
ـ أيّ تشاؤم تقصدين؟ أنا، عموماً، أصبحت شخصاً إحصائياً، يحسب حتى همومه، ويحبس أحلامه في حدود ما يتاح!
ـ يا لك من عنيد، دجنّه إيقاع الزمن الإلكتروني، وصرامته، فصار لا يلتقط من الواقع، في فوضاه الزاهية، إلا ما يعزز هذه الصرامة!
ـ دَعْكِ من هذه المشاكسة الطائشة، وحدثيني قليلاً عن طعم قبلتنا الهاتفية الأخيرة.
ـ ( - - - - - - - - - - - )
ـ ( - - - - - - - - - - - )
ـ المهم أن لا تنسى مواعيدنا، في الخامسة، مساء السبت القادم. تأكد أنني لن أتسمّر في إنتظارك على الطريق العام، لأكثر من ربع ساعة.

مساء اليوم. في الخامسة.

بالرصيف، قرب محطة البنزين، بمحاذاة كشك "عبد الصادق للسمك"، لقاؤكما ذو الأهميّة القصوى. إليكما. معاً.

المواعيد تجرجر عليك أذيالها بكسل، كما يزحف تلميذ في طابور عقاب مدرسي، منتظراً نوبته. في ماذا تُحدّثها، وأنت مُزدان بكل تلك المواضيع اللاهثة، والمكدسة برأسك، كعصافير خريفيّة؟!

"سأقول لها:

أن قبلتنا/الهاتفية، السابقة، قد صيرتني بحراً في قصِيْـدَتِك. ولا زلتُ أتوكأ عليها، وأتحسسها برفق وتَوددٍ.
وها أنذا قد أعددتُ لك،
ما استطعت من الورد، والقبل.
فكوني،
دوائر تنداح بصمت،
تزرعين المكان بعبق حضورك الباذخ،
وتبددين بشفاهك المتمردة
قلقي،
وضجري.
لأبعثر فيك
لغتي
وشعري
وكلماتي التي سترسو يوماً،
على شاطئ إبتسامتك الجليلة، فهل قلت كل شئ؟ لا!

ربما نتحدث عن شجون الأصدقاء، وحضورهم المضيء، طوال ثرثرتنا في "قعدة" البارحة. على كلٍ، هذا الموضوع يسبب لي نكداً، ووجعاً خافتاً، ليس ذاك وقته. ثم إن هذا اللقاء هو حوا ر الشباب، والتدفق، والتنزه العاطفي في جسد اللغة.

بندول الساعة الحائطية يدغدغ أذنيه.

"لا. بل من الأفضل أن أبدأ معها حديثي، بشكل تلقائي عن "الموضوع"، خاصة وأن هذا اللقاء هو الأول و"المباشر" معها. هذه العفويّـة في حديثي، من المؤكد، وبشفافيتها القاطعة، ستكتشف من خلالها ذلك الصدق الطفولي، المختبى خلف عيوني، وكلماتي المتناثرة بحياء.

سأحدثها ـ إذن ـ عن منتدى الخميس القادم. وكيف أنه، هذه المرة، سيكون ملتهباً، وشيقاً بين أصحاب قصيدة "لن" وأصحاب قصيدة التفعيلة. ستتحدث فيه، أيضاً، نهى زميلتها السابقة بكليّـة الآداب، وآخرون. نهى ستقدم مداخلة مختلفة، وطريفة، عن "ماهيّة الفرق بين التناص والتلاص". وفي المنتدى الذي يليه، سأشارك، أنا، بورقة عن "سلطة الخطاب".

لا. لا. بل …. بل يجب أن أتحاشى هذه البدايات المفتعلة والمعقدة. ثم أنها بداية متعالية، لا علاقة لها بالتوحّد، والعشق.

الناس ـ عادة ـ يبتدؤن حديثهم بالكلام عن حالة الطقس، ورداءة المواصلات، وغير ذلك من الأحاديث عديمة الدهشة، في محاولاتهم لدفع الحوار، وجدَبه. بالله كيف أنزلق تفكيري، وخيالي، لهذا الحد من الارتباك والسقوط!. وأنا صاحب الخلق والمبادرات؟.

ثم أني لا علاقة لي بهذه البداية غير الموفقة، كوني أمتلك مواضيع غنية و"حساسة" وهموماً مشتركة معها. فكيف لي ـ إذن ـ أن ألجأ لهذه الطريقة المضطربة؟! فوق ذلك، فهي مضللة، ضحلة، وشديدة الركاكة، لا تليق بمحب وسيم مثلي. ربما يوحي ذلك لها بعدم مقدرتي على التجاوز والإبتكار، وصياغة الحوار العاطفي، ومتابعته، مقابل حيويتها المتفجَّرة كوردة، وقدرتها الفذة على توليد عبارات العشق، أو حتى مقدرتها على تصميم خطاب المطبخ. وغيره.

بندول الساعة الحائطيَّة يدغدغ أذنيه.
الوقت، ولا فضاء إلا للوقت والإنتظار.

غفى من حالة شروده تلك. خُيَّل إليه أن عاماً بكامله قد مضى على سرحانه الغامض ذاك. أحس بحلقه جافاً وحامضاً، وثمة خدرٍ ما بيده اليسرى. عدَّل من جلسته، وتثاءب عميقا. فرك عينيه براحتي يديه، كالذي يزيل عنهما غشاوةً بائتة. ثم مسح على طرف فمه الأيمن، حيث لعاباً خفيفاً كان قد أنزلق. فرد يديه، لأعلى في الهواء،: انه يبحث عن صحوٍ طازج، لينثره على ذاته المضرجة بكسل عتيق.

إلتفت إلى ساعة الحائط، بهلع ووجوم، فإذا بها قد تجاوزت السادسة ونصف مساء.


أبريل ـ نوفمبر 1998م

أمستردام

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...