السيد أحمد صقر - نظرات في كتاب الأشربة - 6 -

يجمل بي قبل أن أستأنف كتابة الحلقة السادسة من هذا البحث أن أعرض بالنقد لما نقدت به في بريد الرسالة.

أما النقد الأول، فقد كتبه الأستاذ عدنان وجعل عنوانه (لفظة في بيت). قال: (في مقال للأستاذ السيد أحمد صقر حول كتاب (نظرات في كتاب الأشربة) للأستاذ كرد علي بك). وفي هذه الجملة خطأ طريف، فإني لا أنقد كتاباً اسمه (نظرات في كتاب الأشربة) للأستاذ كرد علي بك، وإنما أنقد كتاب (الأشربة) لابن قتيبة التي نشره الأستاذ كرد علي، ولكي يستطيع القارئ متابعة النقاش في يسر وسهولة أنقل ما قلته أولاً، وما عقب به الأستاذ عدنان ثانياً.

قلت (ع 831ص963) (في ص37، 38 من الأشربة) وقد شهر المتعاشرون على الشراب بسوء العهد، وقلة الحفاظ، وأنهم صديقك ما استغنيت حتى تفتقر، وما عوفيت حتى تنكب، وما غلت دنانك حتى تنزف، وما رأوك بعيونهم حتى يفقدوك، قال الشاعر:

أرى كل قوم يحفظون حريمهم ... وليس لأصحاب النبيذ حريم
إذا جئتهم حيوك ألفاً ورحبوا ... وإن غبت عنهم ساعة فدميم
إخاؤهم ما دارت الكأس بينهم ... وكلهم رث الوصال سؤوم
فهذا ثباتي لم أقل بجهالة ... ولكنني بالفاسقين عليم

والصواب (فهذا ثنائي) كما في العقد الفريد 4321 وليس للثبات هنا أي معنى يستقيم به نظم الكلام ويقوم عليه بناء معناه)

وقال الأستاذ عدنان في تعقيبه (بل للثبات هنا معنى يستقيم به نظم الكلام وهو إلى الصواب أقرب مما ورد بالعقد، وذلك لسببين: الأول أن الشاعر يقرر حالة هي إلى قدح القادح أقرب منها إلى (ثناء) المادح، وأي (ثناء) ذلك الذي يوجه إلى قوم لا يحفظون الحريم وينقلبون بين الجيئة والذهاب من حب إلى بغضاء ومن وفاء إلى عداء. والثاني أن الأستاذ الناقد فهم من (الثبات) أنه الدوام والاستقرار، ومن ثم كتب ما كتب معتمداً على رواية العقد وهي كما سبق رواية لا يزكيها واقع الحال. وإنما يقال في مقام التصحيح أن (الثبات) بمعنى الحجة والبرهان تقول: لا أحكم بكذا إلا يثبت أو بثبات أي بحجة وبرهان ودليل).

ليس في كلام الأستاذ عدنان ما يجعلني أعدل عن رأيي في أن الثبات ليس لها هنا أي معنى يستقيم به نظم الكلام ويقوم عليه بناء معناه، وأما تفسيره له بمعنى الحجة والبرهان فتكلف وتمحل وتعمل ينبو عنه الذوق الشعري. وهل يقول شاعر (فهذا ثباتي)؟

وليس في كتب اللغة التي بين أيدينا (ثبات) بمعنى الحجة والبينة، وقد جاء في اللسان: (الثبت بالتحريك الحجة، وتقول أيضاً: لا أحكم إلا يثبت أي بحجة) ولست أدري من أين جاء الأستاذ (بثبات).

والذي حمل الأستاذ على أن يتكلف في تصحيح (الثبات) هذا التكلف البعيد أنه لم يفهم معنى (الثناء)، وعجب من أن أقولإن الصواب (فهذا ثنائي) فقال (وأي ثناء ذلك الذي يوجه إلى قول لا يحفظون الحريم الخ). ولو قد عرف الأستاذ حقيقة الثناء لما قال ذلك بل لما كتب من نقده حرفاً واحداً. إن الثناء ليس مدحاً فقط بل هو ذم أيضاً، يستعمل في الخير والشر على السواء، وقد ورد في شعر زهير:

سيأتي آل حصن أين كانوا ... من المثلات ما فيها ثناء

وفُسر بالوجهين: فمن قال إن (ما) نافية قال: إن الثناء بمعنى المدح، ومن قال إنها موصولة قال: إنه بمعنى الهجاء. جاء في لسان العرب (الثناء ما اتصف به الإنسان من مدح أو ذم وخص بعضهم به المدح. الثناء ممدوح: تعمدك لتثني على إنسان بحسن أو قبيح. أثنى يثني إثناء أو ثناء يستعمل في القبيح من الذكر في المخلوقين وضده).

وإذا كان الثناء يستعمل في الذم في أصل اللغة فليس هناك ما

يدفع قولي إن الصواب (فهذا ثنائي) على أني وجدت للبيت رواية أخرى حبت إليها نفسي وهي كما في نهاية الأرب

4108

فهذا بياني لم أقل بجهالة ... ولكنني بالفاسقين عليم

براع لا يراعوا:

أما النقد الثاني، فقد كتبه الأستاذ (عمر إسماعيل منصور) وجعل عنوانه (يراعوا لا يراع) وأنا أورد ما قلته وما قاله على نحو ما فعلت في سالفه.

قلت في العدد 833 وفي ص38 من الأشربة: وقال آخر:

بلوت النبيذ بين في كل بلدة ... فليس لأصحاب النبيذ حفاظ
إذا أخذوها ثم أغنوك بالمنى ... وإن فقدوها فالوجوه غلاظ
مواعيدهم ريح لمن يعدونه ... بها قطعوا برد الشتاء وقاظوا
بطان إذا ما الليل ألقى رواقه ... وقد أخذوها فالبطون كظاظ
يراغ إذا ما كان يوم كريهة ... وأسد إذا أكل الشريد فظاظ

وعلق الأستاذ محمد كرد علي على هذه الكلمة بقوله في ع: يراعوا.

والصواب (يراع إذا ما كان يوم كريهة) جاء في لسان العرب (اليراع: القصب واحدته يراعة. واليراعة، واليراع: الجبان الذي لا عقل له ولا رأي، مشتق من القصب. أنشد ابن بري لكعب الأمثال:

ولا تك من أخذان كل يراعة ... هواء كسقب البان جوف مكاسره.

هذا ما قلته ولكن الأستاذ (عمر) لم يرقه قولي واتهمني بعدم الفهم وقلة الإدراك بل بعدمه أَيضاً وإليك ما قال: (وأقول إن يراعوا هي الصواب، وهي من الروع بمعنى الفزع، قال قطري ابن الفجاءة:

أقول لها وقد طارت شعاعاً ... من الأبطال ويحك لن تراعى

ولو قرأ الأستاذ الفاضل هذه الأبيات لأدرك أن الكلام عن جماعة لا عن فرد، وأن يراعا بمعنى جبان لا تصدق على الجماعة إذ تأتي للمفرد فقط. قال في الأساس (ومن المجاز قولهم للجبان الذي لا قلب له هو يراعة ويراع قال: فارس في اللقاء غير يراع) ولست أدري كيف يكون (فاضلا) من ينقل أبياتاً لشاعر يقول فيها (بلوت النبيذيين ومواعيدهم ريح قطعوا بها برد الشتاء وقاظوا) ثم لا يدرك (أن الكلام عن جماعة لا عن فرد) كما يقول الناقد ونضرب صفحاً عن هذا اللغو ونأخذ في مناقشة كلامه فإن ذلك أخلق بنا وأحجى.

يزعم الناقد المدرك أن الصواب (يرعوا) من الروع بمعنى الفزع ولو كان يعرف أن يراعوا فعل مضارع، وأن كل مضارع اتصلت به واو الجماعة يرفع بثبوت النون وينصب ويجزم بحذفها لما قال إن الصواب (يراعوا) ولساءل نفسه: أين النون؟ ولم ذهبت؟ ويزعم الناقد صاحب المدارك الثاقبة (أن يراعا بمعنى جبان لا تصدق على الجماعة إذ تأتي للمفرد فقط!! وهذا زعم لا حقيقة له لم يقله أحد من علماء العربية، ولكن الناقد افتراه وأوهم القارئ أنه اعتمد في نفيه على الأساس حيث يقول: (قال في الأساس ومن المجاز قولهم للجبان الذي لا قلب له هو يراعة ويراع). وأنا أنقل للقارئ نص كلام الزمخشري في الأساس ليعلم كيف داس الناقد في نقله وكيف فهم منه ما افتراه. قال الزمخشري في ص561 (وقع الحريق في اليراع: في القصب، قال المسيب ابن عيسى:

ومهما يرف كأنه إن ذقته ... عانيَّة شُجَّت بماء يراع

أراد قصب السكر. ونفح الراعي في اليراعة، وكتب الكاتب باليراعة، قال:

أحنّ إلى ليلى وقد شطت النوى ... باليلى كما حن اليراع المثقَّبُ

أي المزامير. وغشى اليراع الوجوه. وهو شبه البعوض. ومن المجاز قولهم للجبان الخ).

وهذا النص صريح في أن اليراع: هو القصب، وأن اليراع المثقب المراد به المزامير، وأن واحدة هذا كله يراعة.

ولست أدري كيف قرأ الأستاذ هذا الكلام ولا كيف طواه لئلا يناقض دعواه، ولكن الذي أدريه أن الأستاذ لم يفهم كلامي ولم يفطن إلى معنى النص الذي نقلته عن اللسان، وكان فيه الغناء لو تدبره. لقد قلت إن الصواب (يراع) ونقلت ما في اللسان من أن اليراع: القصب واحدته يراعة، واليراعة واليراع الجبان الذي لا عقل له ولا رأى، مشتق من القصب).

ولكن الناقد المدرك لم يفطن إلى أن هذا النص صريح في أن اليراع اسم جنس. واسم الجنس هو ما يفرق بينه وبين واحدة بالتاء، جاء في المخصص 16100 (باب دخول التاء فرقاً بين الجمع والواحد منه، وذلك نحو تمر وتمرة وبقر وبقرة وشعير وشعيرة وجراد وجرادة فالتاء إذا ألحقت في هذا الباب دلت على المفرد وإذا حذفت دلت على الجنس والكثرة، وإذا حذفت التاء ذكر الأسم وأنث، وجاء التنزيل بالأمرين جميعاً. . .)

واليراع واليراعة كالزَّباب والزَّبابة جاء في اللسان: (الزَّباب: جنس الفأر لا شعر عليه. قال الحارث بن حلّزة:

وهمُ زَبَابٌ حائر ... لا تسمع الآذان رعدا

أي لا تسمع آذانهم صوت الرعد لأنهم صم طرش، والعرب تضرب بها المثل فتقول أسرق من زبابة، ويشبه بها الجاهل، واحدته زبابة).

على أن جو الأبيات يتطلب كلمة (يراع) ولو جاز أن يقع الفعل موقعها؛ لأن الشاعر وصف النبيذيين قبل ذلك بأنهم (بطان) ووصفهم بعد ذلك بأنهم (أسد) وسبيل يراع في المجاز كسبيل (أسد) ومع ذلك فإننا إذا نحينا المجاز جانباً ولجأنا إلى الحقيقة وسمينا الجبان باسم (يراع ويراعة) كان الجمع فيهما (يراع ويرعات). ورحم الله الشافعي إذ يقول: (فالواجب على العالمين ألا يقولوا إلا من حيث علموا، وقد تكلم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الإمساك أولى به، وأقرب إلى السلامة له).

ونرجع إلى ما كنا فيه من بيان الأوهام في كتاب (الأشربة) فنقول:

45 - جاء في ص 24: (قال عثمان رحمة الله عليه: ما تغنيت ولا تفتيت، ولا شربت خمراً في جاهلية ولا إسلام).

وشرح الأستاذ كرد علي على معنى (ولا تفتيت بقوله: ولا تشبهت بالفتيان)! ومعاذ الرجولة أن يقول ذلك عثمان عن نفسه، ومعاذ الأدب أن يظن به ظان أنه يمكن أن يقوله، وبمن يتشبه عثمان إذا لم يتشبه بالفتيان؟ إن في العبارة خطأ لم يفطن إليه الأستاذ، وصوابه: (ما تغنيت ولا تمنيت) أي ولا كذبت جاء في النهاية 4119 (وفي حديث عثمان: ما تغنيت ولا تمنيت، ولا شربت خمراً في جاهلية ولا إسلام وفي رواية: ما تمنيت منذ أسلمت، أي ما كذبت. التمني: التكذب، تفعَّل من منى يمني إذا قدَّر لأن الكاذب يقدر الحديث في نفسه ثم بقوله. قال رجل لابن دأب وهو يحدث: أهذا شيء رويته أم شيء تمنيته؟ أي اختلقته ولا أصل له).

وقد كان ابن دأب هذا - واسمه عيسى بن يزيد - من أحسن الناس حديثاً وبياناً، وكان شاعراً رواية وافر الأدب، صاحب رسائل وخطب غير أنه كان يضع الأشعار ويزيد في الأحاديث ما ليس منها. وناهيك برجل يسمه خلف الأحمر بالكذب ويصفه بأنه آفة، وفيه يقول ابن مناذر:

ومن يبغ الوصاة فإن عندي ... وصاة للكهول وللشباب
خذوا عن مالك وعن ابن عون ... ولا ترووا حديث ابن دأب
ترى الهلاك ينتجعون منها ... ملاهي من أحاديث كذاب
إذا طلبت منافعها اضمحلت ... كما يرفض رقراقي السحاب

وقد توفي ابن دأب في سنة إحدى وسبعين ومائة في أول خلافة الرشيد. وترجمته في لسان الميزان 4408 وتاريخ بغداد 11148 والمعارف 234 ومعجم الأدباء 16152.

(يتبع)

السيد أحمد صفر



مجلة الرسالة - العدد 846
بتاريخ: 19 - 09 - 1949

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...