عهدتها وارفة الظلال، متينة الجذع، كثيفة الأغصان، فارعة الطول، وهي تقف في منتصف بلدتنا تتوسط القطاطي في حنية صادقة. كانت تلك الشجرة مقراً لمهمات وهزليات البلدة، كانت مجلساً للسلاطين وكبار رجال البلدة، وكانت منتدى للشباب والصبيان، يرقصون قربها في الليالي القمرية على أنغام الطبول الشجية، تلك الأنغام التي تنبعث بالرهبة والرغبة، ولم لا وهي وليدة الاستوائية وابنة الأدغال؟ ذلك العالم المغلق.. العالم الذي إذا اقتحمته أعطاك الخير والشر بذات القدر، يمنحك الخوف والأمان، الموت والحياة وكل التناقضات. كانت مقر التائه، واستراحة المتعب، ومنزل المسافر، أصبحت معلماً بارزاً في قريتنا، وفي آخر ليلة قمرية تهيأنا لنعد العدة للرقص والأغاني الزنجية. الفتيات تجمعن بأجسادهن السوداء، تزينهن سلاسل مرتبة في الطول والقصر حول أعناقهن وأساور عريضة من العاج تحيط بالمعاصم، وخلاخل في الأرجل تصدر أصواتاً رتيبة، وتنورة تغطي الجزء الأسفل من الجسد، بدأ الرقص اهتزت الأجسام متناغمة مع الطبيعة الصارخة وأشعة القمر تصطدم بالجلود السوداء، اللامعة لترتد إلى مصدرها الأول. فجأة حدث شجار قوي بين مجموعة من الشباب، الفتيات صرخن في فوضى، أمرهنّ أحدهم: اذهبن إلى بيوتكن. هرولن في رعب، كان الصراع بين ثلاثة شباب من القرية المجاورة فتصدى لهم ثلاثة شباب من قريتنا لأنه ليس من الشرف والرجولة أن نصارعهم جميعنا.. انتهى الصراع كما ينتهي أي صراع كل يوم، لا يحمل أحد منهم حقداً أو كراهية. في الليل سطع ضوء قوي وسط القرية وأخذت ظلال القطاطي تتراقص في جنون، خرجت القرية في لحظة، وأخذت تنظر في حزن. اشتعلت الشجرة في حريق هائل، شلت حركتهم، كأن أجسادهم هي التي تحترق، حاول بعضهم إطفاء النار، ولكن دون جدوى لأن النيران كانت قد وصلت القمم، وأخذت تلتهم الأوراق في شراهة. كانوا يحسون بها كأنها تنتفض وتصرخ: أنقذوني.. أنقذوني، ولكن من ينقذها؟ من ينقذ الأم الحنون؟ من يستطيع تسلق شجرة من نار.. من؟ وفي قمة هذه الأسئلة تلبدت السماء، تجمعت السحب الداكنة وانفجر الرعد في غضب ثائر. أمطرت السماء في غزارة الأمطار الاستوائية المفاجئة. كانوا يقفون في أماكنهم غير مبالين بالأمطار فقط كان همهم أن تنطفئ النار.. وانطفأت.. توقفت السماء عن البكاء وكثرت الأسئلة. من أحرق الشجرة؟ وكثرت الشائعات.. أصبحت سوداء كئيبة مثل شبح يريد التهام القرية، وكثرت أسئلة عشاقها، هل ستخضرّ الشجرة مرة أخرى بعد أن فقدت أوراقها؟ وهل ستعود إليها الحياة بعدما رسم الموت آثاره عليها؟
وفي يوم كنا نجلس تحتها نتذكر الأيام الحلوة التي قضيناها قربها ونلعن الشبان الثلاثة، لا بد أن لهم يداً في الحريق. ورفعت رأسي أنظر إليها، كأني أريد إعادة الحياة لها، فتخيلت، بل لمحت هناك فرعاً صغيراً أخضر بين الفروع المتفحمة لا يكاد يرى. نهضت من مكاني كأنني أريد الطيران، كأن شيئاً لسعني، فتسلقتها دون أن أرد على أسئلة أصدقائي المقلقة، حتى وصلته. نعم إنها مخضرّة، إنها حية، الشجرة لم تمت، صرخت بهذه الكلمات دون وعي، والدموع تسيل على خدي. احتضنت الفرع كأني احتضن جزءاً مني واحتضن أصدقائي الجذع كأنهم يحتضنون أماً عادت بعد غياب.
استيلا قايتانو
* كاتبة من جنوب السودان. لها مجموعتان قصصيتان: «زهور ذابلة»، «العودة».
ي
وفي يوم كنا نجلس تحتها نتذكر الأيام الحلوة التي قضيناها قربها ونلعن الشبان الثلاثة، لا بد أن لهم يداً في الحريق. ورفعت رأسي أنظر إليها، كأني أريد إعادة الحياة لها، فتخيلت، بل لمحت هناك فرعاً صغيراً أخضر بين الفروع المتفحمة لا يكاد يرى. نهضت من مكاني كأنني أريد الطيران، كأن شيئاً لسعني، فتسلقتها دون أن أرد على أسئلة أصدقائي المقلقة، حتى وصلته. نعم إنها مخضرّة، إنها حية، الشجرة لم تمت، صرخت بهذه الكلمات دون وعي، والدموع تسيل على خدي. احتضنت الفرع كأني احتضن جزءاً مني واحتضن أصدقائي الجذع كأنهم يحتضنون أماً عادت بعد غياب.
استيلا قايتانو
* كاتبة من جنوب السودان. لها مجموعتان قصصيتان: «زهور ذابلة»، «العودة».
ي