قد كان ذلك أثناء الحرب الصليبية التي ثار لهيبها في الشام نحو قرنين طويلين؛ وكانت جنود مصر العظيمة تحاصر مدينة إنطاكية إحدى المدن التي كانت لا تزال باقية في يد المسيحيين. وكانت جيوش مصر تحارب ببسالتها المعروفة لا يعرف أحد من جنودها ما معنى الخوف بل يهوي بفرسه كالصاعقة وهو يصيح صيحة الحرب فيوقع بعدوه الفشل فيتفرق ويتبدد، ثم يشيط في رماحه وسيوفه.
وكان منظر هذه الجنود مما يروق الأعين ويبهر الأنظار، فقد كان الفرس وراكبه قطعتين من آيات الفن ومبدعات الصناعة، فالفارس في ملبسه الحربي عليه العلامة الصفراء تبرق في شعاع الشمس وفوق جسده الدروع والسلاح يحسبها الناظر إليها من عسجد مصفى وإن كانت من صافي الحديد والفولاذ؛ وكانت ملابسه من تحت تلك الغواشي لا تظهر منها إلا أطراف مزركشة بالذهب أو أذيال من صافي الحرير والقصب؛ وكان الفرس يختال تحت راكبه كأنما هو يزهى بما عليه من زينة وحلية ويفاخر بمن عليه من نجد مغوار
ودافع المحصورون في إنطاكية دفاع الأبطال، لم يتركوا الأسوار حتى لم يبق بها ركن غير مثلوم، ولم يدعوا الضرب حتى لم يبق لمجانيقهم حجر يقذفون به أو نار يلقون بها على أعدائهم. وانتصرت جنود السلطان العظيم بيبرس. ودخلت المدينة في أبهة النصر واختيال القوة. وكانوا وهم يدخلون المدينة لا ينسون أنهم يلجون أكبر معقل بقي للنصارى في الشام بعد أن كانوا قد بسطوا أيديهم على ذلك القطر كله.
كان قائد الجند شابا في مقتبل العمر اسمه سلاميش لو رآه أحد في غير لباس الحرب لظنه أحد أبناء الملوك المنعمين. وجه مشرق إشراق الزهرة اليانعة، وقوام ممشوق كأنه رمح رديني، وعينه تلمع كأنها ريا بفرند سيف دمشقي. ولكنه كان في عدة الحرب عليه اللأمة والدروع وفي يده الرمح وفي منطقته السيف، ودخل على رأس الجنود فوق جواده الكريم ناظراً إلى الأمام معبسا جاداً والجنود من ورائه لا يلتفت أحد منهم إلى يمين أو إلى اليسار، ولا يتخلف أحد منهم عن طاعة الأمر بمقدار همسة هامس أو طرفة عين. وكانوا ك نظروا إلى قائدهم الشاب زادت قامتهم استقامة، فإن هم بعضهم ببسمة وقفت البسمة على شفتيه حذر أن يطلع عليه إذا هو التفت.
وكان يوم دخول إنطاكية يوماً مشهوداً، فكان نساء المدينة وصبيانها أسرى ينتظرون حكم الفاتح فيهم؛ وكان رجالها وشبانها بين مقيد في الأصفاد، وجريح في مثاوي العلاج، وقتيل طريح على جانب الأسوار أو عرض الطريق، وبلغ القائد وجيشه ميدان المدينة الأكبر وقد احتشد فيه الأسرى والضعفاء يتطلعون جميعاً إلى من في يده الحكم في مصائرهم، وخمدت الأنفاس، وهدأت الأصوات، وأومأ القائد للجيش بالوقوف حول الميدان، فوقف الجند ينتظرون إلى أكوام الغنائم التي سيقسمها السلطان الأعظم بينهم وهي من كل نفيس ونادر من تحف الأمراء والأغنياء وقد وقف حولها جماعات من سبايا الحرب بين صبية وعذارى أو كهول وشبان ينظرون إلى قيودهم حانقين، أو يبكون ويندبون معولين.
وتقدم نحو سلاميش وفد من كبار المدينة وأمرائها حتى إذا ما صاروا منه على بضع خطوات ركعوا له ووقفوا يطلبون الإذن للكلام، فأذن لهم وهو معبس على عادته لا تفارقه تلك النظرة الجامدة التي في عينيه، وجعلوا يتكلمون بلسانهم وقد وقف رجل منهم يترجم ما يقولون. وطلبوا إليه أن يمن عليهم بالفكاك وأن يهبهم نساءهم وذراريهم تقربا إلى الله الذي نصره بعد أن وضعت الحرب أوزارها ودانت المدينة لحكم السلطان الأعظم، وقالوا له فيما قالوا (حسبك من تقتل من شباننا وكهولنا، وما تخرب من ديارنا ومعاهدنا؛ فلئن كانت بنا كبرياء لقد ذلت، ولئن كانت فينا عزة لقد هانت؛ وكفاك من الحرب النصر فلا تضم إليه دموع المساكين، ولهيب الفراق بين الأبناء والوالدين) غير أن سلاميش بقي على تعبيسه ووجومه ولم يجب إلا بإشارة لجنوده أن يعيدوا الأسرى إلى حيث كانوا وأن يستعدوا لنقل الغنائم والأسرى إلى مخازن السلطان أو إلى خيامه، فلم يكن للوفد إلا أن ينصرف والحسرة تأكل قلوبه.
ثم أمر القائد جنوده بالمسير إلى مخيمه وسار في الطليعة يتقدمه لولا أن استوقف نظره جماعة من الجند يجرون شخصا وهو يمانع ويجاهد، فتأمل الشخص فلاح له عن بعد شخص امرأة، فوقف وأمر الجنود بالوقوف، ثم أسرع إلى مكان الجند ليرى ما هناك فوقعت عينه على فتاة بين أذرع جنديين يدفعانها ويترددان في حملها. ولما اقترب منها رأى شابة نحيلة ممشوقة فارعة، بوجهها صفرة قد غطتها حمرة، وفي عينيها حلاوة قد غشيتها صرامة، وهي تنظر إلى الجنديين مرفوعة الرأس كأنها تزهى، جامدة العينين كأنها تتحدى. وقد تمز ثوبها وتلوث من آثار الوسخ والدماء، لا يكاد يستر من جسمها إلا ما يستر ظل أوراق الشجر من صفحة الجدول.
وقد انسدل على كتفيها غطاء من شعرها الفاحم وهو يلمه في ضوء الشمس الغاربة. فدخلت الرحمة قلبه برغمه، وتمهدت عبسته ولانت نظرته وأشار إلى جنوده بالكف عنها، ثم نزل إليها وأخذ بذراعها فأسلست له وسارت معه حتى اقترب من شيخ فقيه كان في صحبة الجيش وأمره أن يترفق بها حتى تذهب إلى خيمته. ثم عاد وقد أطرق قليلا حتى علا صهوة جواده. ثم ركض إلى حيث ترك جنوده واستعاد نظرته وعبسته. وألقى إليهم الأمر بالمسير وقضى سائر اليوم في شغل من أمر جيش حتى أوغل الليل وعلا البدر وحان وقت العودة فآب إلى سرادقه.
وتذكر الفتاة التي كانت أعمال اليوم قد أنسته ذكراها، فأمر غلاما أن يحضرها إليه، وجلس يستعيد صورتها ويتمثلها وهي تناضل على ضعفها وتتكبر على ذلها، ولم يتمالك أن ربت الرقة إلى قلبه، ولم يستطع قهر عبرة ترددت في عينه. وغاب الغلام قليلا ثم عاد وحيدا فنظر إليه سلاميش كأنما يستفهم عما أتى به، فقال الغلام بعد التحية (إنها لا ترد بكلمة ولا ترفع إلي بصرها)، فصرفه سلاميش وجلس هنيهة يفكر، ثم نهض متثاقلا وسار إلى خيمتها حتى إذا دخل ألفاها على الأرض وقد وضعت رأسها بين كفيها.
فدنا منها ووضع يده على رأسها وتبسم ابتسامة ضئيلة وقال: (يحزنني أنهم أساءوا إليك)
فانتفضت الفتاة كأنما لسعتها جمرة، ثم رفعت رأسها وقامت تنظر إليه والحقد مرتسم على محياها، ونار الغضب تضطرم في عينيها، وكانت الملابس الرثة التي أتت بها قد تبدلت وألبست حلة من الحرير الأسود جعلت وجهها المصفر وعليه آثار الدموع يبدو كالزنبقة المبللة بالندى، ودفعت يده التي مدها نحوها وقالت وفي صوتها بحة: (أبعد يدك عني أيها القاتل السفاك. أدر وجهك الكريه عني فأنت قاتل أبي وأخي، وأنت سافك دماء قومي، وأنت المعتدي على وطني، ابعد عني وافعل بي ما شئت من عذاب أو قتل تكمل به وحشيتك وفظاعة جندك).
وكانت هي في ثورتها هذه تقذف بنظراتها إليه كالسهام النافذة، وكان صدرها يعلو ويهبط في هياجها، وشعرها الطويل الاسحم يضطرب بعضه فوق كتفيها وبعض على صدرها أو جوانب جسمها
ودهش سلاميش من قولها ولم تفته فصاحة في لفظها ولا رخامة في صوتها، ولكنه لم يجب بكلمة، بل رفع حاجبيه وانثنى راجعا إلى خيمته يسير في بطء ويثور به شيء يشبه الحزن
وأرسل إلى الشيخ الفقيه يستحضره، وأتى إليه فجعل يسأله عن المدينة وأهلها، وعن تلك الفتاة وبيتها، فلقد كان ذلك الفقيه من أهل المدينة قبل الفتح يعيش بين أهلها ويعاشرهم ويخالطهم، فعلم منه أن تلك الفتاة بنت أكبر أغنياء إنطاكية، وأن أباها كان شديد الولع بتثقيفها، وأنها قرأت أدب العرب كما قرأت أدب الفرس، وكان لها أخ قتل في أثناء الحصار، ومات أبوها يوم الفتح، وكان يدعو قومه إلى المصالحة قبل أن تفتح المدينة عنوة، وأراد أن يحمل قومه على تدارك الأمر قبل انفراطه فاتهموه بالجبن، وصاحوا في وجهه، أنه آثر السلامة، فحملته الحفيظة مع كبر سنه على الركوب في وجه الجيش الفاتح، ومات عند أبواب المدينة تحت سنابك الجيش الظافر
وسمع سلاميش تلك القصة فأفلتت منه زفرة لم يستطع كتمانها، وبات الليلة والأحلام تتخل نومه حتى لاح الفجر، فصحا وهو مضطرب النفس قلق البال
ولكن أعمال اليوم لم تترك له متسعا للتفكير في القناة ولا في همومها، وكان كلما تذكر كلماتها له نازعته نفسه إلى القسوة عليها، ثم لا يلبث أن يلين، وتعاوده رحمته. حتى إذا انقضى اليوم وعاد في المساء إلى خيمته رأى نفسه يسير نحو مكانها، وتقرب إليها وهو يتردد ويترفق ثم وقف إلى جوارها هنيهة وقال بصوت خفيض:
(لعلك اليوم أهدأ مما كنت بالأمس)
فلم ترفع إليه بصرها، بل بقيت جالسة، ورأسها بين كفيها
والتفت إلى خوان بالقرب منها، فرأى عليه طعاما يمسس. فقال وهو يتكلف الهدوء والجفاء: (وهل تريدين أن تموتي جوعا؟)
فلم تجب على قوله، بل حاولت كتم نحيبها.
فقرب منها، وحاول أن يضع يده على رأسها ليرفعه وهو محترس متلطف، ولكنه ما كاد يلمسها حتى نفرت منه وصاحت به قائلة:
(أقول لك اتركني)
فلم يستطع أن يخالفها، فأبعد يده عنها، وتراجع، ناظرا نحوها، ثم تنفس نفسا طويلاً وخرج وفي قلبه حزن وقلق
وقضى ذلك اليوم موزع القلب كئيبا، حتى لحظ أصحابه كآبته، وعجب جنوده لجفائه ونفرته، فكان لا يأمر إلا متبرما غاضبا، ولا يسمع إلا متجهما ساهما، حتى عجب الناس من ذلك الغضب، في عقب الانتصار، ومن ذلك الضجر لمن كان مثله مكللا بالمجد والتوفيق. وما انتهى من عمله حتى أسرع إلى سرادق، ووقف هذه المرة مترددا وجلا، ودخل في رفق وخشوع إلى مكان الفتاة، فأبصرها على ما كانت عليه في الصباح، والخوان لا يزال إلى جانبها، قد تبدل طعامه، ولا يزال كاملا لم تنل منه شيئا
ونظر إليها مليا ثم قال برفق: (أما تكلمينني؟ إنني أرجوك أن تنظري إلى وتنطقي بما يجول في نفسك ولو كان قاسيا)
ثم مد يده إلى رأسها ومسح عليه متلطفا - ولكنها هذه المرة لم تثر ولم تغضب. وكأن نبرات صوته قد حملت إليها ما في فؤاده من حزن من أجلها. على أنها بقيت ساكنة، وهي جالسة في مكانة كئيبة.
فجلس إلى جوارها ساعة يحاول محادثتها وهي لا تجيب إلا بدمعة تثور بين حين وحين في عينيها فتمسحها بمنديل ثم تعود إلى وجومها وسكونها، فقال لها ولسان ينم عن مقدار عطفه وحزنه:
(إنني لا أريد إيلامك - لأنني لا أستطيع أن أراك متألمة - ولو كان ذهاب ألمك بإبعادك عني لفعلت. ألك أهل في عكا أو في مدينة أخرى من المدن فأرسلك إليهم؟ أن السلطان لن يرد لي طلبا إذا طلبت منه شيئا)
فلم تجبه حتى أعاد عليها القول راجيا مستعطفا - وكان أول ما قالته له أن هزت رأسها نحوه وقالت: (ليس لي أهل - قد قتلهم جميعا) ثم شهقت بالبكاء واسترسلت في هزة مريرة من الحزن
ولم يملك سلاميش نفسه من أن تجيش بالحزن ولكنه تمالك بعد قليل وهدأ من جأشه وقال لها:
(أنني أرحمك في حزنك ولكني لا أملك دفعه. فقد كان أهلك أعدائي وكنا معا في ميدان قتال يسعون فيه إلى قتلي كما كنت أسعى إلى قتلهم. وهل للشجعان مصير إلا الموت في ميدان الحرب؟ وهل كان أولى بأهلك أن يشهدوا مدينتهم تحطم وتسلب وهم بين هؤلاء الأسرى؟
أنهم لو كانوا بين هؤلاء الأسرى لما ترددت في افتدائهم من أجلك ولكنهم في غير حاجة إلى ولا إليك. إنني قد رأيتك وبهرني حسنك، ثم رأيت حزنك فآلمني حزنك. ثم تكشفت لي كبرياؤك فقهرت كبريائي، ولو شئت أن تبعدي إلى مكان تختارينه لما رفضت لك مشيئة - وإن أحببت المقام هنا - كنت عندي ولا أقول لي حتى تقولي ذلك أنت)
فنظرت الفتاة نحوه وقد زال من عينها ذلك البرق القاسي الذي كان يلوح منهما كلما نظرت نحوه من قبل، وأطالت نظرتها إليه ثم أغضت بعد أن طبعت في خيالها صورته
ولم يذهب سلاميش ذلك المساء إلى خيمته حتى كان قد قاسمها بعض الطعام الذي قدم إليها في ذلك اليوم ولم تنل منه قبل ذلك شيئا
وفي ذلك المساء وفد إلى سلاميش بريد السلطان يحمل إليه أمر الارتحال إلى دمشق بمن معه من الجند. ويأمره فيه بتقسيم الغنائم بين أمرائه وجنوده وبتوزيع الأسلاب من أموال وسبايا. ووهبه نصيبه من ذلك كله جزاء له على بسالته واعترافا له بما كان من نضاله
وبكر سلاميش فذهب في الفجر إلى خيمة الفتاة وهو خفيف الخطوة متهلل النفس إذ كان قد عزم على خطة أملاها عليه قلبه، فرأى الفتاة راقدة على أريكة قضت عليها الليلة لم تذق للنوم طعما؛ فلما وقع نظرها عليه جال على وجهها طيف ابتسامة واعتدلت في مكانها ونظرت إليه وهو قادم نحوها. ولما حياها تحية الصباح ردت تحيته، ثم جلس قريبا منها ولم يكن عند ذلك على عادته من اعتداده بنفسه وكبريائه، بل كان في حديثه خفيض الصوت مهتز الأنفاس.
قال لها: (قد أمرني السلطان أن أتحرك اليوم إلى دمشق بعد أن انتهى الآمر هنا)
فلم تجبه بل نظرت نحوه، كأنما تسأله عن مصير وطنها، ومن فيه من رهطها، وكأنه أحس بما في نفسها من التساؤل فقال: (وقد أراد السلطان العظيم حفظه الله أن يجعل لي حظه من هذه المدينة، فصاحت الفتاة ومدت نحوه يديها: (إذن فالمدينة في يديك) فقال لها: بل نصيب السلطان منها وسأجعل نصيب من الغنيمة من في المدينة من الأسرى تاركا للجند أموالها وتحفها)
فصاحت الفتاة ووقفت أمامه قائلة (وماذا تفعل بهم؟)
فتبسم سلاميش نحو وقال (هم لك)
فصاحت وصوتها يتهدج من الفرح (هل تفعل؟)
فقام ومد يديه نحو وقال (لقد أكرمني السلطان العظيم بنصيبه، وسيكون أقر عينا إذا علم أين ذهبت به)
فمدت يديها وأمسكت بيديه الممدودتين وقالت (ما اسمك؟) قال باسما (سلاميش) فنظرت إلى وجهه لحظة ثم تركت يديه وأطرقت إلى الأرض فقال (وإنني أود أن أعرف ما تحبين فأنفذه لك فإن دارك هنا لم يمسها أحد من الجنود. لقد عرفت دارك وعرفت أهلك من بعض أهل المدينة وأعدت كل ما أخذ منها إلى مقره، ولك أن ترجعي إلى دارك إذا شئت عزيزة في ظل السلطان العظيم).
فنظرت الفتاة نحوه وترددت قليلا ثم قالت في حياء (وأنت؟)
فقال سلاميش وهو يمانع نفسه من الاضطراب:
(سأذهب إلى دمشق كما أمر مولاي)
فسكتت الفتاة لحظة ثم مدت يديها بحرارة وقالت:
(سلاميش! وأنا كذلك إلى دمشق أسير) ثم ارتمت بين ذراعيه.
محمد فريد أبو حديد
مجلة الرسالة - العدد 196
بتاريخ: 05 - 04 - 1937
وكان منظر هذه الجنود مما يروق الأعين ويبهر الأنظار، فقد كان الفرس وراكبه قطعتين من آيات الفن ومبدعات الصناعة، فالفارس في ملبسه الحربي عليه العلامة الصفراء تبرق في شعاع الشمس وفوق جسده الدروع والسلاح يحسبها الناظر إليها من عسجد مصفى وإن كانت من صافي الحديد والفولاذ؛ وكانت ملابسه من تحت تلك الغواشي لا تظهر منها إلا أطراف مزركشة بالذهب أو أذيال من صافي الحرير والقصب؛ وكان الفرس يختال تحت راكبه كأنما هو يزهى بما عليه من زينة وحلية ويفاخر بمن عليه من نجد مغوار
ودافع المحصورون في إنطاكية دفاع الأبطال، لم يتركوا الأسوار حتى لم يبق بها ركن غير مثلوم، ولم يدعوا الضرب حتى لم يبق لمجانيقهم حجر يقذفون به أو نار يلقون بها على أعدائهم. وانتصرت جنود السلطان العظيم بيبرس. ودخلت المدينة في أبهة النصر واختيال القوة. وكانوا وهم يدخلون المدينة لا ينسون أنهم يلجون أكبر معقل بقي للنصارى في الشام بعد أن كانوا قد بسطوا أيديهم على ذلك القطر كله.
كان قائد الجند شابا في مقتبل العمر اسمه سلاميش لو رآه أحد في غير لباس الحرب لظنه أحد أبناء الملوك المنعمين. وجه مشرق إشراق الزهرة اليانعة، وقوام ممشوق كأنه رمح رديني، وعينه تلمع كأنها ريا بفرند سيف دمشقي. ولكنه كان في عدة الحرب عليه اللأمة والدروع وفي يده الرمح وفي منطقته السيف، ودخل على رأس الجنود فوق جواده الكريم ناظراً إلى الأمام معبسا جاداً والجنود من ورائه لا يلتفت أحد منهم إلى يمين أو إلى اليسار، ولا يتخلف أحد منهم عن طاعة الأمر بمقدار همسة هامس أو طرفة عين. وكانوا ك نظروا إلى قائدهم الشاب زادت قامتهم استقامة، فإن هم بعضهم ببسمة وقفت البسمة على شفتيه حذر أن يطلع عليه إذا هو التفت.
وكان يوم دخول إنطاكية يوماً مشهوداً، فكان نساء المدينة وصبيانها أسرى ينتظرون حكم الفاتح فيهم؛ وكان رجالها وشبانها بين مقيد في الأصفاد، وجريح في مثاوي العلاج، وقتيل طريح على جانب الأسوار أو عرض الطريق، وبلغ القائد وجيشه ميدان المدينة الأكبر وقد احتشد فيه الأسرى والضعفاء يتطلعون جميعاً إلى من في يده الحكم في مصائرهم، وخمدت الأنفاس، وهدأت الأصوات، وأومأ القائد للجيش بالوقوف حول الميدان، فوقف الجند ينتظرون إلى أكوام الغنائم التي سيقسمها السلطان الأعظم بينهم وهي من كل نفيس ونادر من تحف الأمراء والأغنياء وقد وقف حولها جماعات من سبايا الحرب بين صبية وعذارى أو كهول وشبان ينظرون إلى قيودهم حانقين، أو يبكون ويندبون معولين.
وتقدم نحو سلاميش وفد من كبار المدينة وأمرائها حتى إذا ما صاروا منه على بضع خطوات ركعوا له ووقفوا يطلبون الإذن للكلام، فأذن لهم وهو معبس على عادته لا تفارقه تلك النظرة الجامدة التي في عينيه، وجعلوا يتكلمون بلسانهم وقد وقف رجل منهم يترجم ما يقولون. وطلبوا إليه أن يمن عليهم بالفكاك وأن يهبهم نساءهم وذراريهم تقربا إلى الله الذي نصره بعد أن وضعت الحرب أوزارها ودانت المدينة لحكم السلطان الأعظم، وقالوا له فيما قالوا (حسبك من تقتل من شباننا وكهولنا، وما تخرب من ديارنا ومعاهدنا؛ فلئن كانت بنا كبرياء لقد ذلت، ولئن كانت فينا عزة لقد هانت؛ وكفاك من الحرب النصر فلا تضم إليه دموع المساكين، ولهيب الفراق بين الأبناء والوالدين) غير أن سلاميش بقي على تعبيسه ووجومه ولم يجب إلا بإشارة لجنوده أن يعيدوا الأسرى إلى حيث كانوا وأن يستعدوا لنقل الغنائم والأسرى إلى مخازن السلطان أو إلى خيامه، فلم يكن للوفد إلا أن ينصرف والحسرة تأكل قلوبه.
ثم أمر القائد جنوده بالمسير إلى مخيمه وسار في الطليعة يتقدمه لولا أن استوقف نظره جماعة من الجند يجرون شخصا وهو يمانع ويجاهد، فتأمل الشخص فلاح له عن بعد شخص امرأة، فوقف وأمر الجنود بالوقوف، ثم أسرع إلى مكان الجند ليرى ما هناك فوقعت عينه على فتاة بين أذرع جنديين يدفعانها ويترددان في حملها. ولما اقترب منها رأى شابة نحيلة ممشوقة فارعة، بوجهها صفرة قد غطتها حمرة، وفي عينيها حلاوة قد غشيتها صرامة، وهي تنظر إلى الجنديين مرفوعة الرأس كأنها تزهى، جامدة العينين كأنها تتحدى. وقد تمز ثوبها وتلوث من آثار الوسخ والدماء، لا يكاد يستر من جسمها إلا ما يستر ظل أوراق الشجر من صفحة الجدول.
وقد انسدل على كتفيها غطاء من شعرها الفاحم وهو يلمه في ضوء الشمس الغاربة. فدخلت الرحمة قلبه برغمه، وتمهدت عبسته ولانت نظرته وأشار إلى جنوده بالكف عنها، ثم نزل إليها وأخذ بذراعها فأسلست له وسارت معه حتى اقترب من شيخ فقيه كان في صحبة الجيش وأمره أن يترفق بها حتى تذهب إلى خيمته. ثم عاد وقد أطرق قليلا حتى علا صهوة جواده. ثم ركض إلى حيث ترك جنوده واستعاد نظرته وعبسته. وألقى إليهم الأمر بالمسير وقضى سائر اليوم في شغل من أمر جيش حتى أوغل الليل وعلا البدر وحان وقت العودة فآب إلى سرادقه.
وتذكر الفتاة التي كانت أعمال اليوم قد أنسته ذكراها، فأمر غلاما أن يحضرها إليه، وجلس يستعيد صورتها ويتمثلها وهي تناضل على ضعفها وتتكبر على ذلها، ولم يتمالك أن ربت الرقة إلى قلبه، ولم يستطع قهر عبرة ترددت في عينه. وغاب الغلام قليلا ثم عاد وحيدا فنظر إليه سلاميش كأنما يستفهم عما أتى به، فقال الغلام بعد التحية (إنها لا ترد بكلمة ولا ترفع إلي بصرها)، فصرفه سلاميش وجلس هنيهة يفكر، ثم نهض متثاقلا وسار إلى خيمتها حتى إذا دخل ألفاها على الأرض وقد وضعت رأسها بين كفيها.
فدنا منها ووضع يده على رأسها وتبسم ابتسامة ضئيلة وقال: (يحزنني أنهم أساءوا إليك)
فانتفضت الفتاة كأنما لسعتها جمرة، ثم رفعت رأسها وقامت تنظر إليه والحقد مرتسم على محياها، ونار الغضب تضطرم في عينيها، وكانت الملابس الرثة التي أتت بها قد تبدلت وألبست حلة من الحرير الأسود جعلت وجهها المصفر وعليه آثار الدموع يبدو كالزنبقة المبللة بالندى، ودفعت يده التي مدها نحوها وقالت وفي صوتها بحة: (أبعد يدك عني أيها القاتل السفاك. أدر وجهك الكريه عني فأنت قاتل أبي وأخي، وأنت سافك دماء قومي، وأنت المعتدي على وطني، ابعد عني وافعل بي ما شئت من عذاب أو قتل تكمل به وحشيتك وفظاعة جندك).
وكانت هي في ثورتها هذه تقذف بنظراتها إليه كالسهام النافذة، وكان صدرها يعلو ويهبط في هياجها، وشعرها الطويل الاسحم يضطرب بعضه فوق كتفيها وبعض على صدرها أو جوانب جسمها
ودهش سلاميش من قولها ولم تفته فصاحة في لفظها ولا رخامة في صوتها، ولكنه لم يجب بكلمة، بل رفع حاجبيه وانثنى راجعا إلى خيمته يسير في بطء ويثور به شيء يشبه الحزن
وأرسل إلى الشيخ الفقيه يستحضره، وأتى إليه فجعل يسأله عن المدينة وأهلها، وعن تلك الفتاة وبيتها، فلقد كان ذلك الفقيه من أهل المدينة قبل الفتح يعيش بين أهلها ويعاشرهم ويخالطهم، فعلم منه أن تلك الفتاة بنت أكبر أغنياء إنطاكية، وأن أباها كان شديد الولع بتثقيفها، وأنها قرأت أدب العرب كما قرأت أدب الفرس، وكان لها أخ قتل في أثناء الحصار، ومات أبوها يوم الفتح، وكان يدعو قومه إلى المصالحة قبل أن تفتح المدينة عنوة، وأراد أن يحمل قومه على تدارك الأمر قبل انفراطه فاتهموه بالجبن، وصاحوا في وجهه، أنه آثر السلامة، فحملته الحفيظة مع كبر سنه على الركوب في وجه الجيش الفاتح، ومات عند أبواب المدينة تحت سنابك الجيش الظافر
وسمع سلاميش تلك القصة فأفلتت منه زفرة لم يستطع كتمانها، وبات الليلة والأحلام تتخل نومه حتى لاح الفجر، فصحا وهو مضطرب النفس قلق البال
ولكن أعمال اليوم لم تترك له متسعا للتفكير في القناة ولا في همومها، وكان كلما تذكر كلماتها له نازعته نفسه إلى القسوة عليها، ثم لا يلبث أن يلين، وتعاوده رحمته. حتى إذا انقضى اليوم وعاد في المساء إلى خيمته رأى نفسه يسير نحو مكانها، وتقرب إليها وهو يتردد ويترفق ثم وقف إلى جوارها هنيهة وقال بصوت خفيض:
(لعلك اليوم أهدأ مما كنت بالأمس)
فلم ترفع إليه بصرها، بل بقيت جالسة، ورأسها بين كفيها
والتفت إلى خوان بالقرب منها، فرأى عليه طعاما يمسس. فقال وهو يتكلف الهدوء والجفاء: (وهل تريدين أن تموتي جوعا؟)
فلم تجب على قوله، بل حاولت كتم نحيبها.
فقرب منها، وحاول أن يضع يده على رأسها ليرفعه وهو محترس متلطف، ولكنه ما كاد يلمسها حتى نفرت منه وصاحت به قائلة:
(أقول لك اتركني)
فلم يستطع أن يخالفها، فأبعد يده عنها، وتراجع، ناظرا نحوها، ثم تنفس نفسا طويلاً وخرج وفي قلبه حزن وقلق
وقضى ذلك اليوم موزع القلب كئيبا، حتى لحظ أصحابه كآبته، وعجب جنوده لجفائه ونفرته، فكان لا يأمر إلا متبرما غاضبا، ولا يسمع إلا متجهما ساهما، حتى عجب الناس من ذلك الغضب، في عقب الانتصار، ومن ذلك الضجر لمن كان مثله مكللا بالمجد والتوفيق. وما انتهى من عمله حتى أسرع إلى سرادق، ووقف هذه المرة مترددا وجلا، ودخل في رفق وخشوع إلى مكان الفتاة، فأبصرها على ما كانت عليه في الصباح، والخوان لا يزال إلى جانبها، قد تبدل طعامه، ولا يزال كاملا لم تنل منه شيئا
ونظر إليها مليا ثم قال برفق: (أما تكلمينني؟ إنني أرجوك أن تنظري إلى وتنطقي بما يجول في نفسك ولو كان قاسيا)
ثم مد يده إلى رأسها ومسح عليه متلطفا - ولكنها هذه المرة لم تثر ولم تغضب. وكأن نبرات صوته قد حملت إليها ما في فؤاده من حزن من أجلها. على أنها بقيت ساكنة، وهي جالسة في مكانة كئيبة.
فجلس إلى جوارها ساعة يحاول محادثتها وهي لا تجيب إلا بدمعة تثور بين حين وحين في عينيها فتمسحها بمنديل ثم تعود إلى وجومها وسكونها، فقال لها ولسان ينم عن مقدار عطفه وحزنه:
(إنني لا أريد إيلامك - لأنني لا أستطيع أن أراك متألمة - ولو كان ذهاب ألمك بإبعادك عني لفعلت. ألك أهل في عكا أو في مدينة أخرى من المدن فأرسلك إليهم؟ أن السلطان لن يرد لي طلبا إذا طلبت منه شيئا)
فلم تجبه حتى أعاد عليها القول راجيا مستعطفا - وكان أول ما قالته له أن هزت رأسها نحوه وقالت: (ليس لي أهل - قد قتلهم جميعا) ثم شهقت بالبكاء واسترسلت في هزة مريرة من الحزن
ولم يملك سلاميش نفسه من أن تجيش بالحزن ولكنه تمالك بعد قليل وهدأ من جأشه وقال لها:
(أنني أرحمك في حزنك ولكني لا أملك دفعه. فقد كان أهلك أعدائي وكنا معا في ميدان قتال يسعون فيه إلى قتلي كما كنت أسعى إلى قتلهم. وهل للشجعان مصير إلا الموت في ميدان الحرب؟ وهل كان أولى بأهلك أن يشهدوا مدينتهم تحطم وتسلب وهم بين هؤلاء الأسرى؟
أنهم لو كانوا بين هؤلاء الأسرى لما ترددت في افتدائهم من أجلك ولكنهم في غير حاجة إلى ولا إليك. إنني قد رأيتك وبهرني حسنك، ثم رأيت حزنك فآلمني حزنك. ثم تكشفت لي كبرياؤك فقهرت كبريائي، ولو شئت أن تبعدي إلى مكان تختارينه لما رفضت لك مشيئة - وإن أحببت المقام هنا - كنت عندي ولا أقول لي حتى تقولي ذلك أنت)
فنظرت الفتاة نحوه وقد زال من عينها ذلك البرق القاسي الذي كان يلوح منهما كلما نظرت نحوه من قبل، وأطالت نظرتها إليه ثم أغضت بعد أن طبعت في خيالها صورته
ولم يذهب سلاميش ذلك المساء إلى خيمته حتى كان قد قاسمها بعض الطعام الذي قدم إليها في ذلك اليوم ولم تنل منه قبل ذلك شيئا
وفي ذلك المساء وفد إلى سلاميش بريد السلطان يحمل إليه أمر الارتحال إلى دمشق بمن معه من الجند. ويأمره فيه بتقسيم الغنائم بين أمرائه وجنوده وبتوزيع الأسلاب من أموال وسبايا. ووهبه نصيبه من ذلك كله جزاء له على بسالته واعترافا له بما كان من نضاله
وبكر سلاميش فذهب في الفجر إلى خيمة الفتاة وهو خفيف الخطوة متهلل النفس إذ كان قد عزم على خطة أملاها عليه قلبه، فرأى الفتاة راقدة على أريكة قضت عليها الليلة لم تذق للنوم طعما؛ فلما وقع نظرها عليه جال على وجهها طيف ابتسامة واعتدلت في مكانها ونظرت إليه وهو قادم نحوها. ولما حياها تحية الصباح ردت تحيته، ثم جلس قريبا منها ولم يكن عند ذلك على عادته من اعتداده بنفسه وكبريائه، بل كان في حديثه خفيض الصوت مهتز الأنفاس.
قال لها: (قد أمرني السلطان أن أتحرك اليوم إلى دمشق بعد أن انتهى الآمر هنا)
فلم تجبه بل نظرت نحوه، كأنما تسأله عن مصير وطنها، ومن فيه من رهطها، وكأنه أحس بما في نفسها من التساؤل فقال: (وقد أراد السلطان العظيم حفظه الله أن يجعل لي حظه من هذه المدينة، فصاحت الفتاة ومدت نحوه يديها: (إذن فالمدينة في يديك) فقال لها: بل نصيب السلطان منها وسأجعل نصيب من الغنيمة من في المدينة من الأسرى تاركا للجند أموالها وتحفها)
فصاحت الفتاة ووقفت أمامه قائلة (وماذا تفعل بهم؟)
فتبسم سلاميش نحو وقال (هم لك)
فصاحت وصوتها يتهدج من الفرح (هل تفعل؟)
فقام ومد يديه نحو وقال (لقد أكرمني السلطان العظيم بنصيبه، وسيكون أقر عينا إذا علم أين ذهبت به)
فمدت يديها وأمسكت بيديه الممدودتين وقالت (ما اسمك؟) قال باسما (سلاميش) فنظرت إلى وجهه لحظة ثم تركت يديه وأطرقت إلى الأرض فقال (وإنني أود أن أعرف ما تحبين فأنفذه لك فإن دارك هنا لم يمسها أحد من الجنود. لقد عرفت دارك وعرفت أهلك من بعض أهل المدينة وأعدت كل ما أخذ منها إلى مقره، ولك أن ترجعي إلى دارك إذا شئت عزيزة في ظل السلطان العظيم).
فنظرت الفتاة نحوه وترددت قليلا ثم قالت في حياء (وأنت؟)
فقال سلاميش وهو يمانع نفسه من الاضطراب:
(سأذهب إلى دمشق كما أمر مولاي)
فسكتت الفتاة لحظة ثم مدت يديها بحرارة وقالت:
(سلاميش! وأنا كذلك إلى دمشق أسير) ثم ارتمت بين ذراعيه.
محمد فريد أبو حديد
مجلة الرسالة - العدد 196
بتاريخ: 05 - 04 - 1937