أحمد بوزفور - البكـــاء


(1)
طفل لم يتعود بعدُ المشيَ، ينهنه في مهد مهجور في وسط الشارع، كنت أطل عليه من فوق السطح.
لم يرني. كنت أطل عليه و أراه.
يبكي، يحسب أن لم يره أحد، و أراه يصرخ للضوء الأصفر في ليل الشارع، للبرد و للوحدة، ينشج، يهتز يكاد يذوب، ولم يره أحد يحسب، لكني كنت أراه.
من كان يراني و أنا أحسب أن لم يرني أحد؟
هل يسمعني أحدٌ؟

****

(2)

بعد قليل ستأتي. ستلمس رأسي بيمناها وهي تسألني: كيف أنت الآن؟..أحسن؟..
كلا، لم تجئ...تخيلت فقط. بذرتا دمعتين اهتزتا تحت أرض عيني. أغمدت الدمعتين. أغمضت العينين. وفكرت في الحقول و سنابل القمح الصفراء وهي تميس تحت ضوء القمر ونسيم الليل...وضعتُ يمناي على رأسي و سألتني: كيف أنت الآن؟ أحسن؟..


****

(3)

مسحة واحدة فقط.
أن تأخذ امرأةٌ طرف ثوبها
و تمسحَ به عن وجهي هذا العرق
من عيني هذا الندى
مسحة واحدة فقط
و أصبح مسيحا


****

(4)

في الدقيقة الأولى من عام الفيل، وضعتُ يدي على قلبي، و تمتمت:" الحب وهم...الحب وهم"، فأُنسِيتُ الحب فورا، ولم يعد يملأ قلبي إلا الوهم.
وَهْمٌ ثقيل ضاغط غامض كالضباب.وَهْمٌ ثقيل خاثرٌ مالحٌ كالدمع. وَهْمٌ ثقيلٌ يضغط...يضغط...يمحوني، وينتصبُ أمام الناس مكاني...أُصْبِحُ وَهْما.


****

(5)

كانت في المطبخ تحضر العشاء وهي تتفرج على مسلسل في التلفزيون، بجانبها كان صندوق القمامة يكاد يمتلئ من أوراق الكلينيكس التي كانت تمسح بها دموعها.
لماذا كانت تبكي؟ لأنها كانت تقشر البصل؟ لأنها تذكرت أمها المتوفاة قبل شهرين؟ لتأثرها بأحداث المسلسل التلفزيوني؟ أو لأن زوجها لم يعد إلى البيت منذ أسبوع؟ ربما فقط لأنها امرأة بكاءة، مدمنة بكاء، وإذا لم تبك فالله يعلم ماذا سيحدث لها.
من فوق القصة كنتُ أنا السارد أرقبها.
ماذا أفعل لها؟ ماذا أفعلُ لها؟
جلستُ قربها، و أجهشت بالبكاء. نظرتْ إليَّ و ابتسمتْ. مسحتْ دموعي بكلينيكسها و علقت ساخرة:
ـ سُرَّادُ اليوم ! أنتم تستحقون الشفقة.


****

(6)

على المسرح، كانت الممثلة تبكي. كنا نعرف نحن المتفرجين أنها تمثل...و تمثل دور المرأة التي تمثل على زوجها دور المرأة المظلومة، تمثل أنها تمثل أنها تبكي. لكنها استرسلت في البكاء طويلا. كان جسمها كله يهتز كالورقة. سقطت على الأرض، و انخرطتْ في بكاء هستيري.
الممثل أمامها وقف مدهوشا، ولم يعرف ماذا عليه أن يفعل. كان ينظر إلى الممثلة و إلينا و إلى الكواليس...والمرأة لا تتوقف.
هل تذكرت أحزانها الخاصة و نسيتْ أنها تمثل؟ ربما كان الموقف الدرامي أكبر منها: تمثل، و تمثل أنها تمثل. ربما جرّت الدموع المصطنعة الدموعَ الحقيقية. وربما كان قلبها يتفرج على جسدها فتأثر بالدور. ربما، لكننا نحن المتفرجين، تأثرنا فعلا، وانطلقنا فجأة في عاصفة من التصفيق الحار.
هل كنا نصفق للحقيقة في الفن؟ أو للفن في الحقيقة؟


****

(7)

عينان فقط، هما كل ما في اللوحة.
عينا امرأة قطعا. من كل عين تسقط دمعة، حوض الدمعة مكتنز وعنقها دقيق، وفي داخل العينين جنينا دمعتين أخريين.
الحضور احتشدوا أمام اللوحة، وبعضهم اغرورقت عيونهم. هل البكاء مُعْدٍ؟
اتجهتُ إلى الفنانة الواقفة بجانب اللوحة وهي تبتسم في خجل وتواضع،
قلتُ لها:
ـ اللوحة للبيع؟
ـ كلا...للعرض فقط.
ـ لماذا لا تبيعينها؟
ـ أنا متعلقة بها. لا أستطيع فراقها.
تأملتُ اللوحة و الفنانة معا.
قلت لها:
ـ العينان في اللوحة..عيناك؟
ـ نعم ...وعيناك أيضا، وعينا كل إنسان.
ـ لماذا البكاء إذن؟
ـ إنه سؤال أكبر مني. لا أستطيع الإجابة عنه.
ـ نعم. وأنا لم أطرحه لتجيبي عنه. طرحته للتأمل فقط.
ـ أنا تأملت و أنا أرسم. إنه دورك الآن...فتأمل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...