تلقّى السيدُ عزيزُ دعوة من جهة عرِف ضمنًا اهتمامها بالثقافة ، كانت الأردنُ نقطةَ وصول أو عبور، لم يكن متأكّدًا من تفاصيل سفره ، لكنه تجاوز سؤالًا صعبًا كـ :كيف قبِل مثلَ هذه الدعوة؟
في البدء، اعتبر الرحلةَ تنفيسًا عن مخنوق لم يخرج من تحت قبّة الوطن منذ فترة طويلة ، ترَكَ (أبو الكرامة) وهذا لقبه- لفكرةِ التغيير أنْ تأخذَه إلى الكرنفالات والأضواء واللقاءات العروبية الشرقّ أوسطية.
وجد نفسه في صباح اليوم التالي وجهًا لوجه مع القدس - التاريخ :
أزقّة عامرة بالسابلة ، وأرصفة سكّتها الأقدام عبر العصور، طرقٌ يعبُرُهاصباح مساء طهرُ الراسخين ودنسُ الغزاة ، هنا يتداخلُ صوت الأذان مع قرْع الأجراس. تحضُر كلماتُ الأصدقاء عبر تويتر وفيس بوك ،صوتُ إيليان عبر إذاعة تبث من الوطن المحتل ،قصصُ حسين المناصرة ، وجهُ زميلُ الجامعة محمود ذو الذقن الثوري ، البرغوثي يعلنها شِعرًا : "من في القدس إلاّ أنت "! وزهرة المدائن تنثر الحنين شذى مبذورا في الساحات والممرات ، ابن العذراء يوزّع آلامه بين الناصرة و بيت لحم.. أغاني الراحلة ريم بنّا لا تزال تنشد ( تجلّيات الوجْد والثورة ) في سرادق العزاء في أربعينها.
مشغولًا بتوزيع نظراته بين الوفد القادم معه من دول الجامعة ،وبين ما يجري من صور تسيل أمام ناظره وخاطره، مشاهدُ لا قِبل له بصدّها :
أسواق تفيض بالتاريخ ، مؤابيون يصدّون الغزاة ، وعلى حجَر ينقشون البطولة تخليدًا لمِيشَع، وجوهٌ كنعانية تفيض صمتًا ، جبّارون يتجوّل بينهم شمشون بشَعْره المضفور، فيما دليلة ترشد الأعداء إلى نقطة ضعفه ،دماء تجري تحت سنابك خيل ريتشارد قلب الأسد ، صلاح الدين يشنّ حربَه المظفّرة ، مؤابيون ومماليك يعبرون الكتب ،يضعون رحالهم على أرْباض يهودا والسامرة.
أنبياء وقتلة، برنامجٌ متلفز عن عكّا ، ساحلُها الذي يفيض بالناس يصطادون السعادة غطسًا ،يقفزون في البحر من الصباح حتى الأصيل ثم ينامون متوسدين التاريخ الراقد تحت قلاعها ! تحضرُ أمام عينيه يافا- الجميلةُ مزهرةً بالبرتقال ،و ينحدر إلى أريحا : أقدمِ مدينة في العالم، ويمرّ على دكاكين وعمارات نابلس التي تقيم الاقتصاد، وتهمس في أذن عرب النقب سرّ الصمود، الرومان يجرّون عرباتهم، يقيمون الجسور والقلاع، بسيقانهم العارية يؤسسون إدارة مترامية الشعوب، إذاعاتٌ عربية تهجّر سكان القرى المنكوبة بعد مجازر (الهاقانا)، مدن تصمد قليلًا ثم تسلّم كرامتها بانتظار جيوشٍ صدئة، هاربون على أمل أن يعودوا بعد يومين. لكنها الخيام في الوطن، الخيام في المنافي؛ المخيمات بين أن تكون وطنًا مؤقتًا أو بديلا !
يشعر بغرابة لا تفسير لها غير أنه ما خطّط لشيء من هذا ! رحلة من عالم المستحيل ،لا يملك إلا أن يواصل السير مع الوفد الكبير حينَا ، وحينًا تأخذه خطواته نحو تاريخ منفلت لا يمكن التحكّم به ، ( بلفور وترامب) بينهما مئةُ عام: وعدٌ بقرار وقرارٌ بوعد لأجل حفنة أكاذيب، حضورٌ ممتد من صفحات البداية والنهاية حتى قناة الجزيرة ونُذُر الاحتفال بـ 70 عامًا، عاش منها 50 حولًا يتذكّرما استطاع، ويرفض ما أمكنه رفضه، ثم يجلس العربيُّ مستسلمًا أمام الشاشات تحت قصف يعزف، وحسراتٍ تجمّدت على أبواب 48 مدينة و67 قرية ينتظر أن يجفّ حبرُ93 اتفاقية و وينجحَ2000 اجتماع !
يسير في الممرات، يحاذي باب المغاربة ، يمسح الدموعَ عن دربِ الآلام .. حائط تهتزّ خلفه اللحى والضفائر القادمة من تلمود الغواية!
وهو يسير إلى البلدة القديمة مرورًا بالوقف العُمَري ..اختلطت خطواتُه بسيّاح العالم حاملين كذبة السلام ، وتمتمات قادمة من تيهٍ سيناوي لا حل له إلا بتشريد شعب آخر لتكتبَ تغربيةٌ جديدة . شعر بقدميه تلامسان برفق ذكريات وتضحيات المرابطين دفاعًا عن القدس لتبقى مفتوحة للأديان .
اقتربت وسائلُ إعلام تريد منه تصريحًا.. سرتْ في خياله عدّةُ كلمات عبرية درسها على يد أستاذه الدكتور حسن ظاظا زميل شامير في الجامعة العبرية في الخمسينيات .. اكتفى بالتحايا من يد أحسَّ بآلامها في تلك اللحظة، يده التي كانت تتحرك ثقيلة، وكأنها تهشّ، بل تحاول منع ما يستجدّ في اللحظة الغريبة .. تذكّر الفتاوي التي تجيز السلام والتي تحرّمه مع أدعياء بني يعقوب ، وتلك المواقف التي تقدم تبريراتٍ أفضتْ إلى أوسلو- الكارثة ، بانتظار أية صفقة تجود بها مفاوضات لم تتمّ.
تنحنح، أراد أن يتكلم، خانته حبالُ الصوت واندحرت الكلماتُ لتعلوَ دموعُ أمهاتٍ طالما ودعّت الشهداء العاشقين لموتٍ ينتظرهم على المعابر، نعوشٌ مرّت على البال فأخرستْ ما تبقى من كلمات..
حوْقلاتُ الكبار تتناءى واهنةً؛ وعَرَق يتصبّب من جباه صامدة على الحواجز ممزوجًا بحرقةِ طفولةٍ ممتهنةٍ ولقمةِ عيشٍ وراءَ الخطّ الأخضر.
نظر إلى أعضاء الوفود المرافقة له ، فرأى الصور التذكارية تلقتطُها كاميرات من طراز كامب ديفيد. القناة العاشرة عجزتْ عن إجراء حوار معه ، حتى بعد أنْ طمأنتْه المراسلةُ الحسناءُ أنّها تتحدّث العربية بطلاقة..
توقّف عن الكلام بأية لغة، فقط راح يردّد :
" لم يكن في يدي حَرْبة
أو سلاح قديم
لم يكن غيرُ غيظي الذي يتشكّى الظمأ"
تراءت لهم إشارته أنه أبكم ،ولم يكنْ ليقبلَ أن تأخذَه الحسناء والفخّ في دين عوفاديا ، كان مألومًا من جسمه الذي نام بجوار التلفاز، ومن أطرافٍ انقبضتْ في سَبَحاتِ نومه المسافِر به، وما هي غيرُ ساعات الرحلة التي قطعها ألمُ النهوض، وتقلّبَ وجهُهُ على الوسادة ليكتشف أنّ يده كادت أنْ تذهب بعيدًا ..
صحا فجأة ُ فوجد صوت التلفاز قد خفّضه أحدُ أبنائه والشريطُ الخبريُّ يحزُّ آخر الضحايا!
شَعر بألمٍ في يده، تلك التي تنخرها آلامُ أعصابٍ لا حدَّ لها ، حرّك الكفّ اليمين، ضغط على الأصابع ليجد ملمس الجِلد غريبا، تأكد أنه استفاق تمامًا ، وبدأ عملية مساجٍ للكفّ التي امتدت لتصافح فأصابها تشنّجٌ أبقاها ثابتة.
14/5/2018م
في البدء، اعتبر الرحلةَ تنفيسًا عن مخنوق لم يخرج من تحت قبّة الوطن منذ فترة طويلة ، ترَكَ (أبو الكرامة) وهذا لقبه- لفكرةِ التغيير أنْ تأخذَه إلى الكرنفالات والأضواء واللقاءات العروبية الشرقّ أوسطية.
وجد نفسه في صباح اليوم التالي وجهًا لوجه مع القدس - التاريخ :
أزقّة عامرة بالسابلة ، وأرصفة سكّتها الأقدام عبر العصور، طرقٌ يعبُرُهاصباح مساء طهرُ الراسخين ودنسُ الغزاة ، هنا يتداخلُ صوت الأذان مع قرْع الأجراس. تحضُر كلماتُ الأصدقاء عبر تويتر وفيس بوك ،صوتُ إيليان عبر إذاعة تبث من الوطن المحتل ،قصصُ حسين المناصرة ، وجهُ زميلُ الجامعة محمود ذو الذقن الثوري ، البرغوثي يعلنها شِعرًا : "من في القدس إلاّ أنت "! وزهرة المدائن تنثر الحنين شذى مبذورا في الساحات والممرات ، ابن العذراء يوزّع آلامه بين الناصرة و بيت لحم.. أغاني الراحلة ريم بنّا لا تزال تنشد ( تجلّيات الوجْد والثورة ) في سرادق العزاء في أربعينها.
مشغولًا بتوزيع نظراته بين الوفد القادم معه من دول الجامعة ،وبين ما يجري من صور تسيل أمام ناظره وخاطره، مشاهدُ لا قِبل له بصدّها :
أسواق تفيض بالتاريخ ، مؤابيون يصدّون الغزاة ، وعلى حجَر ينقشون البطولة تخليدًا لمِيشَع، وجوهٌ كنعانية تفيض صمتًا ، جبّارون يتجوّل بينهم شمشون بشَعْره المضفور، فيما دليلة ترشد الأعداء إلى نقطة ضعفه ،دماء تجري تحت سنابك خيل ريتشارد قلب الأسد ، صلاح الدين يشنّ حربَه المظفّرة ، مؤابيون ومماليك يعبرون الكتب ،يضعون رحالهم على أرْباض يهودا والسامرة.
أنبياء وقتلة، برنامجٌ متلفز عن عكّا ، ساحلُها الذي يفيض بالناس يصطادون السعادة غطسًا ،يقفزون في البحر من الصباح حتى الأصيل ثم ينامون متوسدين التاريخ الراقد تحت قلاعها ! تحضرُ أمام عينيه يافا- الجميلةُ مزهرةً بالبرتقال ،و ينحدر إلى أريحا : أقدمِ مدينة في العالم، ويمرّ على دكاكين وعمارات نابلس التي تقيم الاقتصاد، وتهمس في أذن عرب النقب سرّ الصمود، الرومان يجرّون عرباتهم، يقيمون الجسور والقلاع، بسيقانهم العارية يؤسسون إدارة مترامية الشعوب، إذاعاتٌ عربية تهجّر سكان القرى المنكوبة بعد مجازر (الهاقانا)، مدن تصمد قليلًا ثم تسلّم كرامتها بانتظار جيوشٍ صدئة، هاربون على أمل أن يعودوا بعد يومين. لكنها الخيام في الوطن، الخيام في المنافي؛ المخيمات بين أن تكون وطنًا مؤقتًا أو بديلا !
يشعر بغرابة لا تفسير لها غير أنه ما خطّط لشيء من هذا ! رحلة من عالم المستحيل ،لا يملك إلا أن يواصل السير مع الوفد الكبير حينَا ، وحينًا تأخذه خطواته نحو تاريخ منفلت لا يمكن التحكّم به ، ( بلفور وترامب) بينهما مئةُ عام: وعدٌ بقرار وقرارٌ بوعد لأجل حفنة أكاذيب، حضورٌ ممتد من صفحات البداية والنهاية حتى قناة الجزيرة ونُذُر الاحتفال بـ 70 عامًا، عاش منها 50 حولًا يتذكّرما استطاع، ويرفض ما أمكنه رفضه، ثم يجلس العربيُّ مستسلمًا أمام الشاشات تحت قصف يعزف، وحسراتٍ تجمّدت على أبواب 48 مدينة و67 قرية ينتظر أن يجفّ حبرُ93 اتفاقية و وينجحَ2000 اجتماع !
يسير في الممرات، يحاذي باب المغاربة ، يمسح الدموعَ عن دربِ الآلام .. حائط تهتزّ خلفه اللحى والضفائر القادمة من تلمود الغواية!
وهو يسير إلى البلدة القديمة مرورًا بالوقف العُمَري ..اختلطت خطواتُه بسيّاح العالم حاملين كذبة السلام ، وتمتمات قادمة من تيهٍ سيناوي لا حل له إلا بتشريد شعب آخر لتكتبَ تغربيةٌ جديدة . شعر بقدميه تلامسان برفق ذكريات وتضحيات المرابطين دفاعًا عن القدس لتبقى مفتوحة للأديان .
اقتربت وسائلُ إعلام تريد منه تصريحًا.. سرتْ في خياله عدّةُ كلمات عبرية درسها على يد أستاذه الدكتور حسن ظاظا زميل شامير في الجامعة العبرية في الخمسينيات .. اكتفى بالتحايا من يد أحسَّ بآلامها في تلك اللحظة، يده التي كانت تتحرك ثقيلة، وكأنها تهشّ، بل تحاول منع ما يستجدّ في اللحظة الغريبة .. تذكّر الفتاوي التي تجيز السلام والتي تحرّمه مع أدعياء بني يعقوب ، وتلك المواقف التي تقدم تبريراتٍ أفضتْ إلى أوسلو- الكارثة ، بانتظار أية صفقة تجود بها مفاوضات لم تتمّ.
تنحنح، أراد أن يتكلم، خانته حبالُ الصوت واندحرت الكلماتُ لتعلوَ دموعُ أمهاتٍ طالما ودعّت الشهداء العاشقين لموتٍ ينتظرهم على المعابر، نعوشٌ مرّت على البال فأخرستْ ما تبقى من كلمات..
حوْقلاتُ الكبار تتناءى واهنةً؛ وعَرَق يتصبّب من جباه صامدة على الحواجز ممزوجًا بحرقةِ طفولةٍ ممتهنةٍ ولقمةِ عيشٍ وراءَ الخطّ الأخضر.
نظر إلى أعضاء الوفود المرافقة له ، فرأى الصور التذكارية تلقتطُها كاميرات من طراز كامب ديفيد. القناة العاشرة عجزتْ عن إجراء حوار معه ، حتى بعد أنْ طمأنتْه المراسلةُ الحسناءُ أنّها تتحدّث العربية بطلاقة..
توقّف عن الكلام بأية لغة، فقط راح يردّد :
" لم يكن في يدي حَرْبة
أو سلاح قديم
لم يكن غيرُ غيظي الذي يتشكّى الظمأ"
تراءت لهم إشارته أنه أبكم ،ولم يكنْ ليقبلَ أن تأخذَه الحسناء والفخّ في دين عوفاديا ، كان مألومًا من جسمه الذي نام بجوار التلفاز، ومن أطرافٍ انقبضتْ في سَبَحاتِ نومه المسافِر به، وما هي غيرُ ساعات الرحلة التي قطعها ألمُ النهوض، وتقلّبَ وجهُهُ على الوسادة ليكتشف أنّ يده كادت أنْ تذهب بعيدًا ..
صحا فجأة ُ فوجد صوت التلفاز قد خفّضه أحدُ أبنائه والشريطُ الخبريُّ يحزُّ آخر الضحايا!
شَعر بألمٍ في يده، تلك التي تنخرها آلامُ أعصابٍ لا حدَّ لها ، حرّك الكفّ اليمين، ضغط على الأصابع ليجد ملمس الجِلد غريبا، تأكد أنه استفاق تمامًا ، وبدأ عملية مساجٍ للكفّ التي امتدت لتصافح فأصابها تشنّجٌ أبقاها ثابتة.
14/5/2018م