مكسيم غوركي - العندليب.. ترجمة: معين رومية

كانت الباخرة ذات عجلات التجذيف تتقدم في طريقها ما بين كازان وكوزلوفكا.

كان الجو طلقًا هادئًا فوق نهر الفولغا، والمساء بدأ يحلّ. الضباب الليلكي شرع يحجب الضفة الشجرية الشديدة الانحدار للنهر، بينما الضفة الأخرى السهلية المخضرة تمددت بفعل الفيضان وابتعدت قليلاً في الأفق. جزر متناثرة خضراء من شجيرات مغمورة برزت فوق صفحة المياه. ضجيجُ عجلاتِ التجذيف بدا باهتًا في الهواء الكثيف الرطب المثقل بالأريج الفواح للنباتات. شريط عريض من رغوة المياه امتد خلف الباخرة، والمويجات تتدحرج باتجاه الضفتين. كان الغروب يتلاشى أمام الباخرة، فيما الليل يتلاحق خلفها. هنا وهناك، في السماء المظلمة، توهجت النجوم ببطء.

على ظهر الباخرة، خفتت أصوات مجموعة من مسافري الدرجة الأولى تحت تأثير المساء الكئيب الذي خيَّم على النهر. كانوا أربعة مسافرين انتصبوا هناك: رجل عجوز طويل مَحْنيُّ الظهر، يلبس قبعة عريضة ناعمة غطت حوافها كامل وجهه ولحيته، إلى جانبه جلست سيدة شابة، يلفها بإحكام شالٌ رمادي وعيناها الزرقاوان ترنوان على نحو حالم إلى الضفة الحراجية المنحدرة. على ذات المقعد، وليس بعيدًا عنهما، جلس اثنان آخران، رجل ذو نظرة جافة يرتدي معطفًا رماديًا، وسيدة ممتلئة الجسم حسنة الشكل ذات قسمات منتظمة وعينين سوداوين ضخمتين. الرجل بجانبها، الذي كان يُمسِّد بعصبية لحيته الفرنسية الأنيقة، انحنى إلى الأمام قليلاً وبدا كما لو أنه يرتجف. السيدة، وفي المقابل، استندت إلى خلفية المقعد جالسة كتمثال جامد. الرجل العجوز، قابضًا بيديه على عكازه ومسندًا ذقنه عليهما، انحنى إلى الأمام محدقًا بثبات في أرضية السطح.

كانوا جميعًا صامتين. والباخرة تهتز بحركتها السريعة إلى الأمام. من مكان في الأسفل، كان بالإمكان سماع قعقعة صحون ووقع أقدام ورنين ضحكات. ومن مؤخر السفينة أغنية خافتة تشبه التنهيد، كانت تغرق بين الحين والآخر في الضجيج الذي امتزج في موجة رتيبة لأصوات حادة غير مكتملة.

"عليلٌ قليلاً، أليس كذلك؟... ألا ينبغي التوجه إلى حجراتنا؟" اقترح الرجل العجوز رافعًا رأسه.

في هذه الأثناء، وصل، منسابًا من مكان ما وبطريقة جميلة، صوت ناعس غريب يشبه تنهيدة طالعة من صدرٍ صغير لكنه قوي ومشبوب العاطفة.

رفع المسافرون رؤوسهم.

"عندليب!" صرخ الرجل العجوز مبتسمًا.

"الوقت مبكر قليلاً، أليس كذلك؟"

"دعنا نمكث ونصغي يا أبي..." اقترحت السيدة الشابة. "كما تشائين، قد تمكثين هنا ولا أحد يعترض أيضًا"، أجاب، ثم تابع: "ولكني سأذهب. ففي النهاية، العندليب بالنسبة لي... " ومن دون أن يكمل جملته، جلس مرّة ثانية.

عبر الهواء تهادت الإيقاعات الجذلى والنغمات المرتعشة الممتعة لأغنية العندليب. تلاحقت الأغاريد مندفعة مسرعة، واحدة بعد الأخرى، بدا وكأن المغرِّد خائف ألا يتسع الوقت ليصدح بكل ما يريده في أغنيته. مقاطع متلاحقة قَلِقَه قطعتها فجأةً أصوات تنهدات مبحوحة بدت وكأنها تصدر من أعماق قلب ملوّع مشتاق. مرّة أخرى، انتثرت المعزوفة المحمومة عبر الهواء، تلاشت فجأةً وحل محلها لحن خفيض المقام قاطعه بدوره صوتُ فرقعة خفيفة كما لو أن المغني يتلمظ بشفتيه أثناء الغناء.

كل شيء على الباخرة جنح للسكون. كل الضجيج، ما عدا الصوت الرتيب لعجلات التجذيف، قد غاب في مكان ما

تدفق الغناء وخيّم على النهر والمسافرين الذين أصغوا إليه بصمت. ابتسمت السيدة الشابة على نحو حالم، ووجه السيدة المتزوجة فَقَدَ بعضًا من جديته وصرامته. وتنهد الرجل العجوز وقال:

"ها قد شهدناها، الحكمة الهزلية الغريبة للطبيعة! طائر صغير عديم النفع وُهِب نبرة صوت ثرية… لكنّ البقرة، على الرغم من أنها حيوان نافع، تَقْدر فقط أن تطلق خوارًا مُنَفِّرًا غير ممتع. كلاهما في حياتنا وفي الطبيعة، الناس يجدون الفجاجة والإزعاج مفيدًا، بينما ما هو جميل وممتع ... يلامس الروح... يجدونه عديم النفع".

"لا تتكلم يا أبي... أنا لا أستطيع سماعه!" هتفت الفتاة بصوت لاذع.

ابتسم الأب متشككًا ودمدم مرّة ثانية: "ولكنْ عليك أن توافقينني الرأي بأن الأبقار لو غنَّت كالعنادل فلن يكون ذلك أمرًا سيئًا، إيه؟"

"توقف يا أبي!" توسلت الفتاة.

"حسنًا... حسنًا... سأصمت! ولكنه أوقفَ أيضًا... تلك الملحمة الغنائية للحب... هل سمعتم ما يكفي؟ حسنًا، هل لنا أن ننزل إلى حجراتنا؟"

"دعنا نمكث قليلاً...." قالت السيدة المتزوجة بصوت خفيض هادئ.

كان العندليب مازال يصدح. لكن غناءه أخذ يضعف ويزول … الغروب تلاشى تمامًا. مياه نهر الفولغا مالت إلى الدكنة، والقمر بدأ يتسلق الأفق، الضفة المنحدرة ألقت ظلالا قاتمة على المياه الساكنة. كان ثمة وميضُ نار مشتعلة في إحدى حفر المنحدر، والشريط القرمزي للنار المنعكسة تلألأ وارتعش على صفحة المياه. كان الجو هادئًا رائعًا.

فجأة، انقطع غناء العندليب.

ظهر بحّار على سطح الباخرة.

للوهلة الأولى، استدار وراوغ قليلاً في المكان، بعدها، نزع قلنسوته الجلدية ونظر إلى المسافرين ثم اقترب منهم بتصميم.

"لعلَّكم لا ترغبون في سماع العندليب، أليس كذلك؟" سأل وهو مرتبك لسبب ما.

"ماذا؟" سأل الرجل العجوز مُغضَبًا وبلهجة ساخرة.

"العندليب، إذا رغبتم؟ … معنا صبي هنا… يصفر كالعندليب … إنه معجزة!" شرح البحار لهم ذلك وهو يتجنب النظرة المتفحصة الثاقبة للرجل العجوز.

"أحضِرْهُ حالاً" قالت السيدة المتزوجة باقتضاب. الرجل الذي بجانبها بدأ يتململ بعصبية على المقعد.

"هل هذا ضروري يا نينا؟" احتج مقطبًا عابسًا.

حدقت السيدة الشابة في البحار بعينين مشدوهتين.

"هل تريدون أن أحضره لكم؟" سأل البحار مرّة ثانية.

"نعم، بالطبع، لقد طلبت منك ذلك" قالت السيدة غاضبة محتدة.

"سيأتي من تلقاء نفسه!" أوضح البحار ثم اختفى.

"الشيطان وحده يعلم ما هذا!" صرخ الرجل العجوز رافعًا حاجبيه. "صبي يصفر كالعندليب... لقد سمعناه للتو واعتقدنا أنه عندليب حقيقي، أصغينا له، وواحدٌ منا بدأ يتفلسف... أي كائن بريّ هذا!". ثم هز رأسه متذمرًا شاعرًا بالتوجس والارتباك من هذا الكائن البري.

صبي في حوالي الرابعة عشر من عمره ظهر على سطح الباخرة.

كان يرتدي سترة وسروالاً ضيقًا، وعلى رأسه قلنسوة مائلة إلى الجانب قليلاً. وجهه المنمش ومشيته وأصابعه القصيرة الثخينة، ولون شعره الأصفر الحائل، دلّت على أنه قروي. اقترب من المجموعة ونزع قبعته وحنى رأسه تاركًا إياه حاسرًا، ثم بدأ يتململ بصمت مع القلنسوة كمن يحاول أن يسويها. المسافرون بدورهم بدؤوا يتفحصونه بصمت. كان ثمة نظرة حائرة في عيني السيدة الشابة. جالَتْ عينا الصبي الرماديتان على الوجوه بجرأة. "هل تريدون أن أُصَفِّر؟" سألهم.

"هل أنت من كان يصفر كالعندليب؟" سأله الرجل العجوز.

"نعم، أنا. لقد طلب النادل مني أن... "

"هل هذا كل ما تفعله... أن تصفر؟"

"تمامًا... أنا أركب الباخرة وأسافر بعيدًا عن كازان... ثم أرجع في رحلة العودة..."

"أنا لا أريد سماع ذلك" قالت السيدة الشابة بصوت منخفض.

نظر الصبي إليها مرتبكًا.

"من علّمك هذا؟" قالت السيدة المتزوجة بصوت رنان.

"ولِمَ ؟ لقد فعلت ذلك بنفسي... كنت راعيًا... إنني من الجوار"، قال ذلك مشيرًا بيده على نحو مبهم باتجاه ضفة النهر، "من إحدى القرى... كنت أرعى القطعان وأصغي طيلة اليوم إلى كل أنواع الطيور... ثم بدأت أصفر لها بنفسي... حسنًا، وتعلمت شيئًا فشيئًا... بإمكاني تقليد الحسون... أبو الحناء أيضًا... لكن ليس كمقدرتي في تقليد العندليب، لقد أصبحت بارعًا جدًا في هذا، حتى أنني أخدع الصيادين... أجلس بين الأغصان وأغرّد! تمامًا كطير حقيقي بري!" أثناء الحديث، توهج وجه الصبي بتعابير الفخر والتفوق والزهو كفنان.

"عندما أصبحتُ بارعًا في ذلك،" تابع حديثه، "قال لي قوم من القرويين: واظب على ذلك يا ميشا، ولا تتوقف. واظب على الصفير... قد تثير سعادة الأرستقراطيين الذين يسافرون في الباخرة. وربما تحصل على مكانة ما. وهكذا تابعت... وبعدها، بدأت أصعد إلى هذه البواخر... هذا أمر غير سيء. لقد نجحت. عندما يعطونني الكثير من المال تجحظ عيناي. وفرة المال عند الأرستقراطيين"

توقف فجأة مدركًا أنه تكلم كثيرًا، عندها سأل بشكل خجول:"هل تريدون مني أن أصفر الآن؟"

مرّت ثوان معدودة من الصمت قبل أن تأمر السيدة المتزوجة باقتضاب: "اصفر!"

ألقى الصبي قبعته على رجليه ووضع أصابعه في فمه ثم حرّك حنجرته... لسبب ما، كان وجهه يبتسم، لكنه استغرق بعض الوقت ليبدأ. سحب أصابعه من فمه ومسح شفتيه ثم تنحنح قليلاً وبدأ يلوي قسمات وجهه بكل الطرق.

أخيرًا، انبعث الصفير المتألق الحنون مرّة أخرى. انطلق قليلاً ثم اضمحلّ وزال. بعدها، وفجأة، انتثرت في الهواء الأغرودة المرتعشة الكاملة للعندليب. ارتجفت السيدة الشابة وتنهدت بأسى... السيدة المتزوجة ابتسمت بشكل كالح راشح بالازدراء. وشريكها انحنى إلى الأمام وتململ بعصبية، حدَّق الرجل العجوز باهتمام وتركيز في وجه الصبي، الوجه الذي احمرّ وانتفخ من الإعياء، بينما العينان الواسعتان بقيتا كليلتين خاليتين من المعنى. تقطّع غناء "العندليب" مرتجفًا خانقًا، توقف هنيهة ثم جدد صداحه ونداءه... وتنهيده الحنون. كان الشبه دقيقًا على نحو لافت.

"أبي، اطلب منه… أن يتوقف". قالت السيدة الشابة بصوت منخفض. نهضت فجأة ومشت مبتعدة، كانت تبدو شاحبة والدموع في عينيها.

"كفى!" قال الرجل العجوز ملوحًا بيده.

توقّفَ "العندليب" فجأة عن الغناء، مسح شفتيه بيده والتقط قبعته ودفعها باتجاه يد الرجل العجوز. كان ثمة حفيف لأوراق من المال.

"شكري المتواضع". قال الصبي، واختفى سريعًا، نازلاً إلى مكان ما في الأسفل. تبعته السيدة بعينيها وابتسمت بسخرية. دمدم شريكها بشيء ما إلى نفسه ثم رفع ياقة معطفه. جُنّ الليل، أصبح كثيفًا حالكًا. بدت المياه سوداء تمامًا الآن. وغرقت ضفتا النهر في الظلال. لكن النجوم كانت تومض لتوها في السماء، والماء، كما من قبل، يضطرب ويزبد كعهده تحت عجلات تجذيف الباخرة.

"فنان!" هتف الرجل العجوز معدِّلاً جلسته. "ضحية أخرى للناس… هذا هو الحال– الناس يزدرون من يقدم لهم المسرّة... رافعُ الأثقال القوي في سيرك والفنان عازف الكمان. إنهم يشعرون بالغرور عندما يرون إنسانًا مستعدًا ليفعل أي شيء لينال اهتمامهم..." من الواضح، أن البقية لم يصغوا إليه، فلا أحد منهم ردّ على كلامه.

"ولكنْ، لو أن ذلك البحار لم يأتِ،" استأنف حديثه بعد توقف. "كنا بقينا على اعتقادنا بأننا سمعنا طيرًا اشتهر بموهبته في الغناء وليس غلامًا قرويًا صغيرًا ضئيل الجسم، مدَّعٍ زائف. ها... نعم! أن تعلم الحقيقة، ليس أمرًا سارًا كثيرًا... عندما يكون الوهم أكثر جمالاً!"

"دعنا نذهب" قالت السيدة وهي تنهض. ثم قام الجميع وتوجهوا إلى حجراتهم.

"من المحتمل أن لينا تبكي الآن... إنها فتاة حساسة مرهفة،" أضاف الرجل العجوز. "لكن هذا جيد... بالتدريج سوف تعتاد على مُزاح الحياة الأحمق الساخر... وستجد من الأسهل عليها التعامل مع قضايا أكثر جدية... لماذا ترتجفين يا سونيا؟ هل هي القشعريرة؟"

"كلا، لاشيء، لا تقلق". أجابت السيدة بنعومة. شريكها العصبي حدّق بها دونما اهتمام عبر عينين ساخرتين جافتين مغمضتين قليلاً. عندها، اختفى الجميع وراء باب الحجرة.

القمر الطالع ألقى على المياه الداكنة انعكاساته التي ارتعشت لامعة قليلاً على سطح الأمواج المتهادية.

نقاط مرتعشة من الضوء ظهرت على مسافة بعيدة.

شعور من الحزن خيّم على النهر الناعس.



ترجمها عن الإنكليزية: معين رومية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...