الفكرة التي هفهفتْ في خاطرك، ليلة البارحة، واستقرَّتْ في ذهنك، قبيل نومك المشقَّق بالكوابيس، صائرةٌ إلى مكانٍ مؤاتٍ، وحاذق، لدى تنفيذها، كاد هذا الصباح، المشوّش بنزعة الظهر، أن يحيلها إلى مزع. إذ كيف يتسنى لك، وقد تخطيت الثلاثين، بعدة أعوام، أن تحمل قنّينة جنٍّ فارغة، وتقف في مواجهة البائع، في البقالة التي تلي الفندق، والتي من المحتم أن تجدها، كعادتها، مكدّسة بالزبائن، الذين ستتأملك نظراتهم، بسببٍ من هيئتك النضيدة، ومن البشاشة الخاصة، التي سيوليكها البائع، ومن العبارات الإنجليزية التي تيسِّر لك التفاهم معه، كما أنها توفر له سانحة عَرْض لسانه الإنجليزي أمام زبائنه، وتلك هي، على الأرجح، مصدر بشاشته، الخاصة. عندئذٍ، ستتحور نظرات الزبائن، المنجذبة إليك، إلى انتباهٍ مُتَكَالِب، وأنت تقول له، بعبارةٍ خافتةٍ، سريعةٍ ومرتبكة، إنك ترغب في بيع..لا، بل في إعادة قنينة الجن، الفارغة هذه، إليه، حيث ستستند، حتماً، إلى كونه قد سألك، لحظة أن ابتعتها، ممتلئةً منه، عمّا إذا كانت بحوزتك قنينة جن، فارغة، لأن من شأنها، لو جلبتها، أن تخفِّض لك السعر، ولما أجبته بالنفي، قال إن بوسعك، أي من حقك، متى أرجعتَ هذه فارغةً إليه، أن تستلم، أي تستعيد، فارق السعر، الذي هو ثمنها، هكذا، فارغة، لعنة الله على ذينك البِرَّيْن(1)! وستذكِّره قبل أن تفاقم خجلك وارتباكك الدهشة، المفتعلة، الخبيثة، الواثبة من عينيه، الملوّث بياضهما بالصفرة، إنك إنما ترغب في أن يبيعك، أيضاً، وبثلاثة أرباع عائدها، ست سجائر، ثم يعطيك.. لا، بل يعيد إليك خمسين سنتيماً (2)، هي الرُّبع المتبقي، لتذهب به، بعد ذلك، إلى البار، الذي يلي البقالة، بعد مخزن بيع مواد البناء، وتطلب إلى النادلة، بعد أن تحييها بابتسامةٍ فاغِمَة، وبعد أن ترد هي الابتسامة بأفغم منها، فنجان قهوتك الصباحي الأول. ولربما جاءتك النادلة ـ وهذا هو الغالب ـ بفنجان القهوة قبل أن تطلبه، إذ هكذا درجت تفعل، منذ الصباحين الماضيين. مما ولَّد لديك انزعاجاً، طفيفاً، من أن تلك العادة ـ بغض القلب عن مُقْتَرَح الألفة والمودة الفائح منها ـ ستهددك باستحالة، أو على الأقل صعوبة تحقيق الاحتمال، الخيار، الوارد، والمرغوب، أحياناً (بالذات حين لا تمكِّنك الصدفة، شأنها البارحة، من تناول العشاء) بتغيير فنجان القهوة إلى كوب كابوتشينو أو على كوب لبن.
تفرغ من ارتداء ملابسك. تودع هندامك النضيد، من خلال المرآة المثبتة في منتصف دولاب ملابسك، نظرة أسىً كثيف. تشيح عنك المرآة، إذ فتحت المصراع المثبتة عليه، لترى، بذلك الأسى الكثيف، الممعن الآن في الحنق، إلى قنينة الجن، الفارغة، القابعة، بوقاحة، في أسفل الدولاب. لم تضعها على المنضدة أو فوق الكوميدينو، مثلما كنت تفعل سابقاً، لكي لا تأخذها عاملة النظافة. ترى، هل عليك أن تصير عامل نظافة، في هذا الفندق، حتى تتمكن من بيعها؟ لو تعود طفلاً، لعشر دقائق، فقط! كان أبوك يفضِّل الشيري على البيرة. وكنت أنت، كذلك، تفضِّل أن يتعاطى أبوك الشيري، لا البيرة، فبعائد قنينة الشيري الفارغة ـ الأعلى من عائد قنينة البيرة الفارغة ـ كان يسعك شراء أكثر من قطعة دَنْدُرْمَة (3). كنت تحب يوم الخميس، لا لأنك لن تذهب، في صبيحة الجمعة إلى المدرسة، ولا بسبب أن الخميس كان الم الوحيد المسموح لك في مسائه بالذهاب إلى السينما، بصحبة شقيقك الأكبر، ولا لكون أن مساء الخميس كان يعني أن مائدة عشائكم ستكون متنوعة ومتميزة، ليس لكل ذلك، فحسب، وإنما بسبب أن الخميس ـ وهذا هو الأهم ـ كان، غالباً، يتمتّع بالمساء الوحيد الذي يأتي فيه إلى منزلكم أصدقاء أبيك، حاملين صناديق كرتونية، ذات لون ترابي، معبأة بقناني الشيري والبيرة. كان ذلك يعني أنك، في صبيحة الجمعة، ستبتاع أشياء كثيرة: دَنْدُرْمَة، بزيانوس (4)، حلاوة حربة، حلاوة قُطن، حلاوة دِرْبِس، قُرّاصة نَبَق (5)، قصب سكر، قُنْقليس (6) بالسُّكّر، قُنقليس بالشطّة، عجّور (7) أو تِبِش بالشطّة والفول المطحون المذابين في ماء الليمون .. كان أبوك يفضِّل أن تكون مزّته تِبشاً على أن تكون عجّوراً. كان يقول إن طعم التبش أوضح من طعم العجور، وكان يحرص في موسم التبش، على إحضار كميات وافرة منه إلى البيت. وكان ينتقي لك القطع ذات اللون الأخضر المنخرط في الصّفرة. فهي، فيما يعتقد هو، وفيما أنت على قناعة بذلك أيضاً، ما إن تبلغ تلك المرحلة من النضج، حتى تتظاهر بعناصر الشمّام، كنتما، أنت وشقيك الأكبر، عندما تتأهبان، مساء الخميس، للذهاب إلى السينما وحين يكون الموسم موسم تبش، تتعمدان الخروج قبل دنو ميقات بدأ العرض بوقتٍ كافٍ، كي يُتاح لكما شراء قطع منه ـ وقد حرصتما على انتقاء ذات اللون الأخضر المنخرط في الصفرة ـ لتأكلاها بالشطة والفول المطحون المذابين في ماء الليمون.
تسُحّ غددك اللعابية لعاباً حامضاً. تتحرك صوب نافذة تطل على الشارع. تبصق. تعود إلى الدولاب الذي تركت مصراعه مفتوحاً . تنتزع القنينة من قاعه، تغلقه، متعمداً ألا تنظر في المرآة. تتجه ناحية الكومودينو. تنحني عليه. تسحب درجه الأسفل، حيث تتكوم صحف، مجلات، أكياس بلاستيكية شفافة وأخرى ورقية. تنبش جميع محتوياته إلى أن تعثر على كيس ورقي ذي لون ترابي. تدفن القنينة فيه. هكذا لن تكون لافتة لنظر المارة وزبائن البقالة، على العكس مما يثيره حملها في كيس بلاستيكي شفّاف. التفاصيل الحاذقة، لفكرة البارحة، تسير، إذن، على أكمل وجه. لم يبق إلا أن تتحرك خارجاً. تهطل عليك حيرة التردد اللزج. تغلق درج الكومودينو بركلةٍ صارخة من قدمك. تجلس على سطحه. تضع ساقك اليمني فوق اليسرى. قبل أن تصالب ذراعيك، تضع القنينة، المطمورة بالكيس الورقي، ترابي اللون، على الأرض، أمامك، وترنو إليها، بذلك الأسى الكثيف، الممعن في الحنق، الطاعن الآن في الوجوم.. لم تكن الأكياس البلاستيكية الشفافة قد سادت بعد، عندما كان أبوك، يوصي شقيقك الأكبر، حين يرسله أيام العطلات، إلى سوق الحي لشراء الخضروات واللحمة، بألا يضع الطماطم واللحمة في قعر الكيس الورقي قبل المشتريات، حيث أن ضغط المشتريات الأخرى عليهما سيجعلهما تنِزّان وتهتكان قعر الكيس أثناء السير. كان أبوك يصر على أن تحتوي مائدتكم، في وجبة الغداء، سيما، على سلطة خضروات طازجة، فقد كان، بجانب التبش، مولعاً بالجرجير (9) والبصل الأخضر والفجل. كان يقول إن التناول المنتظم للجرجير والبصل الأخضر وأوراق الفجل الخضراء، يمنع الإصابة باليرقان. مراراً ما أفصحت لصديقك (الذي ما إن تتخلص من هذه اللعينة سوف تذهب إليه) عن قلقك من ندرة الخضروات هنا. آخر مرة عثرت فيها على بامية وملوخية وجرجير، عند أحد بائعي الخضروات في هذه المدينة، كانت قبل ستة أشهر، ابتعت نصف كميتي البامية والملوخية وكل حِزَم الجرجير. سألت البائع وأنت تستلم، تستعيد، منه بقية نقودك:
ـ أليس في مدينتكم هذه عجّور؟
ـ ماذا يعني عجّور؟
ـ أو تبش؟
ولما رأيت حيرته المرتبكة، استدرت خارجاً من المحل. بعد خطوات سمعت صوته يناديك، التفت بجسدك كله، من مكانك، إليه، أبصرته يلوِّح لك بحزمة خسٍّ رافعاً عقيرته مستفسراً:
ـ تقصد هذا؟
هززت رأسك نفياً، ابتسمت ومضيت، متذكراً أنك كنت ـ ولا تزال ـ تفضل الجرجير على الخس. فقد كنت ولا تزال ـ تعتقد أن للخس مذاقاً محايداً، بينما للجرجير مذاق غزير الحضور والنفاذ.
افتقادك للقهوة والسيجارة الصباحيتين، في هذا الصباح المشوَّش بنزعة الظُّهر، يصيب رأسك بما يشبه الطنين، تحس بالجوع ينخر معدتك. لو استطعت إرجاع هذه اللعينة، فسوف تطلب إلى النادلة أن تأتيك بكوب كابوتشينو بدلاً عن فنجان القهوة، حتى لو جلبته، دون أن تطلبه، كما اعتادت أن تفعل منذ الصباحين الماضيين. مساء الخميس كانت مائدة عشائكم، غالباً، متعددة ومتنوعة: لحمة مقلية في الزيت، لحمة مشوية على الجمر، لحمة مطبوخة بالطماطم أو الصلصة والبصل، سمك مقلي في الزيت، سمك مطبوخ بالصلصة، كبدة، كوارع، فول، جبنة، بيض، طعمية، سلطة باذنجان، سلطة طماطم بالفول المطحون وزيت السمسم. كان أبوك يحب السمك المقلي في الزيت واللحمة المشوية على الجمر. كانت أمك، حسبما يؤكد ذلك أصدقاء أبيك ونساء حيِّكم، ذات مهارة لا تُضاهى فيصنع الطعام. كانت تجيد طبخ البامية والملوخية والباذنجان بأساليب ضاربة في التنوع والبراعة. عندما كنت تؤوب، بصحبة شقيقك الأكبر، مساء الخميس، من السينما، وقبل أن تلجا المنزل، من بابه الخارجي، كانت الروائح المتنوعة والبارعة للأطعمة تلوح لأنفيكما. فيتلك اللحظة، كانت تتراقص في خيالك الثروة التي ستكون من نصيبك صبيحة الجمعة: ستة عشر قنينة شيري، ثمانية وعشرين قنينة بيرة. كنت تصحو، مع أمك، مبكراً. هي تنظف وتعيد ترتيب الباحة، وأنت ترجع القناني المبعثرة، الفارغة، وشبه الفارغة، إلى صناديقها الكارتونية ذات اللون الترابي، وتلملم السدادات لتبتكر منها لُعَبَاً. كانت لقناني الشيري سدادات من الفلين وأغلفة قصديرية، ظهورها خضراء، عليها رسم جَمَلٍ ذهبي، بطونها فضية، مكسية بغشاء فليني. كنت تفرد الأغلفة القصديرية، إلى أن تصبح دائرية تماماً، لتحورها لُعباً مروحية. وكنت تحكُّ باطن السدادات المعدنية بمسمار، مزيلاً عنها الأغشية الفلينية، ثم تطرقها بقضيب حديدي، حتى تستوي دائرةً مكتملة، فتثقبها بالمسمار ثقبين في المنتصف، تدخل فيهما خيطاً، تعقد طرفيه، لتصير لك لعبة "الزنانة". في أحايين أخرى، على مواسم العطلات المدرسية في الغالب، كنت تقوم بتجميع أنواعٍ كثيرة من السدادات المعدنية، سدادات بيرة، بيبسي، بزْيانوس، ميرندا، فانتا، كوكا كولا، دَبُل كولا، شيكان كولا، حُريَّة ... وتكون أمك قد احتفظت، لك، ببكرات الخيوط الخشبية، العارية من الخيوط، وبعد أن تثقب عدداً من السدادات ثقباً واحداً في مركز الدائرة، تجيء بخيط مطاطي، تنظم السدادات المثقوبة فيه، تعقد أوله بآخره، وتأخذ السدادات، عندئذ، هيئة إطار دراجة أو سيارة معدني صغير، تثبِّت في بؤرته بكرة الخيوط الخشبية، ومن ثم تجلب سلكاً، متوسط السُّمك، طوله متر أو يزيد قليلاً، تصنع منه مِقْوداً للإطار المعدني، لتمتلك دراجة بإطار واحد.
كنت تنتظر شاري القناني جالساً في العتبة الأسمنتية لبابكم الخارجي محفوفاً بملق وحسد أترابك من أطفال الحي. كان يأتيك، من بعيد، نداؤه الغائم الكلمات. وكلما اقترب، كانت كلمات النداء تشرع في التجسّد: (قِزاز! شوَّالات! صفائح!)... إلى أن يلوح من أحد أزقة الحي، ممتطياً حماره، المتدلي من على جانبيْ بطنه خرجان من الخيش، مربوطة خارجهما صفائح معدنية، مستطيلة ومربعة، التي كانت طرقعتها، بفعل حركة الحمار، مختلطة بالقرقعة المتقطعة، الناجمة عن احتكاك القناني ببعضها، داخل الخُرجين. تملأ أذنيك، مرتفعةً، لحظةً بعد لحظة، مع تزايد اقتراب الشاري.
إذ شعرتَ بخدرٍ في ساقك اليسرى، تنزل عنها اليمنى. تفك تصالب ذراعيك. تنحني بوجهك إلى أن يستقر بين ركبتيك. تحشر عينيك في إغماضة عنيفة. يعتري أنفك مزيج روائح خفيفة، به بصيص من العُتق. يهسهس تساؤل في داخلك: تراه خليط من رائحة خشب الكمودينو ورائحة الكيس الورقي، ترابي اللون، وعطر الصابونة التي استحميت بها؟ تفتح عينيك، تمد يديك، من تحت ركبتيك، تسحب بهما الدرج الأوسط للكومدينو. تتأكد عيناك، من بين ركبتيك، من وجود قارورة العطر، التي نفد عطرها منذ أربعة أشهر، فيه. (حسناً، لم أعد أملك أي شيء). لا بد أنها ـ ما إن تمسها تلك العبارة، التي ذيّلت الكارت المُخْتَصَر، الذي بعثت به، بعد لأي إليها ـ حتى تكون، كعادتها، من الوردة والندى بمكان، بحيث ترسل إليك، ضمن ما ترسل، قارورة عطر.
كانت مستلقية بصدرها العاري على صدرك العاري، كان وجهها مُسْتَغْرِقاً في عنقك، وأصابع يديها معاً راحت تجوس، ببطء ونعومة، في شعر رأسك. وبينما كان أنفك مُنْهَمِكاً في عطرها، ندّ عنها تساؤل له نكهة التأمل:
ـ القبلة شيء عجيب..أليس كذلك؟
رددت بنفس النكهة:
ـ القُبلة فاكهة الحبّ.
أنّتْ، عضّتْ بشفتيها أسفل عنقك:
ـ والحُبُّ؟!
ـ الحبُّ سليل الأجنحة العطرة.
انتفضتُ فجأةً، قعدتْ، كالباركة، بعجيزتها، على بطنك، ضاغطة بساقيها وفخذيها المضمومين على جنبي صدرك وبطنك. وضعت راحتيها، هنيهة، على كتفيك. حدّقتْ في عينيك بعينيها اللتين غُصّتا بنضارة الانخطاف وبرغبة مُبتسمة في البكاء. رفعت يديها بإنشداد، إلى أعلى، حتى رأيتَ، بوضوح، زغب إبطيها. ضمّتْ قبضتيهما بقوة. صاحتْ متأوهةً: (يااااه!)..ثم أخذتْ تنوس، بشفتيها وأنفها، في هيجان عارم، بين جلّ أنحاء جسدك. قبّلتْ وشمّتْ، بعنفٍ، إبطيك، كتفيك، عنقك، أذنيك، أنفك، شفتيك، جبهتك، شعر رأسك، صدرك، بطنك...ومرةً أخرى، قعدت، فجأةً، كالباركة، بعجيزتها، على بطنك، صدرها يعلو وهبط، خمشتْ براحتيها رأسك. شدّت بأصابعها، بصورةٍ عصبية، شعره، وهي تردد. من بين أنفاسها الراكضة، مغمضة العينين: (من أين تأتي بمثل هذا الكلام؟! من أين تأتي بمثل هذا الكلام؟!).. ولمّا شعرتُ بحفيف صوتك يسبق الإجابة، غطّتْ براحتيها فمك، قالت:
ـ واحد آخر، أخير..على الطريقة الفرنسية؟
وهي تخاصرك، لدى وداعك، عند الباب:
ـ هاك فاكهة أخيرة، من سليل الأجنحة العطرة.
سألت شاري القناني، وأنت بيعه قنينة بيرة فارغة، محاولاً، عبثاً، الإمساك بذيل حماره، المنشغل بطرد الذباب من مؤخرته:
ـ عمي، لما لا تشترون قناني العطر؟
ـ لأنها صغيرة يا ولدي.
ـ ألا يوجد من يشتريها، غيركم؟
ـ لا يا ولدي..ولا حتى فرّاشِيْ المستشفيات.
وقنينة الجن، الكبيرة، الفارغة، البلهاء، هذه، لم لا تُشترى؟! لقد أُنشئتْ لها، خصيصاً، مصانع تقوم بإنتاجها، وأخرى بتعبئتها، وإعادة تعبئتها، ولكي تتم إعادة تعبئتها، ينبغي أن تُشترى وأن تُشرب، وبعد أن تُشترى وتُشرب، يجب إعادتها من قِبل مالكي البارات والبقالات، وحتى يتسنى، لإحدى البقالات، المجاورة للفندق، إرجاع جميع ما لديها من القناني الفارغة، للمصنع، يتعيّن عليك، أنت، الذي طالما وقع عليك عبء الشراء والشُرب، أن تتجشّم عبء إعادة هذه اللعينة إليها..وإلا فما الجدوى من أن تظل، هكذا، عاطلة عن التعبئة؟!
كنت شبه متيقن من أن الوضع الذي اتخذته، بعد أن عدلت جلستك، لن يزيل خدر ساقك اليسرى. لا شيء يبدد الخدر مثل المشي، تنهض. تتحوّم، بغير هدف، في الغرفة، متحاشياً النظر إلى المرآة وجهة الكمودينو. تتوقف قرب النافذة المطلّة على الشارع. تتأمل المارة. يؤنّبك خجل إنه لم يكن ينبغي عليك أن تبصق من هنا. تحطُّ عيناك على أطفالٍ يبتاعون بَلَساً (10). السَناتيم الكثيرة، التي كنت دائماً تحتفظ بها، لتوزعها على الأطفال، الذين يلعبون في مدخل العمارة الذي يقودك إلى حجرة صديقك، في طرف المدينة الآخر، بحجة أن الأطفال، هنا، لا يجدون قنانٍ، على كثرتها، ليبيعونها، وددت لو كان بحوزتك، الآن، القليل منها. ما من علاج لخدر الساق كما المشي.
خشيتُ أن أصيب مقْتَرَح الألفة والمودة، الفائح من سلوكها، بشيء من العرج، لهذا السبب لم أستطع، مثلما كنتُ مقرراً، أن أطلب إليها إتياني بكوب كابوتشينو، عوضاً عن فنجان القهوة، الذي جاءت به، بالفعل، وكما كنت متوقِّعاً، قبل أن أطلبه. وعلى ذلك، بعد أن وضعته أمامي، على المنضدة، جلستُ إليّ. تلك هي المرة الأولى التي تجلس إليّ فيها. كان البار، هو الآخر، خالياً من الروّاد. حدّثتني، بهذه اللغة التي لا أفهم منها، خلا أقلّ من القليل، عن أشياء عديدة. على أنني التقطت، تقريباً، رُبع كلامها. كسؤالها عن طبيعة عملي، البلد الذي قدمتُ منه وكيف وجدت مدينتهم..بلى، فما زالت معي خمس سجائر. كنتُ على يقين من أنني لن أجد سجائر قرب سريرك. إن عيبك الأساسي هو أنك تحرق كل سجائرك ليلاً وكأنه ليس ثمة من صباح قادم. الأرق؟! الأرق؟! كيف لا أعرفه؟ أهم ما يميز جمالها شعرها القصير، المقصوص على طريقة الرجال. مما يضفي على جمالها لمسة صبيانية منعِشة. سألتني، كذلك، بصيغة عتابية خضراء، عن السبب في امتناعي عن المجيء، في المساءات، للسهر في بارها. تعللت بكثرة عملي طيلة المساءات السابقة، مع وعد ناصع مني بتوخّي الحضور في المساءات القادمة. ما رأيك، لو تحصّلنا اليوم على مال، أن نهب للسهر عندها؟ وأخيراً، عرضتْ عليّ، قبيل أن تغادرني، لتلبية طلب أحد الرواد، القادم للتو، أن أدرسها العربية، على أن تعلمني لغتهم. رحّبت بعرضها، تاركاً لها مهمة تحديد الجدول الزمني لذلك خلال اليومين القادمين. كلا لم أصادفه. هل تعلم أن حصيلتي اليوم، أثناء سيري في الطريق إلي فقط، كانت ثلاثة رجال وامرأتين ذوو عيون ملوّث بياضها بالصّفرة؟ لشدّ ما يزعجني ذلك، سيّما لدى النساء! لو كانوا يعتنون بتناول سلطة الخضروات الطازجة لأمكنهم تجنّبها. لك ما تشاء. اذهب، كدتَ أن تتغوّط في سروالك. هذا ما تفعله سيجارة الصباح الأولى، غالباً.
ستقول له، بعد إيابه مباشرةً، إنك نسيت أن تسألها عن السبب في خلو بارات مدينتهم من الشيري. تحاول بعثرة ملل انتظارك بالعبث بمحتويات درج منضدة تجلس قربها. تقرر أنك، في حالة حصولك على أول مبلغ تواضع، تبتاع قارورة عطر. تأخذ من الدرج قطعة مرآة صغيرة. تتأمل فيها بياض عينيك. ستطرح عليه، أيضاً، بُعيد عودته، بأن عليكما ـ بما أنه لا يوجد جرجير في هذه المدينة ـ أن تنتظما، خلال وجبة الغداء على الأقل، في تناول الخس، بالرغم من مذاقه الناصل.
1993ـ1994، اسمرا ـ إرتريا
قاموس المصطلحات العامية
(1) البرْ: عملة ورقية إثيوبية.
(2) السَّنْتيم: عملة معدنية إثيوبية.
(3) دَنْدُرْمَة: مصطلح شعبي سوداني، كان يطلق على نوع من الآيسكريم (البوظة).
(4) بزْيانوس: نوع من المشروبات الغازية.
(5) النَّبَق: ثمر أشجار الطّنْدُب، ينتشر نموها في منطقتي السافنّا الفقيرة والغنية بالسودان. ومن عجينة النَّبَق تُصْنَع أحياناً شطيرة أو قرص (قُرّاصَة).
(6) القُنْقُليس، ثمر أشجار التبلدي الضخمة، ينتشر نموها في مناطق واسعة بغرب السودان.
(7) العَجُّور: ثمر نبات زاحف، له مكانة الخيار في طبق السلطة السوداني، لكنه أكبر حج وأكثر طولاً من الخيار.
(8) التَّبش: ثمر نبات زاحف، شكله من الخارج كالبطيخ، بحجمٍ اصغر.
(9) الجرْجير، أوراق نبات خضراء، تنمو على هيئة حِزَم، كالخس، لكن حجمها أصغر.
(10) البَلَسْ (البلص): ثمر أشجار التين الشوكي، يكثر نموها في هضاب إرتريا وإثيوبيا
تفرغ من ارتداء ملابسك. تودع هندامك النضيد، من خلال المرآة المثبتة في منتصف دولاب ملابسك، نظرة أسىً كثيف. تشيح عنك المرآة، إذ فتحت المصراع المثبتة عليه، لترى، بذلك الأسى الكثيف، الممعن الآن في الحنق، إلى قنينة الجن، الفارغة، القابعة، بوقاحة، في أسفل الدولاب. لم تضعها على المنضدة أو فوق الكوميدينو، مثلما كنت تفعل سابقاً، لكي لا تأخذها عاملة النظافة. ترى، هل عليك أن تصير عامل نظافة، في هذا الفندق، حتى تتمكن من بيعها؟ لو تعود طفلاً، لعشر دقائق، فقط! كان أبوك يفضِّل الشيري على البيرة. وكنت أنت، كذلك، تفضِّل أن يتعاطى أبوك الشيري، لا البيرة، فبعائد قنينة الشيري الفارغة ـ الأعلى من عائد قنينة البيرة الفارغة ـ كان يسعك شراء أكثر من قطعة دَنْدُرْمَة (3). كنت تحب يوم الخميس، لا لأنك لن تذهب، في صبيحة الجمعة إلى المدرسة، ولا بسبب أن الخميس كان الم الوحيد المسموح لك في مسائه بالذهاب إلى السينما، بصحبة شقيقك الأكبر، ولا لكون أن مساء الخميس كان يعني أن مائدة عشائكم ستكون متنوعة ومتميزة، ليس لكل ذلك، فحسب، وإنما بسبب أن الخميس ـ وهذا هو الأهم ـ كان، غالباً، يتمتّع بالمساء الوحيد الذي يأتي فيه إلى منزلكم أصدقاء أبيك، حاملين صناديق كرتونية، ذات لون ترابي، معبأة بقناني الشيري والبيرة. كان ذلك يعني أنك، في صبيحة الجمعة، ستبتاع أشياء كثيرة: دَنْدُرْمَة، بزيانوس (4)، حلاوة حربة، حلاوة قُطن، حلاوة دِرْبِس، قُرّاصة نَبَق (5)، قصب سكر، قُنْقليس (6) بالسُّكّر، قُنقليس بالشطّة، عجّور (7) أو تِبِش بالشطّة والفول المطحون المذابين في ماء الليمون .. كان أبوك يفضِّل أن تكون مزّته تِبشاً على أن تكون عجّوراً. كان يقول إن طعم التبش أوضح من طعم العجور، وكان يحرص في موسم التبش، على إحضار كميات وافرة منه إلى البيت. وكان ينتقي لك القطع ذات اللون الأخضر المنخرط في الصّفرة. فهي، فيما يعتقد هو، وفيما أنت على قناعة بذلك أيضاً، ما إن تبلغ تلك المرحلة من النضج، حتى تتظاهر بعناصر الشمّام، كنتما، أنت وشقيك الأكبر، عندما تتأهبان، مساء الخميس، للذهاب إلى السينما وحين يكون الموسم موسم تبش، تتعمدان الخروج قبل دنو ميقات بدأ العرض بوقتٍ كافٍ، كي يُتاح لكما شراء قطع منه ـ وقد حرصتما على انتقاء ذات اللون الأخضر المنخرط في الصفرة ـ لتأكلاها بالشطة والفول المطحون المذابين في ماء الليمون.
تسُحّ غددك اللعابية لعاباً حامضاً. تتحرك صوب نافذة تطل على الشارع. تبصق. تعود إلى الدولاب الذي تركت مصراعه مفتوحاً . تنتزع القنينة من قاعه، تغلقه، متعمداً ألا تنظر في المرآة. تتجه ناحية الكومودينو. تنحني عليه. تسحب درجه الأسفل، حيث تتكوم صحف، مجلات، أكياس بلاستيكية شفافة وأخرى ورقية. تنبش جميع محتوياته إلى أن تعثر على كيس ورقي ذي لون ترابي. تدفن القنينة فيه. هكذا لن تكون لافتة لنظر المارة وزبائن البقالة، على العكس مما يثيره حملها في كيس بلاستيكي شفّاف. التفاصيل الحاذقة، لفكرة البارحة، تسير، إذن، على أكمل وجه. لم يبق إلا أن تتحرك خارجاً. تهطل عليك حيرة التردد اللزج. تغلق درج الكومودينو بركلةٍ صارخة من قدمك. تجلس على سطحه. تضع ساقك اليمني فوق اليسرى. قبل أن تصالب ذراعيك، تضع القنينة، المطمورة بالكيس الورقي، ترابي اللون، على الأرض، أمامك، وترنو إليها، بذلك الأسى الكثيف، الممعن في الحنق، الطاعن الآن في الوجوم.. لم تكن الأكياس البلاستيكية الشفافة قد سادت بعد، عندما كان أبوك، يوصي شقيقك الأكبر، حين يرسله أيام العطلات، إلى سوق الحي لشراء الخضروات واللحمة، بألا يضع الطماطم واللحمة في قعر الكيس الورقي قبل المشتريات، حيث أن ضغط المشتريات الأخرى عليهما سيجعلهما تنِزّان وتهتكان قعر الكيس أثناء السير. كان أبوك يصر على أن تحتوي مائدتكم، في وجبة الغداء، سيما، على سلطة خضروات طازجة، فقد كان، بجانب التبش، مولعاً بالجرجير (9) والبصل الأخضر والفجل. كان يقول إن التناول المنتظم للجرجير والبصل الأخضر وأوراق الفجل الخضراء، يمنع الإصابة باليرقان. مراراً ما أفصحت لصديقك (الذي ما إن تتخلص من هذه اللعينة سوف تذهب إليه) عن قلقك من ندرة الخضروات هنا. آخر مرة عثرت فيها على بامية وملوخية وجرجير، عند أحد بائعي الخضروات في هذه المدينة، كانت قبل ستة أشهر، ابتعت نصف كميتي البامية والملوخية وكل حِزَم الجرجير. سألت البائع وأنت تستلم، تستعيد، منه بقية نقودك:
ـ أليس في مدينتكم هذه عجّور؟
ـ ماذا يعني عجّور؟
ـ أو تبش؟
ولما رأيت حيرته المرتبكة، استدرت خارجاً من المحل. بعد خطوات سمعت صوته يناديك، التفت بجسدك كله، من مكانك، إليه، أبصرته يلوِّح لك بحزمة خسٍّ رافعاً عقيرته مستفسراً:
ـ تقصد هذا؟
هززت رأسك نفياً، ابتسمت ومضيت، متذكراً أنك كنت ـ ولا تزال ـ تفضل الجرجير على الخس. فقد كنت ولا تزال ـ تعتقد أن للخس مذاقاً محايداً، بينما للجرجير مذاق غزير الحضور والنفاذ.
افتقادك للقهوة والسيجارة الصباحيتين، في هذا الصباح المشوَّش بنزعة الظُّهر، يصيب رأسك بما يشبه الطنين، تحس بالجوع ينخر معدتك. لو استطعت إرجاع هذه اللعينة، فسوف تطلب إلى النادلة أن تأتيك بكوب كابوتشينو بدلاً عن فنجان القهوة، حتى لو جلبته، دون أن تطلبه، كما اعتادت أن تفعل منذ الصباحين الماضيين. مساء الخميس كانت مائدة عشائكم، غالباً، متعددة ومتنوعة: لحمة مقلية في الزيت، لحمة مشوية على الجمر، لحمة مطبوخة بالطماطم أو الصلصة والبصل، سمك مقلي في الزيت، سمك مطبوخ بالصلصة، كبدة، كوارع، فول، جبنة، بيض، طعمية، سلطة باذنجان، سلطة طماطم بالفول المطحون وزيت السمسم. كان أبوك يحب السمك المقلي في الزيت واللحمة المشوية على الجمر. كانت أمك، حسبما يؤكد ذلك أصدقاء أبيك ونساء حيِّكم، ذات مهارة لا تُضاهى فيصنع الطعام. كانت تجيد طبخ البامية والملوخية والباذنجان بأساليب ضاربة في التنوع والبراعة. عندما كنت تؤوب، بصحبة شقيقك الأكبر، مساء الخميس، من السينما، وقبل أن تلجا المنزل، من بابه الخارجي، كانت الروائح المتنوعة والبارعة للأطعمة تلوح لأنفيكما. فيتلك اللحظة، كانت تتراقص في خيالك الثروة التي ستكون من نصيبك صبيحة الجمعة: ستة عشر قنينة شيري، ثمانية وعشرين قنينة بيرة. كنت تصحو، مع أمك، مبكراً. هي تنظف وتعيد ترتيب الباحة، وأنت ترجع القناني المبعثرة، الفارغة، وشبه الفارغة، إلى صناديقها الكارتونية ذات اللون الترابي، وتلملم السدادات لتبتكر منها لُعَبَاً. كانت لقناني الشيري سدادات من الفلين وأغلفة قصديرية، ظهورها خضراء، عليها رسم جَمَلٍ ذهبي، بطونها فضية، مكسية بغشاء فليني. كنت تفرد الأغلفة القصديرية، إلى أن تصبح دائرية تماماً، لتحورها لُعباً مروحية. وكنت تحكُّ باطن السدادات المعدنية بمسمار، مزيلاً عنها الأغشية الفلينية، ثم تطرقها بقضيب حديدي، حتى تستوي دائرةً مكتملة، فتثقبها بالمسمار ثقبين في المنتصف، تدخل فيهما خيطاً، تعقد طرفيه، لتصير لك لعبة "الزنانة". في أحايين أخرى، على مواسم العطلات المدرسية في الغالب، كنت تقوم بتجميع أنواعٍ كثيرة من السدادات المعدنية، سدادات بيرة، بيبسي، بزْيانوس، ميرندا، فانتا، كوكا كولا، دَبُل كولا، شيكان كولا، حُريَّة ... وتكون أمك قد احتفظت، لك، ببكرات الخيوط الخشبية، العارية من الخيوط، وبعد أن تثقب عدداً من السدادات ثقباً واحداً في مركز الدائرة، تجيء بخيط مطاطي، تنظم السدادات المثقوبة فيه، تعقد أوله بآخره، وتأخذ السدادات، عندئذ، هيئة إطار دراجة أو سيارة معدني صغير، تثبِّت في بؤرته بكرة الخيوط الخشبية، ومن ثم تجلب سلكاً، متوسط السُّمك، طوله متر أو يزيد قليلاً، تصنع منه مِقْوداً للإطار المعدني، لتمتلك دراجة بإطار واحد.
كنت تنتظر شاري القناني جالساً في العتبة الأسمنتية لبابكم الخارجي محفوفاً بملق وحسد أترابك من أطفال الحي. كان يأتيك، من بعيد، نداؤه الغائم الكلمات. وكلما اقترب، كانت كلمات النداء تشرع في التجسّد: (قِزاز! شوَّالات! صفائح!)... إلى أن يلوح من أحد أزقة الحي، ممتطياً حماره، المتدلي من على جانبيْ بطنه خرجان من الخيش، مربوطة خارجهما صفائح معدنية، مستطيلة ومربعة، التي كانت طرقعتها، بفعل حركة الحمار، مختلطة بالقرقعة المتقطعة، الناجمة عن احتكاك القناني ببعضها، داخل الخُرجين. تملأ أذنيك، مرتفعةً، لحظةً بعد لحظة، مع تزايد اقتراب الشاري.
إذ شعرتَ بخدرٍ في ساقك اليسرى، تنزل عنها اليمنى. تفك تصالب ذراعيك. تنحني بوجهك إلى أن يستقر بين ركبتيك. تحشر عينيك في إغماضة عنيفة. يعتري أنفك مزيج روائح خفيفة، به بصيص من العُتق. يهسهس تساؤل في داخلك: تراه خليط من رائحة خشب الكمودينو ورائحة الكيس الورقي، ترابي اللون، وعطر الصابونة التي استحميت بها؟ تفتح عينيك، تمد يديك، من تحت ركبتيك، تسحب بهما الدرج الأوسط للكومدينو. تتأكد عيناك، من بين ركبتيك، من وجود قارورة العطر، التي نفد عطرها منذ أربعة أشهر، فيه. (حسناً، لم أعد أملك أي شيء). لا بد أنها ـ ما إن تمسها تلك العبارة، التي ذيّلت الكارت المُخْتَصَر، الذي بعثت به، بعد لأي إليها ـ حتى تكون، كعادتها، من الوردة والندى بمكان، بحيث ترسل إليك، ضمن ما ترسل، قارورة عطر.
كانت مستلقية بصدرها العاري على صدرك العاري، كان وجهها مُسْتَغْرِقاً في عنقك، وأصابع يديها معاً راحت تجوس، ببطء ونعومة، في شعر رأسك. وبينما كان أنفك مُنْهَمِكاً في عطرها، ندّ عنها تساؤل له نكهة التأمل:
ـ القبلة شيء عجيب..أليس كذلك؟
رددت بنفس النكهة:
ـ القُبلة فاكهة الحبّ.
أنّتْ، عضّتْ بشفتيها أسفل عنقك:
ـ والحُبُّ؟!
ـ الحبُّ سليل الأجنحة العطرة.
انتفضتُ فجأةً، قعدتْ، كالباركة، بعجيزتها، على بطنك، ضاغطة بساقيها وفخذيها المضمومين على جنبي صدرك وبطنك. وضعت راحتيها، هنيهة، على كتفيك. حدّقتْ في عينيك بعينيها اللتين غُصّتا بنضارة الانخطاف وبرغبة مُبتسمة في البكاء. رفعت يديها بإنشداد، إلى أعلى، حتى رأيتَ، بوضوح، زغب إبطيها. ضمّتْ قبضتيهما بقوة. صاحتْ متأوهةً: (يااااه!)..ثم أخذتْ تنوس، بشفتيها وأنفها، في هيجان عارم، بين جلّ أنحاء جسدك. قبّلتْ وشمّتْ، بعنفٍ، إبطيك، كتفيك، عنقك، أذنيك، أنفك، شفتيك، جبهتك، شعر رأسك، صدرك، بطنك...ومرةً أخرى، قعدت، فجأةً، كالباركة، بعجيزتها، على بطنك، صدرها يعلو وهبط، خمشتْ براحتيها رأسك. شدّت بأصابعها، بصورةٍ عصبية، شعره، وهي تردد. من بين أنفاسها الراكضة، مغمضة العينين: (من أين تأتي بمثل هذا الكلام؟! من أين تأتي بمثل هذا الكلام؟!).. ولمّا شعرتُ بحفيف صوتك يسبق الإجابة، غطّتْ براحتيها فمك، قالت:
ـ واحد آخر، أخير..على الطريقة الفرنسية؟
وهي تخاصرك، لدى وداعك، عند الباب:
ـ هاك فاكهة أخيرة، من سليل الأجنحة العطرة.
سألت شاري القناني، وأنت بيعه قنينة بيرة فارغة، محاولاً، عبثاً، الإمساك بذيل حماره، المنشغل بطرد الذباب من مؤخرته:
ـ عمي، لما لا تشترون قناني العطر؟
ـ لأنها صغيرة يا ولدي.
ـ ألا يوجد من يشتريها، غيركم؟
ـ لا يا ولدي..ولا حتى فرّاشِيْ المستشفيات.
وقنينة الجن، الكبيرة، الفارغة، البلهاء، هذه، لم لا تُشترى؟! لقد أُنشئتْ لها، خصيصاً، مصانع تقوم بإنتاجها، وأخرى بتعبئتها، وإعادة تعبئتها، ولكي تتم إعادة تعبئتها، ينبغي أن تُشترى وأن تُشرب، وبعد أن تُشترى وتُشرب، يجب إعادتها من قِبل مالكي البارات والبقالات، وحتى يتسنى، لإحدى البقالات، المجاورة للفندق، إرجاع جميع ما لديها من القناني الفارغة، للمصنع، يتعيّن عليك، أنت، الذي طالما وقع عليك عبء الشراء والشُرب، أن تتجشّم عبء إعادة هذه اللعينة إليها..وإلا فما الجدوى من أن تظل، هكذا، عاطلة عن التعبئة؟!
كنت شبه متيقن من أن الوضع الذي اتخذته، بعد أن عدلت جلستك، لن يزيل خدر ساقك اليسرى. لا شيء يبدد الخدر مثل المشي، تنهض. تتحوّم، بغير هدف، في الغرفة، متحاشياً النظر إلى المرآة وجهة الكمودينو. تتوقف قرب النافذة المطلّة على الشارع. تتأمل المارة. يؤنّبك خجل إنه لم يكن ينبغي عليك أن تبصق من هنا. تحطُّ عيناك على أطفالٍ يبتاعون بَلَساً (10). السَناتيم الكثيرة، التي كنت دائماً تحتفظ بها، لتوزعها على الأطفال، الذين يلعبون في مدخل العمارة الذي يقودك إلى حجرة صديقك، في طرف المدينة الآخر، بحجة أن الأطفال، هنا، لا يجدون قنانٍ، على كثرتها، ليبيعونها، وددت لو كان بحوزتك، الآن، القليل منها. ما من علاج لخدر الساق كما المشي.
خشيتُ أن أصيب مقْتَرَح الألفة والمودة، الفائح من سلوكها، بشيء من العرج، لهذا السبب لم أستطع، مثلما كنتُ مقرراً، أن أطلب إليها إتياني بكوب كابوتشينو، عوضاً عن فنجان القهوة، الذي جاءت به، بالفعل، وكما كنت متوقِّعاً، قبل أن أطلبه. وعلى ذلك، بعد أن وضعته أمامي، على المنضدة، جلستُ إليّ. تلك هي المرة الأولى التي تجلس إليّ فيها. كان البار، هو الآخر، خالياً من الروّاد. حدّثتني، بهذه اللغة التي لا أفهم منها، خلا أقلّ من القليل، عن أشياء عديدة. على أنني التقطت، تقريباً، رُبع كلامها. كسؤالها عن طبيعة عملي، البلد الذي قدمتُ منه وكيف وجدت مدينتهم..بلى، فما زالت معي خمس سجائر. كنتُ على يقين من أنني لن أجد سجائر قرب سريرك. إن عيبك الأساسي هو أنك تحرق كل سجائرك ليلاً وكأنه ليس ثمة من صباح قادم. الأرق؟! الأرق؟! كيف لا أعرفه؟ أهم ما يميز جمالها شعرها القصير، المقصوص على طريقة الرجال. مما يضفي على جمالها لمسة صبيانية منعِشة. سألتني، كذلك، بصيغة عتابية خضراء، عن السبب في امتناعي عن المجيء، في المساءات، للسهر في بارها. تعللت بكثرة عملي طيلة المساءات السابقة، مع وعد ناصع مني بتوخّي الحضور في المساءات القادمة. ما رأيك، لو تحصّلنا اليوم على مال، أن نهب للسهر عندها؟ وأخيراً، عرضتْ عليّ، قبيل أن تغادرني، لتلبية طلب أحد الرواد، القادم للتو، أن أدرسها العربية، على أن تعلمني لغتهم. رحّبت بعرضها، تاركاً لها مهمة تحديد الجدول الزمني لذلك خلال اليومين القادمين. كلا لم أصادفه. هل تعلم أن حصيلتي اليوم، أثناء سيري في الطريق إلي فقط، كانت ثلاثة رجال وامرأتين ذوو عيون ملوّث بياضها بالصّفرة؟ لشدّ ما يزعجني ذلك، سيّما لدى النساء! لو كانوا يعتنون بتناول سلطة الخضروات الطازجة لأمكنهم تجنّبها. لك ما تشاء. اذهب، كدتَ أن تتغوّط في سروالك. هذا ما تفعله سيجارة الصباح الأولى، غالباً.
ستقول له، بعد إيابه مباشرةً، إنك نسيت أن تسألها عن السبب في خلو بارات مدينتهم من الشيري. تحاول بعثرة ملل انتظارك بالعبث بمحتويات درج منضدة تجلس قربها. تقرر أنك، في حالة حصولك على أول مبلغ تواضع، تبتاع قارورة عطر. تأخذ من الدرج قطعة مرآة صغيرة. تتأمل فيها بياض عينيك. ستطرح عليه، أيضاً، بُعيد عودته، بأن عليكما ـ بما أنه لا يوجد جرجير في هذه المدينة ـ أن تنتظما، خلال وجبة الغداء على الأقل، في تناول الخس، بالرغم من مذاقه الناصل.
1993ـ1994، اسمرا ـ إرتريا
قاموس المصطلحات العامية
(1) البرْ: عملة ورقية إثيوبية.
(2) السَّنْتيم: عملة معدنية إثيوبية.
(3) دَنْدُرْمَة: مصطلح شعبي سوداني، كان يطلق على نوع من الآيسكريم (البوظة).
(4) بزْيانوس: نوع من المشروبات الغازية.
(5) النَّبَق: ثمر أشجار الطّنْدُب، ينتشر نموها في منطقتي السافنّا الفقيرة والغنية بالسودان. ومن عجينة النَّبَق تُصْنَع أحياناً شطيرة أو قرص (قُرّاصَة).
(6) القُنْقُليس، ثمر أشجار التبلدي الضخمة، ينتشر نموها في مناطق واسعة بغرب السودان.
(7) العَجُّور: ثمر نبات زاحف، له مكانة الخيار في طبق السلطة السوداني، لكنه أكبر حج وأكثر طولاً من الخيار.
(8) التَّبش: ثمر نبات زاحف، شكله من الخارج كالبطيخ، بحجمٍ اصغر.
(9) الجرْجير، أوراق نبات خضراء، تنمو على هيئة حِزَم، كالخس، لكن حجمها أصغر.
(10) البَلَسْ (البلص): ثمر أشجار التين الشوكي، يكثر نموها في هضاب إرتريا وإثيوبيا