لا بد انني كنت صغيراًجداً حئنذاك ,لست اذكر كم كان عمري تماماً ,ولكنني اذكر ان الناس حين كانوا يرونني مع جدي كانوا يربتون علي رأسي,ويقرصونني في خدي,لم يكونوا يفعلون ذلك مع جدي.العجيب انني لم اخرج أبداً مع أبي ,ولكن جدي كان يأخذني معه حيثما ذهب. إلا في الصباح حيث كنت اذهب الي المسجد لحفظ القرآن ، والمسجد والنهر والحقل ,هذه كانت اهم معالم حياتنا,أغلب أندادي كانوا يتبرمون بالمسجد وحفظ القران ولكنني كنت احب الذهاب الي المسجد ,لا بد ان السبب انني كنت سريع الحفظ ,وكان الشيخ يطلب مني دائماً ان اقف واقرأ سورة الرحمن ,كلما جاء زائر .وكان الزوار يربتون علي خدي ورأسي,تماماُ كما كانوا يفعلون حين يرونني مع جدي. نعم كنت احب المسجد وكنت ايضا احب النهر ,حالما نفرغ من قراءتنا وقت الضحي كنت ارمي لوحي الخشبي ,وأجري كالجن الي امي,والتهم إفطاري بسرعة شديدة واجري الي النهر وأغمس نفسي فيه.وحين أكل من السباحة ,كنت اجلس علي الحافة وأتأمل الشاطيء الذي ينحني في الشرق ,ويختبي وراء غابة كثيفة من شجر الطلح .كنت أحب ذلك ,كنت اسرح بخيالي واتصور قبيلة من العمالقة يعيشون وراء الغابة ...قوم طوال فحال لهم لحي بيضاء كالقطن, لم أري في حياتي بياضاً انصع ولا أجمل من بياض لحية جدي ,ولا بد ان جدي كان فارع الطول ,إذانني لم أري احدا في سائر البلد يكلم جدي إلا وهو يتطلع اليه من اسفل ,ولم أر جدي يدخل بيتاً إلا وكان ينحني إنحناءة كبيرة تذكرني بإنحناءة النهر وراء غابة الطلح.كان جدي طويلاً ونحيلاً وكنت أحبه واتخيل نفسي حين أستوي رجلاً,أزرع الأرض مثله في خطوات واسعة .وأظن جدي كان يؤثرني دون بقية أحفاده,ولست ألومه ,فاولاد اعمامي كانوا أغبياء وكنت انا طفلاً ذكياً ,هكذا قالوا لي. كنت اعرف متي يريدني جدي أن اضحك ومتي يريدني ان اسكت ,كنت اتذكر مواعيد صلاته فأحضر له"المصلاة"وأملأ له الإبريق قبل ان يطلب مني .كان يلذ له في ساعات راحته ان يستمع الي أقرأ له من القرآن بصوت منغم.وكنت اعرف من وجه جدي أنه ايضاً كان يطرب له .سألته ذات يوم عن جاره مسعود.قلت لجدي: أظنك لا تحب جارنا مسعود؟)فأجاب بعد أن حك طرف أنفه بسبابته لانه رجل خامل وانا لا أحب الرجل الخامل) قلت له وما الرجل الخامل؟) فأطرق جدي برهة ثم قال لي أنظر إلي هذا الحقل الواسع ,ألاء تراه يمتد من طرف الصحراء إلي حافة النيل مائة فدان؟ هذا النخل الكثير هل تراه؟وهذا الشجر ؟سنط وطلح وسيال.كل هذا كان حلالاً بارداً لمسعود.ورثه عن أبيه.) وإنتهزت الصمت الذي نزل علي جدي,فحولت نظري عن لحيته وادرته في الأرض الواسعة التي حددها لي بكلماته .(لست أبالي من يملك هذا النخل ولا ذلك الشجر ولا هذه الأرض السوداء المشققة .كل ما أعرفه انها مسرح احلامي ومرتع ساعات فراغي) .بدأ جدي يواصل الحديث نعم يا بني.كانت كلها قبل أربعين عاماً ملكاً لمسعود ,ثلثاها الآن لي أنا). كانت هذه حقيقة مثيرة بالنسبة لي ,فقد كنت أحسب الأرض ملكاً لجدي منذ خلق الله الارض (ولم أكن املك فداناً واحداً حين وطئت قدماي هذا البلد .وكان مسعود يملك كل هذا الخير ,ولكن الحال إنقلب الآن ,وأظنني قبل أن يتوفاني الله سأشتري الثلث الباقي أيضاً) لست ادري لماذا احسست بخوف من كلمات جدي . وشعرت بالعطف علي جارنا مسعود .ليت جدي لا يفعل! وتذكرت غناء مسعود وصوته الجميل وضحكته القوية التي تشبه صوت الماء المدلوق .جدي لم يكن يضحك أبداً .وسألت جدي لماذا باع مسعود أرضه؟(النساء) وشعرت من نطق جدي للكلمة أن النساء شيء فظيع .(مسعود يا بني رجل مزواج ,كل مرة تزوج إمرأة باع لي فداناً او فدانين ) وبسرعة حسبت في ذهني ان مسعوداً لا بد ان تزوج تسعين إمرأة ,وتذكرت زوجاته الثلاث وحاله المبهدل وحمارته العرجاء وسرجه الكسور وجلبابه الممزق الأيدي. وكدت اتخلص من الذكري التي جاشت في خاطري لولا أنني رأيت الرجل قادماً نحونا ,فنظرت الي جدي ونظر إلي .وقال مسعود سنحصد التمر اليوم , ألا تريد ان تحضر؟) وأحسست انه لايريد جدي أن يحضر بالفعل .ولكن جدي هب واقفاً ,ورأيت عينيه تلمع برهة ببرق شديد ,وشدني من يدي وذهبنا إلي حصاد تمر مسعود.وجاء احد لجدي بمقعد عليه فروة ثور ,جلس جدي وظلت انا واقفاً .كانوا خلقاً كثيراً ,كنت أعرفهم كلهم ,ولكنني لسبب ما أخذت أراقب مسعوداً .كان واقفاً بعيداً عن ذلك الحشد كان الامر لا يعنيه ,مع أن النخل الذي يحصد كان نخله هو ,وأحياناً يلفت نظره صوت سبيطة ضخمة من التمر وهي تهوي من عل . ومرة صاح بالصبي الذي أستوي فوق قمة النخلة ,وأخذ يقطع السبيط بمنجله الحاد الطويل حاذر لا تقطع قلب النخلة) . ولم ينتبه أحد لما قال ,واستمر الصبي الجالسفوق قمة النخلة يعمل منجله في العرجون بسرعة ونشاط, واخذ السبط يهوي كشيء من ينزل من السماء .ولكنني أنا أخذت افكر في قول مسعود قلب النخلة) وتصورت النخلة شئياً يحس له قلب ينبض .وتذكرت قول مسعود لي مرة حين رآني أعبث بجريد نخلة صغيرة النخل يا بني كالآدميين يفرح ويتألم ). وشعرت بحياء داخلي لم أجد له سبباً ولما نظرت مرة أخري إلي الساحة الممتدة امامي رأيت رفاقي الاطفال يووجون كالنمل تحت جذوع النخل يجمعون التمر ويأكلون أكثره ,وإجتمع التمر أكواماً عالية ,ثم رأيت قوماً اقبلوا واخذوا يكيلونه بمكاييل ويصبونه في أكياس , وعددت منها ثلاثين كيساً ,وأنفض الجمع عدا حسين التاجر وموسي صاحب الحقل المجاور لحقلنا من الشرق وشخصيين غرييبين لم أرهما من قبل . وسمعت صفيراً خافتاً فالتفت فإذا جدي قد نام ,نظرت فإذا مسعود لم يغير وقفته ولكنه وضع عوداً من القصب في فمه وأخذ يقضمه مثل شخص شبع من الأكل وبقيت في فمه لقمة واحدة لا يدري ماذا يفعل بها . وفجأة إستيقظ جدي وهب واقفاً ومشي نحو أكياس التمر تبعه حسين التاجر وموسي صاحب الحقل المجاور لحقلنا والرجلان الغريبان . وسرت أنا وراء جدي ونظرت إلي مسعود فرأيته يدلف نحونا ببطء شديد كرجل يريد ان يرجع ولكن قدميه تريد أن تسير إلي الامام .وتحلقوا كلهم حول أكياس التمر وأخذوا يفحصونه وبعضهم أخذ منه حبة او حبتين فأكلهما . وأعطاني جدي قبضة من التمر فأخذت أمضغه ,ورأيت مسعوداً يملأ راحتيه من التمر ويقربه من أنفه ويشمه طويلاً ثم يعيده إلي مكانه . ورأيتهم يتقاسمونه .حسين التاجر أخذ عشرة أكياس, والرجلان الغريبان كل منهما أخذ خمسة أكياس ,وموسي صاحب الحقل المجاور لحقلنا من ناحية الشرق أخذ خمسة أكياس ,وجدي أخذ خمسة أكياس, ولم أفهم شيئاً. ونظرت ألي مسعود فرأيته زائغ العينين تجري عيناه شمالاً ويميناً كأنهما فأران صغيران تاها عن جحرهما . وقال جدي لمسعود ما زلت مديناً لي بخمسين جنيهاً نتحدث عنها فيما بعد ) ونادي حسين صبيانه فجاؤوا بالحمير ,والرجلان الغريبان جاءا بخمسة جمال,ووضعت أكياس التمر علي الحمير والجمال,ونهق احد الحمير وأخذ الجمل يرغي ويصيح .وشعرت بنفسي اقترب من مسعود ,وشعرت بيدي تمتد اليه كأني اردت ان المس طرف ثوبه .
وسمعته يحدث صوتاً في حلقه مثل شخير الحمل حين يذبح . ولست أدري السبب ,ولكني أحسست بألم حاد في صدري وعدوت مبتعداً, وشعرت أنني أكره جدي في تلك اللحظة. وأسرعت العدو كأنني أحمل في داخل صدري سراً أود ان أتخلص منه . ووصلت علي حافة للنهر قريباً من منحناه وراء غابة الطلح ,ولست اعرف السبب ,ولكنني أدخلت يدي في حلقي وتقيأت التمر الذي أكلته.