جمال الدين علي الحاج - نقش الاطار على قضيب القطار

كنت متكئة على جدار الغرفة الخارجي. أسفل النافذة المطلة على الزقاق حين سمعت صراخ البنت الصغرى. وكان صباح مثالي لممارسة رياضة المشي أو الركض أو ركوب الدراجة لذا أغمضت عيني ورحت أسترجع شريط ذكرياتنا معا. قبل سنوات في مثل هذا الوقت من كل يوم كنت أكون على أهبة الاستعداد. جسدي لامع و نظيف مثل مهرة. لوني الأسود يبرق مع أشعة شمس الصباح. فلقد كان يوليني عناية خاصة ويهتم بأدق التفاصيل. كيف لا وأنا حملته فوق ظهري شابا ورجلا وحتى صار كهلا واحيل للمعاش. لم أتخل عنه يوما. شاركته أفراحه وأحزانه. حملت عنه أول (قفة) خضار اشتراها من راتبه الأول. وأول كيس طحين. ابتهجت للسعادة التي اعترته وهو يسوق ابنه البكر الى المدرسة وابنته للروضة. جففت عرقه في الصيف بحفيف أجنحة السموم و دثرته بأنفاس العزيمة الدافئة في الشتاء. وكفكفت دمعه يوم نعى الناعي خبر وفاة أمه. وكنت أنا الوحيدة التي تشاركه المشوار. حملته لواجبات العزاء البعيدة ومناسبات الأفراح السعيدة. شاركته الفرجة على المباريات في دار الرياضة. واللهو مع الأصدقاء في أمسيات نادي العمال الصاخبة. طوال هذه السنوات لم أتضجر أو أدعي المرض. منحني الحب فبادلته الوفاء ولم أخزله يوما. حتى حين اشتد عليه المرض لم أتركه وحيدا. ظللت قابعة هنا بالزقاق عند نافذته كسجين ينتظر أن يفتح سجانة كوة صغيرة لدخول وخروج الهواء. يكفيني فقط أن أراه يتنفس. حتى لو لم نخرج للتسكع سويا كما في أيامنا الخوالي. تكفيني نظرته الحانية حين يفيق الصبح وينظر من النافذة ويجدني واقفة معلقة يدي على سياج شباكه. يزول عني كل الصدأ. كل التكلس الذي أصاب مفاصلي من جراء الوقوف الطويل يتقشر وكأن نظرته شحم تسليك للتروس العاضة. حين بلغ بقرار الاستغناء عن العمل كنت أول من أحس بأوجاعه. ذلك اليوم لم يقبل أن أحمله فوق ظهري. لا أدري لم فعل ذلك؟. ربما شعر أن حموله ذلك اليوم كانت ثقيلة عليّ. ربما خاف أن تقسم ظهري. لذا فضل أن يمسك بيدي ويسوقني الى البيت. خرجنا من الباب الخلفي للورشة كالهاربين من الثغر. لم ننتظر صافرة انتهاء الدوام التي كانت تضبط عليها نساء المدينة الصناعية صينية الغداء. فضلنا نترنح بالطرقات بلا هدى لفترة طويلة. لم نمر على سوق الخضار ولا زنك اللحمة ولا المخبز. كانت الطرقات خاوية بلا رفقة. لا عمال الورش (بأبرولاتهم) الزرقاء ولا العساكر بزيهم المموه. حتى طلاب المدارس الذين كانت لهم رفقتهم الخاصة تمنينا أن نصادف منهم واحد بالطريق حتى لو كان متسيبا عن الدراسة دون جدوى. فقد كانت مدينة الحديد والنار تستفيق على صوت الصافرة في الصباح. يذهب الجميع الى أعمالهم. عمال السكة حديد والعساكر والموظفون والطلاب. وتبقى النساء في البيوت ينتظرن صافرة انتهاء الدوام عند الثالثة عصرا. وحينها تكون وجبة الغداء. اليوم صحوت فزعة على صراخ البنت الصغرى. ثم حضر الابن الأكبر تبعه شقيقه الأصغر. والشقيقة الثالثة الموظفة المرموقة بالبنك. ثم توافدت الجموع. نساء الحي صديقات المرحومة زوجته. وجيرانه وأصدقائه. اكتظ المنزل بجموع المعزين. صديقه كبير الفنين بالورشة حضر يتأبط رفيقة دربه. كانا يتعكزان بعضهما. ولما لم يعرهما أحد اهتمام وقفا بعيدا ينظران بعين كسيرة وفؤاد محطم. أغلقت النافذة الوحيدة التي كانت مثل حبل سري يربطني به. آخر نفس لي استنشقته من انفاسه حين كنا نركض خلف تسوية المعاش.
بعد الأربعين اجتمعت العائلة بذات الغرفة. كانت النافذة مؤصدة ولكني استطعت أن التقط بعض الكلمات. قال الابن الأكبر بحزن مفتعل.
أمر الله نفذ ولا يجوز على الميت الا الرحمة.
انتحبت البنت الصغرى ومسحت دمعة وتمخطت. سكت الابن البكر احتراما لدموعها. بينما وضع شقيقه الأصغر يده على كتفها وراح يربت عليه بحنو كبير. أضاف الابن البكر بنبرة جادة.
سوف نهدم هذا البيت ونبني مكانه بناية عالية من عدة طبقات. يحصل كل واحد منا على شقة بالطوابق العلوية. الطبقة الأولى والثانية سوف تكون مستوصف. الأرضي محلات تجارية وصيدلية. وبقية الطبقات شقق سكنية.
سكت ليرى تأثير الحلم على أشقائه. موظفة البنك ابدت موافقة فورية ووعدت بتدبير قرض من البنك حيث تعمل. الشقيق الآخر. فكر قليلا ثم قال.
لن أغلق عيادتي القديمة. سوف أوزع أيام العمل بين العيادة والمستوصف. أومأ الشقيق الأكبر موافقا. الشقيقة الصغرى ما زالت تبكي وتتمخط.
اذن سوف نزيل كل هذه (الكراكيب) الموجودة بالزقاق. سوف أبحث عن شخص يشتري الخردة.
حسم الشقيق الأكبر الأمر وفي اللحظة التي هم فيهابالوقوف. انحلت عقدة لسان الشقيقة الصغرى هتفت منتحبة.
وعجلة أبي؟
ها.
عجلة أبي ماذا ستفعلون بها؟
سنبيعها كخردة طبعا.
قال الشقيق الأكبر وهو يحمل مفتاح سيارته ويهم بالخروج.
في تلك اللحظة شعرت أن مسمار صدئ انغرس في اطاري وأفرغه من الهواء ووصل حتى العظم وظل مغروسا هناك كشوكة حوت. هذا الابن بالذات لقد تعلم فوق ظهري. كم مرة تقشر جلدي بسبب حكي بالجدار. كم مرة حميته جراء سقوطه المتكرر فكنت أسقط قبله لأمتص الصدمات عنه حتى لا يكسر ساعده أو ساقه. جراء ذلك أصبت بالالتواء و كثير من الخدوش ما زالت آثارها باقية حتى الآن. كم أدمى قدمي وهو يسوقني برعونه في الدروب الوعرة المليئة بالأشواك والمسامير. تحمّلت كل ذلك بصبر وجلد لأن معدني نفيس. هو بالذات لم أتوقع منه هذا الموقف.
أين سنضعها يكفينا (كراكيب). لقد جلب لنا هذا الزقاق العار أيام العزاء.
قالت موظفة البنك لأختها الصغرى بحسم.
في المساء حضرت شاحنة ضخمة حملتني ومعي ستة كراسي وأربع طاولات حديد وثلاث أسرة كان اشتراهم رفيقي يوم ختان ابنه البكر. وهيكل حديدي كان يستخدم لتعليق الملابس. حشرنا في بطن الشاحنة مثل فروع الاشجار اليابسة الى مقبرة الحديد الاسكراب طرفي المدينة. في المقبرة المكدسة بالحديد الاسكراب تم تصنيفنا الى فئات. عجلات ومواتر وأسرة وكراسي وطاولات ومواسير في مكان. قطع صاج وحديد صلب في مكان آخر. التقيت موتر الشاويش حسين ودراجة الصول حماد وحين أتت شاحنة محملة بقضبات السكة حديد واطارات القطارات أدركت حجم الفقد. سمعت أحدهم يهمس ( كل هذه الخردة سوف تصهر ويصنع منها حديد مشغول لدرابزين السلالم و أبواب للقصور والفلل). لم أتمالك نفسي صرخت وصيتي بعلو صوتي.
احرقوا جسدي ومن رمادي اصنعوا منجل ومطرقة ومعول.




ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نقش الاطار على قضيب القطار
قصة قصيرة
جمال الدين علي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...