محمد محمود زيتون - سراب المجد..

الحب يقهر كل شيء..
فرجيل

جلس الرفاق على الشاطئ وأداروا وجوههم إلى البحر وكانت الشمس تهوى إلى الغروب. وفيما ورائها الأفق الجريح يتعثر في حواشيه الرقاق، صارخاً متشبثا بأذيال هاجرة لن تعود، وسرعان ما سيطر الذهول على الجميع فقال أحدهم: ليتك الآن بيننا يا (حماده) فتصوغ هذا المنظر شعراً من نبع خيالك: رحمك الله من نجم علا ثم هوى. وساد الصمت مرة أخرى ثم استطرد أنور يقول:

عرفته منذ كنا صغيرين في مدرسة القرية - خجولاً وادعا، والتقينا بمدرسة رأس التين الثانوية، ولكنه رغب في العباسية الثانوية. قال لي يومذاك. لن أبقى إلا هذا العام في رأس التين وسألحق بعده بالعباسية: بناؤها مهدئ لأعصابي. وموقعها على هذا التل المرتفع يوحي إلى نفسي بالسمو والرفعة.

وقضى حمادة بقية سنته الثانوية بالعباسية التي كشفت فيه عن طموح باكر، ونبوغ سابق الأوان فذاع اسمه في الثغر ونواديه ومجالسه الشاعر. الرياضي. الواعظ، الفنان. فقد كان بهلوان المتوازيين والعقلة، وشاعر الطلبة، وإمام مسجدهم، وخطيب كل إضراب. وواعظ القرية، وكان إلى هذا كله ممثلا وموسيقياً بارعاً ولمع اسمه في الصحافة.

ولم يفتني قط الاستماع إليه في كل مناظرة أو محاضرة، أو الاطلاع على خواطره المسكوبة في الصحف والمجلات.

شخصية محبوبة مرحة في غير ابتذال، وخلق كالجبل الأشم. أقام (حمادة) في حجرة على سطح منزل مرتفع. فعرفت أن هذا (البرج العاجي) هو مبعث إلهامه ومصدر فنه. وهناك أرهف حسه لتهاويل الطبيعة. فامتزجت بروحه وانداحت على وجهه بسمته وإشراقه.

والتحق بالجامعة، وطلب (الآداب) وأخلص بل تفانى في دراستها. وزاد تألقه ولمعانه بين زملائه، وذاع صيته، ولست أخفي ما كان يجيش في نفسي نحوه من عواطف شتى هي مزاج من حب الخير له، والغيرة منه، والعطف عليه، والانجذاب إليه، والدفاع عنه. . . مع قليل من الحسد كنت أكتمه وأضغطه وأدفنه جاهداً حتى أنحدر في نفسي إلى كهف سحيق عميق.

وكيف لا أغار ونحن من قرية صغيرة نكاد نكون الوحيدين من بين المتعلمين الذين أفلحوا وواصلوا التعليم. ثم كيف لا أنجذب إليه وهو ليس غريمي في شيء. وأخيراً قلت لنفسي: إن (حمادة) سيكون فخراً لقريته بل لوطنه، فهو جدير بحبي وإخلاصي، وكلما سئلت عنه لا أملك غير الإعجاب به والإكبار من شأنه.

وكنا معاً في إحدى العمائر القريبة من الحي الجامعي، بقينا به حتى تخرجنا، أما (حمادة) فقد ذهب إلى الإسكندرية يبحث عن أفق أوسع لميوله ومطامحه، وبقيت أنا تحت التمرين في مكتب محام شهير.

وفي هذه الفترة أحسست بالفراغ الذي تركه حمادة، وأخذت أطالع كل يوم أخلاطاً من الطباع والعقول والأرواح. فأحسست بمرارة الغربة عن كل من حولي، وانطويت على نفسي كالثعبان. والغربة المريرة والبد القارس سيان في هذا. . . ولا أدري ما وجه الشبه بينهما، ولكن هكذا كنت أحس. . . وهكذا كنت فعلا. . . ولا سيما يوم سرى الدفء في أوصالي. ياله من يوم. . . يوم اجتمعت مع الرفاق في منزل أحدهم. . . يوم عيد ميلاده هو وميلاد شقاوتي أنا. . . يوم أديرت الكئوس، وتطوحت الرءوس ورقصت الغانية عارية، إلا من ذلك الثوب الأحمر الشفاف. . . فلم يخف فتنة، ولم يشف لوعة. . . يالها من ليلة حمراء.

كانت هذه الليلة كالشرارة التي أطلقت نفسي من نفسي. . . فنفثت سمومها في كل وكر وبؤرة. . . حقاً كنت كالثعبان: أستبرد ما حوله، واستمرأ الفساد، وتمسكن حتى تمكن. . .

وعدت ليلتها أجرر أثقالاً من الآثام، ما ألبث أن أتعثر فيها حتى أجهد في إخفاء آثارها في الطريق الطاهر الذي كنت أطويه صبحاً ومساء في قدسية الراهب وبراءة الملاك.

وذاب العمود الفاصل بين الفضيلة والرذيلة أمام عيني. . . نعم ذاب كالثلج، وأحسست بلذعاته تحز في قلبي حتى تجمد في صدري. . . فلم يعد كما كان. . .

واعتزلت، وتخلفت عن ركب الحياة أسبوعاً، ورحت أحسد الأحياء وأخبط في الظلام الملتوي المعقد، فتذكرت ذنب الضب الذي قالوا أنه أعقد شيء في الوجود.

وانطلقت ذات صباح إلى شرفتي، أتخفف من أثقال نفسي، فرأيتني كالسمكة تخبط في الشبكة. . . فقد ملأت هذه الفتاة مشاعري، وما إن غابت عن نظري في منعطف الطريق حتى عدت إلى مخدعي بفكر جديد أو قلب جديد. . . وأخذت أرقبها كل صباح ومساء ذاهبة آيبة إلى جامعتها، كتبها تحت إبطها، وعينها إلى الأمام، وكانت في خيالي كالفجر النادي يتمناه قلب شفه السقم، وأضناه الظلام. . . وسميتها (ريحانتي الطاهرة)، وما كان أليق هذا الوصف بمن صحا عليها قلبي بعد غفوة أنسته أحلام الربيع.

وذات صباح، طرق الباب طارق، فإذا بساعي البريد يحمل إليَّ من (حماده) خطاباً، أعتز به، فلا أتسلى عن همومي إلا بتلاوته، وإني لقارئ عليكم قصة أحلامه وأحلامي أودعتها وإياه حطام قلبين ذابا في سراب.

الإسكندرية في 20 أبريل

أخي أنور

أحييك وأرجو لك الخير كله. شاءت الأقدار أن تباعد بيني وبينك، فقد عينت معيداً بجامعة فاروق، وأنا الآن بصدد إعداد رسالة الماجستير في ميتافيزيقا الوجود الذهني،. . . وكنت أظن يا أخي أن الإسكندرية ستلقاني ببحرها الصافي وسمائها الباسمة ونسائمها الرقيقة، ولكنها تنكرت لي، وتجهمت في وجهي، وضاقت بي وضقت بها. . .

أخي: وفاؤك لي. وعطفك علي يدفعانني إلى أن أبثك الآن بعض ما بي لعلي واجد في رحابك ما يزحزح هذا الجبل الرابض على روحي.

أنور: أكتب إليك، وأنا ألقي بنظري إلى البحر من الميناء الشرقي، والعاصفة القائمة تلحفني سمومها، وتعوي أصداؤها كالذئاب، في أحناء ضلوعي، والسماء. . . نعم السماء التي كانت نزهتي في الليل والنهار، تلفعت بالسحاب الأسود، يقطر الدم من حواشيه، وأزهاو الشرفة قد جف ريقها واحترقت أنفاسها، وتبدل شذاها غباراً، (غصة في الحلق). . . لم أعد أطيق المكث هنا. . . ولا تحسبن جديداً في حياتي طرأ على نفسي. . . ولكن. . . ماذا أقول؟ منذ فارقت العمارة، فإن في النفس ذكريات. . . سأذهب إلى الريف أقضي يومين ثم أعود، والسلام،

حمادة

الجيزة في 23 ابريل

تحية الحب والوفاء، وبعد فقد ألمت بي محنة ألزمتني الفراش أسبوعاً، لم أصح منها إلا على خطابك. تلوته، فأفقت مما أنا فيه، ولست أتردد في أن أبعث إليك بخالص شكري على أن خصصتني يبث شكواك.

وإذ يصلك خطابي أرجو أن تكون قد نفضت عن نفسك غبار إعصار فيه نار.

حمادة

عرفتك ذا الوجه المشرق البسام، فلا تكن غير ذلك، وإياك أن تستسلم لأفكار عسى ألا تكون غير أوهام. ألا ترى أني كنت إلى حين تسلم خطابك فريسة لواعج فرت وبرت ما شاء مني، فكنت - بلا مبالغة - كفنار الإسكندرية يبعث نور الأمل لسفينة غارقة في أقباء الحلك.

أخي:

هات ما عندك، وأطرح عليّ بما شئت، فإنما أنت ذخير لا يستهان بها، وثروة في النبوع تزهي بها خزائن المجد. ولست من الهوان على أخيك حتى يتركك لما أنت فيه. وحذار أن تسترسل. وحذار أن تيأس.

أخوك أنور

الإسكندرية في 15 يونيو

ما توانيت في الرد عليك عن قصد، فقد أصبحت كالزورق الحيران لا شراع ولا مجداف، تناوحت به الريح، وتناهبه الأحداث. ولا سيما بعد أن خلوت من أعباء العمل، وصرت شلوا ألقي به إلى ذئب مسعور. تلك هي نفسي الضارية. ويلي منها. لقد صرت أمقتها وأنكرها. أهكذا تنهشني، وأنا الذي روضتها في المهد، فأحسنت ترويضها، فلما استقامت لي لم أحرمها من لذائذ الحلال شيئاً. يالها من خائنة!

أخي:

لن أفضي إليك برماد النار. بل بجذوتها. أرأيت العمارة التي كنا ولا تزال بها أنت. وأنت خارج من بابها إلى يمين. بعد منزل أو منزلين، أرفع بصرك إلى الدور الثاني. الشرفة الدائرة هناك يا أنور سر خفي لا أدري مدى تغلغله في نفسي.

تلك الفتاة كانت زميلتي في الدراسة. وقع عليها نظري فجأة فعرفت الحب من أول نظرة. كانت كالوردة لم تتفتح بعد. وإن الربيع يضفي عليها من الفتنة والجمال ما جعلني أسبح من يومها في بحر لا شطئان له. نتحدث بعد كل محاضرة، فكان لحديثها في نفسي موقع الماء من ذي الغلة الصادي. وما كنت أشعر بالوجود ولا بالزمن بل هي اللهفة تسوقني إلى النبع الصافي، فأرتوي، فما ألبث أن أظمأ من جديد

وكنت أعرض عليها بعض خدمات تقتضيها الزمالة الجامعية. . . فتشكرني بنظرة وبسمة أعدمها غذاء روحي في اليوم كله. . . وضقت بالمجد ذرعا، وسرعان ما انتقلت حياتي من عقلي إلى قلبي. . . من أعماق الكهوف، وأصنام الماضي إلى أحلام الربيع، وألحان الفجر. . . وقلت للمجد: وداعاً، عد. . لا حاجة بي إليك.

ومهدت لزواجي منها بزيارة لها بمنزلها حيث استقبلني خالها، فقد علمت أنها يتيمة الأبوين. وكانت هذه الزيارة لقلبي كالمرهم يهدهد جراحه الصارخة. وفاتحت أمي لأني خجلت من مفاتحة أبي في الأمر، فكان رده بالموافقة على رغبتي عذباً رقيقاً دمعت له عيناي، كالطفل أعطي لعبة هو في شوق إليها. . .

وتقابلنا بعدها، فإذا بي أتحطم على (النظرة الصماء). . . نظرة أودت بالرقة والحنان اللذين كنت ألقاهما منها كل صباح. .

هأنذا لا أطيق ذكرى هذه النظرة بل الصخرة. . . فهل أنا واهم يا أنور؟

حماده

الجيزة في 17 يونيو

أخي حماده

لك العذر في تأخيرك الكتابة إلى، واليوم تسلمت رسالتك فشفت نفسي مما تجد، وعرفت أنك معذب بلقبك الذي لا يطاوعك، وأيقنت أنك ماهر فيما وقع عليه رأيك، وأطمئنك مقدما إلى أني كنت قد عزمت على ما شرعت أنت فيه. وهي في الحقيقة فتاة لها مزاياها. . . ومسلكها مما يرضيك، ويتفق مع وجهتك. . . ولولا وفاة والدي ما أحجمت على مد يدي إليها. . . ولولا ضرورة القدر الذي ذهب بذلك العطر الحبيب. . . لتغيرت دنياي ودنياك. . . لهذا أنصح لك بالتروي والتريث. . . والصبر، فقد أجتاز الأمر دور العاطفة وأصبح في نطاق العقل وحده. . . أرجو أن تحتمل أكثر من صدمة.

أنور

وفي الصيف تقابلنا، فأنكرت ما رأيت من حال (حماده)، وكدت لا أعرفه من فرط ما بدأ عليه من إرهاق وهزال، وبادرني مغتبطاً متمرداً قال: -

أهكذا يا (أنور) تقلب لي ظهر المجن. . . ليتني لم أبح لك بسري. . . لولا أنك كنت تعدني ذخيرة لا يستهان بها، وثروة في النبوغ تزهي بها خزائن المجد. . . اليوم أفلست تلك الخزائن، وذهبت أسطورة النبوغ أدراج الرياح. . .

والتزمت الصمت، وكلفت نفسي عسرا لأصطنع ابتسامة. ولكن دون جدوى، حتى أعرض عني (حماده) وتولى كالعاصفة. ولقد خشيت - إن أنا بحث له بالأمر - أن يقع عليه كالصاعقة، فتأتي على ما تبقى من هيكله المهدود. ولكن آثرت كتمان خبر انتحارها، ورضيت منه بتهمة سوء الظن التي رماني بها رفيق الصبا. . . ولو كان في حطام نفسه بقية لأدرك ما كنت أعني بذهاب العطر الحبيب في خطابي الأخير

ولست أدري بعدها كيف بلغه الخبر، فذهب إلى قصر النيل والتف بذراع الموجة العذراء، وغاب في اليم بتراب الكأس الذي أحترق فيه نبوغ الشباب. . . وهنا تنفس أنور الصعداء. . . وأجهش للذكرى، ثم قال: أما أنا. . . فكتمت السهم في كبدي

محمد محمود زيتون

مجلة الرسالة - العدد 888
بتاريخ: 10 - 07 - 1950

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...