اللغة أشبه بالمنجم. فيها مشقة الحفر على الصخر ورهبة الأنفاق تحت الأرض ودهشة كشف المعدن الكامن خلف الركام. ومثل العامل وسط الأنفاق، يحفر الكاتب في اللغة ليكشف المعاني الكامنة خلف الكلمات. يحفر ويبحث وينقب، بلا كلل ولا ملل. ويجهد النفس بحثا عن الجواهر المكنونات.
ويكتسب أدب المناجم – أول ما يكتسب – شرعيته الأدبية من هذا التحليل، لأن الأدب لا يعدو أن يكون، في المحصلة النهائية، عمليات حفر متواصلة في اللغة. وهو عين ما يجري داخل فضاء المنجم المغلق، بل هو مبرر وجود المنجم أصلا.
يمنح هذا اللون الأدبي، والحالة هذه، معنى خاصا لفعل الإبداع الأدبي عن (ومن داخل) فضاءات المناجم وعوالمها وما يحيط بها ويتصل معها بروابط الثقافة والاجتماع. ويصير الحديث عنه، نقدا وتمحيصا، حاجة ثقافية لا غنى عنها، يسبر أغوار المكتوب عن إنسان المناجم شعرا وقصة ورواية.
ولأن اسم جرادة، المدينة الوادعة والمبدعة، ارتبط بالمنجم وعوالمه، فقد احتضن مركزها الثقافي ثلة من المثقفين والأدباء والشعراء تداولوا، على مدى يومين، حول أدب المناجم حين يحفظ الذاكرة ويثريها ويسعى إلى الإسهام في إشعاع مدينة أنجبت العديد من المبدعين في هذا اللون الأدبي.
ومن هؤلاء المبدعين محمد العرجوني في روايتيه "أمفيون" و"نرجسية المياه العادمة" والسهلي عويشي في روايته "الحوت البري" وديوانه الشعري "يوسف الفحمي" وجلول قاسمي في روايته "سيرة للعته والجنون"، وغيرهم كثير.
ويأمل مثقفون ينحدرون من هذه المدينة أن يشكل أدب المناجم قيمة مضافة داخل الساحة الإبداعية والثقافية المغربية، إذ يتيح هذا اللون الأدبي "إمكانات جديدة للتعبير تشجع المبدعين، والمثقفين عموما، على التعاطي معه بشكل جديد وجاد باعتباره واجهة للنبش ليس فقط في الذاكرة بل في كل الأشكال التعبيرية التي تسود داخل العوالم والفضاءات المنجمية"، وفق ما يرى مدير الملتقى المغاربي الأول حول أدب المناجم، الذي اختتمت فعالياته نهاية الأسبوع الماضي بجرادة.
وعلى الرغم مما قد يتبادر إلى الذهن من أن المناجم فضاءات مغلقة، فإن "ما تتميز به هذه العوالم هو الانفتاح، باعتبارها فضاءات منفتحة على أشكال تراثية وثقافية متنوعة ومختلفة باختلاف ألسنة وأعراق" العاملين فيها، بحسب المتحدث ذاته.
ومن شأن هذا التنوع الإنساني والتراثي أن يغني الحقل الثقافي المغربي، ليس من جانب الإبداع الأدبي والشعري والدرامي فحسب، ولكن أيضا من حيث الدراسة العلمية في الحقول المعرفية المتصلة أساسا بالأنتربولوجيا والسوسيولوجيا.
وفضاء المناجم، يوضح صاحب رواية "الحوت البري"، هو فضاء متنوع ومنفتح وإن كان يبدو للرائي منغلقا في جغرافية تضاريسية معينة منتجة لمعدن معين، وهو يكتسب انفتاحه من العاملين فيه لتنوع أعراقهم وأجناسهم.
وتفشي هذه الفضاءات، بفضل مناخ التعايش السائد، قيما إنسانية نبيلة يتم إنتاجها وإعادة إنتاجها، في متواليات لا تتوقف، ما يفضي إلى سيادة حالة من "التنوع الثقافي، تمنح إمكانات هائلة للخلق والإبداع"، يوضح السهلي عويشي.
وبحكم حديثه عن اليومي المعاش داخل المناجم وما يحيط بها، يتسم أدب المناجم بغير قليل من الواقعية، غير أن السهلي يرى أنه "ليس هناك إبداع واقعي صرف مئة في المئة حتى وإن كان موغلا في الواقعية، فأدب المناجم حتى وإن بدا قوي الصلة بواقع المناجم فهو لا يقيد نفسه بها، بل ينفتح على ما هو إنساني في كل أبعاده".
وهو، فضلا عن ذلك، "واجهة للتحليق في سماء الإبداع الإنساني النبيل الذي يلامس الجرح والفرح، والبياض والسواد، والألم والأمل.. لأنه أدب للبوح الجميل، رغم ما في المنجم من سواد".
* المصدر
أدب المناجم.. الحفر في الكلمات
ويكتسب أدب المناجم – أول ما يكتسب – شرعيته الأدبية من هذا التحليل، لأن الأدب لا يعدو أن يكون، في المحصلة النهائية، عمليات حفر متواصلة في اللغة. وهو عين ما يجري داخل فضاء المنجم المغلق، بل هو مبرر وجود المنجم أصلا.
يمنح هذا اللون الأدبي، والحالة هذه، معنى خاصا لفعل الإبداع الأدبي عن (ومن داخل) فضاءات المناجم وعوالمها وما يحيط بها ويتصل معها بروابط الثقافة والاجتماع. ويصير الحديث عنه، نقدا وتمحيصا، حاجة ثقافية لا غنى عنها، يسبر أغوار المكتوب عن إنسان المناجم شعرا وقصة ورواية.
ولأن اسم جرادة، المدينة الوادعة والمبدعة، ارتبط بالمنجم وعوالمه، فقد احتضن مركزها الثقافي ثلة من المثقفين والأدباء والشعراء تداولوا، على مدى يومين، حول أدب المناجم حين يحفظ الذاكرة ويثريها ويسعى إلى الإسهام في إشعاع مدينة أنجبت العديد من المبدعين في هذا اللون الأدبي.
ومن هؤلاء المبدعين محمد العرجوني في روايتيه "أمفيون" و"نرجسية المياه العادمة" والسهلي عويشي في روايته "الحوت البري" وديوانه الشعري "يوسف الفحمي" وجلول قاسمي في روايته "سيرة للعته والجنون"، وغيرهم كثير.
ويأمل مثقفون ينحدرون من هذه المدينة أن يشكل أدب المناجم قيمة مضافة داخل الساحة الإبداعية والثقافية المغربية، إذ يتيح هذا اللون الأدبي "إمكانات جديدة للتعبير تشجع المبدعين، والمثقفين عموما، على التعاطي معه بشكل جديد وجاد باعتباره واجهة للنبش ليس فقط في الذاكرة بل في كل الأشكال التعبيرية التي تسود داخل العوالم والفضاءات المنجمية"، وفق ما يرى مدير الملتقى المغاربي الأول حول أدب المناجم، الذي اختتمت فعالياته نهاية الأسبوع الماضي بجرادة.
وعلى الرغم مما قد يتبادر إلى الذهن من أن المناجم فضاءات مغلقة، فإن "ما تتميز به هذه العوالم هو الانفتاح، باعتبارها فضاءات منفتحة على أشكال تراثية وثقافية متنوعة ومختلفة باختلاف ألسنة وأعراق" العاملين فيها، بحسب المتحدث ذاته.
ومن شأن هذا التنوع الإنساني والتراثي أن يغني الحقل الثقافي المغربي، ليس من جانب الإبداع الأدبي والشعري والدرامي فحسب، ولكن أيضا من حيث الدراسة العلمية في الحقول المعرفية المتصلة أساسا بالأنتربولوجيا والسوسيولوجيا.
وفضاء المناجم، يوضح صاحب رواية "الحوت البري"، هو فضاء متنوع ومنفتح وإن كان يبدو للرائي منغلقا في جغرافية تضاريسية معينة منتجة لمعدن معين، وهو يكتسب انفتاحه من العاملين فيه لتنوع أعراقهم وأجناسهم.
وتفشي هذه الفضاءات، بفضل مناخ التعايش السائد، قيما إنسانية نبيلة يتم إنتاجها وإعادة إنتاجها، في متواليات لا تتوقف، ما يفضي إلى سيادة حالة من "التنوع الثقافي، تمنح إمكانات هائلة للخلق والإبداع"، يوضح السهلي عويشي.
وبحكم حديثه عن اليومي المعاش داخل المناجم وما يحيط بها، يتسم أدب المناجم بغير قليل من الواقعية، غير أن السهلي يرى أنه "ليس هناك إبداع واقعي صرف مئة في المئة حتى وإن كان موغلا في الواقعية، فأدب المناجم حتى وإن بدا قوي الصلة بواقع المناجم فهو لا يقيد نفسه بها، بل ينفتح على ما هو إنساني في كل أبعاده".
وهو، فضلا عن ذلك، "واجهة للتحليق في سماء الإبداع الإنساني النبيل الذي يلامس الجرح والفرح، والبياض والسواد، والألم والأمل.. لأنه أدب للبوح الجميل، رغم ما في المنجم من سواد".
* المصدر
أدب المناجم.. الحفر في الكلمات