كان نائماً، ولما أدرك ذلك، تقلب في ذاته الضخمة، فارتجت الجدران واهتزت أربعة أركان الدنيا، تأوه تأوهاً يشبه زئير الأسود، وأخرج من فمه زفيراً، خرجت على إثره الأعاصير من كهوفها، صفعت وجه الأرض، قلبت أشجار النخيل ورمت النسانيس العابثة الخضراء والببغاوات الملونة، أظلمت الدنيا وارتفع ماء المحيط، فغمر الماء الأرض أربعين يوماً وأربعين ليلة، وطفت على أديم الماء جثث حيوانات برية اهترأت أطرافها وفاح عفنها حتى جأرت أفراس الماء وحملقت بعيونها المحمرة ثم غاصت مرة أخرى.
أَنَّ أنين النائمين الهانئين، ثم حلم حلماً أثيراً ما ينفك يكرره، حاول أن يمسك بأطراف الحلم الذي راوغه، حتى داخله الشك في ذاته، هرش قفاه وأخرج من عباءته حورية بحرية، جدائل شعرها الأثيث غاية من الحلكة مرمية على أكتافها، غجرية تنعم مع الريح بفوضى وجودها، رفعت جبينها المذهب فطأطأت الشمس خجلا، رنت بعينيها الزرقاوين زرقة ماء المحيط والغامضتين غموض أغواره، جاءت طيور البحر وقأقأت فوق رأسها، وفرت الأسماك الصغيرة الملونة عندما مشت قدماها ـ اللتان تشبهان يمامتين من يمام الجبل ـ نحو الشاطئ.غطت رمال الشط قدميها المبتلتين وجلدهما الذي تغضن، مرت الريح بين فخذيها، فارتعد جسدها، وتلألأت أشعة الشمس على قطرات الماء التي تعلقت بالحرش الصغير عند مثلثعورتها، أدركت عريها، تلفتت حولها، رفعت عينيها إلى السماء وأغمضتهما، فأسدل الليل ستائره، مشت فمشى الوجود معها وغنت الأحلام، انبثق نجم الشرق الزاهر وتضوع عطر المساء فواحاً حاملاً عبق غرائزها الدفينة منذ الأزل، وسمع الليل نداء طبيعتها فنفخ في الصور، تلوى النداء غامضاً يعج بالحنين وسافر في الأرض الخلاء البكر وارتد إلى ثدييها المكورتين بحلمتيهما الحرشيتين البنيتين المنديتين، أنّت فاستعر الأنين بالحنين ملاحاً كان عائداً خالي الوفاض، رف حولها فلما باغتته بنظرة من عينيها، هوى متحطماً كسير الجناح، نظر متوسلاً إليها وهو يومئ لها أن تشيح بعينيها عنه، فمضت عنه، وفي زفة الطبيعة حولها تقافزت حيوانات البرية بأجسادها الضخمة ومشت صاغرة، كانت أفراس الماء بعيونها الكبيرة المضحكة تتثاءب، والحيات تزحف معها وأمامها
ظلت ترتحل، حتى بزغت الشمس من مكمنها في الماء لكنها لما رأتها هوت وسُمع أزيز اشتباكها مع الماء، ارتفعت سحابات من البخار الأبيض الكثيف؛ وطفت على وجه الماء أسماك ميتة، وغامت الدنيا في ظلمة لا يقطعها سوى دائرة من النور تند عن جسدها المضيء.
تقلقل في نومته وأحس لسعة البخار في جسده الشمعي، فارتفع عن سريره متكئاً على مرفقيه، من حوله حشد من المرنمين يترنم بصوت وان بأغان طفولية عذبة، نهض، فارتموا على الأرض ساجدين، تمطى وتثاءب، فرك عينيه، وابتسم لهم، رفع كفه في الهواء فارتفعت عنهم سحابة غضبه، قاموا من سجدتهم، وعادوا يرنمون بأصوات مرتجفة واهنة.
أزاح وجوده الظلمة جانباً، فسبحت الدنيا في شعاعات النور حين انعكس بهاء وجهه ألقاً على أديم الماء. أقدمت نحوه، نظر إليها نظرة أفعمها من جبروته، انتظر في كبريائه هنيهة أن تسقط، ولما رفع وجهه إليها رآها تنظر إليه هازئة مستخفة، ارتبك قليلاً، أشاحت بوجهها وأنفها الشامخ عنه، زمجر غضباً ففرت واختبأت خلف الستائر الأرجوانية الثقيلة، زأر غاضبا، فقفزت حيوانات البحر هلعاً إلى ماء النهر، ورمت حيوانات النهر بأجسادها إلى البحر، وفرت حيوانات الغابة إلى المدن المكتظة بالسيدات المذعورات، أحدث غضبه "دربكة" في الوجود انقلبت إلى فوضى كونية عامة، كادت تودي بالأشياء إلى هلاك مبين لولا تحرك ماء اللطف بقلبه المتحنن، أمر الأشياء أن تسكن وتهدأ وتؤوب إلى وداعتها الأولى، عاد ينظر إليها ليرى تأثير جبروته العامل في الأشياء، قابلته نفس النظرة المتهكمة الساخرة، قال أجرب أن أقطب حاجبي لعلها تستكين وتستجيب وتستنيم، ولما فعل ارتفعت المياه وغمرت وجه الأرض ورفت روحه فوق الغمر، فلم تستنم أو تستكن أو تستجب.
ظل يجرب الحيلة تلو الحيلة، قال لنفسه (لأريها بعضاً من عظيم أعمالنا)، أومأ إلى الجبل فهوى ساجداً متهدماً من خشيته، وقالت هي لأري الجبل بعضاً من آياتنا، رفع الجبل رأسه واسترق النظر إليها رأى فخذيها جبلين من حجارة بيضاء ملساء مشربة بحمرة الشفق، تأوه وهو يعبر بعينيه مثلثها، وصعد بنظره إلى بطنها الضامر، أخذه أنين من وجع أمسك بذكورته المشدودة، وحين واجه ثدييها بكى حسرة وهو يراهما يرضعان القمر، لحظة ثم مضى يتظر جيدها، رأى برجاً من أبراج القلاع القديمة، ود لو مشى بأنامله على شعرها السارح المتماوج، ولما هم، صرخ فيه السيد فهوى ملتفاً على ذاته مكسور الخاطر.
داعب السيد لحيته وقال (لأرينها عذاب الهداهد) صفق بكفيه، جاءوا بالهدهد المسكين، أمسك به ورنا إليها، جلس على حجر من الصوان أحس برودته تغزو جسده، فتململ في جلسته، وأفرغ غيظه في الهدهد، نتف ريشه وألقاه عارياً، جاءت طيور النورس ونقرت جسده حتى أدمته، رأى الشفقة تتسلل إلى قلبها حين همست (يا مسكين)، هم بذبح الهدهد، رآها تفر من أمامه وتختفي.
**
جاءت موجات الانكسار متتالية باردة وسكنت قلبه وصعدت إلى روحه المترفع، فانطوى على ذاته، قال هامساً لنفسه:
ـ يا ليتني ما حلمت بها، يا ليتني مت صبياً.
دق مائدته بقبضة يده، جاء الخدم سراعاً يرتجفون ناءت أكتافهم بالسفافيد المحملة بالثيران المشوية، وتأرجت في المكان رائحة الشواء الطيارة.
عافت نفسه الطعام بعد الثور الأول، زأر؛ فتشققت الأنحاء وهرول الخدم، وأُدخلت الجواري الراقصات في الثباب الشفيفة، تتمايل مع وقع الدفوف ودق الكفوف، شرب من الخمر المعتق في براميل مصنوعة من البلوط برميلين، حتى فاحت من جوفه روائح الأقبية، وترغى فمه بزبد فطر الظلمة والرطوبة وخمير المجد، غنى بصوت مبحوح، وسال على وجنتيه دمعه الأجاج، فاخضلت لحيته وتعلقت قطرات الدمع متكورة لامعة بشعر رقبته وبراح صدره.
**
كانت تلعب مع الظباء الصغيرة، تناديها ثم تختبئ منها خلفأشجار الحور، تغني، فتندهش الظباء وتشرئب بأعنافها باحثة عن الصوت المنغم، ثم تحني رقابها وتتشمم الأرض، وتعود لترفع رؤوسها، تدير عيونها الواسعة الكبيرة المتسائلة، حتى تناهى من بعيد صوت نشيج محموم ونحيب مر مكتوم، امتلكها الصوت، مشت إليه، هناك كان منكفئاً على المائدة يشخر، صنعت قطرات دموعه تحت قدميه مستنقـعاً من الماء والنـور، جاست أناملها في شعره الجعد، رفع وجهه الحزين ونظر في انكسار إليها، أمسكت يده وأنهضته، مشت به إلى الفراش، ألقى عباءته عن جسده فصار عارياً، رأته ذكورته الفاحشة فارتعد كل جسدها، خافت، لكنها كانت في دائرة الاشتهاء تتملكها جاذبيته وتضج بداخلها، تسمع خربشة مخالب قطط تموء وتصرخ، تمددت في الفراش كما تمدد، سبحت كفه الكبيرة المشعرة في أنهار جدائلها، تحسس جيدها، تأوهت، فمشت أصابعه إلى صدرها ، أنت، تكور الثديان واغتبط وجهها، انصرف بأنامله إلى موضع شهوتها، انهارت، وسُمع في الأكوان صوت ارتطام الألم واللذة والاشتهاء والنفور والحب والكراهية.
اعتلاها، وركض فوقها، شملها بساعديه، وتدحرجا على العشب الأخضر المضيء الذي نما فجأة تحتهما، تمددت فتمدد فوقها والتصق بطنه ببطنها وأحدث صوتاً غير مستحب، ولجها، فجأرت، زمجر من اشتباك الفرحة والعذاب في دمه. نهض عنها، رأى شهوته، أشاح عنها وهو يراها تسبح في لزوجة فيضه.
غاض ماء البحر وجف النهر وتشقق أديم الأرض، رآها بلا اشتهاء مطفأة السحنة، كأنها سراج نحاسي يعلوه الصدأ، مطفأ وملقى في ضوء النهار، كانت بلا حول ولا قوة، مهزومة ضعيفة، فتشت عن شهوتها وجدت بقايا منها التصقت بأناملها، نظرت إليه وهو يدك الأرض بقدميه العاريتين، يذرع الوجود جيئة وذهاباً ويرسل صياحات وحشية تدوي في سكون الكون حولهما.
أخذت من بقايا شهوتها وكحلت عينيها ورمت بسهامها الطائشة قلبه البارد، حين التقت عيونهما، نظر إليها ككتلة من اللحم الممضوغ المتفول مثل بصقته الخالدة على الطين والصلصال، يتراقص فوقها ملاك وشيطان يتبادلان المواقع، مد إصبع سبابته وغرسها في لحمها الطري في قرف، تملكتها أحاسيس متضاربة، كانت خائفة وواجفة ومهزومة أمامه، متدلهة متلهفة متوسلة إليه، مدت يديها وأمسكت جدائلها فرقتها على جسدها وغطته بها، مد كفه الكبيرة المشعرة ولملم جدائلها ورفع جسدها مثلما يرفع طفل عابث دمية، أرجحها في الهواء ثم طوحها، صرخت من عزم ما بها، مر جسدها الطائر بين الأنجم والأفلاك، هوت في ماء المحيط.
***
بعد انقضاء شهور الحمل وجملتها مائة، التفت حول سريرها جنيات البحر وحوريات العين، أطلقن البخور وتمتمن بالصلوات والأدعية، ثم غنين بصوت هامس وترنمن، صمتن حين تحزقت، فانزلقتُ أنا، اندهشتُ حين رأت عيناي النور، أدركت أنني واحد من نسله، ومن صلبه وترائبه خرجت أحمل بروز وجنتيه وعظمة أنفه ولون عينيه وبعضاً من ضعفه المهين.
***
تحت جنح الليل، وضعتني في سلة من الخوص المجدول، تدثرت في عباءة من الحزن والكبرياء الجريح، وتلفعت بالمكر والانكسار، هبطت بي النهر، نادت صياداً عجوزاً، اعتلت القارب، سمعناه يغني ويهزج، فبادلته البكاء.
قال بصوت أوهنه الزمن:
ـ هنا يا سيدتي.
دقت بمطرقة الباب النحاسي الكبير مرة ومرة، فتفرق الصوت أصداء، ارتدت إليها، ساد المكان صمت لم يقطعه سوى انفتاح الباب دارت مفاصله الصدئة التي لم تزيت منذ زمن طويل، فمزق صريره المؤلم أوتار قلبها، أطل عجوز له أنف مجدور، تساقط ريش جناحيه، فتح فمه الخالي من الأسنان، سأل:
ـ ماذا تريد السيدة؟
ـ أريد مقابلة سيدك.
قال بصوت شققته الأنواء والأيام:
ـ أخطأت السيدة التوقيت، فهو الآن يلعب الشطرنج و(يتسلى بمحاربة ذاته)(*).
ـ أرجوك...
لم تكمل، كان الباب يصر في وجهها نفس الصرير المؤلم حتى انغلق، ظلت تدق الباب حتى أدمت كفيها وأدركها اليأس، تركت السلة أمام الباب الموصد، واندفعت تجري في اتجاه النهر، علا صراخي ومزق اتساق الوجود من حوله، تململ في جلسته، كان يداعب لحيته وقد أحرج موقف الشاه، سأل:
ـ ما هذا الضجيج المقرف؟
أجابوه:
ـ طفلك.
ـ طفلي، ما كنت أعلم أن لي طفلاً، دعوني أرى أعاجيبي، هاتوه.
ـحملني العجوز إليه ووقف صاغراً، قلبني في يديه، اندهش وهو يفتش في جيوبه، قال مبتسماً:
ـ لم يعد لدي شيء أقدمه لك، سوى التجربة والألم، هه، خذهما، وحررني منهما والآن خذوه وألقوه خارجاً، فلم يعد معي شيء أعطيه لأحد.
هزوا رءوسهم مؤكدين وهم يطوحون بي في الهواء:
ـ لم يعد لديه شيء يعطيه لأحد.
**
كانت الشوارع خالية مقفرة، وقطرات المطر تنقر فوق أكتاف معطفي الرث، وهواء الليل البارد يصفع وجنتي المحمرتين وأذنيّ الملتهبتين، وها أنا شريد أمضي في الشوارع المظلمة أتخبط في الطرقات، أرفع عقيرتي بالغناء بعد أن رماني صاحب الحانة خارجها، أتسول السجائر من المارة المسرعين، يتسلل الماء الراكد إلى قدمي من ثقوب حذائي البالي، وأنا ماض سادر أمارس كل حماقاته.
* صدرت ضمن مجموعة قصص : طريد ـ الصادرة عن المركز الثقافي العربي ببيروت في عام 1996
* نقلا عن:
قصة "هكذا ولدت" - جمال مقار - صدى
أَنَّ أنين النائمين الهانئين، ثم حلم حلماً أثيراً ما ينفك يكرره، حاول أن يمسك بأطراف الحلم الذي راوغه، حتى داخله الشك في ذاته، هرش قفاه وأخرج من عباءته حورية بحرية، جدائل شعرها الأثيث غاية من الحلكة مرمية على أكتافها، غجرية تنعم مع الريح بفوضى وجودها، رفعت جبينها المذهب فطأطأت الشمس خجلا، رنت بعينيها الزرقاوين زرقة ماء المحيط والغامضتين غموض أغواره، جاءت طيور البحر وقأقأت فوق رأسها، وفرت الأسماك الصغيرة الملونة عندما مشت قدماها ـ اللتان تشبهان يمامتين من يمام الجبل ـ نحو الشاطئ.غطت رمال الشط قدميها المبتلتين وجلدهما الذي تغضن، مرت الريح بين فخذيها، فارتعد جسدها، وتلألأت أشعة الشمس على قطرات الماء التي تعلقت بالحرش الصغير عند مثلثعورتها، أدركت عريها، تلفتت حولها، رفعت عينيها إلى السماء وأغمضتهما، فأسدل الليل ستائره، مشت فمشى الوجود معها وغنت الأحلام، انبثق نجم الشرق الزاهر وتضوع عطر المساء فواحاً حاملاً عبق غرائزها الدفينة منذ الأزل، وسمع الليل نداء طبيعتها فنفخ في الصور، تلوى النداء غامضاً يعج بالحنين وسافر في الأرض الخلاء البكر وارتد إلى ثدييها المكورتين بحلمتيهما الحرشيتين البنيتين المنديتين، أنّت فاستعر الأنين بالحنين ملاحاً كان عائداً خالي الوفاض، رف حولها فلما باغتته بنظرة من عينيها، هوى متحطماً كسير الجناح، نظر متوسلاً إليها وهو يومئ لها أن تشيح بعينيها عنه، فمضت عنه، وفي زفة الطبيعة حولها تقافزت حيوانات البرية بأجسادها الضخمة ومشت صاغرة، كانت أفراس الماء بعيونها الكبيرة المضحكة تتثاءب، والحيات تزحف معها وأمامها
ظلت ترتحل، حتى بزغت الشمس من مكمنها في الماء لكنها لما رأتها هوت وسُمع أزيز اشتباكها مع الماء، ارتفعت سحابات من البخار الأبيض الكثيف؛ وطفت على وجه الماء أسماك ميتة، وغامت الدنيا في ظلمة لا يقطعها سوى دائرة من النور تند عن جسدها المضيء.
تقلقل في نومته وأحس لسعة البخار في جسده الشمعي، فارتفع عن سريره متكئاً على مرفقيه، من حوله حشد من المرنمين يترنم بصوت وان بأغان طفولية عذبة، نهض، فارتموا على الأرض ساجدين، تمطى وتثاءب، فرك عينيه، وابتسم لهم، رفع كفه في الهواء فارتفعت عنهم سحابة غضبه، قاموا من سجدتهم، وعادوا يرنمون بأصوات مرتجفة واهنة.
أزاح وجوده الظلمة جانباً، فسبحت الدنيا في شعاعات النور حين انعكس بهاء وجهه ألقاً على أديم الماء. أقدمت نحوه، نظر إليها نظرة أفعمها من جبروته، انتظر في كبريائه هنيهة أن تسقط، ولما رفع وجهه إليها رآها تنظر إليه هازئة مستخفة، ارتبك قليلاً، أشاحت بوجهها وأنفها الشامخ عنه، زمجر غضباً ففرت واختبأت خلف الستائر الأرجوانية الثقيلة، زأر غاضبا، فقفزت حيوانات البحر هلعاً إلى ماء النهر، ورمت حيوانات النهر بأجسادها إلى البحر، وفرت حيوانات الغابة إلى المدن المكتظة بالسيدات المذعورات، أحدث غضبه "دربكة" في الوجود انقلبت إلى فوضى كونية عامة، كادت تودي بالأشياء إلى هلاك مبين لولا تحرك ماء اللطف بقلبه المتحنن، أمر الأشياء أن تسكن وتهدأ وتؤوب إلى وداعتها الأولى، عاد ينظر إليها ليرى تأثير جبروته العامل في الأشياء، قابلته نفس النظرة المتهكمة الساخرة، قال أجرب أن أقطب حاجبي لعلها تستكين وتستجيب وتستنيم، ولما فعل ارتفعت المياه وغمرت وجه الأرض ورفت روحه فوق الغمر، فلم تستنم أو تستكن أو تستجب.
ظل يجرب الحيلة تلو الحيلة، قال لنفسه (لأريها بعضاً من عظيم أعمالنا)، أومأ إلى الجبل فهوى ساجداً متهدماً من خشيته، وقالت هي لأري الجبل بعضاً من آياتنا، رفع الجبل رأسه واسترق النظر إليها رأى فخذيها جبلين من حجارة بيضاء ملساء مشربة بحمرة الشفق، تأوه وهو يعبر بعينيه مثلثها، وصعد بنظره إلى بطنها الضامر، أخذه أنين من وجع أمسك بذكورته المشدودة، وحين واجه ثدييها بكى حسرة وهو يراهما يرضعان القمر، لحظة ثم مضى يتظر جيدها، رأى برجاً من أبراج القلاع القديمة، ود لو مشى بأنامله على شعرها السارح المتماوج، ولما هم، صرخ فيه السيد فهوى ملتفاً على ذاته مكسور الخاطر.
داعب السيد لحيته وقال (لأرينها عذاب الهداهد) صفق بكفيه، جاءوا بالهدهد المسكين، أمسك به ورنا إليها، جلس على حجر من الصوان أحس برودته تغزو جسده، فتململ في جلسته، وأفرغ غيظه في الهدهد، نتف ريشه وألقاه عارياً، جاءت طيور النورس ونقرت جسده حتى أدمته، رأى الشفقة تتسلل إلى قلبها حين همست (يا مسكين)، هم بذبح الهدهد، رآها تفر من أمامه وتختفي.
**
جاءت موجات الانكسار متتالية باردة وسكنت قلبه وصعدت إلى روحه المترفع، فانطوى على ذاته، قال هامساً لنفسه:
ـ يا ليتني ما حلمت بها، يا ليتني مت صبياً.
دق مائدته بقبضة يده، جاء الخدم سراعاً يرتجفون ناءت أكتافهم بالسفافيد المحملة بالثيران المشوية، وتأرجت في المكان رائحة الشواء الطيارة.
عافت نفسه الطعام بعد الثور الأول، زأر؛ فتشققت الأنحاء وهرول الخدم، وأُدخلت الجواري الراقصات في الثباب الشفيفة، تتمايل مع وقع الدفوف ودق الكفوف، شرب من الخمر المعتق في براميل مصنوعة من البلوط برميلين، حتى فاحت من جوفه روائح الأقبية، وترغى فمه بزبد فطر الظلمة والرطوبة وخمير المجد، غنى بصوت مبحوح، وسال على وجنتيه دمعه الأجاج، فاخضلت لحيته وتعلقت قطرات الدمع متكورة لامعة بشعر رقبته وبراح صدره.
**
كانت تلعب مع الظباء الصغيرة، تناديها ثم تختبئ منها خلفأشجار الحور، تغني، فتندهش الظباء وتشرئب بأعنافها باحثة عن الصوت المنغم، ثم تحني رقابها وتتشمم الأرض، وتعود لترفع رؤوسها، تدير عيونها الواسعة الكبيرة المتسائلة، حتى تناهى من بعيد صوت نشيج محموم ونحيب مر مكتوم، امتلكها الصوت، مشت إليه، هناك كان منكفئاً على المائدة يشخر، صنعت قطرات دموعه تحت قدميه مستنقـعاً من الماء والنـور، جاست أناملها في شعره الجعد، رفع وجهه الحزين ونظر في انكسار إليها، أمسكت يده وأنهضته، مشت به إلى الفراش، ألقى عباءته عن جسده فصار عارياً، رأته ذكورته الفاحشة فارتعد كل جسدها، خافت، لكنها كانت في دائرة الاشتهاء تتملكها جاذبيته وتضج بداخلها، تسمع خربشة مخالب قطط تموء وتصرخ، تمددت في الفراش كما تمدد، سبحت كفه الكبيرة المشعرة في أنهار جدائلها، تحسس جيدها، تأوهت، فمشت أصابعه إلى صدرها ، أنت، تكور الثديان واغتبط وجهها، انصرف بأنامله إلى موضع شهوتها، انهارت، وسُمع في الأكوان صوت ارتطام الألم واللذة والاشتهاء والنفور والحب والكراهية.
اعتلاها، وركض فوقها، شملها بساعديه، وتدحرجا على العشب الأخضر المضيء الذي نما فجأة تحتهما، تمددت فتمدد فوقها والتصق بطنه ببطنها وأحدث صوتاً غير مستحب، ولجها، فجأرت، زمجر من اشتباك الفرحة والعذاب في دمه. نهض عنها، رأى شهوته، أشاح عنها وهو يراها تسبح في لزوجة فيضه.
غاض ماء البحر وجف النهر وتشقق أديم الأرض، رآها بلا اشتهاء مطفأة السحنة، كأنها سراج نحاسي يعلوه الصدأ، مطفأ وملقى في ضوء النهار، كانت بلا حول ولا قوة، مهزومة ضعيفة، فتشت عن شهوتها وجدت بقايا منها التصقت بأناملها، نظرت إليه وهو يدك الأرض بقدميه العاريتين، يذرع الوجود جيئة وذهاباً ويرسل صياحات وحشية تدوي في سكون الكون حولهما.
أخذت من بقايا شهوتها وكحلت عينيها ورمت بسهامها الطائشة قلبه البارد، حين التقت عيونهما، نظر إليها ككتلة من اللحم الممضوغ المتفول مثل بصقته الخالدة على الطين والصلصال، يتراقص فوقها ملاك وشيطان يتبادلان المواقع، مد إصبع سبابته وغرسها في لحمها الطري في قرف، تملكتها أحاسيس متضاربة، كانت خائفة وواجفة ومهزومة أمامه، متدلهة متلهفة متوسلة إليه، مدت يديها وأمسكت جدائلها فرقتها على جسدها وغطته بها، مد كفه الكبيرة المشعرة ولملم جدائلها ورفع جسدها مثلما يرفع طفل عابث دمية، أرجحها في الهواء ثم طوحها، صرخت من عزم ما بها، مر جسدها الطائر بين الأنجم والأفلاك، هوت في ماء المحيط.
***
بعد انقضاء شهور الحمل وجملتها مائة، التفت حول سريرها جنيات البحر وحوريات العين، أطلقن البخور وتمتمن بالصلوات والأدعية، ثم غنين بصوت هامس وترنمن، صمتن حين تحزقت، فانزلقتُ أنا، اندهشتُ حين رأت عيناي النور، أدركت أنني واحد من نسله، ومن صلبه وترائبه خرجت أحمل بروز وجنتيه وعظمة أنفه ولون عينيه وبعضاً من ضعفه المهين.
***
تحت جنح الليل، وضعتني في سلة من الخوص المجدول، تدثرت في عباءة من الحزن والكبرياء الجريح، وتلفعت بالمكر والانكسار، هبطت بي النهر، نادت صياداً عجوزاً، اعتلت القارب، سمعناه يغني ويهزج، فبادلته البكاء.
قال بصوت أوهنه الزمن:
ـ هنا يا سيدتي.
دقت بمطرقة الباب النحاسي الكبير مرة ومرة، فتفرق الصوت أصداء، ارتدت إليها، ساد المكان صمت لم يقطعه سوى انفتاح الباب دارت مفاصله الصدئة التي لم تزيت منذ زمن طويل، فمزق صريره المؤلم أوتار قلبها، أطل عجوز له أنف مجدور، تساقط ريش جناحيه، فتح فمه الخالي من الأسنان، سأل:
ـ ماذا تريد السيدة؟
ـ أريد مقابلة سيدك.
قال بصوت شققته الأنواء والأيام:
ـ أخطأت السيدة التوقيت، فهو الآن يلعب الشطرنج و(يتسلى بمحاربة ذاته)(*).
ـ أرجوك...
لم تكمل، كان الباب يصر في وجهها نفس الصرير المؤلم حتى انغلق، ظلت تدق الباب حتى أدمت كفيها وأدركها اليأس، تركت السلة أمام الباب الموصد، واندفعت تجري في اتجاه النهر، علا صراخي ومزق اتساق الوجود من حوله، تململ في جلسته، كان يداعب لحيته وقد أحرج موقف الشاه، سأل:
ـ ما هذا الضجيج المقرف؟
أجابوه:
ـ طفلك.
ـ طفلي، ما كنت أعلم أن لي طفلاً، دعوني أرى أعاجيبي، هاتوه.
ـحملني العجوز إليه ووقف صاغراً، قلبني في يديه، اندهش وهو يفتش في جيوبه، قال مبتسماً:
ـ لم يعد لدي شيء أقدمه لك، سوى التجربة والألم، هه، خذهما، وحررني منهما والآن خذوه وألقوه خارجاً، فلم يعد معي شيء أعطيه لأحد.
هزوا رءوسهم مؤكدين وهم يطوحون بي في الهواء:
ـ لم يعد لديه شيء يعطيه لأحد.
**
كانت الشوارع خالية مقفرة، وقطرات المطر تنقر فوق أكتاف معطفي الرث، وهواء الليل البارد يصفع وجنتي المحمرتين وأذنيّ الملتهبتين، وها أنا شريد أمضي في الشوارع المظلمة أتخبط في الطرقات، أرفع عقيرتي بالغناء بعد أن رماني صاحب الحانة خارجها، أتسول السجائر من المارة المسرعين، يتسلل الماء الراكد إلى قدمي من ثقوب حذائي البالي، وأنا ماض سادر أمارس كل حماقاته.
* صدرت ضمن مجموعة قصص : طريد ـ الصادرة عن المركز الثقافي العربي ببيروت في عام 1996
* نقلا عن:
قصة "هكذا ولدت" - جمال مقار - صدى