أوقف عبد الرحيم سيارة اجرة وطلب من السائق الاتجاه الي منطقة الصحافة، كان يبدو متعجلا فاليوم يوم زفافه، قبل قليل تمت مراسيم اجراءات عقد الزواج، وانفض الحضور علي امل العودة لحضور الحفل مساء، عبد الرحيم كان مرتبكا قليلا لكنه كان واعيا لاهمية الزيارة التي عليه القيام بها الان، رغم شعوره بالارهاق من سيل الزيارات التي تعين عليه القيام بها منذ حضوره قبل ايام من احدي دول الخليج التي يعمل بها منذ سنوات، توقفت السيارة امام بيت صغير تظلل مدخله شجرة نيم وهرع عبد الرحيم داخلا، كان المساء يرخي سدوله وسمع دقات الساعة السابعة تنطلق في جهاز الراديو، استقبله عمه المقعد بحفاوة بالغة وبدموع غزيرة جعلته يستغرق في البكاء، فمنذ وفاة والده المفاجئة قبل سنوات تولي عمه عبد الكريم تربيتهم هو واخوته وتحمل نفقة تعليمهم، كان البيت خاليا الا من عمه الذي ذهبت زوجته الي بيتهم للمشاركة في مراسيم الزواج، جلس بجانب عمه وساعده علي اداء صلاة المغرب، ثم دخل الي المطبخ وصنع كوبين من الشاي له ولعمه، وقبل ان يستأذن خارجا قام بتشغيل جهاز التلفزيون الصغير في الفناء وفي تلك اللحظة جاءت جارتهم للاطمئنان علي الرجل المقعد فوجدت عبد الرحيم يساعده للانتقال من الكرسي الي فراشه.
قال العم: اذهب يا ولدي لابد انهم في انتظارك.
فقال عبد الرحيم سنأتي مع العروس غدا للسلام عليك.
وسأله العم: هل ستبقي طويلا ام ان الاجازة قصيرة، فقال عبد الرحيم للاسف اجازتي قصيرة لابد ان اعود خلال اسبوعين فقط والا واجهتني مشكلة في اقامتي هناك.
ودعه عبد الرحيم مندهشا من الدموع الغزيرة التي كانت تنطلق من عينيه، هاتف خفي لم يكترث له كان يوحي بأنها دموع الوداع، انه لن يري عمه مرة اخرى.
خرج من البيت مسرعا علي امل ان يستقل اول سيارة اجرة يصادفها، كان البيت يقع علي شارع جانبي صغير لذلك قرر ان يحث الخطي باتجاه الشارع الرئيسي حيث سيسهل الحصول علي سيارة اجرة، لحظة ان ابتعد عدة خطوات من بيت عمه توقفت بجانبه فجأة سيارة بيضاء صغيرة، هبط منها بسرعة ثلاثة رجال، بادره احدهم، هل انت عبد الرحيم محمد عبد الكريم، رد نعم، عرّف السائل نفسه بانه من جهاز الامن القومي مادا بطاقته في مواجهة عبد الرحيم، وطلب منه بهدوء ان يرافقهم لمباني الجهاز فقط لمدة نصف ساعة.
ركب عبد الرحيم مندهشا، معتقدا في البداية ان هناك خطأ ما، فهو لم يرتكب اية شئ يبرر اعتقاله من قبل جهاز الامن، قطعت السيارة عدة شوارع مظلمة، دون ان ينبس اي من مرافقيه بكلمة واحدة، قبل ان تتوقف في النهاية امام مبني معتم الواجهة، في الداخل كانت هناك صالة استقبال واسعة يجلس في نهايتها شخص امامه عدد من اجهزة التليفون، طلب احد الثلاثة من عبد الرحيم الجلوس لبضع دقائق، ثم اختفي الرجال الثلاثة من باب جانبي، لبث عبد الرحيم فترة جالسا دون ان يفهم شيئا، ثم بدأ يشعر بالقلق، نظر الي ساعة يده فعرف ان الحفل سيكون قد بدأ ولابد ان الجميع بدأوا يلاحظون غيابه، مرت ساعة واحدة، تقدم عبد الرحيم من الرجل الجالس في الاستقبال، لم يكترث له الرجل وواصل حديثه في التليفون وكان يقطع حديثه فقط ليرد علي جهاز اخر، بقي عبد الرحيم منتظرا لدقائق بدت له دهرا.
وفي النهاية التفت اليه الرجل سائلا عما يطلب، قال له عبد الرحيم لقد احضرني ثلاثة رجال الي هنا وطلبوا مني انتظار بضع دقائق، ولكن مضت اكثر من ساعة ولم يحضر احدهم، اشار الرجل لعبد الرحيم ليجلس، وقال انه سيسأل عن الامر.
عاد عبد الرحيم الى مكانه تاركا الرجل يتصل عبر الهاتف، مضت عدة دقائق قبل ان يستدعيه الرجل مرة اخرى ويبلغه بانه لم يجد احدا يعرف سبب استدعائه ولابد ان ينتظر لحين عودة الاشخاص الذين قاموا باستدعائه.
ابتلع عبد الرحيم جفاف حلقه وقال: ولكن اليوم يوم زفافي والساعة الآن ...
قاطعه الرجل: لا تضيع وقتك فانا لا استطيع ان افعل لك شيئا.
تجاوزت الساعة الثامنة بقليل، لم تبق علي نهاية الحفل سوي حوالي ساعة واحدة، فبسبب حظر التجول تنتهي الحفلات قبل الساعة العاشرة، لابد ان المدعوين تناولوا عشاءهم الان وبعضهم غادر المكان دون ان يراه، شعر بالحزن يعتصر قلبه، تذكر والدته التي ستكون قلقة للغاية لغيابه ونورا التي تجلس وحيدة في ثياب الزفاف، تذكر قصة شخص هرب ليلة زفافه، مفكرا هل من الممكن ان تعتقد نورا انه هرب في هذه الليلة تحديدا، هل سيفكر الناس انه لو كان يريد الهرب لفعل ذلك قبل عقد الزواج، لما حضر اصلا من خارج الوطن.
ثم اجتاحته نوبة امل، انهم سيطلقون سراحه بمجرد ان يكتشفوا انهم اخطأوا بالقبض عليه، تذكر كلامهم انهم يريدونه لبضع دقائق فقط، وفكر انهم كنوع من الاعتذار سيعيدونه بسيارتهم الي بيت عروسه خاصة وهو لن يستطيع التحرك بعد حلول ميقات حظر التجول.
مضت ساعة اخري دون ان يظهر احد، استبد القلق بعبد الرحيم فغادر مقعده متجولا في الصالة الواسعة، ثم شعر بالتعب فعاد الي مقعده، لابد ان الحفل قد انتهي الان وشرع العمال في تفكيك خيمة الزفاف الضخمة، ولابد ان اخوته يجوبون المستشفيات ومراكز الشرطة بحثا عنه.
فكر قليلا ثم توجه الي الرجل الجالس في الاستقبال مرة اخرى.
قال بصوت حزين، هل يمكنني استخدام الهاتف، فهز الرجل رأسه رافضا وقال، ان ذلك ممنوع!
عاد عبد الرحيم مرة اخرى الى مقعده وبحث عن سيجارة في جيبه فلم يجد شيئا، وفي تلك اللحظة تذكر بذلة زفافه التي كان مفترضا ان يعود قبل الحفل للمصبغة التي اودعها فيها لتنظيفها، اشارت عقارب الساعة الى العاشرة مساء، ميعاد حظر التجول، بدأت الحركة في الخارج تهدأ، واختفت اصوات السيارات.
اسلم عبد الرحيم جسده المنهك وترك رأسه نهبا للهواجس قبل ان يستغرق الى نوم مشوش، ليستيقظ فجأة على مشهد الرجال الثلاثة وقد احاطوا به، سحبوه خارجا في سيارة انطلقت الى الظلام .
صباح اليوم التالي كانت نورا لا تزال غارقة في دموعها، وقد تجمعت حولها بعض الفتيات يحاولن مواساتها، كان هناك ايضا بعض النساء من اقاربهن او من الجيران، كانوا يجلسون مع امها التي بدت غارقة في الصدمة، تردد اليا: ماذا سيقول عنا الناس.
في تلك الاثناء كان اخوة عبد الرحيم واصدقائه وجيرانهم، يمشطون المدينة، لم يتركوا قسما للشرطة او مستشفي او مقهي او شخصا تربطه بعبد الرحيم ولو علاقة بعيدة، عادوا مساء بخفي حنين، في اليوم الثالث نشروا اعلانا في الصحف اليومية باوصافه على امل ان يظهر شخص ما يكون قد راه، ولكن دون جدوى، وبعد اسبوعين من اختفائه سافرت والدته الى منطقة النيل الابيض لتقابل شيخا اشتهر بمقدرته على كشف مصير المفقودين، فاعطاها رقية تعلق في فناء البيت، ونوعا من البخور يطلق في البيت يوميا لحظة الغروب.
داخل السيارة امتدت ايدي قوية عصبت عينيه بقسوة، اظلمت الدنيا من حوله، كان يستمع لضحكاتهم، وتفاصيل وقوفهم الخاطف عند نقاط التفتيش، بعد دقائق قليلة توقفت السيارة، اقتيد وهو معصوب العينين ثم ازيلت العصابة، ودفع داخل غرفة ضيقة قبل ان يؤمر بأن يقف ويديه الى اعلى، كان هناك رجل يمسك سوطا وكلما ارتخت ايدي احد زملائه انهال عليه الرجل حتي تسيل دماءه.
قضي الليل كله واقفا ويداه مرفوعتان حتي انهار ارضا قبل ان تنهال عليه السياط .
بعد يومين من التعذيب اقتيد معصوب العينين وسمع وهو يعبر الفناء صوت ازيز الطائرات فعرف انه كان قريبا من المطار، وسمع من على البعد صوت غناء بعيد ينطلق من جهاز راديو سيارة عابرة فاجتاحه الحنين للحياة والحرية، كان صوت البلابل يغنون اغنية خاتم المني، استعادت ذاكرته صورا بدت كأنها لم تحفظ في ذاكرته، وانه كان يستعيدها من أمواج اللحن التي كانت تتدافع من حوله، فتذكر اياما سعيدة بدت له بعيدة وغامضة وغاصة برائحة نوار الليمون ورذاذ رياح ضوئية كانت تغرق ذاكرته.
ادخل الي غرفة جانبية ورفعت عنه العصابة فوجد نفسه يقف امام شخص كان يجلس الي مكتب صغير، طلب منه الرجل الجلوس وقدم له سيجارة، شعر عبد الرحيم بأمل ، وحاول ان يشرح للرجل بصوت متهدج ان هناك خطأ ما ولابد انهم يقصدون شخصا اخر يحمل نفس اسمه، اوضح الرجل بهدوء دون ان يكترث لكلامه، انه يصدقه لكن المشكلة ان هناك ادلة قوية تثبت ضلوعه في مؤامرة لتفجير بعض المنشات الوطنية، مضيفا ان اعترافه سيجنبه المزيد من التعذيب ويخفف عليه حكم المحكمة.
نورا بعد عدة ايام من الحادثة كانت قد بدأت تستعيد وعيها بالاشياء من حولها، كانت تشعر فقط بالخوف والارتباك من نظرات الناس حتي انها لم تجرؤ طوال ايام علي الخروج من البيت، ثم قررت اما ان تبحث عن عمل او تعود لمواصلة دراستها، عادت لتساعد والدتها في شئون البيت، وتساعد سمير ابن اختها الصغير في اداء فروضه المدرسية وعادت تمارس هوايتها في التريكو، تصنع اغطية للمناضد والمقاعد، تستخدم الخيوط الملونة لرسم زهور وحيوانات صغيرة.
يقول لها سمير الصغير: لماذا لا تغنين يا خالة نورا حين تعملين كما كنت تفعلين، فتغني له، تشعر بنفسها تتحول تدريجيا الي جدة، وهي تحكي له في الامسيات ليخلد للنوم، تحكي له حكاية فاطمة السمحة والغول، وحتي لا يثير منظره رعب الصبي، تسبغ علي غولها صفات انسانية، يبدو شهما وكريما لا يأكل الموتي بل يساعدهم للعودة الى جحيم الحياة، وفق برنامج تأهيلي. يبدأ بترانيم من الذاكرة تستلهم رصيدا منسيا، يتم غسله من غبار العتمة العالقة لدفعه مجددا لضوء النهار.
عادت بعد اشهر الى الجامعة، اعطتها تلك العودة دفعة اخرى لمواصلة الحياة، اكتشفت وجود بعض زملائها، ورغم انها تجنبت في الايام الاولى زيارة الاماكن التي التقيا فيها في الزمن الغابر، لكنها اكتشفت انه كان يستحيل ان تتجنب ذكراه، يسأل عنه بعض الاساتذة والزملاء، يذكرون كم كان انسانا لطيفا وخجولا، يذكرون مشاركاته الشعرية وميله للعزلة، تراهم يتحدثون عن شخص اخر كأنها لم تعرفه مطلقا، حتي وان كان زوجها رسميا حتي تلك اللحظة، تشعر حين تتألم لوقع الذكرى على قلبها مساء انها تتألم نيابة عن شخص اخر، سألها احد اساتذته مرة عنه مشيرا بلطف لعلمه بالعلاقة التي ربطت بينهما ايام الدراسة: الم تعودي تلتقينه؟.
لم تجد الجرأة لتعترف بأنه زوجها الذي غاب في ليلة زفافهما، قالت بتردد انها سمعت انه استقر في احدى دول الخليج، ضحك الرجل ضحكة قصيرة مندهشا وقال: لا اصدق انه اصبح يهتم بالمادة، كان دائما انسانا حالما، يحب تراب هذا البلد ولا يتنفس الا من هوائه كما كان يقول، وصمت برهة قبل ان يقول بحذر: معه حق علي كل حال، تغير حتي الهواء!
سمعت لدي عودتها الي البيت ان عمه مات قبل يومين، شعرت باخر خيط ربط بينهما ينقطع، في المساء تحكي لسمير قصة فاطمة السمحة والغول، يصبح غولها اليفا حتي ان سمير الصغير نفسه يلاحظ ان الغول قد تحول الي قط سعيد، حتي اظافره نظفتها فلم يعد بمقدروه ان يؤذي احدا، وفي النهاية البسته جلبابا وتركته ينطلق لينصح الناس في الشوارع ويساعد المسنين علي العبور في مناطق الزحام .
بدا اشبه بمعتوه حتي ان سمير شعر بالحزن لمأساته وتمني ان يراه مرة اخرى قويا يرّوع الناس بدلا من ان يطارده الصبية في الشوارع.
تنشغل بالرسالة التي تعدها في علم الانثروبولوجي، عن التحولات التي شهدتها المجتمعات البدوية في النصف الثاني من القرن العشرين، كانت على وشك السفر لتكمل بحثها ميدانيا في مناطق القبائل الرعوية في غرب الوطن، حين علمت بأنها حصلت علي حكم من المحكمة بالطلاق بسبب اكتمال فترة الغياب القانونية لزوجها، لم تشعر بالتحرر كما توقعت، وبانهيار اخر الحواجز امام سطوة نسيان شعرت بوقع خطاه في ذاكرتها، بدلا من ذلك شعرت بالحزن وبانها وحيدة في هذا العالم رغم ان البيت من حولها، اكتسي نفس ملامح الحزن الاولي ايام الزفاف الذي لم يكتمل، جاءت والدته قبل يومين وترجت والدتها ان ينتظروا قليلا قبل رفع دعوي الطلاق الي المحكمة، قالت ان الشيخ اكد لها ان ابنها موجود لم يمت ولم يسافر وأنه سيظهر قريبا.
تشاجرت والدتها مع والدته، كانت تجلس هي في غرفتها تستمع الي صراخ امها وعويل امه، قبل ان تغادر الاخيرة يتبعها صوت نواحها.
تشعر في المساء انها حبست الحزن في قلبها بدلا من ان تقصي صورته عن ذاكرتها.
رأته اثناء نومها يجلس محزونا في حديقة ورد مهجورة تعصف بها الرياح، كان يرتعش مثل طائر مبلول حين مد يده لها بوردة حمراء، صرخت حين امسكت بالوردة في يدها لتجد الدم يقطر منها. وفجاة رأت سمير الصغير وقد كبر فجأة يجري هلعا من الغول الذي كان يتبعه، توقف الغول حين رآها، وقد استعاد سطوته انتزع الوردة من يدها ووقف بعيدا عنهما في مركز العاصفة يتشمم بأنفه رائحة الدم في الوردة الحمراء.
يوليو 2003
قال العم: اذهب يا ولدي لابد انهم في انتظارك.
فقال عبد الرحيم سنأتي مع العروس غدا للسلام عليك.
وسأله العم: هل ستبقي طويلا ام ان الاجازة قصيرة، فقال عبد الرحيم للاسف اجازتي قصيرة لابد ان اعود خلال اسبوعين فقط والا واجهتني مشكلة في اقامتي هناك.
ودعه عبد الرحيم مندهشا من الدموع الغزيرة التي كانت تنطلق من عينيه، هاتف خفي لم يكترث له كان يوحي بأنها دموع الوداع، انه لن يري عمه مرة اخرى.
خرج من البيت مسرعا علي امل ان يستقل اول سيارة اجرة يصادفها، كان البيت يقع علي شارع جانبي صغير لذلك قرر ان يحث الخطي باتجاه الشارع الرئيسي حيث سيسهل الحصول علي سيارة اجرة، لحظة ان ابتعد عدة خطوات من بيت عمه توقفت بجانبه فجأة سيارة بيضاء صغيرة، هبط منها بسرعة ثلاثة رجال، بادره احدهم، هل انت عبد الرحيم محمد عبد الكريم، رد نعم، عرّف السائل نفسه بانه من جهاز الامن القومي مادا بطاقته في مواجهة عبد الرحيم، وطلب منه بهدوء ان يرافقهم لمباني الجهاز فقط لمدة نصف ساعة.
ركب عبد الرحيم مندهشا، معتقدا في البداية ان هناك خطأ ما، فهو لم يرتكب اية شئ يبرر اعتقاله من قبل جهاز الامن، قطعت السيارة عدة شوارع مظلمة، دون ان ينبس اي من مرافقيه بكلمة واحدة، قبل ان تتوقف في النهاية امام مبني معتم الواجهة، في الداخل كانت هناك صالة استقبال واسعة يجلس في نهايتها شخص امامه عدد من اجهزة التليفون، طلب احد الثلاثة من عبد الرحيم الجلوس لبضع دقائق، ثم اختفي الرجال الثلاثة من باب جانبي، لبث عبد الرحيم فترة جالسا دون ان يفهم شيئا، ثم بدأ يشعر بالقلق، نظر الي ساعة يده فعرف ان الحفل سيكون قد بدأ ولابد ان الجميع بدأوا يلاحظون غيابه، مرت ساعة واحدة، تقدم عبد الرحيم من الرجل الجالس في الاستقبال، لم يكترث له الرجل وواصل حديثه في التليفون وكان يقطع حديثه فقط ليرد علي جهاز اخر، بقي عبد الرحيم منتظرا لدقائق بدت له دهرا.
وفي النهاية التفت اليه الرجل سائلا عما يطلب، قال له عبد الرحيم لقد احضرني ثلاثة رجال الي هنا وطلبوا مني انتظار بضع دقائق، ولكن مضت اكثر من ساعة ولم يحضر احدهم، اشار الرجل لعبد الرحيم ليجلس، وقال انه سيسأل عن الامر.
عاد عبد الرحيم الى مكانه تاركا الرجل يتصل عبر الهاتف، مضت عدة دقائق قبل ان يستدعيه الرجل مرة اخرى ويبلغه بانه لم يجد احدا يعرف سبب استدعائه ولابد ان ينتظر لحين عودة الاشخاص الذين قاموا باستدعائه.
ابتلع عبد الرحيم جفاف حلقه وقال: ولكن اليوم يوم زفافي والساعة الآن ...
قاطعه الرجل: لا تضيع وقتك فانا لا استطيع ان افعل لك شيئا.
تجاوزت الساعة الثامنة بقليل، لم تبق علي نهاية الحفل سوي حوالي ساعة واحدة، فبسبب حظر التجول تنتهي الحفلات قبل الساعة العاشرة، لابد ان المدعوين تناولوا عشاءهم الان وبعضهم غادر المكان دون ان يراه، شعر بالحزن يعتصر قلبه، تذكر والدته التي ستكون قلقة للغاية لغيابه ونورا التي تجلس وحيدة في ثياب الزفاف، تذكر قصة شخص هرب ليلة زفافه، مفكرا هل من الممكن ان تعتقد نورا انه هرب في هذه الليلة تحديدا، هل سيفكر الناس انه لو كان يريد الهرب لفعل ذلك قبل عقد الزواج، لما حضر اصلا من خارج الوطن.
ثم اجتاحته نوبة امل، انهم سيطلقون سراحه بمجرد ان يكتشفوا انهم اخطأوا بالقبض عليه، تذكر كلامهم انهم يريدونه لبضع دقائق فقط، وفكر انهم كنوع من الاعتذار سيعيدونه بسيارتهم الي بيت عروسه خاصة وهو لن يستطيع التحرك بعد حلول ميقات حظر التجول.
مضت ساعة اخري دون ان يظهر احد، استبد القلق بعبد الرحيم فغادر مقعده متجولا في الصالة الواسعة، ثم شعر بالتعب فعاد الي مقعده، لابد ان الحفل قد انتهي الان وشرع العمال في تفكيك خيمة الزفاف الضخمة، ولابد ان اخوته يجوبون المستشفيات ومراكز الشرطة بحثا عنه.
فكر قليلا ثم توجه الي الرجل الجالس في الاستقبال مرة اخرى.
قال بصوت حزين، هل يمكنني استخدام الهاتف، فهز الرجل رأسه رافضا وقال، ان ذلك ممنوع!
عاد عبد الرحيم مرة اخرى الى مقعده وبحث عن سيجارة في جيبه فلم يجد شيئا، وفي تلك اللحظة تذكر بذلة زفافه التي كان مفترضا ان يعود قبل الحفل للمصبغة التي اودعها فيها لتنظيفها، اشارت عقارب الساعة الى العاشرة مساء، ميعاد حظر التجول، بدأت الحركة في الخارج تهدأ، واختفت اصوات السيارات.
اسلم عبد الرحيم جسده المنهك وترك رأسه نهبا للهواجس قبل ان يستغرق الى نوم مشوش، ليستيقظ فجأة على مشهد الرجال الثلاثة وقد احاطوا به، سحبوه خارجا في سيارة انطلقت الى الظلام .
صباح اليوم التالي كانت نورا لا تزال غارقة في دموعها، وقد تجمعت حولها بعض الفتيات يحاولن مواساتها، كان هناك ايضا بعض النساء من اقاربهن او من الجيران، كانوا يجلسون مع امها التي بدت غارقة في الصدمة، تردد اليا: ماذا سيقول عنا الناس.
في تلك الاثناء كان اخوة عبد الرحيم واصدقائه وجيرانهم، يمشطون المدينة، لم يتركوا قسما للشرطة او مستشفي او مقهي او شخصا تربطه بعبد الرحيم ولو علاقة بعيدة، عادوا مساء بخفي حنين، في اليوم الثالث نشروا اعلانا في الصحف اليومية باوصافه على امل ان يظهر شخص ما يكون قد راه، ولكن دون جدوى، وبعد اسبوعين من اختفائه سافرت والدته الى منطقة النيل الابيض لتقابل شيخا اشتهر بمقدرته على كشف مصير المفقودين، فاعطاها رقية تعلق في فناء البيت، ونوعا من البخور يطلق في البيت يوميا لحظة الغروب.
داخل السيارة امتدت ايدي قوية عصبت عينيه بقسوة، اظلمت الدنيا من حوله، كان يستمع لضحكاتهم، وتفاصيل وقوفهم الخاطف عند نقاط التفتيش، بعد دقائق قليلة توقفت السيارة، اقتيد وهو معصوب العينين ثم ازيلت العصابة، ودفع داخل غرفة ضيقة قبل ان يؤمر بأن يقف ويديه الى اعلى، كان هناك رجل يمسك سوطا وكلما ارتخت ايدي احد زملائه انهال عليه الرجل حتي تسيل دماءه.
قضي الليل كله واقفا ويداه مرفوعتان حتي انهار ارضا قبل ان تنهال عليه السياط .
بعد يومين من التعذيب اقتيد معصوب العينين وسمع وهو يعبر الفناء صوت ازيز الطائرات فعرف انه كان قريبا من المطار، وسمع من على البعد صوت غناء بعيد ينطلق من جهاز راديو سيارة عابرة فاجتاحه الحنين للحياة والحرية، كان صوت البلابل يغنون اغنية خاتم المني، استعادت ذاكرته صورا بدت كأنها لم تحفظ في ذاكرته، وانه كان يستعيدها من أمواج اللحن التي كانت تتدافع من حوله، فتذكر اياما سعيدة بدت له بعيدة وغامضة وغاصة برائحة نوار الليمون ورذاذ رياح ضوئية كانت تغرق ذاكرته.
ادخل الي غرفة جانبية ورفعت عنه العصابة فوجد نفسه يقف امام شخص كان يجلس الي مكتب صغير، طلب منه الرجل الجلوس وقدم له سيجارة، شعر عبد الرحيم بأمل ، وحاول ان يشرح للرجل بصوت متهدج ان هناك خطأ ما ولابد انهم يقصدون شخصا اخر يحمل نفس اسمه، اوضح الرجل بهدوء دون ان يكترث لكلامه، انه يصدقه لكن المشكلة ان هناك ادلة قوية تثبت ضلوعه في مؤامرة لتفجير بعض المنشات الوطنية، مضيفا ان اعترافه سيجنبه المزيد من التعذيب ويخفف عليه حكم المحكمة.
نورا بعد عدة ايام من الحادثة كانت قد بدأت تستعيد وعيها بالاشياء من حولها، كانت تشعر فقط بالخوف والارتباك من نظرات الناس حتي انها لم تجرؤ طوال ايام علي الخروج من البيت، ثم قررت اما ان تبحث عن عمل او تعود لمواصلة دراستها، عادت لتساعد والدتها في شئون البيت، وتساعد سمير ابن اختها الصغير في اداء فروضه المدرسية وعادت تمارس هوايتها في التريكو، تصنع اغطية للمناضد والمقاعد، تستخدم الخيوط الملونة لرسم زهور وحيوانات صغيرة.
يقول لها سمير الصغير: لماذا لا تغنين يا خالة نورا حين تعملين كما كنت تفعلين، فتغني له، تشعر بنفسها تتحول تدريجيا الي جدة، وهي تحكي له في الامسيات ليخلد للنوم، تحكي له حكاية فاطمة السمحة والغول، وحتي لا يثير منظره رعب الصبي، تسبغ علي غولها صفات انسانية، يبدو شهما وكريما لا يأكل الموتي بل يساعدهم للعودة الى جحيم الحياة، وفق برنامج تأهيلي. يبدأ بترانيم من الذاكرة تستلهم رصيدا منسيا، يتم غسله من غبار العتمة العالقة لدفعه مجددا لضوء النهار.
عادت بعد اشهر الى الجامعة، اعطتها تلك العودة دفعة اخرى لمواصلة الحياة، اكتشفت وجود بعض زملائها، ورغم انها تجنبت في الايام الاولى زيارة الاماكن التي التقيا فيها في الزمن الغابر، لكنها اكتشفت انه كان يستحيل ان تتجنب ذكراه، يسأل عنه بعض الاساتذة والزملاء، يذكرون كم كان انسانا لطيفا وخجولا، يذكرون مشاركاته الشعرية وميله للعزلة، تراهم يتحدثون عن شخص اخر كأنها لم تعرفه مطلقا، حتي وان كان زوجها رسميا حتي تلك اللحظة، تشعر حين تتألم لوقع الذكرى على قلبها مساء انها تتألم نيابة عن شخص اخر، سألها احد اساتذته مرة عنه مشيرا بلطف لعلمه بالعلاقة التي ربطت بينهما ايام الدراسة: الم تعودي تلتقينه؟.
لم تجد الجرأة لتعترف بأنه زوجها الذي غاب في ليلة زفافهما، قالت بتردد انها سمعت انه استقر في احدى دول الخليج، ضحك الرجل ضحكة قصيرة مندهشا وقال: لا اصدق انه اصبح يهتم بالمادة، كان دائما انسانا حالما، يحب تراب هذا البلد ولا يتنفس الا من هوائه كما كان يقول، وصمت برهة قبل ان يقول بحذر: معه حق علي كل حال، تغير حتي الهواء!
سمعت لدي عودتها الي البيت ان عمه مات قبل يومين، شعرت باخر خيط ربط بينهما ينقطع، في المساء تحكي لسمير قصة فاطمة السمحة والغول، يصبح غولها اليفا حتي ان سمير الصغير نفسه يلاحظ ان الغول قد تحول الي قط سعيد، حتي اظافره نظفتها فلم يعد بمقدروه ان يؤذي احدا، وفي النهاية البسته جلبابا وتركته ينطلق لينصح الناس في الشوارع ويساعد المسنين علي العبور في مناطق الزحام .
بدا اشبه بمعتوه حتي ان سمير شعر بالحزن لمأساته وتمني ان يراه مرة اخرى قويا يرّوع الناس بدلا من ان يطارده الصبية في الشوارع.
تنشغل بالرسالة التي تعدها في علم الانثروبولوجي، عن التحولات التي شهدتها المجتمعات البدوية في النصف الثاني من القرن العشرين، كانت على وشك السفر لتكمل بحثها ميدانيا في مناطق القبائل الرعوية في غرب الوطن، حين علمت بأنها حصلت علي حكم من المحكمة بالطلاق بسبب اكتمال فترة الغياب القانونية لزوجها، لم تشعر بالتحرر كما توقعت، وبانهيار اخر الحواجز امام سطوة نسيان شعرت بوقع خطاه في ذاكرتها، بدلا من ذلك شعرت بالحزن وبانها وحيدة في هذا العالم رغم ان البيت من حولها، اكتسي نفس ملامح الحزن الاولي ايام الزفاف الذي لم يكتمل، جاءت والدته قبل يومين وترجت والدتها ان ينتظروا قليلا قبل رفع دعوي الطلاق الي المحكمة، قالت ان الشيخ اكد لها ان ابنها موجود لم يمت ولم يسافر وأنه سيظهر قريبا.
تشاجرت والدتها مع والدته، كانت تجلس هي في غرفتها تستمع الي صراخ امها وعويل امه، قبل ان تغادر الاخيرة يتبعها صوت نواحها.
تشعر في المساء انها حبست الحزن في قلبها بدلا من ان تقصي صورته عن ذاكرتها.
رأته اثناء نومها يجلس محزونا في حديقة ورد مهجورة تعصف بها الرياح، كان يرتعش مثل طائر مبلول حين مد يده لها بوردة حمراء، صرخت حين امسكت بالوردة في يدها لتجد الدم يقطر منها. وفجاة رأت سمير الصغير وقد كبر فجأة يجري هلعا من الغول الذي كان يتبعه، توقف الغول حين رآها، وقد استعاد سطوته انتزع الوردة من يدها ووقف بعيدا عنهما في مركز العاصفة يتشمم بأنفه رائحة الدم في الوردة الحمراء.
يوليو 2003