أجمع أصدقائى واتفقوا فيما بينهم أن أمرى عجيب ، وأن رأسى ناشفة ، وكثيرا ما أركبها .. فى لحظات الانبساط والتجلى كنت أضحك عاليا وأرد عليهم :"هذا طول ذيل منكم ، فلو لففتم الكون كله فلن تجدوا رأسا كرأسى " ..
وفى أوقات الضيق والمشاكل وما أكثرها كنت أرد في حدة بالغة: "رأسي وأنا حر فيها ، أنشفها ، ألينها ، فالأمر يخصنى أنا وحدى .. إلا إن أردتم أن أركبكم أنتم كما تركب الحمير" ..
لهذا عندما ضقت بالانتظار فى حجرة الاستقبال وملأنى الملل بسببه .. أيقنت أن الأمر لم يعد ينفع فيه الصبر وأن من الخير أن أركب رأسى كما تعودت فإما أن أخرج ولا أعبأ به مع أنه هو الذى طلب لقائى ، وإما أن أنفذ ما يمليه على عقلى ، اخترت الحل الثانى خاصة وأنا أرى اللوحة الزيتية المواجهة لمقعدى بقصرها الفاخر .. كان القصر والحق يقال بالغ الروعة تجرى من تحته الأنهار وتحوطه الأشجار الباسقة من كل جانب .. وكانت الهليكوبتر الرابضة فوق السطح تبدو واضحة للأعين .. وهكذا وفى لمح البصر نفذت ما أملاه على عقلى وأصبحت جزءا من اللوحة .. وبدون تردد ولجت من الباب الرئيسى للقصر .. اعترضنى الحرس وقالوا:
ـ إلى أين؟
قلت: إليه .. أريد مقابلته.
قالوا: بهذه البساطة .. أفق وتنبه.
مططت شفتى وقلت لهم:
ـ أنا يقظ تماما .. وبالأمس وعلى غير عادتي نمت بما فيه الكفاية.
همهموا بكلام كثير غير مفهوم ثم قالوا:
ـ لكى تقابله فعليك أولا أن تسجل اسمك في هذا المكتب (وأشاروا تجاهه).
وعند هذا الموظف (وحددوه بأصابعهم).
قاطعتهم مستفسرا:
ـ وثانيا؟
قالوا: أو يكون هو الذى استدعاك ، وحينها فسيصاحبك مندوب عنه .. (صمتوا ثم أضافوا) فهل حدث شيء كهذا؟
هززت رأسي نفيا فما تعودت الكذب.
قالوا: إذن عليك بالانصراف وإلا فسنقذف بك خارج القصر فتسقط من عل وتشج رأسك الناشفة ويسيل دمك ..
سألوا: أتريد أن تشج رأسك؟
انفعلت وقلت: كله إلا رأسي .. لا دخل لكم بها .. ولتذكروا أنني واحد من الذين أتوا به إلى هنا ، ثم أنني عندي مظلمة وأريد أن أقدمها له ، أسلمها يدا بيد .. ولمعلوماتكم فستصبح مظلمتي هذه في المستقبل معلما من المعالم الأدبية وأثرا من الآثار .. وقد تدرس أيضا للتلاميذ في المدارس مثلها مثل مظلمة الفلاح الفصيح .. ألم تسمعوا بها؟
ـ لم نسمع.
ـ عجبا .. على كل سأقدمها له فقد سهرت ليالي بطولها وعمقها أنمقها وأنسقها وأجمع فيها كل الحقائق حتى أتت على هذه الصورة.
قالوا: اسمع .. لم يعد ينفع معك إلا أن نرفعك من يديك وقدميك هكذا ، ونظل نؤرجحك يمنة ويسرة هكذا ، حتى تستجيب لجاذبية الأرض فندعك تتهاوى وتسقط خارج حدود القصر ، ولا من رأى ولا من سمع .. أيضا فلن يلومنا أحد أو نخسر شيئا .. فلا دية لك ..
اكتفيت بما دار مع الحرس من حوار وتوجهت إلى حجرة المسجل ، سألني عن أسمى وسنى وعملي وأخيرا عن قصدي من الزيارة .. أجبته عن كل ما استفسر باستفاضة تامة .. سجل أجوبتي وأضاف عليها من عنده بيانات لم أثبتها تماما . كل هذا وأنا واقف أمامه والحجرة ممتلئة بخليط مختلف من الناس.
طال وقوفي فشعرت أن انتظاري السابق هناك كان أرحم من هذا بكثير .. على الأقل كنت أجلس على مقعد .. سألته: هل يطول بي الانتظار أكثر من هذا؟
أجابني باقتضاب:
ـ لا تسأل .. وحينما يأتي دورك سأنادى عليك.
قلت له في محاولة من جانبي لجذب انتباهه:
ـ سأروى لك ما حدث لصديقي.
* * *
(طرأ له موقف يقتضى أن يذهب إلى مقر الشرطة فذهب .. وصل إلى هناك فوجد فى انتظاره صفين من الجند ، سار بينهما فى ثبات واطمئنان يستعرضهما ، على مدخل الحجرة كان السيد الضابط قائما فى انتظاره وعلى وجهه بسمة عريضة .. رحب به فى مودة بالغة ثم سار أمامه مطأطئ الرأس وقد بسط يده وفرد كفه أما مشيرا للمقعد .. ساعده السيد الضابط بنفسه فى الجلوس وعندما اطمأن أنه مستريح تماما فى جلسته ، جلس بدوره .. ومن جديد عاد يلاحقه بعبارات الترحيب والمجاملة .. سأله عن مشروبه المفضل .. قهوة ، أم شاي؟ .. وهل يفضل العصير المثلج لمجموعة مختلطة من الفواكه أم لنوع محدد .. ثم استدعى بكل الأدب جنديا من جند الحراسة واستأذنه أن يحضر الساخن والمثلج معا ليختار هو بأيهما يبدأ .. فتح الصديق فمه ليشكره ولكن السيد الضابط ناشده بكل من يحبهم أن لا يقول شيئا ، وأكد له أنه لا يفعل ما يفعله إلا لأنه الواجب .. أشار تجاه اللوحة المعلقة على الجدار الأيمن للمكتب والمكتوب عليها بخط كبير واضح بما يفيد أن (الشرطة في خدمة الشعب) ثم أشار تجاه لوحة اليسار المتضمنة أنها أيضا (صديقة الشعب) ، وأكد له أنه مع كونه أعلى رتبة في هذا المقر فإنه ليس ببعيد عن المساءلة إن لم يتطابق سلوكه مع هذه الشعارات .. بل من المحتمل أن يكون عرضة للمثول أمام السيد الوزير شخصيا ، رتب الصديق في ذهنه كلمات ثناء يخصه بها هو والسيد الوزير ، لكن السيد الضابط ناشده بكل أحبائه أن لا يقول شيئا .. فلا شكر على واجب).
* * *
توقفت عن السرد ، والتفت إلى المسجل لأرى أثر ما قلته على تعبيرات وجهه لكن عينيه كانتا تغالبان النعاس .. فوجدتها أنا فرصة مناسبة كي أركب رأسي كما حدث من قبل عندما دخلت قصر اللوحة فتسللت خارجا من حجرته وأنا أسير بهدوء ومهل على أطراف أصابعي .. في الخارج واجهني ممر باذخ الفخامة .. لم أتردد للحظة عن السير فيه فقد كان شكله يوحى أنه سيؤدى في النهاية إلى قاعة ذات أهمية خاصة .. تذكرت أصدقائي وتمنيت لو رأوني وأنا أسير في هذا الممر الأسطوري فلولا رأسي الناشفة كما يصفونها لكنت الآن أغالب الملل والضيق وأنا أنتظر هناك في الحجرة .. أوقف استطرادي في التذكر صوت خطوات قادمة من الخلف تركض نحوى.
توقفت وقد أوجست شرا يراد بي ، ولما كان سقف الممر محمولا على أعمدة ضخمة من رخام ملون فقد اختبأت خلف واحد منها منتظرا ما ستسفر عنه الأحداث ، اتضحت الخطوات الراكضة وظهرت مجموعة من الجند راكبي الخيول وهم يسوقون أمامهم مجموعة من المدنيين المترجلين .. طرحت قلقي جانبا وظهرت أمامهم وقلت لرئيسهم المعتلي صهوة حصانه الأشهب:
ـ إلى أين تذهبون بهم؟
أمر جنده بإشارة من إصبعه أن يضموني إلى مجموعة المدنيين .. اعترضت وقلت له:
ـ أنا معي مظلمة وسأسلمها له ولا يحق لك أن تحول بيني وبين لقاءه.
لم يعقب .. فقط حول رأس حصانه تجاه ظهري ، وابتدأ يدفعني أماما فاضطررت أخيرا أن أركض مثلهم ، وكلما حاولت الاستدارة لألتفت نحوه كلما أرخى المقود لحصانه ، فتلتصق رأسه أكثر بفقرات ظهري ، تخيلت الفضيحة التي تنتظرني لو رآني الأصدقاء وأنا على هذا الحال ، على الدم في عروقي وانبطحت أرضا مفضلا أن تحرث جسدي سنابك الخيل على أن يروني.. حميت رأسي بكفى فقد كنت على استعداد أن أضحى بكل شئ إلا رأسي .. أخذت المفاجأة راكب الحصان فأغفل عنى لبرهة وجيزة ولكنها كانت كافية بأن تجعلني أركب رأسي وأصبح وراءها قال لي:
ـ لماذا فعلت هذا؟
قلت له: حصانك أتعب فقرات ظهري.
قال: عد كما كنت ولك وعد من ألا تمس شعرة من ظهرك بعد الآن.
قلت له: قبل كل شئ أريد أن أقابله وأقدم له بيدي المظلمة.
قال: سأحملها أنا نيابة عنك ، فأنا كثيرا ما أقابله .. ألا تثق بى؟
قلت: ولماذا لا أقابله أنا؟
قال: لأننى سأوسط معي صديقا له عزيزا عليه.
قلت له: وهل تعرف أنت صديقي؟
قال: أبدا.
قلت له: قد تسمح ظروفك أو ظروفه ذات يوم فتتقابلا وعندها سيعرف كل منكما الآخر، ومع ذلك .. فسأروى لك ما حدث لصديقي.
* * *
(طرأ له موقف يقتضى أن يذهب إلى ميدان الآراء فذهب .. كانت الجماهير هناك محتشدة وقد اصطفت صفوفا صفوفا في نظام بديع وهم يستمعون للكبير ، رآه الكبير فتوقف عن الكلام وأمر مستشاريه ومساعديه بأن يعدوا للقادم منصة كمنصته وأن يهيأ بكل ما يلزمها من مكبرات صوت وعدسات تلفزيون وملفات ومراوح وأضواء مباشرة ومستترة ، وأيضا بكأس الماء التقليدي الموضوع فوق طبق الكريستال .. ثم توجه بكلامه للجماهير يناشدهم أن يلتزموا النظام ليسمعوا من القادم رأيه باستيعاب يمكنهم من الحكم على أي من الرأيين أصوب .. تدخل الصديق وحاول أن يعرف الكبير أنه لم يأت ليقول كلاما بل ليسمع ما يقال وبعدها يكون رأيا .. ولكن الكبير لم يمكنه من الكلام فقد حث مستشاريه على بذل كل الجهد لإعداد المنصة ، وتوجه إلى الصفوف المتراصة ليحدثهم عن القادم ويبشرهم بكلامه المرتقب .. ثم امتدحه بعبارات ثناء لا مزيد عليه وأقسم أمامهم أن سعادته بحضوره ، لا تقدر بثمن .. تأمله الصديق وقد امتلأ خجلا لكثرة المديح وأشار للكبير بما يفيد أن هذا يكفى وأنه فعلا يقول الحقيقة فما حضر إلا ليسمع ثم يقول رأيه فيما سمعه .. تأمله الكبير معاتبا وناشده بكل أحبائه أن لا يقلل من شأن نفسه هكذا).
* * *
توقفت عن سرد ما حدث للصديق عندما تخيلت أن عيني راكب الحصان الأشهب تغالبان النعاس .. لمحت درجا عن يميني فارتقيته صاعدا وعقلي يحدثني أن رحلتي لم تكن إذن عبثا .. وأنني دون شك أسير في طريق صحيح سيقودني لا محالة إليه.. كان الدرج رحبا على غير المألوف حتى خيل لي أن عرضه لا يمكن أن تدركه عين .. استرعى انتباهي أنني أكاد أكون الشخص الوحيد الذى يرتقيه صعودا .. أما الآخرون فقد كان أكثرهم يتسابق هبوطا دون ما سبب واضح لهذا .. تولدت عندي رغبة شديدة في إحصاء عددهم ولكن كثرتهم ثبطت عزيمتي ، فصرفت النظر عن الأمر حتى لا أنشغل بهم فأتكاسل عن مواصلة الصعود .. لاحظت أن الأعداد الهابطة كانت تقل كلما ارتقيت أنا صاعدا .. فأيقنت أن ما هي إلا خطوات قليلة تفصلني عنه ..
قلت أجلس برهة لأستريح ولأهيئ نفسى للمقابلة .. كانت الجلسة مريحة وشيقة .. كدت من روعة المكان وهدوئه وصفائه أن أغفو ، قاومت وقلت ليس قبل أن أطمئن أولا على المظلمة .. لعجبي لم تكن في مكانها .. انزعجت .. مزقت كل جيوبي بحثا عنها ولا أثر لها .. جننت .. نزعت ما على من ملابس خشية أن أكون قد خبأتها في مكان ما ثم نسيته لطول الرحلة .. ولكن حتى رائحتها المألوفة لي لم أتبينها .. أصبح من المؤكد أنني سرقت ، وأن من سرقها لن يخرج عن واحد من ثلاثة .. إما راكب الحصان الأشهب .. وإما المسجل .. أو رئيس حرس الباب الرئيسي .. ولما كان من المتعذر أن أهبط الدرج مسرعا مثل الآخرين في محاولة من جانبي لاستعادتها من أي واحد منهم فقد ركبت رأسي وقلت ما المانع أن أكتب المظلمة من جديد .. بحثت عن قلم وورق لم أجد .. كان غريبا بالفعل أن يكون الدرج على هذه الصورة من الكمال ولا أثر لقلم أو قصاصة ورق .. قال لي واحد من القلائل الهابطين الدرج:
ـ نصيحة .. تعال نستبق في النزول لنتشجع.
كدت أستجيب لنصيحته ودعوته ، لكن رأسي تمردت وركبتها .. قلت له:
ـ سأصعد .. بإمكاني أن ألقى الشكوى بلساني ، ولن أجعل أية واسطة لي حتى الورق ..
استمررت صعودا فقد كان من المؤكد أنني على وشك دخول حجرته ..
نظر لي وقال:
ـ أين ملابسك؟
تنبهت أنني عندما نزعتها عنى أثناء بحثى عن المظلمة نسيت أن أرتديها من جديد .. قلت له وأنا أتجاوزه صعودا:
ـ ليس في الأمر أية غرابة أو إزعاج.
لم يتكلم .. قلت له:
ـ هذا سيكسبني ميزة أكثر ..
كان قد غاب عن عيني .. فتفرغت للصعود .. حتى وصلت إلى نهاية الدرج ووجدت نفسى أمام الباب مباشرة .. ابتدأت أدرب لساني على كل حرف سأقوله .. ثم استجمعت كل صلابة رأسي ودفعت الباب ودخلت ..
كانت الحجرة خالية ... ولا شئ.
30/9/1985
* من مجموعة قصصية " الصعود إلى القصر" ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، ديسمبر 1987
* عن
- صدى
وفى أوقات الضيق والمشاكل وما أكثرها كنت أرد في حدة بالغة: "رأسي وأنا حر فيها ، أنشفها ، ألينها ، فالأمر يخصنى أنا وحدى .. إلا إن أردتم أن أركبكم أنتم كما تركب الحمير" ..
لهذا عندما ضقت بالانتظار فى حجرة الاستقبال وملأنى الملل بسببه .. أيقنت أن الأمر لم يعد ينفع فيه الصبر وأن من الخير أن أركب رأسى كما تعودت فإما أن أخرج ولا أعبأ به مع أنه هو الذى طلب لقائى ، وإما أن أنفذ ما يمليه على عقلى ، اخترت الحل الثانى خاصة وأنا أرى اللوحة الزيتية المواجهة لمقعدى بقصرها الفاخر .. كان القصر والحق يقال بالغ الروعة تجرى من تحته الأنهار وتحوطه الأشجار الباسقة من كل جانب .. وكانت الهليكوبتر الرابضة فوق السطح تبدو واضحة للأعين .. وهكذا وفى لمح البصر نفذت ما أملاه على عقلى وأصبحت جزءا من اللوحة .. وبدون تردد ولجت من الباب الرئيسى للقصر .. اعترضنى الحرس وقالوا:
ـ إلى أين؟
قلت: إليه .. أريد مقابلته.
قالوا: بهذه البساطة .. أفق وتنبه.
مططت شفتى وقلت لهم:
ـ أنا يقظ تماما .. وبالأمس وعلى غير عادتي نمت بما فيه الكفاية.
همهموا بكلام كثير غير مفهوم ثم قالوا:
ـ لكى تقابله فعليك أولا أن تسجل اسمك في هذا المكتب (وأشاروا تجاهه).
وعند هذا الموظف (وحددوه بأصابعهم).
قاطعتهم مستفسرا:
ـ وثانيا؟
قالوا: أو يكون هو الذى استدعاك ، وحينها فسيصاحبك مندوب عنه .. (صمتوا ثم أضافوا) فهل حدث شيء كهذا؟
هززت رأسي نفيا فما تعودت الكذب.
قالوا: إذن عليك بالانصراف وإلا فسنقذف بك خارج القصر فتسقط من عل وتشج رأسك الناشفة ويسيل دمك ..
سألوا: أتريد أن تشج رأسك؟
انفعلت وقلت: كله إلا رأسي .. لا دخل لكم بها .. ولتذكروا أنني واحد من الذين أتوا به إلى هنا ، ثم أنني عندي مظلمة وأريد أن أقدمها له ، أسلمها يدا بيد .. ولمعلوماتكم فستصبح مظلمتي هذه في المستقبل معلما من المعالم الأدبية وأثرا من الآثار .. وقد تدرس أيضا للتلاميذ في المدارس مثلها مثل مظلمة الفلاح الفصيح .. ألم تسمعوا بها؟
ـ لم نسمع.
ـ عجبا .. على كل سأقدمها له فقد سهرت ليالي بطولها وعمقها أنمقها وأنسقها وأجمع فيها كل الحقائق حتى أتت على هذه الصورة.
قالوا: اسمع .. لم يعد ينفع معك إلا أن نرفعك من يديك وقدميك هكذا ، ونظل نؤرجحك يمنة ويسرة هكذا ، حتى تستجيب لجاذبية الأرض فندعك تتهاوى وتسقط خارج حدود القصر ، ولا من رأى ولا من سمع .. أيضا فلن يلومنا أحد أو نخسر شيئا .. فلا دية لك ..
اكتفيت بما دار مع الحرس من حوار وتوجهت إلى حجرة المسجل ، سألني عن أسمى وسنى وعملي وأخيرا عن قصدي من الزيارة .. أجبته عن كل ما استفسر باستفاضة تامة .. سجل أجوبتي وأضاف عليها من عنده بيانات لم أثبتها تماما . كل هذا وأنا واقف أمامه والحجرة ممتلئة بخليط مختلف من الناس.
طال وقوفي فشعرت أن انتظاري السابق هناك كان أرحم من هذا بكثير .. على الأقل كنت أجلس على مقعد .. سألته: هل يطول بي الانتظار أكثر من هذا؟
أجابني باقتضاب:
ـ لا تسأل .. وحينما يأتي دورك سأنادى عليك.
قلت له في محاولة من جانبي لجذب انتباهه:
ـ سأروى لك ما حدث لصديقي.
* * *
(طرأ له موقف يقتضى أن يذهب إلى مقر الشرطة فذهب .. وصل إلى هناك فوجد فى انتظاره صفين من الجند ، سار بينهما فى ثبات واطمئنان يستعرضهما ، على مدخل الحجرة كان السيد الضابط قائما فى انتظاره وعلى وجهه بسمة عريضة .. رحب به فى مودة بالغة ثم سار أمامه مطأطئ الرأس وقد بسط يده وفرد كفه أما مشيرا للمقعد .. ساعده السيد الضابط بنفسه فى الجلوس وعندما اطمأن أنه مستريح تماما فى جلسته ، جلس بدوره .. ومن جديد عاد يلاحقه بعبارات الترحيب والمجاملة .. سأله عن مشروبه المفضل .. قهوة ، أم شاي؟ .. وهل يفضل العصير المثلج لمجموعة مختلطة من الفواكه أم لنوع محدد .. ثم استدعى بكل الأدب جنديا من جند الحراسة واستأذنه أن يحضر الساخن والمثلج معا ليختار هو بأيهما يبدأ .. فتح الصديق فمه ليشكره ولكن السيد الضابط ناشده بكل من يحبهم أن لا يقول شيئا ، وأكد له أنه لا يفعل ما يفعله إلا لأنه الواجب .. أشار تجاه اللوحة المعلقة على الجدار الأيمن للمكتب والمكتوب عليها بخط كبير واضح بما يفيد أن (الشرطة في خدمة الشعب) ثم أشار تجاه لوحة اليسار المتضمنة أنها أيضا (صديقة الشعب) ، وأكد له أنه مع كونه أعلى رتبة في هذا المقر فإنه ليس ببعيد عن المساءلة إن لم يتطابق سلوكه مع هذه الشعارات .. بل من المحتمل أن يكون عرضة للمثول أمام السيد الوزير شخصيا ، رتب الصديق في ذهنه كلمات ثناء يخصه بها هو والسيد الوزير ، لكن السيد الضابط ناشده بكل أحبائه أن لا يقول شيئا .. فلا شكر على واجب).
* * *
توقفت عن السرد ، والتفت إلى المسجل لأرى أثر ما قلته على تعبيرات وجهه لكن عينيه كانتا تغالبان النعاس .. فوجدتها أنا فرصة مناسبة كي أركب رأسي كما حدث من قبل عندما دخلت قصر اللوحة فتسللت خارجا من حجرته وأنا أسير بهدوء ومهل على أطراف أصابعي .. في الخارج واجهني ممر باذخ الفخامة .. لم أتردد للحظة عن السير فيه فقد كان شكله يوحى أنه سيؤدى في النهاية إلى قاعة ذات أهمية خاصة .. تذكرت أصدقائي وتمنيت لو رأوني وأنا أسير في هذا الممر الأسطوري فلولا رأسي الناشفة كما يصفونها لكنت الآن أغالب الملل والضيق وأنا أنتظر هناك في الحجرة .. أوقف استطرادي في التذكر صوت خطوات قادمة من الخلف تركض نحوى.
توقفت وقد أوجست شرا يراد بي ، ولما كان سقف الممر محمولا على أعمدة ضخمة من رخام ملون فقد اختبأت خلف واحد منها منتظرا ما ستسفر عنه الأحداث ، اتضحت الخطوات الراكضة وظهرت مجموعة من الجند راكبي الخيول وهم يسوقون أمامهم مجموعة من المدنيين المترجلين .. طرحت قلقي جانبا وظهرت أمامهم وقلت لرئيسهم المعتلي صهوة حصانه الأشهب:
ـ إلى أين تذهبون بهم؟
أمر جنده بإشارة من إصبعه أن يضموني إلى مجموعة المدنيين .. اعترضت وقلت له:
ـ أنا معي مظلمة وسأسلمها له ولا يحق لك أن تحول بيني وبين لقاءه.
لم يعقب .. فقط حول رأس حصانه تجاه ظهري ، وابتدأ يدفعني أماما فاضطررت أخيرا أن أركض مثلهم ، وكلما حاولت الاستدارة لألتفت نحوه كلما أرخى المقود لحصانه ، فتلتصق رأسه أكثر بفقرات ظهري ، تخيلت الفضيحة التي تنتظرني لو رآني الأصدقاء وأنا على هذا الحال ، على الدم في عروقي وانبطحت أرضا مفضلا أن تحرث جسدي سنابك الخيل على أن يروني.. حميت رأسي بكفى فقد كنت على استعداد أن أضحى بكل شئ إلا رأسي .. أخذت المفاجأة راكب الحصان فأغفل عنى لبرهة وجيزة ولكنها كانت كافية بأن تجعلني أركب رأسي وأصبح وراءها قال لي:
ـ لماذا فعلت هذا؟
قلت له: حصانك أتعب فقرات ظهري.
قال: عد كما كنت ولك وعد من ألا تمس شعرة من ظهرك بعد الآن.
قلت له: قبل كل شئ أريد أن أقابله وأقدم له بيدي المظلمة.
قال: سأحملها أنا نيابة عنك ، فأنا كثيرا ما أقابله .. ألا تثق بى؟
قلت: ولماذا لا أقابله أنا؟
قال: لأننى سأوسط معي صديقا له عزيزا عليه.
قلت له: وهل تعرف أنت صديقي؟
قال: أبدا.
قلت له: قد تسمح ظروفك أو ظروفه ذات يوم فتتقابلا وعندها سيعرف كل منكما الآخر، ومع ذلك .. فسأروى لك ما حدث لصديقي.
* * *
(طرأ له موقف يقتضى أن يذهب إلى ميدان الآراء فذهب .. كانت الجماهير هناك محتشدة وقد اصطفت صفوفا صفوفا في نظام بديع وهم يستمعون للكبير ، رآه الكبير فتوقف عن الكلام وأمر مستشاريه ومساعديه بأن يعدوا للقادم منصة كمنصته وأن يهيأ بكل ما يلزمها من مكبرات صوت وعدسات تلفزيون وملفات ومراوح وأضواء مباشرة ومستترة ، وأيضا بكأس الماء التقليدي الموضوع فوق طبق الكريستال .. ثم توجه بكلامه للجماهير يناشدهم أن يلتزموا النظام ليسمعوا من القادم رأيه باستيعاب يمكنهم من الحكم على أي من الرأيين أصوب .. تدخل الصديق وحاول أن يعرف الكبير أنه لم يأت ليقول كلاما بل ليسمع ما يقال وبعدها يكون رأيا .. ولكن الكبير لم يمكنه من الكلام فقد حث مستشاريه على بذل كل الجهد لإعداد المنصة ، وتوجه إلى الصفوف المتراصة ليحدثهم عن القادم ويبشرهم بكلامه المرتقب .. ثم امتدحه بعبارات ثناء لا مزيد عليه وأقسم أمامهم أن سعادته بحضوره ، لا تقدر بثمن .. تأمله الصديق وقد امتلأ خجلا لكثرة المديح وأشار للكبير بما يفيد أن هذا يكفى وأنه فعلا يقول الحقيقة فما حضر إلا ليسمع ثم يقول رأيه فيما سمعه .. تأمله الكبير معاتبا وناشده بكل أحبائه أن لا يقلل من شأن نفسه هكذا).
* * *
توقفت عن سرد ما حدث للصديق عندما تخيلت أن عيني راكب الحصان الأشهب تغالبان النعاس .. لمحت درجا عن يميني فارتقيته صاعدا وعقلي يحدثني أن رحلتي لم تكن إذن عبثا .. وأنني دون شك أسير في طريق صحيح سيقودني لا محالة إليه.. كان الدرج رحبا على غير المألوف حتى خيل لي أن عرضه لا يمكن أن تدركه عين .. استرعى انتباهي أنني أكاد أكون الشخص الوحيد الذى يرتقيه صعودا .. أما الآخرون فقد كان أكثرهم يتسابق هبوطا دون ما سبب واضح لهذا .. تولدت عندي رغبة شديدة في إحصاء عددهم ولكن كثرتهم ثبطت عزيمتي ، فصرفت النظر عن الأمر حتى لا أنشغل بهم فأتكاسل عن مواصلة الصعود .. لاحظت أن الأعداد الهابطة كانت تقل كلما ارتقيت أنا صاعدا .. فأيقنت أن ما هي إلا خطوات قليلة تفصلني عنه ..
قلت أجلس برهة لأستريح ولأهيئ نفسى للمقابلة .. كانت الجلسة مريحة وشيقة .. كدت من روعة المكان وهدوئه وصفائه أن أغفو ، قاومت وقلت ليس قبل أن أطمئن أولا على المظلمة .. لعجبي لم تكن في مكانها .. انزعجت .. مزقت كل جيوبي بحثا عنها ولا أثر لها .. جننت .. نزعت ما على من ملابس خشية أن أكون قد خبأتها في مكان ما ثم نسيته لطول الرحلة .. ولكن حتى رائحتها المألوفة لي لم أتبينها .. أصبح من المؤكد أنني سرقت ، وأن من سرقها لن يخرج عن واحد من ثلاثة .. إما راكب الحصان الأشهب .. وإما المسجل .. أو رئيس حرس الباب الرئيسي .. ولما كان من المتعذر أن أهبط الدرج مسرعا مثل الآخرين في محاولة من جانبي لاستعادتها من أي واحد منهم فقد ركبت رأسي وقلت ما المانع أن أكتب المظلمة من جديد .. بحثت عن قلم وورق لم أجد .. كان غريبا بالفعل أن يكون الدرج على هذه الصورة من الكمال ولا أثر لقلم أو قصاصة ورق .. قال لي واحد من القلائل الهابطين الدرج:
ـ نصيحة .. تعال نستبق في النزول لنتشجع.
كدت أستجيب لنصيحته ودعوته ، لكن رأسي تمردت وركبتها .. قلت له:
ـ سأصعد .. بإمكاني أن ألقى الشكوى بلساني ، ولن أجعل أية واسطة لي حتى الورق ..
استمررت صعودا فقد كان من المؤكد أنني على وشك دخول حجرته ..
نظر لي وقال:
ـ أين ملابسك؟
تنبهت أنني عندما نزعتها عنى أثناء بحثى عن المظلمة نسيت أن أرتديها من جديد .. قلت له وأنا أتجاوزه صعودا:
ـ ليس في الأمر أية غرابة أو إزعاج.
لم يتكلم .. قلت له:
ـ هذا سيكسبني ميزة أكثر ..
كان قد غاب عن عيني .. فتفرغت للصعود .. حتى وصلت إلى نهاية الدرج ووجدت نفسى أمام الباب مباشرة .. ابتدأت أدرب لساني على كل حرف سأقوله .. ثم استجمعت كل صلابة رأسي ودفعت الباب ودخلت ..
كانت الحجرة خالية ... ولا شئ.
30/9/1985
* من مجموعة قصصية " الصعود إلى القصر" ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، ديسمبر 1987
* عن
- صدى