عبد الفتاح القرقني - وَ فَدَيْنَاهُ بِذَبْحٍ عَظِيــــــــمٍ


مَا إنْ جَلَسَتْ رِتَاجُ فِي حِجْرِ جَدِّهَا حُسَيْنٍ حَتَّى حَدَّثَتْهُ حَدِيثًا مُتَّسِمًا بِالصَّرَاحَةِ وَالْعَفْوِيَّةِ وَ هْيَ في غَمْرَةِ حُزْنِهَا تُقَبِّلُ جَبِينَهُ الْأَسْمَـرَ ، المُجَعَّدَ تَقْبِيلاً مُتَواتِرًا يَطْفَحُ بِحُبٍّ فَيّاضٍ ، مُتَدَفّقٍ كَمِيَاهِ الْيَنَابيع فِي وَاحَاتِ الْجَرِيــــدِ :
- « صَبِيحَةَ يَوْمِ عِيدِ الإضْحَى حَزِنْتُ حُزْنًا بَالِغًا وَ بَكَيتُ بُكَاءً مُرّا إِلَى أَنْ احْمَرّتْ مُقْلَتَــــــــايَ وَ انْتَفَخَتْ أَوْدَاجِي فَهَلْ تَدْرِي سَبَبَ ذَلِكَ الْكَمَدِ ؟ »
- « أَعَلَمُ عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّكِ لًمْ تَتَحَمَّلي إِضْجَاعَ كَبْشِكِ الْمُدَلَّــــلِ عَلَــــى التُّرَابِ وَ ذَبْحَه دُونَ اسْتِشَارَتِكِ »
- « لاَ فُضَّ فُوكَ أَيُّهأ الْجَدُّ النَّبِيلُ فَأَنْتَ مُصِيبٌ فِي مَا تَقُولُ »
- « إِنَّكِ أَثْنَاءَ ذَبْحِ الكَبْشِ اخْتَفَيْتِ خَلْفَ أُمِّكِ وَ غَطَّيْتِ وَجْهَكِ بأَطْرَافِ مِلْحَفَتِهَا الجَرْبِيَّــــــــــــةِ وَ أَجْهَشْتِ بِالِبُكَاءِ وَ أَنْتِ فِي حَالٍ يُرْثَى لَهَا مِنْ هَوْلِ الصَّدْمَةِ الَّتِي أَلّمّتْ بِكِ . كُنْتِ مُصْفَرَّةَ الْوَجْهِ ، زَائِغَةَ الْبَصَرِ ، شَاخِصَةَ الْعَيْنَيْنِ ، مُرْتَجِفَةَ الأَوْصَالِ، تَذْرِفِينَ دَمْعًا كَأَنَّه جَمْرٌ شَدِيدُ اللَّظَى »
- « سَيَلاَنُ الدَّمِ بِغَزَارَةِ كَالشَّلاَّلِ مِنْ رَقَبَةِ كَبْشِي الْأَقْرَنِ خَلَّفَ فِي نَفْسِي ذُعْرًا وَ فِي بَدَنِي وَهَنًــــــا وَ فِي قَلْبِي بَغْضَاءَ دَفِينَةً لَكَ - مِنْ أَلطَافِ اللهِ - لَمْ تَدُمْ طَوِيلاً.»
- « يَا صَغِيرَتِي كُونِي مُهَذًّبَةً وَ لاَ تَحْقِدِي عَلَيَّ فَأَنَا جَدُّكِ . كُونِي وَاثِقَةً مِنْ أَنَّنِي إِنْسَانٌ رَحِيمٌ ، شَفُوقٌ عَلَى الْحَيوَانِ فَالسِّكّينُ الَّتي ذَبَحْتُ بِهَا الأُضْحِيَةَ مَشْحُوذَةٌ و مَسْنوُنَةٌ لاَ تُوجِعُ الكَبْشَ أَيّ إِيجَاعٍ »
- « الْمَعْذِرَةَ عَنْ كُلِّ كَلاَمٍ جَارِحٍ يُغْضِبُكَ فَأَنْتَ عَلَى الدَّوامِ جَدٌّ وَقُورٌ ، مَرْفُوعُ الْهَامَــــةِ ، ذُو مُرُوءَةٍ وَ شَهَامَةٍ»
- « أَبْشِريِ أَبْشِري فَأَنَا عَافٍ عَنْكِ لِأَنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَفْوَ وَ يُبَارِكُ أَهْلَهُ »
- « شُكْرَا جَزِيلاً لَكَ عَلَى هَذَا الصَّفْحِ الْجَمِيِلِ وَ عَلَى هَذِهِ الأِبْتِسَامَاتِ الرَّقِيقَةِ الْمُتَأَلِّقَةِ عَلَى مًحَيَّاكَ تَأَلُّقَ اللَّآلِئِ عَلى تَاجِ السُّلْطَانِ»
- « مَرَّتْ عَلَى عِيدِ الْإِضْحَى أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ فَهَلْ مَا زِلْتِ كَئِيبَةً عَلَى فِرَاقِ كَبْشِكِ ؟ »
- « كَيْفَ لا تَنْقَبِضُ نَفْسي وَ لا يَضِيقُ صَدْرِي أَسَفًا عَلَى رَحِيلِـــهِ ؟ أَنْتَ تَجْهَلُ أَنَّ فَوْرَ ابْتِيَاعِهِ مِنَ الرَّحْبَةِ نَشأَتْ بَيْنِي وَ بيْنَهُ صَدَاقَةٌ حَمِيمِيَّةً تَمَيَّزَتْ بِنَقَاوَتِهَا وَ صِدْقِهَا فَمَا مَرَّ نَهَـارٌ بِدُونِ مُدَاعَبَــــــةٍ وَ مُــــــــــــزَاحِ وَ ضَحِـكٍ .
كُنْتُ كُلّ أَصِيلٍ عِنْدَمَا تُذَهِّبُ أَشِعَّةُ الشَّمْسِ سَعَفَ النَّخِيلِ أُطْلِقُ سَرَاحَهُ فِي سَاحَةِ الدّارِ بَعْدَ إِقْفَالِ بَابِ الْخَوَخَةِ فَيَقْفِـــــــزُ وَ يَعْدُو خَلْفِي لِيَنْطَحَنِي بِقَرْنَيْهِ المُعَقَّفَيْنِ نَطْحًا خَفِيفًا فَأَسْتَسْلِمُ لَهُ قَرِيرَةَ الْعَيْنِ ، زَاهِيَةَ النَّفْسِ ، مُكَرْكِرَةً بِضَحَكَاتِي الرَنّانَةِ الصَّافِيَةِ .»
مَسَحَتْ هَذِهِ البُنَيَّةُ الْجَمِيلَةُ بِرَاحَةِ يَدِهَا الْبَضَّةِ النّاعِمَةِ عَبَرَاتِهَا المُتَنَاثِرَةَ تَنَاثُرَ أَوَرَاقِ الخَرِيفِ عَلى خَدَّيْهَا القُرُنْفُلِيَيْنِ ثُمَّ أَرْدَفَتْ مُتَنَهِّدَةً ذَاكِرَةً كَيْفَ كَانَتْ تَرْعَاهُ وَ تَعْتَنِي بِنَظَافَتِهِ وَ جَمَالِهِ :
- « أَ نَسِيتَ أَيْضًا عِنَايَتِي الْفائِقَةَ بِهِ فَأَنَا كُنْتُ بِاسْتِمْرَارٍ أمْشطُ صُوفَهُ النّاصِعَ الْبَيَــاضِ بِالمِنــــــدَفِ وَ أُزَيِّنُهُ بِأَشْرِطَةٍ مُلَوَّنَـــــــةٍ وَ أُقَدّمُ لَهُ مِنَ الْعَلَفِ أَنْقَاهُ وَ أَجْوَدَهُ وَ مِنَ الْمَاءِ أَعْذَبَــــــــهُ وَ أَصْفَاهُ ؟» .
- « لا يعْلَمُ عِلْمَ الْغَيْبِ إِلاَّ اللهُ فَلَوْ كُنْتُ أَعْرِفُ شِدَّةَ تَعَلُّقِكِ بِهِ لذَبَحْتُ بَدَلاً مِنُهُ تَيْسًا أَقْرَنَ أَقَضَّ مَضْجَعِي بِثُغَائِهِ المُسْتَرْسِلِ وَ صُنَانِهِ النَّتِنِ»
- « جَدِّي هَلْ يُمْكِنُ أَنْ تَشْرَحَ لِي بِإِطْنَابٍ سَبَبَ ذَبْحِكَ لِكَبْشِي كَيْ يَطْمَئنَّ قَلْبي ويَنْقَشِعَ كَدَرِي ؟ »
- « كَبْشُكِ قَدَّمْتُهُ أَضْحِيَةٌ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ يَوْمَ عِيدِ الإِضْحَى تَأَسِّيًا بِإِبْرَاهيم الخَلِيلِ وَ سَيِّدِ الأَنَامٍ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ و السَّلاَمُ ».
- « ماذَا تَعْنِي بِعِبَارَةِ أُضْحِيَةٍ يَا جدّي ؟»
- « الْاُضْحِيَةُ هِيَ مَا يُذْبَحُهُ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ الْعِيدِ مِنَ بقــــرٍ و غَنَمٍ وَ إِبِلٍ تَقَرّبًا إِلَى اللهِ سُبْحَانَــــــــهُ و تَعَالَى »
- « لِمَاذَا شَرَعَ اللهُ الْأَضَاحِي عَلَى المُسْلِمِينَ ؟»
- « شَرِعَ الأُضْحِيَةَ تَكِريمًا لِنَبِيِّ اللهِ إِبْرَاهِيم وَ ابْنِهِ إِسْمَاعِيلِ عَلًيْهِمَا السَّلاَمُ »
- « هَلْ هُنَاكَ قِصَّةٌ فِي القُرْآَنِ الْكَرِيمِ تَحْكِي ذَلِكَ ؟ »
- « طَبْعًا هِيَ قِصَّةُ سَيِّدِنَا إِسْمَاعِيلَ الذَّبِيحُ وَ هْيَ قِصَّةٌ طَرِيفَةٌ زَاخِرَةٌ بِمَعَانِـي التَّضْحِيَةِ وَ الْفِدَاءِ.»
- « هَلْ سَتَسْرُدُهَا عَلَيَّ فِي هَذا الأَصيلِ السَّاحِرِ ؟ »
- « أَمْرُكِ للهِ يَا مَوْلاتِي الْأَمِيرَةُ الصَّغِيرَةُ فَأَنَا سَأَقُصُّهَا عَلَيْكِ مِنَ الْبِدَايَةِ إِلَى النِّهَايَةِ شَرِيطَةَ أَنْ تُصْغِي إِلَيْهَا بِإِمْعَانٍ لِتَفْهَمِيهَا فَهْمًا جَيّدًا يُجَنِّبُنِي الْإِعَادَةَ وَ التِّكْرَارَ»
وَمَا هِيَ إِلاّ دَقَائقُ مَعْدُودَةٌ حَتَّى أَصْلَحَ حُسَيْنٌ مِنْ جِلْسَتِهِ عَلَى حَصِيرِ جَدِيدٍ مِنَ السَّمَـــــــارِ و انْبَرَى فِي سَرْدِ الْحِكَايَةِ بِأُسْلُوبٍ شَيّــــــقٍ وَ قُدْرَةٍ فَائقَةٍ عَلَى تَجْسِيمِ الْأَحْدَاثِ الْمُتَعَاقِبَةِ بِتَرَاقُصِ حَاجِبَيْهِ الْكَثِيفَيْـــــــنِ وَ نَظَرَاتِ عَيْنَيْهِ الْوَدِيعَتَيْنِ مَرّةً و المـُتَّقِدَتَيْنِ مَرَّةً أُخْـــــرَى . كَانَ تَلَوُّنُ نَبَرَاتِ صَوْتِهِ يُضْفِي عَلَى السَّرْدِ رَوْنَقًا وَ بَهَاءً فَهْوَ تَارَةً يَرْفَعُ صَوْتَهُ عَالِيًا فِي تَشُنِّجٍ مُحْرِجٍ وَ طَوْرًا يُخَفِّضُهُ فِي هُدُوءٍ مُسْتَحَبٍّ تَسْتَطِيبُهُ النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ.
- « شَاءَتِ الأَقْدَارُ أَنْ تكُونَ سَارَّةُ عَلَيْهَا السَّلامُ عَاقِرًا لاَ تَلِدُ وَ كَانَتْ عَلَى غَايَةٍ مِنَ الْوَفَاءِ وَ الْإِخْلاَصِ لِزَوْجِهَا إِبْرَاهِيمَ الخَلِيلِ .وَ حِينَمَا تَقَدَّم أَبُ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْعُمرِ دُونَ أَنْ يُرْزَقَ مِنْهَا ذُرِيَّةً آلَمَهَا أَلاّ يَنْعَمَ بِالْوَلَدِ نَتِيجَةَ عُقْمِهَا فَطَلَبَتْ مِنْهُ الزَّواجَ مِنْ الْجَارِيَةِ هَاجِر لَعَلّهَا تُسْعِدُهُ بِمَا عَجِزَتْ هِيَ عَنْــهُ .
وَ مُنْذُ أَنْ تَزَوَّجَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ بِهَاجِرَ تَضَرَّعَ إِلَى اللَهِ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ بِطِفْلٍ صَالِحٍ يَشدُّ عَضُدَهُ وَ يُعِينُهُ عَلَى بَثِّ الدَّعْـوَةِ :« رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ». تَقَبَّلَ اللهُ دُعَاءَهُ فَرَزَقَهُ غُلاَمًا حَلِيمًا وَ وَسِيمًا سَمّاهُ إِسْمَاعِيلَ. سُرْعَانَ مَا شَبَّتْ فِي البَيْتِ يَقَظَةٌ عَارِمَـــــــــةٌ وَ أَشْرَقَ فِيِهِ نُورٌ سَاطِعٌ إِذْ أَصْبَحَ إِسْمَاعِيلُ قُرَّةَ عَيْنِ وَالِدَيْهِ فَهُمَا فِي قِمَّةِ ابْتِهَاجِهِمَا يُغْدِقَانِ عَلَيْهِ فَيْضًــــا مِنَ الْمَــــوَدَّةِ وَ الرِّعَايَــةِ وَ الْعَطْفِ.
وَ حِينَمَا أَنَافَ هَذَا الْوَلَدُ عَلَى عَشَرَةِ أَعْوَامٍ رَافِقَ أَبَاهُ فِيَ سَعْيِهِ الدَّؤوبِ وَ تِرْحَالِهِ المُضْنِي فَحَظِيَ بحُبِّهِ الجَمِّ وَ تَقْدِيرِهِ الفَائِقِ . ذَاتَ لَيْلَةٍ أَبْصَرَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ فِي الْمَنَامِ اَنَّهُ يَذْبَحُ وَلَدَهُ إِسْمَاعِيلَ وَ رُؤْيَا الأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ مِنَ السّمَاءِ . »
اِهْتَزَّتْ رِتَاجُ اهْتِزَازَ الْأشْجَارِ إِبًّانَ الْعَواصِفِ وَ اسْتَوَتْ وَاقِفَةً ثُمَّ جَلَسَتْ عَلَى الْحَصِيرِ قُبَالَةَ جَدِّهَا حُسَيْنٍ وَ هْيَ تَقُولُ بِصَوْتِ مُتَهَدِّجٍ يُخَيِّمُ عَلَيهِ التَّوَتُّرُ وَ الذُّعْرُ وَ الْارْتِبَاكُ :
- « أ فَبَعْدَ أْنْ رَزَقَهُ اللهُ الْوَلَدَ الصَّالِحَ الَّذي طَالَمَا تَمَنّاهُ يَأْمُرُهُ أَنْ يَذْبَحَهُ بِيَدِهِ؟. يَا لَهَا مِنْ مِحْنَةٍ قَاسِيَةٍ ، رَهِيبَةٍ تَخِرُّ لِهَوْلِهَا الْجِبَالُ الرَّوَاسِي وَ تَقْشَعِرُّ لَهَا الأَبْدَانُ ! يَا لَهُ مِنْ ابْتِلاَءٍ عَظِيمٍ مُزَلْـــزِلٍ! »
- « تَابِعِي أَطْوَارَ هَذَا الْابِتِلاَءِ بِبَصِيرَةٍ وَ تَبَصُّرٍ فَإنَّ بَعْدَ العُسْرِ يُسْرًا »
- « كُنْ عَلَى يَقِينٍ مِنْ ذَلكَ يَا أَلْطَفَ جَدِّ فَأنَا سَأُنْصِتُ إِلَى بَقِيَّةِ أَحْدَاثِ القِصَّةِ فِي شَـــــــوْقٍ جَارِفٍ
وَ إِجْلاَلٍ لِعَظَمَةِ اللهِ »
- « أَفَاقَ سَيِّدُنَا إِبْرَاهِيمُ مِنْ نَوْمِــــــهِ مَذْعُورًا لَكِنَّهُ مُدْرِكٌ، وَاثِقٌ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الرُّؤْيَةَ إِشَارَةٌ مِنْ رَبِّهِ لِلتَّضْحِيَةِ وَ الفِدَاءِ. إِنَّهُ لَمْ يَتَرَدَّدْ فِي الاسْتِجابَةِ لِأَمْرِ الله وَ لَمْ يَخْطُرْ لَهُ سِوَى خَاطِرِ الْإِيمَـــــــــــــــــــانِ وَ التَّسْلِيمِ. لَمْ يَتَسَاءَلْ إِطْلاَقًا لِمَ أَمَرَهُ رَبُّهُ بِذَبْحِ ابْنِهِ فِي مَرْحَلَةِ الشَّيْخُوخَةِ بَلْ كَانَ صَبورٌا ، ثَابِتَ الجَنَانِ ، مُرْتَاحَ الْبَالِ ، لاَ تُساوِرُهُ الْهَوَاجِـــــسُ وَ لاَ تَنْتَابُهُ الظُّنُونُ .
فِي الْحِينِ عَرَضَ رُؤْيَاهُ عَلَى إِسْمَاعِيلَ لِيَمْتَحِنَ إِيمَانَهُ :« يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى ». أَجَابَ الاِبْنُ فِي رَباطَةِ جَأْشٍ مُلَبِّيًا النِّدَاءَ :« افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ»
عَزَمَ إبراهيم عَلَيْهِ السَّلامُ عَلَى ذَبْحِ إِسْمَاعِيلَ فَأَحْضَرَ سِكِّينًا مَسْنوُنَةً وَ اقْتَادَهُ إِلَى أَحَدِ شِعَابِ الجِبَالِ بمُنَى حَتَّى لاَ تَهْتَدِيَ إِلَيْهِ هَاجِرُ فَيَبْطُلَ التَّنْفيذُ وَ تَستَحِيلَ الْاِسْتِجَابَةُ لِأَمْرِ اللهِ.
وَ فِي مَشْهَدٍ مُذْهِلٍ يُتَرْجِمُ لَنَا الصَّبْرَ الْجَمِيلَ وَ الرِّضَاءَ المُطْلَقَ بِقَضَاءِ اللهِ وَ الْاِمْتِثَالَ لِأَوامِرِهِ أَضْجَعَ سَيِّدُنَا إِبْرَاهِيمُ نَجْلَهُ بِكُلِّ شَفَقَةٍ وَ رَحْمَةٍ عَلَى جَبِينِهِ حَتَّى لاَ يُبْصِرَ وَجْهَهُ فَيُشْفِقَ عَلَيْهِ وَيَتَرَدَّدَ فِي الذَّبْـــــحِ .
نَصَحَ إِسْمَاعِيلُ وَالِدَهُ قَائِلاً وَ هْوَ يَنْتَظِرُ فِي إِيمَانٍ اللَّحَظَاتِ الْحَاسِمَةَ الَّتِي سَيَتِمُّ فِيهَا التَّكْبِيرُ وَ الذَّبْحُ : « يَا أَبتِ اُشْدُدْ رِبَاطِي حَتَّى لاَ أضْطَرِبَ وَ اكْفُفْ عَنِّي ثَوْبَكَ حَتَّى لاَ يَنْتَضِحَ عَلَيْهِ مِنْ دَمِي فَتَرَاهُ أُمِّي فَتَحْزَنَ عَلَيَّ حُزْنًا عَمِيقًا ، وَ أَسْرِعْ تَمْرِيرَ السِّكِينِ عَلَى حَلْقِي لِيَكُونَ أَهْوَنَ لِلْمَوْتِ عَلَيَّ فَإِذَا أَتَيْتَ أُمِّي فَاْقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلامَ.»
لَمْ تَتَحَمَّل رِتاجُ هَوْلَ فَاجِعَةٍ عَلى وَشَكِ الوُقُوعِ فَصَاحَتْ وَ هْيَ مُتَشَنِّجَةُ الأَعْصَابِ تُحَدِّقُ بِبَصًرٍ مِنْ حَدِيدٍ فِي سَمَاءٍ مُغْبَرَّةِ مِنْ خِلاَلِ بِلَّورِ النَّافِذَةِ:
- « يَا سَيِّدِي إِبْرَاهيمُ إِيَّاكَ أَنْ تذْبَحَ ابْنَكَ إِسْمَاعِيلَ بَلْ دَعْهُ يَعِيشُ آمِنًا كَسَائِرِ الْأَطفَالِ يَسْتَنْشِقُ نَسَائِمَ الْحُرِّيَةِ وَ يَمْرَحُ وَ يَتَسَلَّى وَ يَنْهَلُ مِنَ الْعُلُومِ وَ الْمَعَارِفِ الَّتِي وَ تُنَمِّي مَدَارِكَهُ الْعَقْلِيَّةَ وَ تَصْقُلُ ذَوْقَهُ وَ تُرْهِفُ إِحْسَاسَهُ وَ وِجْدَانًهُ فَيَشُبَّ مُتَوَازِنَ الشَّخْصِيَّةِ نَافِعًا لِأَهْلِهِ وَ وَطَنِهِ .
خَيَّمَ عَلَى الْحُجْرَةِ صَمْتٌ رَهِيبٌ كَصَمْتِ القُبُورِ فَحُسَيْنٌ تَسَمَّرَ فِي مَكَانِهِ بِلاَ حَراكٍ كَالصَّنَمِ وَ هْوَ بَاهِتٌ فَاغِرُ الْفَمِ ، شَارِدُ الْفِكْر لاَ يَنْبِسُ بِبِنْتِ شَفَةٍ أَمّا رِتَاجُ فبَقِيَتْ تَنْتَظِرُ عَنْ مَضَضٍ مِنْ إِبْرَاهِيمَ
الخَلِيلِ رَدًّا شَافِيًا ضَافِيًا فِيهِ إحْجَامٌ عَنْ ذَبْحِ الصَبِيِّ إِسْمَاعِيلَ. لاَ حَيَاةَ لِمَنْ تُنَادِي وَ لاَ اسْتِجَابةَ لِنِدَائهَا مِمَّا أَجّجَ لَهِيبَ حَيْرَتِهَا وَ أَثَار تَعَطشَهَا إِلَى جَوابٍ مُقْنِعٍ يَنْسَجِمُ مَعَ قَنَاعَاتِهَا . اسْتَطْرَدَتْ قَائَلَةً بِلَهْجَةٍ قَاسِيَةٍ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الصَّرَامَةِ وَ البَلاَهَـــــةِ و التَّحَدِّي :
-« يَا إِبرَاهيمُ هَلْ تَسْمَعُنِي ؟ يَا إِبرَاهيمُ هَلْ تَسْمَعُنِي ؟ يَا إِبْرَاهِيمُ تَدَبَّرْ أَمْرَكَ وَ انْثَنِ عَنْ ذَبْحِ إِسْمَاعِيل قُرَّةِ عَيْنِكَ وَ سَنَدِكَ الْمَتِينِ عِنْدَ الْكِبَرِ. لاَ تَرْتَكِبْ أَيَّ حَمَاقَةٍ فِي شَأْنِهِ فَتَعُضَّ بَنَانَ النَّدَمِ وَ تَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا »
هَرَعَ سُلَيْمَانُ وَالِدُ رِتَاج وَ جدَّتُهَا خَدِيجَةُ إِلَى عُرْفَةِ الِاسْتِقْبَالِ لِمَعْرِفَةِ جَلِيَّةِ الأَمْــــــــــــرِ و هُمَا عَلَى غَايَةٍ مِــــــــــــنَ الانْدِهَاشِ وَ الاسْتِنْفَارِ و الْحَيْرَةِ . هَذِهِ خَدِيجَةُ تُجَفِّفُ دُمُوعَ حَفِيدَتِهَا رِتَاج بِمِنْدِيلٍ أَبْيَــــــــضَ وَ تَدُسُّ فِي جَيْبِ تَنّوُرَتِهَا الزَّرْقَاءِ حَفْنَتَيْنِ مِنَ الْحَلْوَى لَعَلَّهَا تَسْكُتُ وَ تَطْمَئِنُّ وَ ذَاكَ سُلَيْمَانُ يُطَوِّقُ رَقَبَةَ ابْنَتِهِ بِذِرَاعَيْهِ الْمَدِيدَيْنِ وَ يُقَبِّلُ جَبِينَهَا الْأَغَرَّ تَقْبِيلاً حَارًّا ثُمَّ يُلاَطِفُهَا بِقَوْلٍ لَيِّنٍ دُونَ أَنْ تُفَارِقَ الْبَسَمَاتُ الْعَذْبَةُ ثَغْرَهُ :
- « لِمَ تَصِيحِينَ أَيَّتُهَا البَلْهَاءُ وَ أنْتِ دَاخِلَ هَذِهِ الْغُرْفَةِ الآمِنَةِ، المُحَصَّنَةِ بِذِكْرِ اللهِ مِنَ العَفَارِيـــــتِ و الْجَانِ ؟»
- « اِرْتَعْتُ خَوْفًا وَ هَلَعًا لَمّا أَضْجَعَ إِبْرَاهيمُ الْخَلِيلُ فَلْذَةَ كَبِدِهِ عَلَى وَجْهِهِ وَ كَبَّرَ تَكْبِيـــرًا إِيذَانًا بذَبْحِهِ ؟ »
-« لاَ دَاعِيَ للصِّيَاحِ أَيَّتُهَا الجَبَانَةُ فَطَاعَةُ اللهِ وَاجِبَةٌ لاَ فِرَارَ مِنْهَا ؟ »
- « أُرِيدُ أَنْ أُوَجَّه الْآنَ رِسَالةً صَوْتِيَّةً إِلَى إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ : اعْدِلْ عَنْ ذَبْحِ هَذَا الْغُلاَمِ المِسْكِينِ الَّذي يَكْبُرُنِي بِثَلاَثِ سَنَوَاتِ وَ قَدِّمْ قُرْبَانًا للهِ بَدَلاً مِنْهُ تَيْسًا أَقْرَنَ أَقْلَقَ رَاحَتِـي بِثُغَائِـــــــــــهِ المُتَوَاصِـلِ و نَطْحِهِ الشَّدِيدِ»
- « يَا ابْنَتِي الْفَاضِلَةَ عِي جَيِّدَا أَنَّ إِبْرَاهيمَ الْخَلِيلَ مُطِيعٌ لِلْمَوْلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ، مُنْصَاعٌ لِأَوَامِرِهِ يُنَفِّذُهَا بِحذافيرها دُونَ قَيْدٍ أَوْ شَرْطٍ وَ عِي جَيِّدًا أَنَّ قِصَّةَ إِسْمَاعيلَ الذَّبِيحِ جَاءتْ مُنْذُ حَوَالَيْ أَرْبَعَةِ آلاَفِ سنَةٍ تَقْرِيبًا لِتَضعَ حَدًّا لِلِقَرَابِينِ وَ الذَبَائِحِ الْبَشَرِيَّةِ الَّتِي تُقَدَّمُ لِلْآلِهَــــــةِ إِرْضَاءً لَهَا وَ خَوْفًا مِنْ سُخْطِهَا فِي شَكْلِ طُقُوسٍ وَحْشِيَّةٍ مُرْعِبَةٍ »
- « يا أبتاهُ أَنَا يَقْشَعِرُّ بَدَنِي مِنْ تِلْكَ الْمَذَابِحِ الْبَشَرِيَّة وَ مِنْ أَيِّ تَعذِيبِ فِي هَذَا الزَّمَانِ الأرعنِ يَنْصَبُّ على أَطْفَالٍ أَبْرِيَاءَ لا حَوْلَ لَهُمْ وَ لاَ قُوَّةَ فِي عُمُرِ الوُرودِ.»
- « اطْمَئنّي يَا عَزِيزَتِي فَالْقَرَابِينُ الِبَشَرِيَّةُ اِرْتَبَطَتْ بِبَعْضِ الْحَضَرَاتِ الْقَدِيمَةِ جِدًّا و انْدَثَرَتْ بِانْدِثَارِهَا أَمّا مَا يُؤَرِّقُنِي طَوَال عِدَّةِ سَنَوَاتٍ عِجَافٍ هُوَ التَّنْكِيلُ بِأَطْفَالِ فَلَسْطِيــــــــنَ وَ سُوريَا وَ الْيَمَـــنِ وَ الْبُورْمَا دُون مِثْقَال ذَرَّةٍ مِنَ الشَّفٌةِ و الرَّحْمَةِ .»
- « صُوَرٌ بَشِعَةٌ وَ مَقَاطِعُ فِيدْيُو فَظِيعَةٌ يَنْدَى لَهَا الْجَبِنُ فِي الأَخْبَارِ وَ الْبَرَامِجِ الوَثَائقِيَّةِ : وُجُوهٌ مُشَوَّهَةٌ ... أَيَادِي وَ أَرْجُلٌ مَبْتُورَةٌ ... ضَرْبٌ مُبَرَّحٌ وَ اغْتِصَابٌ فِي السُّجُونِ ... اخْتِنَاقُ بِغَازِ الخَرْدَلِ وَ الكلُورِ ... حِصَارٌ مَقِيتٌ فَلا حَلِيبٌ و لا دَواءٌ و لا عِلاجٌ وَ لاَ رِعَايَةٌ ... تَجْوِيعٌ وَ تَغْرِيبٌ وَ تَشْرِيدٌ ... مَقَابِرُ جَمَاعِيَّةٌ وُئِدَ فِيهَا المِئَاتُ مِنَ المُضْطَهَدِينَ مِنْ مخْتَلَفِ الأَعْمَارِ أَغْلَبُهُمْ مِنَ الأَطْفَالِ »
فَجْأَةً تَنَهَّدُ حُسَيْنُ تَنْهِيدَةً قَوِيَّةً ارْتَجَّتْ مِنْ هَوْلِهَا جُدُرَانُ الغُرْفَةِ ثُمَّ قَال فِي انْكِسَارٍ :
- « أَنْصِتُوا إِلَى آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ مِنْ سُورَةِ الصَّافاتِ حَتَّى تَطْمَئنَّ قُلُوبُكُمْ »
- « نِعْمَ الرَّأْيُ الْحَصِيفُ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ»
- « فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ(102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ( 105)إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاء الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) »
- « هَا أَنْتَ الآنَ يَا جَدِّي تُشَوَّقُنِي إِلَى الإِصْغَاءِ إِلًى مَا تَبَقَّى مِنَ القِصَّةِ فَعَجِّلْ بِذَلِك قَبَلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ »
- « كَانَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ أَثْبَتَ مِنَ الْجِبَالِ الْرَّاسِيَاتِ لاَ يَتَرَدَّدُ فِي طَاعَةِ اللهِ وَ الْامْتِثَالِ لِأَوامِــرِهِ . شَحذَ سِكِّينَهُ فَبَدَا حَدُّهَا كَالشُّعَاعِ وَ شَدَّ وِثَاقَ ولده بِالْحَبْلِ وَ كَبَّهُ عَلى وَجْهِهِ حَتّى إِذا نَظَرَ إِلَيْهِ لاَ تُدْرِكُهُ رَأْفَةٌ تَحُولُ بَيْنَهُ وَ بَيْنَ أَمْرِ اللهِ فِيهِ. أَلْقَى عَلَى ابنهِ النَّظٍرَةً الأَخِيرَةَ وَ هْيَ نَظَرَةٌ فَاحِصَةٌ، بَعِيدَةُ الْغَوْرِ تَفِيضُ بِالْحُبِّ وَ الرَّحْمَةِ لاَ يَشُوبُهَا تَعَلُّقٌ بِالدُّنْيَا و لاَ احْتِجَابٌ عَنْ وَجْهِ اللهِ تَعَالَى ثُمَّ ضَمَّهُ إِلَى صدْرِهِ وَ هْوَ بَاكٍ ، مُرَدِّدٌ : نِعْمَ الْعَوْنَ أَنْتَ يَا بُنَيَّ عَلَى تَنْفِيذِ أمْرِ اللهِ .وَ حِينَمَا مَرَّرَ السِّكّينَ عَلَى رَقَبَةِ ابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ انْقَلَبَتْ وَ لَمْ تَقْطَعْ شَيئًا. آنَذاك نَادَاهُ الحَقُّ جَلَّ و عَلاَ بِصَوتٍ مُجَلْجِلٍ ارْتَجَّتْ لَهُ الأَرْضُ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْهِ ارْتِجَاجًا عَنِيفًا : « وَ نَاديْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ(105).
نَظَرَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ إِلَى السَّمَاءِ فَإِذَاَ بِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فِي ثَوْبٍ أَبْيَضَ يَحْمِلُ بَيْنَ يَدَيْهِ كَبْشًا مَلِيحًا أَقْرَنَ مِنَ الْجَنَّةِ فِدَاءً لِإِسْمَاعِيلَ. إِنَّ اللهَ تَعَالى خَلَّصَ إِسْمَاعِيلَ مِنَ الذَّبْحِ بِأنْ جَعَلَ فِدْيَةً لَهُ كَبْشًا سَمِينًا ، أَقْرَنَ رَعَى فِي الْجَنّةِ أَرْبَعِينَ سنةً . أَقْبَلَ إِبْرَاهِيمُ الخَلِيلُ عَلَى الكَبْشِ يَذْبَحُهُ بِتِلْكَ السِّكِينِ الَّتي لَمْ تَقْطعْ مُنْذُ بِضْعَةِ دَقَائِقَ عُنُقَ إِسْمَاعِيلَ »
- « يَا مَرْحَبًا كَبْشَ الْفِدَاءِ تَأْتِي وَ قَدْ طَالَ الرَّجَاءُ يَا رَحْمَةً الرَّبِّ الرَّحِيمِ بِالطِّفْلِ وَ الشَّيخِ الْكَرِيم. »
- « لَقَدْ اتَّخَذَ المُسْلِمُونَ ذَلِكَ الْحَدَثَ الْعَظيمَ عِيدًا و صَارَ ذَبْحُ الأُضْحِيَةِ سُنَّة يُحْيُونَهَا كُلِّ عَامِ فِي الْعَاشِرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ أُسْوَةً بِإِبْرَاهِيمَ الخَلِيلِ»
- « أَدَامَ اللهُ هَذَا الْعِيدَ عَلَيْكُمْ بِالْخَيْرِ وَ اليُمْنِ وَ البَرَكَةِ وَ المَسَرَّاتِ وَ خَلَّصَنِي مِنَ هَذَا الحُزْنِ الَّذِي أَتَخَبَّطُ فِي كُهُوفِ ظُلُمَاتهِ مُنْذُ حُلُولِ الْعِيدِ فَصُورَةُ كَبْشِي المَحْبُوبِ مَا زَالتْ رَابِضَةً فِي ذِهْنِي فَلِذَلِكَ عِفْتُ مُخْتَلِفَ الأَطْعِمَةِ الَّتي تُطْهَى بِلَحْمِ الضَّأنِ : تَشّنُّجُ أَعْصَابِ المَعِدَة و انْقِبَاضٌ نَفْسِيٌّ وَ إِحْسَاسٌ بِالْغَثَيَانِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الأَكْلِ »
تَدَخَّلَتْ خَدِيجَةُ وَ شِبْهُ ابْتِسَامَةٍ تَلوحُ فِي عَيْنَيْهَا الزَّيْتِيَّتَيْنِ الْبَرَّاقَتَيْنِ
- « للهِ دَرُّكِ اكْتَفِي بَأَكْلِ السَّلْطَةٍ وَ البِيتزَا وَ الشًّكْشُوكَةِ وَالدَّجَاجِ المَصْلِيِّ وَ السَّمَكِ الْمَقْلِيَّ رَيُثَمَا تنسين كَبْشَكِ المِسْكِينَ »
- « نِعْمَ الرَّأْيُ أَيُّهَا الْجَدَّةُ الْعَطُوفُ وَ مَا آمَلُهُ فِي السَّنَةِ المُقْبِلَةِ هُوَ أَنْ يَذْبَحَ جَدِّي أَمَدَّ الله فِي عُمُرِهِ هَذَا التَّيْسَ الْهَائِجَ هَيَجَانَ البَحْرِ إِبَّانَ الزّوَابِعِ حَتَّى لا آسَفَ عَلَى فِرَاقِهِ وَ آكُلَ فِي نَهَمٍ لَحْمَهُ مَشْوِيًّا وَ مَطْبُوخًا »
هَا هِيَ الشَّمْسُ تُلَمْلِمُ نُورَهَا الأُرْجُوَانِيَّ فِي حَيَاءٍ وَ تَمْشِي الْهُوَيْنَا نَحْوَ أُفُقٍ بَعِيدٍ جَارَّةً ثَوبَهَا الْأَنِيقَ لِتُعْلِنَ بِرَحِيلِهَا الْهَادِئ عَنْ غُرُوبٍ رُومَنْسِيٍّ آمِنٍ بَدِيعٍ . وَ هَا هُمْ أَفْرَادُ الأُسْرَةِ يَتَوَضَّؤُونَ فِي تُؤَدَةٍ دُونَ تَبْذِيرِ كَثِيرٍ منَ المَاءِ استِعْدَادًا لِصَلاَةِ الِمَغْرِبِ . وَحِينَمَا طَلَعَ الْبَدْرُ المُنِيرُ وَ سَطَعَتْ فِي السَّمَاءِ نُجُومٌ مُتَنَاثِرَةٌ كَأَنَّهَا الدُّرَرٌ عَادَتْ نَادِيَةُ مُنْهَكَةً ، مَكْدُودَةً مِنْ مَعْمَلِ الْخِيَاطَة عَلَى مَتْنِ دَرَّاجَتهَا الْعَادِيَةِ الحَمْراءِ . حِينَهَا أشْرَقَتْ أَسَارِيرُ الصَّبِيَّةِ بِنُورٍ بَهِيٍّ وَ طَفَحَ البِشْرُ عَلَى مُحَيَّاهَا المُسْتَدِيرِ ذِي العَيْنَيْنِ الزّرْقَاوَيْنِ وَ الأَنْفِ الدَّقيقِ الشّامِخِ . يَا لَهُ مِنْ مَشْهَدٍ جَمِيلٍ يَفْتِنُ العقول ! رِتَاجُ تَهْرَعُ صَوبَ بَابِ الخُوخَةِ وَ هْيَ تَقْفِزُ عَلَى سَاقٍ وَاحِدَةٍ لِاستِقْبَالِ أُمِّهَا بِحَفَاوَةٍ يَعْجِزُ القَلَمُ عَنِ الإِفْصَاحِ عَنْهَا و الأمُّ تَنْحَنِي بَعْضَ الشَّيْءِ وَ قَدْ سَطعَتْ عَلى مُحَيّاهَا ابْتِسَامَةٌ نُورُهََا لاَ يَعْرِفُ الأُفُولَ . رِتَاجُ وَاقِفَةٌ عَلى أَطْرَافِ أَصَابِعِهَا لِتَطْوِيقِ جِيدِ أُمِّهَا بذِراعَيْهَا النَّحِيفَيْنِ وَ غَمْرِ وجهها الصّبوح بِجَحِيمٍ مِنَ القُبَلِ . وَ مَا إِنْ خَلَدَتْ نَادِيَةُ إِلَى نَصِيبٍ مِنَ الرَّاحَةِ وَ الاسْتِجْمَامِ فَوْقَ فِرَاشِهَا الْوَثِيرِ حَتَّى جَلَستْ رِتَاجُ بِجِوَارِهَا وَ طَفِقَتْ تُسَرِّحُ شَعْرَ دُمْيَتِهَا الأَشْعَثَ ثُمَّ وَجَّهَتْ لَهَا سُؤَالا عَفْوِيًّا لاَ يَخْطُرُ عَلَى بالِ أحدٍ :
- « يَا أُمِّي هَلْ سَتَقُصِّينَ عَلَيَّ بَعْدَ الْعَشَاءِ قِصَّةَ إِبْرَاهِيم الْخَلِيلِ ؟ »
- « جَدُّكِ حُسَيْنٌ بَارِعٌ فِي سَرْدِ الْقِصَصِ الدِّينِيَّةِ أَكْثَرَ مِنِّي بِحُكْمِ سِعَةِ اطِّلاَعِهِ فِي سِيَرِ الأَنْبِيَـــــــــاءِ وَ الرُّسُلِ »
- « وَ أَتْتِ مَاذَا سَتَرْوِينَ لِي ؟ »
- « سَأُتْحِفُكَ هَذِه اللَّيْلَةَ بِحِكَايَةِ بَدْرِ الْبُدُورِ وَ السُّلْطانِ المَسْحُورِ »
- « هَلْ هِيَ قِصَّةٌ خَيَاِيَّةٌ مُسَلِّيَةٌ ؟ »
- « حَتْمًا هِيَ خَيَالِيَةٌ وَ مُمْتِعَةٌ وَ مُسَلِّيَةٌ ِكَسَائِرِ حِكَايَاتِ أَلْفِ لَيْلَةٍ وَ لَيْلَةٍ »
- « سأَنْصِتُ إِلَى هَذِهِ الْحِكَايَةِ الطَّرِيفَةِ إِثْرَ صَلاةِ الْعَشَاءِ وَ كُلُّ مَا أَخْشَاهُ هُوَ أَنْ لاَ يَتَأجَّلَ سَرْدُهَا إِلَى لَيْلَةٍ قَادِمَةٍ لِأَنَّ النُّعَاسَ الآنَ بَدَأَ يُكَحِّلُ أَهْدَابَكِ تَكُحِيلاً مَرْفُوقًا بِتَثَاؤُبِ أَدَّى إِلَى انْفِتَاحِ فَيكِ عَلَى سِعَتِهِ وَ تَقَاطُرِ الدُّموعِ من مقلتيكِ »
- « هَيَّا سَاعِدِينِي عَلى إِعْدَادِ السُّفْرَةِ فَأَنَا سَأُهَيِّئُ السَّلْطَةَ المَشْويَّةَ و السَّمَكَ المَصْلِيَّ وَ أَنْتِ سَتُرَصِّفِينَ فِي ذَوْقٍ رَفِيعِ عَلى الْخِوَانِ طَبَقَ الغِلاَلِ وَ قَوَارِيرَ العَصِيرِ و المياهِ المعدنيَّةِ و الكؤوس و الملاعق و السّكاكين و المناديل »
- « نِعْمَ الاقْتِراحُ فَأَنَا رَهْنَ إِشَارَتِكِ فِي كُلِّ مُسَاعَدَةٍ تَطْلُبِينَهَا مِنِّي . أَرْجُو مِنْكِ عَنْ طِيبِ خَاطرٍ أن تلتَمسي من جدّتي خديجة مسحَ الكَرَاسي بِإِسْفَنْجَةٍ نَظِيفَةٍ وَ تَرْتِيبَهَا برِفْقٍ حَوْلَ السُّفْرَةِ »
- « بِطَبِيعَةِ الحال و هْوَ كذلك فَالسيّدة خَدِيجَةُ سَتَقومُ بِهَا الدَّوْرِعَلَى أَتَمِّ وَجْهٍ دُونَ امْتِنَاعٍ »
وَ مَاهِيَ إِلاَّ سَاعَةٌ أَوْ بَعْضٌ مِنْ سَاعَةٍ حَتَّى التَفَّ أَفْرَادُ الأُسْرَةِ حَوْلَ الْمَائِدَةِ وَ أَكَلُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الطّعَامِ مُتَنَدِّرِينَ ، مَسْرُورِينَ حَامِدِينَ اللهَ عَلَى فَيْضِ نِعَمِهِ و جَزِيلِ عطَائهِ . وَ عَلَى حِينِ غِرَّةٍ أَسْلَمَتْ رِتَاجُ جَفْنَيْهَا إِلَى نَوْمٍ هَادِئٍ مُرِيحٍ فَحَمَلَتْهَا أُمّهَا بِرِفْقٍ إِلَى سَرِيرِهَا وَ هْيَ تُدَنْدِنُ بِأُغْنِيَّةٍ شَجِيَّةٍ زاخرةْ بالمُنَاغاةِ وَ المُنَاجَاةِ مطلعها : « نَنِّي نَنِّي جَاكْ النُّومْ أُمُّكْ قَمْرهْ وَ بُوكْ انْجُــــــومْ »

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...