يُري كالمعتاد من باب حجرة النوم المفتوح قليلاً لحافة ذو الغطاء الحريري، ومنضدة خشبية صغيرة منخفضة بجوار سريره، وعلي المنضدة كوب ماء يشبه حوض أسماك صغير، ماؤه عكر بسبب عدم تغييره منذ فترة طويلة، وفي قاع الكوب يربض طاقم الأسنان يبدو كأنه هيكل عظمي لإحدي الحيوانات المائية يسبح في الماء.
شعر هذه المرة أيضًا بالقادم؛ فقد سمع حفيف المعطف الذي خلعته عند الرواق، أو ربما أيضًا من رائحة العطر الذي وضعته منذ فترة. وفهمت أنه عرفها بحركات قدميه النحيفتين-التي أصابها الذبول من قلة الطعام في الأشهر الأخيرة- تحت اللحاف، والتي كانت لا تظهر مطلقًا علي وجه السرير.
شعر بزيارتي المرة الماضية بنفس الصورة في المكان الذي يتمدد فيه وعيناه مغلقتان دون أن يرفع رأسه من فوق الوسادة، ودون أن ينتصب ولو قليلًا كالمعتاد، وينظر إلي الرواق الذي يمتد أمام الباب. في المرة الماضية عندما سرتُ علي أطراف أصابعي في الحجرة حتي لا أوقظه، كان يتظاهر بالموت، وظل يتململ مكانه في سكرات الموت حتي المساء، ولم يفتح عينيه حتي ولو لمرة واحدة، إلي أن ذهبت إلي المنزل في حالة من البؤس والإرهاق من انتظار ي له حتي يستيقظ. اتضح لي جليًّا أنه يرغب من خلال هذه المشاهد »للاحتضار» المصطنعة أن يُرعبني ويبعدني عن هذا المنزل وعن من حوله، وبالرغم من ذلك، لم أدع نفسي لهذا الأمر، وكنتُ انتظر نهاية هذه المسرحية بفارغ الصبر.
كان يوجد هذه المرة رجلان غير الرجل المسن في حجرة نومه. ربما كانا من أقاربه قدما من القرية البعيدة.
كان شعر أحدهما يشبه القنفذ، والآخر فتي أحمر الوجنتين.
ما أن رآني الرجل حتي قال مبتهجًا وكأنه رأي شخص يعرفه منذ مائة عام:
حسنًا أنك جئتي، أيتها الفتاة، تغير حاله منذ فترة!!
ربما ساءت حالة الرجل المسن هذه المرة بالفعل. تدلت أنفه لأسفل مثل «الخطّاف» واصفر لونه، وغاصت عيناه في محجريهما العميقين السوداوين. وكأن نفسه لا يخرج. وكان يبدو من فمه شبه المفتوح جزء من حنكه الجاف الشاحب.
يمكن أن يظل علي هذا الحال حتي الصباح.
قال الرجل هذا بصوت منخفض كأنه يُحدث نفسه هذه المرة، ثم التفت ونظر إلي الخارج من النافذة الموجودة بجواره.
اقتربتُ وانحنيتُ نحو الرجل المسن، ونظرتُ إلي وجهه بإمعان.
ربما هذه المرة يموت بالفعل... كان يُسمع صوت مليء بالأنين يتسرب من مكان بعيد مع أعماق أنفاسه القصيرة التي كان يتنفسها بصعوبة...
سألت:
أين سعيدة؟
قال الرجل:
صعدت إلي الجار لتستدعي الطبيب. لقد قطعوا خط التليفون قبل ذلك. عندما تتعقد الأمور، يحدث مثل هذا...
أنهي الرجل كلامه ونظر إلي بفرح لسبب ما. كان الرجل المسن المرة الماضية في هذه الحال ولكن كان يستطيع الكلام. كان يهذي كالمصاب بالحمي، يتكلم بكلمات غير مترابطة وهو يلهث، ومن حين لآخر يصمت كأنه تعب من الاحتضار، ويتفقد الحجرة بعينيه شبه المفتوحتين. وعندما تقع عيناه عليّ، يبدو كأنه يتيه ويفقد الوعي، وكأنه يتعمد أن يجعل نفسه داخل الأوهام الشريرة. كان أثناء هذا الهذيان، نشاهد جسده ووجه يحومان بحركات معينة في أماكن أخري ويتمتم بهمسات مع أحد ما، وأنه يتابع بصبر وتوتر أشياء غريبة وحركات مبهمة.
كنا أنا وسعيدة في مثل هذه الأوضاع لا نستطيع مطلقًا تحديد هل هو بالفعل يتعمد مثل هذه الحركات أم ليس في؟ حتي يُشتت تفكيرنا.
طبقًا لقول سعيدة، يدخل في تلك الحالة عندما يراني فقط. أما بعد ذهابي، يرتد إليه وعيه، ويستند علي الوسادة، وكأن شيئًا لم يكن، يتناول وجبة العشاء حساء الخضروات صامتًا دون كلام.
في مثل هذه الأزمات التي تنتابه مرارًا وتكرارًا؛ أي عندما ينعدم نبضه، ويتحشرج نَفَسه، وبعد فحصه والكشف عليه عدة مرات من قبل الفريق الطبي الذي يُستدعي له وهو في هذه الحالة؛ وبعد أن يقول الفريق الطبي بارتياح غريب دون أن يرفعوا رؤوسهم عنه »إنكم تؤذونه، أصبح الآن ليس لدينا من الأمر شيء«، بعد كل هذا نفهم أنه يحتضر بالفعل. ولكن في الوقت نفسه التف هذا الرجل المسن الذي هو في حالة «احتضار» كالعقرب بذراع الطبيبة امرأة شابة ممتلئة الجسم متوسطة العمر التي جلست علي حافة سريره تلف الشريط الخاص بجهاز قياس الضغط علي ذراعه، فأصابتنا الدهشة وهو يحتك بها وينظر لها بشهوة.
لم يكن لدّي أنا أو سعيدة أي شك في أننا سوف نشاهد حتي بعد موته هذه الحركات الخبيثة وشهوته المرضية نحو النساء. منذ فترة قريبة، عندما كان طريح الفراش وعيناه مسلطتان نحو المجهول، وواضعًا يديه علي بطنه كالأغصان الجافة، فجأة تحركت عيناه، فأيقنا أنه لا يزال هناك الكثير من الوقت علي موته بسبب تسليط نظره علي فخذي زوجة ابن الجيران التي جاءت لزيارته، ثم بعد فترة حتي لا نلاحظ هذا حوّل نظره بمهارة بالغة من فخذي المرأة إلي أرجل منضدة الطعام و... قدم صوت من رواق المنزل. كان القادم هي سعيدة. دخلت وهي تلهث قائلة:
لم أستطع التوصل لهم عن طريق الهاتف.
ثم نظرت إلي وسألتني دون أي سلام:
ربما أصطحبه بالسيارة؟...
قلتُ:
إلي أين؟...
قالت سعيدة:
إلي الإسعاف...
ثم أشارت إلي والدها برأسها مضيفة:
ألا ترين كيف أصبحت حالته ثانية؟
كان لون «سعيدة» شاحبًا. وتدّلي أنفها مثل أنف الرجل المسن، وغاصت عيناها في حدقتيهما.
قال الرجل الشبيه بالقنفذ:
ماذا لو جاء الطبيب، ماذا سيفعل أيتها الفتاة؟... الرجل يقترب من الآخرة. أنا أعرف سورة «يس». لا تخافين. لن أتركه وأذهب لأي مكان. من لهذا المسكين غيري؟... كان وحيد والديه. ماتت أمه وهو طفل. غرقت في النهر. تربي المسكين علي يد زوجة الأب. أنا رفيق عمره الوحيد، وأنا قد جئتُ. سوف أواريه التراب، ثم أعود.
اهتزت أرضية الحجرة من هذا الكلام الذي قاله الرجل. أما خُيّل إلينا هذا؟!..
بعد فترة قصيرة فهمتُ أنا و»سعيدة» أن الأنين الذي صدر من الرجل المسن طريح الفراش والذي يتمدد عليه كالتمثال هو الذي هز أرضية الحجرة، وذلك عندما صدر صوت سعال من الأنين يشبه محرك السيارة الخربة عند تشغيلها.
اختفت الفرحة التي كانت تعلو وجه ابن عمه بعد أنين الرجل المسن.
همست «سعيدة» بصوت خانق بجواري وعينيها علي أبيها:
لا يزال هناك أيام سيعيشها.
ربما الرجل المسن هو الآخر سمع الكلام الذي قالوه حول موته.
نهض ابن العم واقترب من السرير، وأخرج من جيبه قطعة من مرآة ربما أحضرها معه من القرية، ووضعها عند فم الرجل المسن، وتفقد سطحها ومسحها بطرف ذراع سترته، ثم أعادها ثانية إلي جيبه وقال:
بقي القليل جدًا.
جلس في مكانه، وشبك ذراعيه علي بطنه.
لم تقترب «سعيدة» من الرجل المسن، جلستْ بجواري، وركزت عينيها اللامعتين من الخوف علي أبيها. يمكن ببساطة أن يتضح مدي معاناتها وشعورها بالخوف الرهيب خلال الأيام الأخيرة من تغييرات وجهها الشاحب، وحركات عينيها السريعة غير المفهومة، ومن خلال أيضًا النبرات المرتعشة الموجودة بصوتها.
ابيضت عينا «سعيدة» بهذا الشكل من الأسبوع الماضي أي منذ اليوم الذي ارتعد فيه الرجل المسن من سؤالي المفاجئ وسقط الشاي المغلي عليه، كان يحتسي الشاي وهو جالس متكئ علي الوسادة وكان لا يزال في وعيه، ومنذ ذلك اليوم بدأ نَفَسه في الاختناق وانتابه سعال حاد. وحينئذ كاد الرجل المسن أن يموت من هذا السعال الذي تمكن منه... اختنق نَفَسه، وركز عينيه اللامعتين إلي نقطة مجهولة، وسقطت رأسه من علي الوسادة التي كان يستند عليها.
بدأت سكرات الموت للرجل المسن منذ أن علم أني أكتب رواية حول الفترات التي أعقبت الثورة. إلي هذا الوقت، كان يتجول داخل المنزل بخطي مريحة، وعندما رآني، يسأل عن أحوال من في المنزل وهو مسرور، يدعوني إلي شرب الشاي الذي يشربه والطعام الذي يأكله. وبدأ كل شيء منذ أن أخبرته «سعيدة» بشأني وما أكتبه، وقالت له إني أكتب رواية حول الفترة التي كان يشغل فيها وظيفته. لقد فهمتُ أنا و»سعيدة» أنه استقبل هذا الخبر كأنه حكم مفاجئ بالإعدام، فعلا وجهه عبوس وتغيرت ملامحه فجأة في المكان الذي يجلس فيه، وبدأ يظهر في وجهه شحوب يشبه ظل الخوف من الموت. تسمر الرجل المسن بوجهه الشاحب، ثم نهض وخرج من الحجرة بخطي ثقيلة. وسار في رواق المنزل ودخل الحمام، وأغلق الباب من الداخل، ولم يخرج من هناك حتي المساء، حتي سأمتُ من انتظاره وعدتُ إلي المنزل.
انحنيتُ نحو «سعيدة» وسألتُها ببطء حتي لا يسمع الرجل المسن:
هل رأيت أحدًا يحتضر قبل ذلك؟
هزت رأسها دون أن تنظر إليّ بشكل يعلوه الندم لسبب ما. ثم تذكرنا الخالة خديجة «رحمها الله» قبل عام في هذه الحجرة وعلي السرير نفسه الذي يرقد عليه الرجل المسن وهي تجلس القرفصاء ليل نهار تنتظر موتها، وهي تُقبل علي الموت بشجاعة.
كانت الخالة خديجة عندما تسير يهتز المبني كله بسبب وقع خطواتها، وتختفي في لمح البصر الطيور والأطفال الموجودون في فناء المنزل من صوتها الأجش، كانت تسحق بضربة واحدة من كفها الضخم رأس الفئران الكبيرة التي كانت تصطادها بجوار المبني. لقد تذكرنا «الخالة خديجة» حين ساء حالها قبل موتها بساعة وقولها بصوت رقيق يشبه فتاة شابة «إني أخاف يا بُنيتي، أخاف بشدة»، ونظرها إلي الأرض كالذي يشاهد القبر الذي سيدفن فيه بعد قليل...
أتذكر حينئذ، كيف خفتُ أنا و»سعيدة» وشعرنا بسبب التعبيرات المجهولة التي كانت تعلو وجه «الخالة خديجة» بوجود نفق مظلم وضيق وخانق يقود إلي الموت الموجود في أحد أركان الحجرة وقريب جدًّا...
كان هذا الإحساس مرعب للغاية يشبه خوف التقدم نحو ظلام أبدي وطريق لا رجعة فيه...
بعد وفاة «الخالة خديجة»، تذكرتُ مشهد احتضارها وهي تلوح بود إلي أشخاص مقربين لها غير ظاهرين كانت تراهم بجواري، وهي تنازع الموت كالغريق داخل سرير بحجرة الضيوف في منزلنا الذي كانت جميع نوافذه مفتوحة...
والذي قبض روح خالتي في ذلك اليوم هم هؤلاء الأشخاص المقربون لها التي كانت تلوح لهم... وشعرتُ بشكل دقيق كيف أن أقاربها الذين تلجأ إليهم خالتي بارتياح جميل يقتربون منها، وينظرون عن قرب إلي وجهها واقفين عند رأسها... ورأيتُ بعيني كيف أن خالتي واجهت وهي في النزع الأخير أشخاص ما بعيون تلمع من الدهشة، وكيف فاضت روحها بين يد هؤلاء الأشخاص الذين تجمعوا حولها بارتياح...
•••
قالت «سعيدة» بعد فترة، عندما كنا جالستين في المطبخ معًا ننظف الأرز لطعام العشاء:
لقد أصيب بهذه الحالة بسبب ما تكتبينه.
حركتُ منكبي كالمذنبة:
ماذا في هذا الأمر؟...
كان خوف الرجل المسن يصل لدرجة الموت، ومساعي حثيثة لإخفاء آثار أسرار ما بداخله يمكن أن تُفضح حتي ولو بعد موته... يشير إلي أن الرواية التي أكتبها سوف تتطرق إلي قضايا جادة وسرية أكثر مما كنت أظن، وتشير إلي بُعد الأشياء التي حدثت في الماضي في سنوات القمع السوفيتي التي كان الرجل المسن يتولي منصب فيها، وإلي جرائمه التي لا تُغتفر وحتي الخالة خديجة لا تعلمها، وإلي أسرار خفية ترقي لمرتبة الجرائم لا يعلمها إلا هو.
لقد أنهي هذا الرجل تعليمه أيام الحرب العالمية الثانية، وأُرسل مباشرة إلي القرية، وترأس إحدي المزارع التعاونية الكبري بقرية نائية وفقيرة لمجرد الخبرة التي اكتسبها أثناء الدراسة، ثم بعد ذلك تولي رئاسة مجلس المحافظة. لقد سمعتُ منذ أيام الطفولة من لسان »الخالة خديجة» كيف كان هذا الرجل يتجول علي ظهر الحصان في طرق القرية الوعرة في تلك الفترة، والإشراف علي حقول القمح، وإطلاقه النار علي الفارين من خط الجبهة أينما وجدهم، أو تسليمهم إلي الإدارة العسكرية، ورعايته أسر الجنود، واهتمامه اهتمامًا خاصًّا بالأرامل الجميلات. آنذاك زاد وتضاعف اهتمامي بهذا الرجل المسن بسبب شعوري أن هذه المرأة التي لا تخشي في الحق لومة لائم تتجنب في حديثها الإشارة إلي ماضي زوجها، حتي تطرقها إلي بعض الأمور كان يشعرك كأنها تسير فوق جرفٍ هار مخيف، وأنها تتجاوز الحديث عن بعض الأشياء بمهارة.
عندما طهينا الأرز وعدنا إلي الحجرة، كان ابن العم قد جلس عند مؤخرة السرير، جمع يديه عند صدره كالذي يقرأ كتاب، ربما كان يقرأ في سره سورة يس.
نام الطفل في المكان الذي كان يجلس فيه علي الكرسي الموجود أمام التلفاز الذي انخفض صوته.
كان الرجل المسن علي حالته السابقة... كان وجهه يشبه آنذاك الوجه الغاضب للبطل المخيف في الأساطير الروسية الذي يسمي «قاشي»...
اقتربت من السرير ونظرتُ إلي وجهه عن قرب.
لقد تغير وجه الرجل المسن عن قبل بشكل غريب... تقلصت تجاعيد وجهه، وانكمش خده كقطعة لحم ذاب دهنها في مقلاة ساخنة.
شعر بدخولنا إلي الحجرة، فبدأ يرفع ويخفض أصابعه شديدة النحافة ببطء كالذي يُمررها علي أصابع البيانو، وبدا كأنه يعطي إشارات غير مفهومة لشخص ما من خلال عمل الأشكال الغريبة في الجو من حين لآخر.
جلستُ أنا و»سعيدة» في مكانها السابق، للناظر من بعيد يجدها خلف المنضدة المواجهة للسرير، كانت يدي الرجل المسن الشاحبة تشبه عقارب الصحراء الرملية التي احترقت من الظمأ وتفحمت تحت الشمس الحارقة... لقد رأيتُ هذه «العقارب» أيضًا في المنام في إحدي الليالي... رغم أنني كنتُ أتابعها وفي يدي حذاء طويل داخل الحجرات شبه المظلمة لمدة طويلة، وانشغل بقتلها، لم أستطع قتل واحدة منها. كانت جميع الحشرات سريعة الحركة تقفز من حائط إلي حائط ومن منضدة لمنضدة بقفزات طائرة طيلة المنام، وتهرب من هذه الناحية إلي تلك بقفزات تشبه شرارة التيار الكهربي، وتدخل الجحور والفتحات الموجودة بالأرضية، وتلتهم هناك شيئًا، بأفواهها التي لا تظهر...
بصفة عامة في الآونة الأخيرة، كنت أري في أحلامي وقائع شبه مظلمة وغريبة حول الرجل المسن، وكان خوف غريب ينتابني (في أعماق أحلامي) بسبب انتظاره استيقاظي من النوم وهو ينهج، ووقوفه بجواري في المنام، وكذلك بسبب بحثه في جيبه بحركات بطيئة عن مستند مهم من بين القصاصات التي أخرجها من جيبه.
•••
احضرت «سعيدة» الشاي في أكواب كمثرية الشكل، ونظمته فوق المنضدة. ووضعت المربي في الوسط، وجلست، وقالت بالطريقة نفسها مثل «الخالة خديجة»:
لقد طهيتُ الأرز لطعام العشاء.
كأن ابن العم سمع هذه الكلمة من »سعيدة» متأخرًا فأنهي دعاءه وسحب كرسيه نحو منضدة الغداء، وبعد أن ارتشف رشفة من الشاي قال:
ماذا تعمل؟
ثم تناول المربي.
شربتُ الشاي دون مربي ولم يكن لدي شك في أن رائحة العفن الدائم بالحجرة طغي علي المربي.
منذ فترة، كنت أشعر أن هذه الرائحة التي تشبه رائحة عفن مستنقع تنبع من الخادمة التي تأتي لرعاية الرجل المسن عندما تكون «سعيدة» في العمل بالصباح، وكانت هذه الخادمة امرأة عجوز قصيرة القامة صغيرة العينين إحدي أقارب أسرة »سعيدة» من بعيد. كان حال »سعيدة» يتحول بسبب هذه الرائحة. رغم أنها كانت بمجرد أن تدخل المنزل، تفتح الأبواب والنوافذ، وتُجدد هواء الحجرات، وتضغط علي زر معطر الجو بلا توقف، وتُنثر الرائحة في جميع الأرجاء، كانت الرطوبة المختلطة برائحة العفن تعلق بالجو مثل البخار، ولمدة ثانية يقضي عليها المعطر ثم تعود كما كانت.
كنتُ أحيانًا أشعر أن هذه الرائحة تتعلق بجميع أرجاء الغرف من أعلاها لأسفلها مثل الستائر الشفافة، كما كنتُ أحس لسبب ما أنني كلما عبرتُ من حجرة إلي أخري، كأنني أعبر بين ألسنة نار جافة.
وطبقًا لما كانت تقوله الخادمة، كانت تُجدد جو الحجرات عدة مرات خلال اليوم، وأن النوافذ التي تطل علي البحر، تُفتح علي مصرعيها في الصباح وفي أوقات الظهيرة، ورغم أن الرياح القادمة من البحر مختلطة برائحة السمك وتملأ المنزل وتتخلل الحجرات، كانت لا تستطيع التغلب علي رائحة المستنقع الذي يتسرب من سرير الرجل المسن، وربما من روحه.
وإن كانت الخادمة لا تخدعنا. فهي تقول إن هذه الرائحة تتميز بلون خاص بها، وذكرت أنها تحل علي جميع أثاث المنزل مثل ندي الصباح وتغشي جميع الأرجاء »صُفرة» غريبة، وتقول ناهجة نهجة غريبة تمر وهي يدها علي ورق الحائط الذي لا تذهب الصفرة من عليه بالغسيل والتنظيف:
كان لون هذا الورق قبل ذلك أزرق فاتح...
•••
كأن نَفَسه توقف.
قرّبت «سعيدة» وجهها الشاحب من وجه الرجل المسن وكانت تنظر إليه عن قرب شديد...
كان فم الرجل المسن شبه المفتوح يبدو للناظر من بعيد مثل مدخل مغارة أسطورية تُوصل إلي أعماق قديمة ومخيفة مدخل منطقة غامضة جفت طرقها بسبب أنه لم تطأها قدم منذ زمن بعيد...
قال ابن العم:
لا زال يتنفس...
ثم شرب كوب الشاي الثاني برشفة واحدة متصلة، ووضع الكوب علي الصحن بشكل معكوس. كان آنذاك يأكل بواقي المربي بالملعقة. وهو يلعق فمه بلسانه وينظر بنهم إلي ملفات الرجل المسن القديمة التي وضعت علي دولاب الكتب، ومن حين لآخر كان يقول بصوت منخفض وهو متأثر:
يا ابن عمي العَالِم، يا أخي الكادح...
أما أنا فكنتُ أعرف أن هذه الملفات تملأ الغرف الأخري، حيث كانت «الخالة خديجة» تصعد فوق الكرسي ببدنها الثقيل والمريض طيلة العام وتمسح الأتربة من عليها. واحد واحد... ربما كان في هذا المنزل المكون من ثلاث حجرات مقدار حمولة سيارة نقل من الملفات. كانت «الخالة خديجة» من أجل التخلص من هذه الكومة من الملفات المليئة بالأتربة، ترمي في سلة المهملات سرًّا الملفات اثنين اثنين أو واحدًا واحدًا عندما كان الرجل المسن خارج المنزل، ولدي علم أنها عوقبت مرات عديدة بسبب هذا الفعل. كان الرجل المسن لا ينفق علي البيت بالأشهر جراء الملفات التي ألقيت في سلة المهملات دون إذن، وكذلك لا يكلم زوجته لمدة أشهر. كان قلب الرجل المسن لا يهدأ حتي ولو تم استخراج الملفات من سلة المهملات وتنظيفها وإعادتها إلي مكانها، وكذلك يظل عابس الوجه...
كانت »الخالة خديجة» تقول:
يا بنيتي أنه يظل يكتب ليل نهار.
كانت تقول هذا كأنها مذنبة، كأنها هناك أمر مريب، وكلما رددت ذلك كان الرجل المسن يقول:
هذا هو مصدر رزقكم، بعد أن أموت سوف تبيعون هذه الملفات وتنفقون علي البيت...
... في الواقع، لقد شاهدتُ أيضًا علي مدار سنوات طوال عملية تكون هذه الملفات بسبب كوننا جيران وأنني صديقة لـ »سعيدة». منذ اليوم الذي أحيل فيه الرجل المسن إلي التقاعد، كنت أشاهده يستيقظ في الصباح الباكر بدافع الحفاظ علي الذات، ويحلق ذقنه في الحمام، ويرتدي بدلة العمل، ويضع رابطة العنق علي القميص الأبيض المرتب، ويجلس خلف طاولة الكتابة، ويكتب بشغف غريب شيئًا ما، ويظل من الصباح إلي المساء كما كان يفعل أثناء ذهابه للعمل، ويتابع التلفاز الموجود في أحد الأركان بإحدي عينيه، وينصت إلي المذياع الصغير الموجود علي الطاولة. ومنذ ذلك الوقت، تولد لدي شغف شديد لهذه الملفات التي تضاعفت من عام لآخر وازدادت حتي طمت جميع أرجاء المنزل. في الواقع، ربما الذي أوحي إلي وحثني لفكرة كتابة رواية حول الفترات التي عاشها هذا الرجل أكوام الكتابات المحفوظة داخل هذه الملفات المليئة بالأسرار، وكذلك أفكار الرجل المسن وذكرياته...
طبقًا لما قالته «سعيدة» الكتابات المحفوظة في هذه الملفات كانت مواد موثقة تتحدث عن إحدي المراحل التاريخية للدولة.
أما بالنسبة لي، فأعتقد لسبب ما أن الرجل المسن يجمع في هذه الملفات ذكرياته السرية التي كتبها عن حياته، فقد شعرتُ أن هذا الرجل الذي يسكن في المنزل المجاور لنا منذ طفولتي يعيش مع هذه الملفات السرية أكثر من عائلته، وأنه يختبئ فيها كالمسترخ في عش الراحة، فزاد اهتمامي أكثر بهذا الرجل المسن.
وضعت «سعيدة» رأسها بين ذراعيها، ربما غاصت في النوم. واسترخ ابن العم علي ظهر الكرسي في المكان الذي يجلس فيه، وغلبه النعاس دون أن يفقد توازنه.
بسبب هذا الصمت الغريب الذي حل بالمكان، أو إ حساس الحرية الغريب الذي شعرتُ به فجأة وسط النائمين من حولي، خطرت ببالي أنه آن الأوان للحصول علي هذه الملفات السرية التي حُرم لمسها منذ سنوات طويلة. كنتُ أود أنهض بهذه الفكرة وأتجه نحو الملفات المجمعة علي أرفف دولاب الحائط الموجود في مقدمة الحجرة...
انطلق كالرصاص في وسط هدوء الغرفة الغريب صوت الرجل المسن الذي بدأ يهذي بهذيان مجنون قائلاً:
... هو، انظر له... أقول... الوغد! اقبضوا عليه!... أسرعوا!...
انتفض النائمون، وأنا أيضًا...
رغم أن عينا الرجل المسن كانت مغلقة، كان يُحس أن سواد عينيه يلمع تحت تجاعيد جفن العين، وأنه يصوبها بغضب نحو شيء ما وهي مغلقة...
قال ابن العم وهو يرمش بعينيه التي احمرت من الأرق:
بدأت...
أسود تمامًا وجه سعيدة الذي هو في الأصل شاحب اللون:
ماذا بدأ؟
أشار ابن العم برأسه نحو الرجل المسن قائلاً:
عادة تبدأ هكذا، بقي القليل... هو علي عتبة الموت.
شعرت بضيق شديد... وأردت أن أسأل هذا الرجل متي وأين اشتغل «مغسل للموتي»، ولكن لم أسأل، وانحنيتُ نحو «سعيدة»:
لقد سأمنا من أحاديث وهذيان هذا...
تأوه الرجل المسن هذه المرة من أعماق قلبه... وفتح بصعوبة بالغة جفون عينيه المنكمشة المائلة للسواد التي تشبه غطاء عين الجمل... وبدأ سواد عينيه الذي اصفر وقد أصبح ذابلا منذ زمن بعيد. كان ينظر ثانيًا إلي أحد ما... ويصرخ علي أحد وهو ينهج، كأنه يحل مسألة ما...
لقد بينتُ لك المرة الماضية أيها الفاشل اذهب، نادوا علي «غفار» نادوه وليأت وليفتحه...
كان الرجل المسن يتحدث بهذا بلهجة غريبة متلجلجة تشبه حديث الأجانب.
عندما سمع اسم «غفار» تحرك في مكانه قائلاً:
آه!... ينادي علي «غفار»...
ثم نظر بعينيه اللامعتين تارة إلي الرجل المسن، وتارة أخري إلينا مواصلاً حديثه:
ينادي علي ابن عمنا «غفار».. مات العام قبل الماضي... إنه ينادي عليه. أي حضرة الموت. واصل الرجل المسن كلامه مختنقًا:
نادي أيضًا علي «خاصاي»... هو الوحيد الذي يعرف لغة هذا...
سألتُ بقلق:
من «خاصاي»؟
قال ابن العم دون أن ينظر إلي مشيرًا بيده إلي مكان ما إلي الخلف:
هو أيضًا أحد أقاربنا...
ثم نظر إلي وجهي وأضاف بنبرة غريبة:
وهو أيضًا في العالم الآخر.
شعرتُ بارتخاء في ركبتي من الخوف أو من القلق... كانت الحجرة مليئة بالموتي... التفتُ من حولي وأنا في ذعر... أم أن الرجل المسن وهو موجود في السرير الذي أمام عيني، وفي الوقت ذاته في مكان آخر
كان وسط الذين رحلوا عن هذه الدنيا، ويتجولون بأبدانهم الشفافة بيننا؟
ربما الأسرار التي أخفاها الرجل المسن عني وهو في سكرات الموت منذ عدة أشهر ترغب أن تنكشف من تلقاء نفسها...
قال الرجل المسن:
... نعم... نعم...
كان الرجل المسن يحترق من الداخل لسبب ما، ويتذمر غاضبًا، وكانت حدقة عينه تطوف داخل عينيه كقذيفة إلكترونية موصلة بالتيار.
وواصل الرجل المسن:
فكر أنت بهذا... فكر كما تشاء...
اقتربتُ من السرير، ونظرتُ إلي وجه الرجل المسن عن قرب.
انكمشت حدقة عيني الرجل المسن بسبب احمرار داخلها، أو كأنها تحت ضغط شيء ما، لقد ذابت وشحب لونها.
جلست «سعيدة» بجوار السرير ببطء، ووضعت يد والدها في يدها...
قال ابن العم:
لا تجلسي هناك، يا بنيتي، إنه يموت، ربما تخافين.
ساء حال الرجل المسن تمامًا بعد هذا الكلام الذي قاله ابن عمه. وأدار وجهه إلي الحائط، وبدأ يأن أنات غريبة تشبه صوت الكمان...
ارتعدت «سعيدة»، ووثبت علي قدمها، وتأثرت وبكت بكاء مكتومًا، ثم حوّلت وجهها جانبًا، وذهبت إلي الحجرة الأخري.
كان الرجل المسن يهذي ووجهه نحو الحائط:
اذهبوا بهؤلاء الأناس من هنا... أخرجوا من هنا... أخرجوا، أخرجوا! ممنوع الوقوف هنا!... نظر ابن العم إلي، وأنا نظرت إليه...
قال ابن العم:
يهذي، يا بنيتي، لا تخافي، سوف يستغرق الأمر وقتًا.
سألته:
يعني... ألا يزال يحتضر؟
طار صوابي من القلق...
قال ابن العم بحسم وعينه علي الرجل المسن:
بعد ذلك رفع رأسه، ونظر إلي أولاً بتعبير غريب به بهجة، ثم إلي الطفل الذي كان قد نام مكانه أمام التلفاز قبل ذلك.
اقتربتُ من السرير وجلستُ علي كرسي قريب، وانحنيتُ ونظرتُ عن قرب شديد إلي وجه الرجل المسن قائلةً:
أصبحت مقدمة أنفه نحيفة، وشاحبة.
أصبحت أمي قبل موتها بساعة بهذا الشكل. كأن صاعقة ضربت الرجل المسن طريح الفراش المصوب وجهه نحو الحائط بسبب كلامي هذا... نام ببطء علي ظهره، وأدار وجهه إلي، وفتح جفون عينيه، وهمس بتأسف وهو ينظر داخل عيني قائلاً:
ماذا تريدين مني يا بُنيتي؟...
وثبتُ علي قدحي في دهشة... ونهض ابن العم أيضًا معي قائلاً:
لا تخافي يا بُنيتي، يهذي، تحدث مثل هذه الأمور أثناء الاحتضار.
لا زالت عينا الرجل المسن غير الواضحة مسلطة علي... كانت تتسلل من أعماق هذه العينين ومضات مخيفة وصفراء تُشبه عواء ذئب يسمع من بعيد...
رغم أنني غيرتُ مكاني، ظلت عينا الرجل المسن مسلطة علي المكان الذي كنتُ أجلس فيه من قبل... ولم يمض كثيرًا حتي انطفئت. وخيم من جديد صمت متوتر استمر كثيرًا.
لقد زاد من اهتمامي أكثر بهذه الملفات المحفوظة بعناية مثل الوثائق القيمة لمنزل أو أكوام النقود، وألعاب الغميضة الغامضة هذه التي كان يقوم بها الرجل المسن.
طفتُ بنظري في الحجرة. سلط ابن العم بنظرات غامضة نظره نحو فراغ مجهول. كانت «سعيدة» في الحجرة الأخري.
جمعتُ شتات نفسي، ونهضتُ علي قدمي... وذهبتُ نحو الملفات التي مُنع المساس بها منذ سنوات... مددتُ يدي وأخذتُ أحدها، وعدتُ إلي مكاني، وفتحت عقدة رباط الملف.
ما أن انحلت العقدة، تناثرت كومة الورق التي كانت مضغوطة داخل الملف الضيق منذ سنوات فوق المنضدة مثل مجموعة كروت ناعمة.
أخذت إحدي الصفحات وبدأت القراءة. كانت الكلمات والجمل المكتوبة بحروف متعرجة بدايتها في أعلي الصفحة متجهة إلي وسطها تشبه سير فراشة جريحة غاصت قدمها في حبر أكثر منها كتابة.
قرأت بضع جمل وأنا أتهجي الحروف.
كان هذا عبارة عن نسخ غير منظم عشوائي للنصوص التي كانت ترد في نشرة الأخبار في فترة الخمسينيات والستينيات... كان من الواضح كسطوع الشمس أن الرجل المسن كان ينسخ هذه النصوص من الأخبار التي تقدم في التلفاز الذي كان يشتغل في ركن الحجرة أثناء سير العمل المصطنع الذي كان يقوم به أو التي تقدم في المذياع الذي يعمل ليل نهار في أحد أركان منضدة الكتابة، وذلك كله بغرض خداع نفسه طيلة أشهر وسنوات امتدت كالأمعاء الغليظة وهو مُحال للتقاعد...
كانت هذه النصوص مليئة بمصطلحات تاريخية لتلك الحقبة من الزمان.
كانت معظم الصفحات تبدأ بالتالي:
«مساء الخير أيها السادة المشاهدين...»
تمالكتُ نفسي، وتصفحتُ الأوراق الأخري أيضًا. كانت هذه الجمل المقفعة التي لا معني لها تتحدث عن أعمال مؤتمرات الحزب الشيوعي السوفيتي، وعن نتيجة أعمال بذر البذور في الحقول، وعن مسابقات الاشتراكية وعن فوز أم لتسعة أطفال في إحدي المسابقات الجماعية، وإلي آخره، تُذكر هذه الجملة أكثر من كونها نص مذيع، بهذيان ما قبل الموت لإنسان يحب الحياة حبًّا جمًّا...
كان مكتوبًا بوسط الصفحة في إحدي المستندات عبارة:
«يا... شعرك جميل وملفوف...»، ومنحرفة لأسفل بطول الصفحة... وكان مكتوبًا تحت هذا السطر بأحرف تشبه ومضات شرارة كلمات: »... انهيت رقمك القياسي...»، أما علي جانب الصفحة عبارة »... طيلة الطريق من الناحية السفلية لجبل عرفات...»، وبعدها عبارة »... الموت لك...»، ويكتب بعض الجمل والعبارات الأخري التي لا علاقة لها ببعضها البعض...
لقد انشغلتُ بترتيب الأوراق، حتي فزغتُ علي صوت الرجل المسن فجأة بصوت مليئ بالحشرجة:
ابتعد من هناك! لا تلمس هؤلاء...!
كانت عين الرجل المسن مغلقة... لكن فهم أنني أعيره اهتمامًا شديدًا، فألان صوته قائلاً:
... أتوسل إليكِ... لا دخل لكِ بهذا...
وأضاف وكأنه عاد إلي وعيه كالمستيقظ تمامًا:
ماذا تريدين، يا بنيتي؟...
رأي أنني لا أرد، فساءت حالته قليلاً، رفع صوته وقال:
ماذا تريدين مني؟...
ثم بدأ ينهج....
رغم أنني كنت أفهم لمن يوجه هذا «الهذيان»، كنتُ لا أعيره اهتمامًا. كنت أجمع المستندات التي كانت تجذب انتباهي في جانب منفصل، وأجمع الباقي داخل الملف وأضعه في مكانه السابق.
أصبح الرجل المسن لا ينظر إلي بعد... ركز عينيه المليئين بالتوسل إلي السقف، ربما يتوسل إلي الله...
لا تفعلي... ابتعدي عني... لا تفعلي... لا تمسيها، اتركيني أستريح... لا تلمسي هؤلاء...
دل ابن العم رأسه لأسفل، ووضع علي عينيه منديله الكبير الذي أخرجه من جيبه، وغاص في التفكير. تظاهرت بالتجاهل وعدم الفهم وسألتُ ابن العم:
مع من يتكلم؟...
رفع ابن العم رأسه ونظر إلي وجهي كمدرس كثير المطالب قائلاً:
يقتربون منه...
وظل يركز نظره في وجهي.
من؟
قال الرجل:
عدم معرفتك بمثل هذه الأشياء أفضل يا بنيتي. أنتِ شابه، ولا حاجة لكِ بهذا.
وركز عينيه اللتين احمرتا من البكاء نحو الشارع المظلم والخالي من الناس والذي كان يبدو آنذاك من النافذة. نهضتُ علي قدمي، وأخذتُ أيضًا بعض الملفات من فوق أرفف الكتب، وأحضرتهم ورتبتهم فوق المنضدة، وفككتُ عقد الأربطة المربوطة بها.
من الدهشة شعرتُ بوغز بارد بداية من ذراعي حتي أطراف أصابعي.
كانت هذه الملفات مثل الملفات السابقة...
كان بها جمل مقطعة صباح الخير، أيها السادة المستمعين..«، وتبدأ الجملة الأخري من منتصف الصفحة»... مع سهول «سفيستيول» الثلجية..
وعقب هذا كان مكتوبًا: »كانت الحقيقة هكذا... لماذا لم يطلقوا سراحه؟
أقول لك، ابتعد عن هذا!
فزع كل منا علي صوت الرجل المسن الذي فرق هدوء الحجرة بصرير يشبه صرير باب ثقيل وقديم...
الآن عيناه الاثنتان مفتوحتان... كانت تدور حدقة عينيه التي شحب لونها كفئران وضعت في المصيدة، وكأن عينيه تبحثان عن مكان للوثوب من مكانها...
لم يكن الرجل المسن في وعيه، كانت عيناه القلقتان تحومان، وكان يركز من حين لآخر بغضب من شخص ما... كان آنذاك يصدر صوته بصعوبة ويأخذ نفسه الذي يخفق تدريجيًّا من مكان ما من مكان ضيق...
تأوه:
... قلتُ لكِ تلك المرة... قلتُ، لا تأت... لا تأت... لا تأت!...
وأدار وجهه كأنه يختبأ من شخص ما، وقال آنذاك بصوت منخفض للغاية ثم صمت:
إنني أخاف... أخاف منكِ... أنتِ تعرفين بنفسكِ، كم أنا أخاف...
شعرت باختناق في نفسي من الذعر، واتجهتُ خلف «سعيدة» إلي الغرفة الأخري.
•••
لم أستطع سواء أنا أو «سعيدة» ذلك اليوم أو بعده أن نحدد هل هذا الهذيان الأخير للرجل المسن كان موجه لي أم كما قال ابن العم موجه للرسول المعتبر القادم خلفه من العالم الآخر.
مات الرجل المسن قرب طلوع النهار بشكل مريح وغريب عند خروج روحه، كان الجميع ينام إلا أنا. كان الوقت يقترب من الشروق.
كنتُ أتناول أكواب من الشاي الثقيل الواحد تلو الآخر حتي أبعد عني النوم الذي خيم علي جفوني، وكنت أقلب وسط أكوام الملفات «التاريخية» التي ستحمل علي مقطورة إلي وسط المدن، وكان ما يُصيبني بالدهشة هو أن مضمون المكتوب في هذه الملفات الجمل المختلفة والملاحظات والعبارات يعتبر استمرار أو بداية لما كان يهذي به الرجل المسن وهو يحتضر وذلك من خلال الجمل المقطعة والتي لا علاقة ببعضها البعض... والغريب في الأمر أن هذه الأوراق الصفراء المليئة بحشد من الكلمات التي لا معني لها، ولا ترابط منطقي بينها كانت تجسد مشهدًا لحياة مكتظة جدًّا ومؤلمة ثم...؟ في أماكن غريبة لا نفهمها... شعرتُ بموت الرجل المسن ذلك الصباح بمحض الصدفة عندما رفعتُ رأسي علي صوت يشبه فتح أو غلق بقلقلة متسقة لشيء ما يشبه قفلا صغيرا قريبا منه في الصباح الباكر... فتح الرجل المسن عينيه الممتلئة، وتركزت علي وجهي...
أيقظت النائمين وعندما أخبرتهم بموت الرجل المسن، كانت الشمس قد طلعت بالفعل.
كانت «سعيدة» لا تبكي بعد، طافت وجالت الحجرات بوجهها ناصع البياض، وفرشت غطاء أبيض علي المرايا ودولاب الأواني، ورتبت الغرف.
ظل ابن العم مشغولاً بوجه الرجل المسن طويلاً. ضغط علي جفون عينيه التي كانت لا تريد الانغلاق مطلقًا في بداية الأمر، وفي النهاية أسكنها مكانها، وبعد ذلك ربط بقوة ذقنه بالمنديل الذي أخرجه من جيبه.
جلستُ علي الكرسي الموجود بجوار السرير وشاهدتُ وجه الرجل المسن الذي كان يتغير كل دقيقة ويتجمل وينضر كلما انسل منه الدم، وذلك حتي جاءت عربة الموتي من المسجد... لقد تعجبتُ من تحول هذا الرجل المسن الغامض الذي كان يتجمل إلي صفة شاب في ريعان الشباب، رحل فجأة عن هذه الدنيا في أفضل أوقات عمره، وذلك عندما كانوا يلفونه في لحافه كالملفوف في حفاظه، من أجل إخراجه من المنزل والذهاب به لتغسيله.
أيقظ ابن العم الفتي الذي ينام طيلة الليل علي الكرسي الموجود أمام التلفاز ثم نقله علي الأريكة القريبة، نزلوا إلي فناء المنزل مع «سعيدة»، وهناك نظروا خلف سيارة الإسعاف التي تحمل الرجل المسن إلي المسجد من أجل تغسيله.
أما أنا فجمعتُ الملفات فوق بعضها البعض والتي استأذنت «سعيدة» في حملها إلي البيت، وربطها بالحبل بشكل مرتب، وذلك من أجل الانتهاء من الرواية التي أكتبها حول هذا «الفتي» الغامض...
* منقول عن:
الاحتضار
شعر هذه المرة أيضًا بالقادم؛ فقد سمع حفيف المعطف الذي خلعته عند الرواق، أو ربما أيضًا من رائحة العطر الذي وضعته منذ فترة. وفهمت أنه عرفها بحركات قدميه النحيفتين-التي أصابها الذبول من قلة الطعام في الأشهر الأخيرة- تحت اللحاف، والتي كانت لا تظهر مطلقًا علي وجه السرير.
شعر بزيارتي المرة الماضية بنفس الصورة في المكان الذي يتمدد فيه وعيناه مغلقتان دون أن يرفع رأسه من فوق الوسادة، ودون أن ينتصب ولو قليلًا كالمعتاد، وينظر إلي الرواق الذي يمتد أمام الباب. في المرة الماضية عندما سرتُ علي أطراف أصابعي في الحجرة حتي لا أوقظه، كان يتظاهر بالموت، وظل يتململ مكانه في سكرات الموت حتي المساء، ولم يفتح عينيه حتي ولو لمرة واحدة، إلي أن ذهبت إلي المنزل في حالة من البؤس والإرهاق من انتظار ي له حتي يستيقظ. اتضح لي جليًّا أنه يرغب من خلال هذه المشاهد »للاحتضار» المصطنعة أن يُرعبني ويبعدني عن هذا المنزل وعن من حوله، وبالرغم من ذلك، لم أدع نفسي لهذا الأمر، وكنتُ انتظر نهاية هذه المسرحية بفارغ الصبر.
كان يوجد هذه المرة رجلان غير الرجل المسن في حجرة نومه. ربما كانا من أقاربه قدما من القرية البعيدة.
كان شعر أحدهما يشبه القنفذ، والآخر فتي أحمر الوجنتين.
ما أن رآني الرجل حتي قال مبتهجًا وكأنه رأي شخص يعرفه منذ مائة عام:
حسنًا أنك جئتي، أيتها الفتاة، تغير حاله منذ فترة!!
ربما ساءت حالة الرجل المسن هذه المرة بالفعل. تدلت أنفه لأسفل مثل «الخطّاف» واصفر لونه، وغاصت عيناه في محجريهما العميقين السوداوين. وكأن نفسه لا يخرج. وكان يبدو من فمه شبه المفتوح جزء من حنكه الجاف الشاحب.
يمكن أن يظل علي هذا الحال حتي الصباح.
قال الرجل هذا بصوت منخفض كأنه يُحدث نفسه هذه المرة، ثم التفت ونظر إلي الخارج من النافذة الموجودة بجواره.
اقتربتُ وانحنيتُ نحو الرجل المسن، ونظرتُ إلي وجهه بإمعان.
ربما هذه المرة يموت بالفعل... كان يُسمع صوت مليء بالأنين يتسرب من مكان بعيد مع أعماق أنفاسه القصيرة التي كان يتنفسها بصعوبة...
سألت:
أين سعيدة؟
قال الرجل:
صعدت إلي الجار لتستدعي الطبيب. لقد قطعوا خط التليفون قبل ذلك. عندما تتعقد الأمور، يحدث مثل هذا...
أنهي الرجل كلامه ونظر إلي بفرح لسبب ما. كان الرجل المسن المرة الماضية في هذه الحال ولكن كان يستطيع الكلام. كان يهذي كالمصاب بالحمي، يتكلم بكلمات غير مترابطة وهو يلهث، ومن حين لآخر يصمت كأنه تعب من الاحتضار، ويتفقد الحجرة بعينيه شبه المفتوحتين. وعندما تقع عيناه عليّ، يبدو كأنه يتيه ويفقد الوعي، وكأنه يتعمد أن يجعل نفسه داخل الأوهام الشريرة. كان أثناء هذا الهذيان، نشاهد جسده ووجه يحومان بحركات معينة في أماكن أخري ويتمتم بهمسات مع أحد ما، وأنه يتابع بصبر وتوتر أشياء غريبة وحركات مبهمة.
كنا أنا وسعيدة في مثل هذه الأوضاع لا نستطيع مطلقًا تحديد هل هو بالفعل يتعمد مثل هذه الحركات أم ليس في؟ حتي يُشتت تفكيرنا.
طبقًا لقول سعيدة، يدخل في تلك الحالة عندما يراني فقط. أما بعد ذهابي، يرتد إليه وعيه، ويستند علي الوسادة، وكأن شيئًا لم يكن، يتناول وجبة العشاء حساء الخضروات صامتًا دون كلام.
في مثل هذه الأزمات التي تنتابه مرارًا وتكرارًا؛ أي عندما ينعدم نبضه، ويتحشرج نَفَسه، وبعد فحصه والكشف عليه عدة مرات من قبل الفريق الطبي الذي يُستدعي له وهو في هذه الحالة؛ وبعد أن يقول الفريق الطبي بارتياح غريب دون أن يرفعوا رؤوسهم عنه »إنكم تؤذونه، أصبح الآن ليس لدينا من الأمر شيء«، بعد كل هذا نفهم أنه يحتضر بالفعل. ولكن في الوقت نفسه التف هذا الرجل المسن الذي هو في حالة «احتضار» كالعقرب بذراع الطبيبة امرأة شابة ممتلئة الجسم متوسطة العمر التي جلست علي حافة سريره تلف الشريط الخاص بجهاز قياس الضغط علي ذراعه، فأصابتنا الدهشة وهو يحتك بها وينظر لها بشهوة.
لم يكن لدّي أنا أو سعيدة أي شك في أننا سوف نشاهد حتي بعد موته هذه الحركات الخبيثة وشهوته المرضية نحو النساء. منذ فترة قريبة، عندما كان طريح الفراش وعيناه مسلطتان نحو المجهول، وواضعًا يديه علي بطنه كالأغصان الجافة، فجأة تحركت عيناه، فأيقنا أنه لا يزال هناك الكثير من الوقت علي موته بسبب تسليط نظره علي فخذي زوجة ابن الجيران التي جاءت لزيارته، ثم بعد فترة حتي لا نلاحظ هذا حوّل نظره بمهارة بالغة من فخذي المرأة إلي أرجل منضدة الطعام و... قدم صوت من رواق المنزل. كان القادم هي سعيدة. دخلت وهي تلهث قائلة:
لم أستطع التوصل لهم عن طريق الهاتف.
ثم نظرت إلي وسألتني دون أي سلام:
ربما أصطحبه بالسيارة؟...
قلتُ:
إلي أين؟...
قالت سعيدة:
إلي الإسعاف...
ثم أشارت إلي والدها برأسها مضيفة:
ألا ترين كيف أصبحت حالته ثانية؟
كان لون «سعيدة» شاحبًا. وتدّلي أنفها مثل أنف الرجل المسن، وغاصت عيناها في حدقتيهما.
قال الرجل الشبيه بالقنفذ:
ماذا لو جاء الطبيب، ماذا سيفعل أيتها الفتاة؟... الرجل يقترب من الآخرة. أنا أعرف سورة «يس». لا تخافين. لن أتركه وأذهب لأي مكان. من لهذا المسكين غيري؟... كان وحيد والديه. ماتت أمه وهو طفل. غرقت في النهر. تربي المسكين علي يد زوجة الأب. أنا رفيق عمره الوحيد، وأنا قد جئتُ. سوف أواريه التراب، ثم أعود.
اهتزت أرضية الحجرة من هذا الكلام الذي قاله الرجل. أما خُيّل إلينا هذا؟!..
بعد فترة قصيرة فهمتُ أنا و»سعيدة» أن الأنين الذي صدر من الرجل المسن طريح الفراش والذي يتمدد عليه كالتمثال هو الذي هز أرضية الحجرة، وذلك عندما صدر صوت سعال من الأنين يشبه محرك السيارة الخربة عند تشغيلها.
اختفت الفرحة التي كانت تعلو وجه ابن عمه بعد أنين الرجل المسن.
همست «سعيدة» بصوت خانق بجواري وعينيها علي أبيها:
لا يزال هناك أيام سيعيشها.
ربما الرجل المسن هو الآخر سمع الكلام الذي قالوه حول موته.
نهض ابن العم واقترب من السرير، وأخرج من جيبه قطعة من مرآة ربما أحضرها معه من القرية، ووضعها عند فم الرجل المسن، وتفقد سطحها ومسحها بطرف ذراع سترته، ثم أعادها ثانية إلي جيبه وقال:
بقي القليل جدًا.
جلس في مكانه، وشبك ذراعيه علي بطنه.
لم تقترب «سعيدة» من الرجل المسن، جلستْ بجواري، وركزت عينيها اللامعتين من الخوف علي أبيها. يمكن ببساطة أن يتضح مدي معاناتها وشعورها بالخوف الرهيب خلال الأيام الأخيرة من تغييرات وجهها الشاحب، وحركات عينيها السريعة غير المفهومة، ومن خلال أيضًا النبرات المرتعشة الموجودة بصوتها.
ابيضت عينا «سعيدة» بهذا الشكل من الأسبوع الماضي أي منذ اليوم الذي ارتعد فيه الرجل المسن من سؤالي المفاجئ وسقط الشاي المغلي عليه، كان يحتسي الشاي وهو جالس متكئ علي الوسادة وكان لا يزال في وعيه، ومنذ ذلك اليوم بدأ نَفَسه في الاختناق وانتابه سعال حاد. وحينئذ كاد الرجل المسن أن يموت من هذا السعال الذي تمكن منه... اختنق نَفَسه، وركز عينيه اللامعتين إلي نقطة مجهولة، وسقطت رأسه من علي الوسادة التي كان يستند عليها.
بدأت سكرات الموت للرجل المسن منذ أن علم أني أكتب رواية حول الفترات التي أعقبت الثورة. إلي هذا الوقت، كان يتجول داخل المنزل بخطي مريحة، وعندما رآني، يسأل عن أحوال من في المنزل وهو مسرور، يدعوني إلي شرب الشاي الذي يشربه والطعام الذي يأكله. وبدأ كل شيء منذ أن أخبرته «سعيدة» بشأني وما أكتبه، وقالت له إني أكتب رواية حول الفترة التي كان يشغل فيها وظيفته. لقد فهمتُ أنا و»سعيدة» أنه استقبل هذا الخبر كأنه حكم مفاجئ بالإعدام، فعلا وجهه عبوس وتغيرت ملامحه فجأة في المكان الذي يجلس فيه، وبدأ يظهر في وجهه شحوب يشبه ظل الخوف من الموت. تسمر الرجل المسن بوجهه الشاحب، ثم نهض وخرج من الحجرة بخطي ثقيلة. وسار في رواق المنزل ودخل الحمام، وأغلق الباب من الداخل، ولم يخرج من هناك حتي المساء، حتي سأمتُ من انتظاره وعدتُ إلي المنزل.
انحنيتُ نحو «سعيدة» وسألتُها ببطء حتي لا يسمع الرجل المسن:
هل رأيت أحدًا يحتضر قبل ذلك؟
هزت رأسها دون أن تنظر إليّ بشكل يعلوه الندم لسبب ما. ثم تذكرنا الخالة خديجة «رحمها الله» قبل عام في هذه الحجرة وعلي السرير نفسه الذي يرقد عليه الرجل المسن وهي تجلس القرفصاء ليل نهار تنتظر موتها، وهي تُقبل علي الموت بشجاعة.
كانت الخالة خديجة عندما تسير يهتز المبني كله بسبب وقع خطواتها، وتختفي في لمح البصر الطيور والأطفال الموجودون في فناء المنزل من صوتها الأجش، كانت تسحق بضربة واحدة من كفها الضخم رأس الفئران الكبيرة التي كانت تصطادها بجوار المبني. لقد تذكرنا «الخالة خديجة» حين ساء حالها قبل موتها بساعة وقولها بصوت رقيق يشبه فتاة شابة «إني أخاف يا بُنيتي، أخاف بشدة»، ونظرها إلي الأرض كالذي يشاهد القبر الذي سيدفن فيه بعد قليل...
أتذكر حينئذ، كيف خفتُ أنا و»سعيدة» وشعرنا بسبب التعبيرات المجهولة التي كانت تعلو وجه «الخالة خديجة» بوجود نفق مظلم وضيق وخانق يقود إلي الموت الموجود في أحد أركان الحجرة وقريب جدًّا...
كان هذا الإحساس مرعب للغاية يشبه خوف التقدم نحو ظلام أبدي وطريق لا رجعة فيه...
بعد وفاة «الخالة خديجة»، تذكرتُ مشهد احتضارها وهي تلوح بود إلي أشخاص مقربين لها غير ظاهرين كانت تراهم بجواري، وهي تنازع الموت كالغريق داخل سرير بحجرة الضيوف في منزلنا الذي كانت جميع نوافذه مفتوحة...
والذي قبض روح خالتي في ذلك اليوم هم هؤلاء الأشخاص المقربون لها التي كانت تلوح لهم... وشعرتُ بشكل دقيق كيف أن أقاربها الذين تلجأ إليهم خالتي بارتياح جميل يقتربون منها، وينظرون عن قرب إلي وجهها واقفين عند رأسها... ورأيتُ بعيني كيف أن خالتي واجهت وهي في النزع الأخير أشخاص ما بعيون تلمع من الدهشة، وكيف فاضت روحها بين يد هؤلاء الأشخاص الذين تجمعوا حولها بارتياح...
•••
قالت «سعيدة» بعد فترة، عندما كنا جالستين في المطبخ معًا ننظف الأرز لطعام العشاء:
لقد أصيب بهذه الحالة بسبب ما تكتبينه.
حركتُ منكبي كالمذنبة:
ماذا في هذا الأمر؟...
كان خوف الرجل المسن يصل لدرجة الموت، ومساعي حثيثة لإخفاء آثار أسرار ما بداخله يمكن أن تُفضح حتي ولو بعد موته... يشير إلي أن الرواية التي أكتبها سوف تتطرق إلي قضايا جادة وسرية أكثر مما كنت أظن، وتشير إلي بُعد الأشياء التي حدثت في الماضي في سنوات القمع السوفيتي التي كان الرجل المسن يتولي منصب فيها، وإلي جرائمه التي لا تُغتفر وحتي الخالة خديجة لا تعلمها، وإلي أسرار خفية ترقي لمرتبة الجرائم لا يعلمها إلا هو.
لقد أنهي هذا الرجل تعليمه أيام الحرب العالمية الثانية، وأُرسل مباشرة إلي القرية، وترأس إحدي المزارع التعاونية الكبري بقرية نائية وفقيرة لمجرد الخبرة التي اكتسبها أثناء الدراسة، ثم بعد ذلك تولي رئاسة مجلس المحافظة. لقد سمعتُ منذ أيام الطفولة من لسان »الخالة خديجة» كيف كان هذا الرجل يتجول علي ظهر الحصان في طرق القرية الوعرة في تلك الفترة، والإشراف علي حقول القمح، وإطلاقه النار علي الفارين من خط الجبهة أينما وجدهم، أو تسليمهم إلي الإدارة العسكرية، ورعايته أسر الجنود، واهتمامه اهتمامًا خاصًّا بالأرامل الجميلات. آنذاك زاد وتضاعف اهتمامي بهذا الرجل المسن بسبب شعوري أن هذه المرأة التي لا تخشي في الحق لومة لائم تتجنب في حديثها الإشارة إلي ماضي زوجها، حتي تطرقها إلي بعض الأمور كان يشعرك كأنها تسير فوق جرفٍ هار مخيف، وأنها تتجاوز الحديث عن بعض الأشياء بمهارة.
عندما طهينا الأرز وعدنا إلي الحجرة، كان ابن العم قد جلس عند مؤخرة السرير، جمع يديه عند صدره كالذي يقرأ كتاب، ربما كان يقرأ في سره سورة يس.
نام الطفل في المكان الذي كان يجلس فيه علي الكرسي الموجود أمام التلفاز الذي انخفض صوته.
كان الرجل المسن علي حالته السابقة... كان وجهه يشبه آنذاك الوجه الغاضب للبطل المخيف في الأساطير الروسية الذي يسمي «قاشي»...
اقتربت من السرير ونظرتُ إلي وجهه عن قرب.
لقد تغير وجه الرجل المسن عن قبل بشكل غريب... تقلصت تجاعيد وجهه، وانكمش خده كقطعة لحم ذاب دهنها في مقلاة ساخنة.
شعر بدخولنا إلي الحجرة، فبدأ يرفع ويخفض أصابعه شديدة النحافة ببطء كالذي يُمررها علي أصابع البيانو، وبدا كأنه يعطي إشارات غير مفهومة لشخص ما من خلال عمل الأشكال الغريبة في الجو من حين لآخر.
جلستُ أنا و»سعيدة» في مكانها السابق، للناظر من بعيد يجدها خلف المنضدة المواجهة للسرير، كانت يدي الرجل المسن الشاحبة تشبه عقارب الصحراء الرملية التي احترقت من الظمأ وتفحمت تحت الشمس الحارقة... لقد رأيتُ هذه «العقارب» أيضًا في المنام في إحدي الليالي... رغم أنني كنتُ أتابعها وفي يدي حذاء طويل داخل الحجرات شبه المظلمة لمدة طويلة، وانشغل بقتلها، لم أستطع قتل واحدة منها. كانت جميع الحشرات سريعة الحركة تقفز من حائط إلي حائط ومن منضدة لمنضدة بقفزات طائرة طيلة المنام، وتهرب من هذه الناحية إلي تلك بقفزات تشبه شرارة التيار الكهربي، وتدخل الجحور والفتحات الموجودة بالأرضية، وتلتهم هناك شيئًا، بأفواهها التي لا تظهر...
بصفة عامة في الآونة الأخيرة، كنت أري في أحلامي وقائع شبه مظلمة وغريبة حول الرجل المسن، وكان خوف غريب ينتابني (في أعماق أحلامي) بسبب انتظاره استيقاظي من النوم وهو ينهج، ووقوفه بجواري في المنام، وكذلك بسبب بحثه في جيبه بحركات بطيئة عن مستند مهم من بين القصاصات التي أخرجها من جيبه.
•••
احضرت «سعيدة» الشاي في أكواب كمثرية الشكل، ونظمته فوق المنضدة. ووضعت المربي في الوسط، وجلست، وقالت بالطريقة نفسها مثل «الخالة خديجة»:
لقد طهيتُ الأرز لطعام العشاء.
كأن ابن العم سمع هذه الكلمة من »سعيدة» متأخرًا فأنهي دعاءه وسحب كرسيه نحو منضدة الغداء، وبعد أن ارتشف رشفة من الشاي قال:
ماذا تعمل؟
ثم تناول المربي.
شربتُ الشاي دون مربي ولم يكن لدي شك في أن رائحة العفن الدائم بالحجرة طغي علي المربي.
منذ فترة، كنت أشعر أن هذه الرائحة التي تشبه رائحة عفن مستنقع تنبع من الخادمة التي تأتي لرعاية الرجل المسن عندما تكون «سعيدة» في العمل بالصباح، وكانت هذه الخادمة امرأة عجوز قصيرة القامة صغيرة العينين إحدي أقارب أسرة »سعيدة» من بعيد. كان حال »سعيدة» يتحول بسبب هذه الرائحة. رغم أنها كانت بمجرد أن تدخل المنزل، تفتح الأبواب والنوافذ، وتُجدد هواء الحجرات، وتضغط علي زر معطر الجو بلا توقف، وتُنثر الرائحة في جميع الأرجاء، كانت الرطوبة المختلطة برائحة العفن تعلق بالجو مثل البخار، ولمدة ثانية يقضي عليها المعطر ثم تعود كما كانت.
كنتُ أحيانًا أشعر أن هذه الرائحة تتعلق بجميع أرجاء الغرف من أعلاها لأسفلها مثل الستائر الشفافة، كما كنتُ أحس لسبب ما أنني كلما عبرتُ من حجرة إلي أخري، كأنني أعبر بين ألسنة نار جافة.
وطبقًا لما كانت تقوله الخادمة، كانت تُجدد جو الحجرات عدة مرات خلال اليوم، وأن النوافذ التي تطل علي البحر، تُفتح علي مصرعيها في الصباح وفي أوقات الظهيرة، ورغم أن الرياح القادمة من البحر مختلطة برائحة السمك وتملأ المنزل وتتخلل الحجرات، كانت لا تستطيع التغلب علي رائحة المستنقع الذي يتسرب من سرير الرجل المسن، وربما من روحه.
وإن كانت الخادمة لا تخدعنا. فهي تقول إن هذه الرائحة تتميز بلون خاص بها، وذكرت أنها تحل علي جميع أثاث المنزل مثل ندي الصباح وتغشي جميع الأرجاء »صُفرة» غريبة، وتقول ناهجة نهجة غريبة تمر وهي يدها علي ورق الحائط الذي لا تذهب الصفرة من عليه بالغسيل والتنظيف:
كان لون هذا الورق قبل ذلك أزرق فاتح...
•••
كأن نَفَسه توقف.
قرّبت «سعيدة» وجهها الشاحب من وجه الرجل المسن وكانت تنظر إليه عن قرب شديد...
كان فم الرجل المسن شبه المفتوح يبدو للناظر من بعيد مثل مدخل مغارة أسطورية تُوصل إلي أعماق قديمة ومخيفة مدخل منطقة غامضة جفت طرقها بسبب أنه لم تطأها قدم منذ زمن بعيد...
قال ابن العم:
لا زال يتنفس...
ثم شرب كوب الشاي الثاني برشفة واحدة متصلة، ووضع الكوب علي الصحن بشكل معكوس. كان آنذاك يأكل بواقي المربي بالملعقة. وهو يلعق فمه بلسانه وينظر بنهم إلي ملفات الرجل المسن القديمة التي وضعت علي دولاب الكتب، ومن حين لآخر كان يقول بصوت منخفض وهو متأثر:
يا ابن عمي العَالِم، يا أخي الكادح...
أما أنا فكنتُ أعرف أن هذه الملفات تملأ الغرف الأخري، حيث كانت «الخالة خديجة» تصعد فوق الكرسي ببدنها الثقيل والمريض طيلة العام وتمسح الأتربة من عليها. واحد واحد... ربما كان في هذا المنزل المكون من ثلاث حجرات مقدار حمولة سيارة نقل من الملفات. كانت «الخالة خديجة» من أجل التخلص من هذه الكومة من الملفات المليئة بالأتربة، ترمي في سلة المهملات سرًّا الملفات اثنين اثنين أو واحدًا واحدًا عندما كان الرجل المسن خارج المنزل، ولدي علم أنها عوقبت مرات عديدة بسبب هذا الفعل. كان الرجل المسن لا ينفق علي البيت بالأشهر جراء الملفات التي ألقيت في سلة المهملات دون إذن، وكذلك لا يكلم زوجته لمدة أشهر. كان قلب الرجل المسن لا يهدأ حتي ولو تم استخراج الملفات من سلة المهملات وتنظيفها وإعادتها إلي مكانها، وكذلك يظل عابس الوجه...
كانت »الخالة خديجة» تقول:
يا بنيتي أنه يظل يكتب ليل نهار.
كانت تقول هذا كأنها مذنبة، كأنها هناك أمر مريب، وكلما رددت ذلك كان الرجل المسن يقول:
هذا هو مصدر رزقكم، بعد أن أموت سوف تبيعون هذه الملفات وتنفقون علي البيت...
... في الواقع، لقد شاهدتُ أيضًا علي مدار سنوات طوال عملية تكون هذه الملفات بسبب كوننا جيران وأنني صديقة لـ »سعيدة». منذ اليوم الذي أحيل فيه الرجل المسن إلي التقاعد، كنت أشاهده يستيقظ في الصباح الباكر بدافع الحفاظ علي الذات، ويحلق ذقنه في الحمام، ويرتدي بدلة العمل، ويضع رابطة العنق علي القميص الأبيض المرتب، ويجلس خلف طاولة الكتابة، ويكتب بشغف غريب شيئًا ما، ويظل من الصباح إلي المساء كما كان يفعل أثناء ذهابه للعمل، ويتابع التلفاز الموجود في أحد الأركان بإحدي عينيه، وينصت إلي المذياع الصغير الموجود علي الطاولة. ومنذ ذلك الوقت، تولد لدي شغف شديد لهذه الملفات التي تضاعفت من عام لآخر وازدادت حتي طمت جميع أرجاء المنزل. في الواقع، ربما الذي أوحي إلي وحثني لفكرة كتابة رواية حول الفترات التي عاشها هذا الرجل أكوام الكتابات المحفوظة داخل هذه الملفات المليئة بالأسرار، وكذلك أفكار الرجل المسن وذكرياته...
طبقًا لما قالته «سعيدة» الكتابات المحفوظة في هذه الملفات كانت مواد موثقة تتحدث عن إحدي المراحل التاريخية للدولة.
أما بالنسبة لي، فأعتقد لسبب ما أن الرجل المسن يجمع في هذه الملفات ذكرياته السرية التي كتبها عن حياته، فقد شعرتُ أن هذا الرجل الذي يسكن في المنزل المجاور لنا منذ طفولتي يعيش مع هذه الملفات السرية أكثر من عائلته، وأنه يختبئ فيها كالمسترخ في عش الراحة، فزاد اهتمامي أكثر بهذا الرجل المسن.
وضعت «سعيدة» رأسها بين ذراعيها، ربما غاصت في النوم. واسترخ ابن العم علي ظهر الكرسي في المكان الذي يجلس فيه، وغلبه النعاس دون أن يفقد توازنه.
بسبب هذا الصمت الغريب الذي حل بالمكان، أو إ حساس الحرية الغريب الذي شعرتُ به فجأة وسط النائمين من حولي، خطرت ببالي أنه آن الأوان للحصول علي هذه الملفات السرية التي حُرم لمسها منذ سنوات طويلة. كنتُ أود أنهض بهذه الفكرة وأتجه نحو الملفات المجمعة علي أرفف دولاب الحائط الموجود في مقدمة الحجرة...
انطلق كالرصاص في وسط هدوء الغرفة الغريب صوت الرجل المسن الذي بدأ يهذي بهذيان مجنون قائلاً:
... هو، انظر له... أقول... الوغد! اقبضوا عليه!... أسرعوا!...
انتفض النائمون، وأنا أيضًا...
رغم أن عينا الرجل المسن كانت مغلقة، كان يُحس أن سواد عينيه يلمع تحت تجاعيد جفن العين، وأنه يصوبها بغضب نحو شيء ما وهي مغلقة...
قال ابن العم وهو يرمش بعينيه التي احمرت من الأرق:
بدأت...
أسود تمامًا وجه سعيدة الذي هو في الأصل شاحب اللون:
ماذا بدأ؟
أشار ابن العم برأسه نحو الرجل المسن قائلاً:
عادة تبدأ هكذا، بقي القليل... هو علي عتبة الموت.
شعرت بضيق شديد... وأردت أن أسأل هذا الرجل متي وأين اشتغل «مغسل للموتي»، ولكن لم أسأل، وانحنيتُ نحو «سعيدة»:
لقد سأمنا من أحاديث وهذيان هذا...
تأوه الرجل المسن هذه المرة من أعماق قلبه... وفتح بصعوبة بالغة جفون عينيه المنكمشة المائلة للسواد التي تشبه غطاء عين الجمل... وبدأ سواد عينيه الذي اصفر وقد أصبح ذابلا منذ زمن بعيد. كان ينظر ثانيًا إلي أحد ما... ويصرخ علي أحد وهو ينهج، كأنه يحل مسألة ما...
لقد بينتُ لك المرة الماضية أيها الفاشل اذهب، نادوا علي «غفار» نادوه وليأت وليفتحه...
كان الرجل المسن يتحدث بهذا بلهجة غريبة متلجلجة تشبه حديث الأجانب.
عندما سمع اسم «غفار» تحرك في مكانه قائلاً:
آه!... ينادي علي «غفار»...
ثم نظر بعينيه اللامعتين تارة إلي الرجل المسن، وتارة أخري إلينا مواصلاً حديثه:
ينادي علي ابن عمنا «غفار».. مات العام قبل الماضي... إنه ينادي عليه. أي حضرة الموت. واصل الرجل المسن كلامه مختنقًا:
نادي أيضًا علي «خاصاي»... هو الوحيد الذي يعرف لغة هذا...
سألتُ بقلق:
من «خاصاي»؟
قال ابن العم دون أن ينظر إلي مشيرًا بيده إلي مكان ما إلي الخلف:
هو أيضًا أحد أقاربنا...
ثم نظر إلي وجهي وأضاف بنبرة غريبة:
وهو أيضًا في العالم الآخر.
شعرتُ بارتخاء في ركبتي من الخوف أو من القلق... كانت الحجرة مليئة بالموتي... التفتُ من حولي وأنا في ذعر... أم أن الرجل المسن وهو موجود في السرير الذي أمام عيني، وفي الوقت ذاته في مكان آخر
كان وسط الذين رحلوا عن هذه الدنيا، ويتجولون بأبدانهم الشفافة بيننا؟
ربما الأسرار التي أخفاها الرجل المسن عني وهو في سكرات الموت منذ عدة أشهر ترغب أن تنكشف من تلقاء نفسها...
قال الرجل المسن:
... نعم... نعم...
كان الرجل المسن يحترق من الداخل لسبب ما، ويتذمر غاضبًا، وكانت حدقة عينه تطوف داخل عينيه كقذيفة إلكترونية موصلة بالتيار.
وواصل الرجل المسن:
فكر أنت بهذا... فكر كما تشاء...
اقتربتُ من السرير، ونظرتُ إلي وجه الرجل المسن عن قرب.
انكمشت حدقة عيني الرجل المسن بسبب احمرار داخلها، أو كأنها تحت ضغط شيء ما، لقد ذابت وشحب لونها.
جلست «سعيدة» بجوار السرير ببطء، ووضعت يد والدها في يدها...
قال ابن العم:
لا تجلسي هناك، يا بنيتي، إنه يموت، ربما تخافين.
ساء حال الرجل المسن تمامًا بعد هذا الكلام الذي قاله ابن عمه. وأدار وجهه إلي الحائط، وبدأ يأن أنات غريبة تشبه صوت الكمان...
ارتعدت «سعيدة»، ووثبت علي قدمها، وتأثرت وبكت بكاء مكتومًا، ثم حوّلت وجهها جانبًا، وذهبت إلي الحجرة الأخري.
كان الرجل المسن يهذي ووجهه نحو الحائط:
اذهبوا بهؤلاء الأناس من هنا... أخرجوا من هنا... أخرجوا، أخرجوا! ممنوع الوقوف هنا!... نظر ابن العم إلي، وأنا نظرت إليه...
قال ابن العم:
يهذي، يا بنيتي، لا تخافي، سوف يستغرق الأمر وقتًا.
سألته:
يعني... ألا يزال يحتضر؟
طار صوابي من القلق...
قال ابن العم بحسم وعينه علي الرجل المسن:
بعد ذلك رفع رأسه، ونظر إلي أولاً بتعبير غريب به بهجة، ثم إلي الطفل الذي كان قد نام مكانه أمام التلفاز قبل ذلك.
اقتربتُ من السرير وجلستُ علي كرسي قريب، وانحنيتُ ونظرتُ عن قرب شديد إلي وجه الرجل المسن قائلةً:
أصبحت مقدمة أنفه نحيفة، وشاحبة.
أصبحت أمي قبل موتها بساعة بهذا الشكل. كأن صاعقة ضربت الرجل المسن طريح الفراش المصوب وجهه نحو الحائط بسبب كلامي هذا... نام ببطء علي ظهره، وأدار وجهه إلي، وفتح جفون عينيه، وهمس بتأسف وهو ينظر داخل عيني قائلاً:
ماذا تريدين مني يا بُنيتي؟...
وثبتُ علي قدحي في دهشة... ونهض ابن العم أيضًا معي قائلاً:
لا تخافي يا بُنيتي، يهذي، تحدث مثل هذه الأمور أثناء الاحتضار.
لا زالت عينا الرجل المسن غير الواضحة مسلطة علي... كانت تتسلل من أعماق هذه العينين ومضات مخيفة وصفراء تُشبه عواء ذئب يسمع من بعيد...
رغم أنني غيرتُ مكاني، ظلت عينا الرجل المسن مسلطة علي المكان الذي كنتُ أجلس فيه من قبل... ولم يمض كثيرًا حتي انطفئت. وخيم من جديد صمت متوتر استمر كثيرًا.
لقد زاد من اهتمامي أكثر بهذه الملفات المحفوظة بعناية مثل الوثائق القيمة لمنزل أو أكوام النقود، وألعاب الغميضة الغامضة هذه التي كان يقوم بها الرجل المسن.
طفتُ بنظري في الحجرة. سلط ابن العم بنظرات غامضة نظره نحو فراغ مجهول. كانت «سعيدة» في الحجرة الأخري.
جمعتُ شتات نفسي، ونهضتُ علي قدمي... وذهبتُ نحو الملفات التي مُنع المساس بها منذ سنوات... مددتُ يدي وأخذتُ أحدها، وعدتُ إلي مكاني، وفتحت عقدة رباط الملف.
ما أن انحلت العقدة، تناثرت كومة الورق التي كانت مضغوطة داخل الملف الضيق منذ سنوات فوق المنضدة مثل مجموعة كروت ناعمة.
أخذت إحدي الصفحات وبدأت القراءة. كانت الكلمات والجمل المكتوبة بحروف متعرجة بدايتها في أعلي الصفحة متجهة إلي وسطها تشبه سير فراشة جريحة غاصت قدمها في حبر أكثر منها كتابة.
قرأت بضع جمل وأنا أتهجي الحروف.
كان هذا عبارة عن نسخ غير منظم عشوائي للنصوص التي كانت ترد في نشرة الأخبار في فترة الخمسينيات والستينيات... كان من الواضح كسطوع الشمس أن الرجل المسن كان ينسخ هذه النصوص من الأخبار التي تقدم في التلفاز الذي كان يشتغل في ركن الحجرة أثناء سير العمل المصطنع الذي كان يقوم به أو التي تقدم في المذياع الذي يعمل ليل نهار في أحد أركان منضدة الكتابة، وذلك كله بغرض خداع نفسه طيلة أشهر وسنوات امتدت كالأمعاء الغليظة وهو مُحال للتقاعد...
كانت هذه النصوص مليئة بمصطلحات تاريخية لتلك الحقبة من الزمان.
كانت معظم الصفحات تبدأ بالتالي:
«مساء الخير أيها السادة المشاهدين...»
تمالكتُ نفسي، وتصفحتُ الأوراق الأخري أيضًا. كانت هذه الجمل المقفعة التي لا معني لها تتحدث عن أعمال مؤتمرات الحزب الشيوعي السوفيتي، وعن نتيجة أعمال بذر البذور في الحقول، وعن مسابقات الاشتراكية وعن فوز أم لتسعة أطفال في إحدي المسابقات الجماعية، وإلي آخره، تُذكر هذه الجملة أكثر من كونها نص مذيع، بهذيان ما قبل الموت لإنسان يحب الحياة حبًّا جمًّا...
كان مكتوبًا بوسط الصفحة في إحدي المستندات عبارة:
«يا... شعرك جميل وملفوف...»، ومنحرفة لأسفل بطول الصفحة... وكان مكتوبًا تحت هذا السطر بأحرف تشبه ومضات شرارة كلمات: »... انهيت رقمك القياسي...»، أما علي جانب الصفحة عبارة »... طيلة الطريق من الناحية السفلية لجبل عرفات...»، وبعدها عبارة »... الموت لك...»، ويكتب بعض الجمل والعبارات الأخري التي لا علاقة لها ببعضها البعض...
لقد انشغلتُ بترتيب الأوراق، حتي فزغتُ علي صوت الرجل المسن فجأة بصوت مليئ بالحشرجة:
ابتعد من هناك! لا تلمس هؤلاء...!
كانت عين الرجل المسن مغلقة... لكن فهم أنني أعيره اهتمامًا شديدًا، فألان صوته قائلاً:
... أتوسل إليكِ... لا دخل لكِ بهذا...
وأضاف وكأنه عاد إلي وعيه كالمستيقظ تمامًا:
ماذا تريدين، يا بنيتي؟...
رأي أنني لا أرد، فساءت حالته قليلاً، رفع صوته وقال:
ماذا تريدين مني؟...
ثم بدأ ينهج....
رغم أنني كنت أفهم لمن يوجه هذا «الهذيان»، كنتُ لا أعيره اهتمامًا. كنت أجمع المستندات التي كانت تجذب انتباهي في جانب منفصل، وأجمع الباقي داخل الملف وأضعه في مكانه السابق.
أصبح الرجل المسن لا ينظر إلي بعد... ركز عينيه المليئين بالتوسل إلي السقف، ربما يتوسل إلي الله...
لا تفعلي... ابتعدي عني... لا تفعلي... لا تمسيها، اتركيني أستريح... لا تلمسي هؤلاء...
دل ابن العم رأسه لأسفل، ووضع علي عينيه منديله الكبير الذي أخرجه من جيبه، وغاص في التفكير. تظاهرت بالتجاهل وعدم الفهم وسألتُ ابن العم:
مع من يتكلم؟...
رفع ابن العم رأسه ونظر إلي وجهي كمدرس كثير المطالب قائلاً:
يقتربون منه...
وظل يركز نظره في وجهي.
من؟
قال الرجل:
عدم معرفتك بمثل هذه الأشياء أفضل يا بنيتي. أنتِ شابه، ولا حاجة لكِ بهذا.
وركز عينيه اللتين احمرتا من البكاء نحو الشارع المظلم والخالي من الناس والذي كان يبدو آنذاك من النافذة. نهضتُ علي قدمي، وأخذتُ أيضًا بعض الملفات من فوق أرفف الكتب، وأحضرتهم ورتبتهم فوق المنضدة، وفككتُ عقد الأربطة المربوطة بها.
من الدهشة شعرتُ بوغز بارد بداية من ذراعي حتي أطراف أصابعي.
كانت هذه الملفات مثل الملفات السابقة...
كان بها جمل مقطعة صباح الخير، أيها السادة المستمعين..«، وتبدأ الجملة الأخري من منتصف الصفحة»... مع سهول «سفيستيول» الثلجية..
وعقب هذا كان مكتوبًا: »كانت الحقيقة هكذا... لماذا لم يطلقوا سراحه؟
أقول لك، ابتعد عن هذا!
فزع كل منا علي صوت الرجل المسن الذي فرق هدوء الحجرة بصرير يشبه صرير باب ثقيل وقديم...
الآن عيناه الاثنتان مفتوحتان... كانت تدور حدقة عينيه التي شحب لونها كفئران وضعت في المصيدة، وكأن عينيه تبحثان عن مكان للوثوب من مكانها...
لم يكن الرجل المسن في وعيه، كانت عيناه القلقتان تحومان، وكان يركز من حين لآخر بغضب من شخص ما... كان آنذاك يصدر صوته بصعوبة ويأخذ نفسه الذي يخفق تدريجيًّا من مكان ما من مكان ضيق...
تأوه:
... قلتُ لكِ تلك المرة... قلتُ، لا تأت... لا تأت... لا تأت!...
وأدار وجهه كأنه يختبأ من شخص ما، وقال آنذاك بصوت منخفض للغاية ثم صمت:
إنني أخاف... أخاف منكِ... أنتِ تعرفين بنفسكِ، كم أنا أخاف...
شعرت باختناق في نفسي من الذعر، واتجهتُ خلف «سعيدة» إلي الغرفة الأخري.
•••
لم أستطع سواء أنا أو «سعيدة» ذلك اليوم أو بعده أن نحدد هل هذا الهذيان الأخير للرجل المسن كان موجه لي أم كما قال ابن العم موجه للرسول المعتبر القادم خلفه من العالم الآخر.
مات الرجل المسن قرب طلوع النهار بشكل مريح وغريب عند خروج روحه، كان الجميع ينام إلا أنا. كان الوقت يقترب من الشروق.
كنتُ أتناول أكواب من الشاي الثقيل الواحد تلو الآخر حتي أبعد عني النوم الذي خيم علي جفوني، وكنت أقلب وسط أكوام الملفات «التاريخية» التي ستحمل علي مقطورة إلي وسط المدن، وكان ما يُصيبني بالدهشة هو أن مضمون المكتوب في هذه الملفات الجمل المختلفة والملاحظات والعبارات يعتبر استمرار أو بداية لما كان يهذي به الرجل المسن وهو يحتضر وذلك من خلال الجمل المقطعة والتي لا علاقة ببعضها البعض... والغريب في الأمر أن هذه الأوراق الصفراء المليئة بحشد من الكلمات التي لا معني لها، ولا ترابط منطقي بينها كانت تجسد مشهدًا لحياة مكتظة جدًّا ومؤلمة ثم...؟ في أماكن غريبة لا نفهمها... شعرتُ بموت الرجل المسن ذلك الصباح بمحض الصدفة عندما رفعتُ رأسي علي صوت يشبه فتح أو غلق بقلقلة متسقة لشيء ما يشبه قفلا صغيرا قريبا منه في الصباح الباكر... فتح الرجل المسن عينيه الممتلئة، وتركزت علي وجهي...
أيقظت النائمين وعندما أخبرتهم بموت الرجل المسن، كانت الشمس قد طلعت بالفعل.
كانت «سعيدة» لا تبكي بعد، طافت وجالت الحجرات بوجهها ناصع البياض، وفرشت غطاء أبيض علي المرايا ودولاب الأواني، ورتبت الغرف.
ظل ابن العم مشغولاً بوجه الرجل المسن طويلاً. ضغط علي جفون عينيه التي كانت لا تريد الانغلاق مطلقًا في بداية الأمر، وفي النهاية أسكنها مكانها، وبعد ذلك ربط بقوة ذقنه بالمنديل الذي أخرجه من جيبه.
جلستُ علي الكرسي الموجود بجوار السرير وشاهدتُ وجه الرجل المسن الذي كان يتغير كل دقيقة ويتجمل وينضر كلما انسل منه الدم، وذلك حتي جاءت عربة الموتي من المسجد... لقد تعجبتُ من تحول هذا الرجل المسن الغامض الذي كان يتجمل إلي صفة شاب في ريعان الشباب، رحل فجأة عن هذه الدنيا في أفضل أوقات عمره، وذلك عندما كانوا يلفونه في لحافه كالملفوف في حفاظه، من أجل إخراجه من المنزل والذهاب به لتغسيله.
أيقظ ابن العم الفتي الذي ينام طيلة الليل علي الكرسي الموجود أمام التلفاز ثم نقله علي الأريكة القريبة، نزلوا إلي فناء المنزل مع «سعيدة»، وهناك نظروا خلف سيارة الإسعاف التي تحمل الرجل المسن إلي المسجد من أجل تغسيله.
أما أنا فجمعتُ الملفات فوق بعضها البعض والتي استأذنت «سعيدة» في حملها إلي البيت، وربطها بالحبل بشكل مرتب، وذلك من أجل الانتهاء من الرواية التي أكتبها حول هذا «الفتي» الغامض...
* منقول عن:
الاحتضار