كانت حقاً امرأة الوقوف ليلاً بين أزقةٍ تسرحُ فيها خيالات لصبحٍ ما إن يأتي حتى تكون هي قد عادت لتجلسَ القرفصاء داخل غرفةٍ نسج العنكبوت على سقفها خيوطا ًتتدلى كتعويذة لأيام نحسات تُقرع أجراسها بلا توقف . بالرغم مِنْ سحب الأسى التي تظلل مقلتيها فقد كانتْ امرأة بطعم الجحيم , يكفي أنْ تصافحك فقط لتشعل الحرائق فيك ومِنْ حولك . لمْ يدر بمخيلتي - حين تعرفتُ عليها – أنها لا تنتعل سوى الأرصفة في مدينةٍ كل الطرق فيها لا تنتهي إلى مصب , مدينة تلبس ثوب الحداد على فراشات تحترق نهاراً وتبكي ليلاً أجساداً كأشجار ميتة برغم كونها ما تزال مستوية على سوقها . لم تكنْ هي استثناءاً ، سقطت كورقة توت فحاولت أنْ توهمني بأنها ما تزال تقبع خلف خط الإنحدار ولنْ تعبره قط , فصدقتها . ربما لكوني أُعاني مِنْ رهبة المنحدرات لمْ أحوال أنْ أهبط مستكشفاً تضاريسها وتعرجاتها الخطرة ، وحدها كانت تجيد لعبة الصعود على الغير والسباحة بين المخادع ودون أنْ يشغل بالها فلسفة إنْ كانتْ مثل عود الثقاب الذي لايشتعل سوى مرة واحدة , أو حتى كحطب جهنم التي كُلَّما قيلَ لها: هل إمتلأتِ ؟ تقول: هل من مزيد ؟
كنت أجدها - ودون سابق إصرار – كرياح الخريف التي تحرك أغصان الشجر وتعبث بالنوافذ ؛ لتعطيك إشارة بأنك لست عصياً أو بعيداً على مرمى زخات الهطول, فكيف لي أنْ أتفيأ ظلال إمرأة لمْ تعد سوى صخرة , نحت جميع من مرّوا بها تذكاراتاهم عليها و مضوا , حتى روحها لمْ تعد سوى قطعة إسفنج لا تستطيع أن تستقطر منها أكثر مما إمتصته منك .وقوفها بالقرب من إشارات المرور أفقدها الإحساس بأنَّ هناك متسع في الطريق يسمح بالخروج بعيداً عن الأزقة ، وأنّ الحياة لا تقتصر على الوان ثلاث .
لا أدري كيف وصلت هي إليَّ وأنا الذي عِشت جُلَّ ليالي العمر في سعي وطواف بين أشتات لذكرى إمرأة أخرى لمْ تعد هنا . أ لأنَّها تعوّدت أنْ تعبر كلَّ الإشارات الحمراء وتجتاز كل حواجز القدر استطاعت أنْ تعبر رغم التحفظ ؟ أمْ ترانـي سوَّلـت لي نفسي – ذلك المساء – فعبرتها أنا دون كامل وعي مني! . لمْ أكن مرتاباً قط في كونها محطة للعبور فقط ولاتصلح للوقوف , لذا أعدتها كحقيبة لسفر طويل . رسمتها فاصلة منقوطة ؛ لأضعها بين حياتين إحداهما سبب في حدوث الأُخرى فشدَّتْ هي قوسيها ورمتني بينهما كجملة معترضة لاترتبط بسيا كان شغلها الشاغل أنْ تفعل بوضوح ما يكون في متناول يدها , لا ما يكْمُن غامضاً على مسافةٍ منها .
جمعتُ الحطب لميعادٍ بعدَ الغروب كما يروق لها , وعلى ضفاف النيل كما يروق لي . وضعت الكثير من أغصان السنط الجافة , حففتها بأوراقٍ رطبةٍ مِنْ أشجار الأراك ، ثم جلستُ في انتظارها . كنت أنا وهي وثالثنا القمر يرسل ضوءه الرمادي على سطح الماء، ونسمات الليل تهمس بأسرارِها للنيل فيندفع الموج نحو الضفة ليبوح بما سمع فيتكسر الضوء مابين مد وجزر . دارت كؤوس الذكريات بين الشفاه ولعب السمر بالعقول , فقامت ترقص على ذاكرة لا تجمع فيها سوى شظايا لمرايا لمْ تكن تعكس لي أكثر مما كان يعكسه سطح الماء من جسدها . وقفت أمامي تماماً حتى لمْ يبقى بين وجهي وخصرها سوى مايسمح بمرور الهواء . أخذت تتحدر في رقصها كشلال نيلي هادئ , تحرك إحدى ذراعيها كجناحٍ لطائرٍ نيلي مبلل يهم بالتحليق بعد الحصول على سمكة , وترفع ذراعها الآخر في تقويس حاد , تحرك الريح رُدْنها فتبدو كشراع منصوب على قاربِ صيدٍ صغير . خلعتْ عنها أوَّل قطع زيفها ورمتها على وجهي وهي تضحك ثم اندفعت تدور وتدور مبتعدةً عني . خلعت قطعة أُخرى وعادتْ - بذات الحركة الحلزونية – لتلقيها عليَّ وتبتعد بعد تحدر مواصلة رقصها العدوانى على إيقاع أقدامها غير المسموع وهي تغوص بين حبات الرمل ؛ لتنزعها بحركة فيها من الرشاقة ما فيها ومن الإثارة ما فيها أيضاً حتى أشعلتْ أغصان السنط الجافة فارتفعت حمى الرقص مع صوت طقطقة النار .نزعت ذاكرتها عنها قطعة بعد أخرى حتى تعرّت تماماً ؛ فأخذت تخصف عليها من ورق النسيان ، مدعية أنها ماعادت تذكر المزيد . سكت خلخال الماضي عن الرنين شيئاً فشيئاً حتى صمت تماماً بنهاية الرقص .
جاءت وجلست بجواري , أخذت تحفر بأناملها على الرمل ربما لتدفن تفاصيل لماضيٍ ظنّته صار رماداً وذاكرة قد أتعبتها كثيراً . كانت تريد أن تستعيدني بحيلة الراعي الذي يعزف على الناي ليجمع الماشية حوله ،عزفت على كل أوتار الرجاء , صعدت على كل السلالم الموسيقية وهبطت دون أن ْتحرك داخلي إرادة التصفيق حتى على حسن الأداء. أخذت ترسل الحجارة على نوافذ القلب لتكسر جدار الصمت داخلي أو تحرك بركة لدماء لم يمضي على ركودها سوى كلمات . طال وقوفها تحت نافذة - لم أعد أسكنها – لأمل قد بات هباءاً لا أكثر .
سألتني : أ لن تعود ؟ فأجبتها : ربما ! إذا توقفتي عن التحليق ليلاً . أخذت تجمع ما تناثر من قطع على رمال الشاطيء وترتديها قطعة بعد أُخرى . إنحنت ، حملت حقيبتها وهمت بالانصراف فسألتها أنا : أ لن نلتقي ؟ استدارت نحوي نصف استدارة ، ابتسمت ، غرست أصابعها في شعرها و قالت : قطعاً، إذا أتيت ليلاً ... ثم طارت بعيداً ولفها الظلام .
كنت أجدها - ودون سابق إصرار – كرياح الخريف التي تحرك أغصان الشجر وتعبث بالنوافذ ؛ لتعطيك إشارة بأنك لست عصياً أو بعيداً على مرمى زخات الهطول, فكيف لي أنْ أتفيأ ظلال إمرأة لمْ تعد سوى صخرة , نحت جميع من مرّوا بها تذكاراتاهم عليها و مضوا , حتى روحها لمْ تعد سوى قطعة إسفنج لا تستطيع أن تستقطر منها أكثر مما إمتصته منك .وقوفها بالقرب من إشارات المرور أفقدها الإحساس بأنَّ هناك متسع في الطريق يسمح بالخروج بعيداً عن الأزقة ، وأنّ الحياة لا تقتصر على الوان ثلاث .
لا أدري كيف وصلت هي إليَّ وأنا الذي عِشت جُلَّ ليالي العمر في سعي وطواف بين أشتات لذكرى إمرأة أخرى لمْ تعد هنا . أ لأنَّها تعوّدت أنْ تعبر كلَّ الإشارات الحمراء وتجتاز كل حواجز القدر استطاعت أنْ تعبر رغم التحفظ ؟ أمْ ترانـي سوَّلـت لي نفسي – ذلك المساء – فعبرتها أنا دون كامل وعي مني! . لمْ أكن مرتاباً قط في كونها محطة للعبور فقط ولاتصلح للوقوف , لذا أعدتها كحقيبة لسفر طويل . رسمتها فاصلة منقوطة ؛ لأضعها بين حياتين إحداهما سبب في حدوث الأُخرى فشدَّتْ هي قوسيها ورمتني بينهما كجملة معترضة لاترتبط بسيا كان شغلها الشاغل أنْ تفعل بوضوح ما يكون في متناول يدها , لا ما يكْمُن غامضاً على مسافةٍ منها .
جمعتُ الحطب لميعادٍ بعدَ الغروب كما يروق لها , وعلى ضفاف النيل كما يروق لي . وضعت الكثير من أغصان السنط الجافة , حففتها بأوراقٍ رطبةٍ مِنْ أشجار الأراك ، ثم جلستُ في انتظارها . كنت أنا وهي وثالثنا القمر يرسل ضوءه الرمادي على سطح الماء، ونسمات الليل تهمس بأسرارِها للنيل فيندفع الموج نحو الضفة ليبوح بما سمع فيتكسر الضوء مابين مد وجزر . دارت كؤوس الذكريات بين الشفاه ولعب السمر بالعقول , فقامت ترقص على ذاكرة لا تجمع فيها سوى شظايا لمرايا لمْ تكن تعكس لي أكثر مما كان يعكسه سطح الماء من جسدها . وقفت أمامي تماماً حتى لمْ يبقى بين وجهي وخصرها سوى مايسمح بمرور الهواء . أخذت تتحدر في رقصها كشلال نيلي هادئ , تحرك إحدى ذراعيها كجناحٍ لطائرٍ نيلي مبلل يهم بالتحليق بعد الحصول على سمكة , وترفع ذراعها الآخر في تقويس حاد , تحرك الريح رُدْنها فتبدو كشراع منصوب على قاربِ صيدٍ صغير . خلعتْ عنها أوَّل قطع زيفها ورمتها على وجهي وهي تضحك ثم اندفعت تدور وتدور مبتعدةً عني . خلعت قطعة أُخرى وعادتْ - بذات الحركة الحلزونية – لتلقيها عليَّ وتبتعد بعد تحدر مواصلة رقصها العدوانى على إيقاع أقدامها غير المسموع وهي تغوص بين حبات الرمل ؛ لتنزعها بحركة فيها من الرشاقة ما فيها ومن الإثارة ما فيها أيضاً حتى أشعلتْ أغصان السنط الجافة فارتفعت حمى الرقص مع صوت طقطقة النار .نزعت ذاكرتها عنها قطعة بعد أخرى حتى تعرّت تماماً ؛ فأخذت تخصف عليها من ورق النسيان ، مدعية أنها ماعادت تذكر المزيد . سكت خلخال الماضي عن الرنين شيئاً فشيئاً حتى صمت تماماً بنهاية الرقص .
جاءت وجلست بجواري , أخذت تحفر بأناملها على الرمل ربما لتدفن تفاصيل لماضيٍ ظنّته صار رماداً وذاكرة قد أتعبتها كثيراً . كانت تريد أن تستعيدني بحيلة الراعي الذي يعزف على الناي ليجمع الماشية حوله ،عزفت على كل أوتار الرجاء , صعدت على كل السلالم الموسيقية وهبطت دون أن ْتحرك داخلي إرادة التصفيق حتى على حسن الأداء. أخذت ترسل الحجارة على نوافذ القلب لتكسر جدار الصمت داخلي أو تحرك بركة لدماء لم يمضي على ركودها سوى كلمات . طال وقوفها تحت نافذة - لم أعد أسكنها – لأمل قد بات هباءاً لا أكثر .
سألتني : أ لن تعود ؟ فأجبتها : ربما ! إذا توقفتي عن التحليق ليلاً . أخذت تجمع ما تناثر من قطع على رمال الشاطيء وترتديها قطعة بعد أُخرى . إنحنت ، حملت حقيبتها وهمت بالانصراف فسألتها أنا : أ لن نلتقي ؟ استدارت نحوي نصف استدارة ، ابتسمت ، غرست أصابعها في شعرها و قالت : قطعاً، إذا أتيت ليلاً ... ثم طارت بعيداً ولفها الظلام .