عوض كمال عوض - الطريق المقدس.. قصة قصيرة

" أمشي وحيداً علي الطريق...
ذاك الذي يؤدي من أثينا..
إلي معبد اليوسبس...
و كان هذا الطريق، عندي، علي الدوام..
مسلكاً من مسالك الروح...
كان يبدو مثل نهر عظيم.. "
الشاعر اليوناني أنجلوس سكليانوس

هم هنالك، علي صورة خامدة، يتأرجحون بين الحياة و الموت. ينتظرون الإشارة حتي يبعثواْ أنفسهم إلي الحياة. ينتظرون يوم تقوم قيامتك أنت بالذات، فيخرجواْ إليك عراة حفاة كما ولدتهم أمهاتهم في حيوات سابقة. يخرجون من الليل و إلي الليل. يلفح الهواء البارد أجسامهم الهزيلة، و يرتِّب عظامهم النخرة علي صورتها الأصلية. أطراف الأطفال البضَّة إستحالت إلي شئٍ قاسٍ و جافٍ و مبهم. النساء يمشين في جماعات و هن يلطمن علي وجوههن، و ضفائرهن يطوعها الهواء البارد كمراجيح الأطفال الفقراء. و بينما أنت تتقلب في مملكة غفلتك الواسعة، تتجمع الحشود من الشوارع الفرعية، و من أزقة الأسواق، و من الرعشة بين الخطوة و الخطوة، و الدهشة بين الكلمة و الكلمة. يأتون من المدن البعيدة، و ممالك الحقيقة المنفيِّة، و من المرافئ التي نسيتها دروب السفن، ومن ما وراء البحار. يخرجون من تحت أخشاب المقصلة، و صميم حبال المشنقة، و من بين صفوف الخبز. كلهم يصلون علي نفس الهيئة: عراة حفاة من أجل قيامتك أنت بالذات.
و فجأة يتحول جمودهم إلي حركة، و موتهم إلي غضب، و شتاتهم إلي وحدة، و يبدأ المهرجان. يتعارفون بحرارة، أو يعيدون التعرف ببعضهم البعض، فهم جميعاً يأتون من نفس عمق الأوجاع اليومية، و أحلام السعادة المجهضة، و صمت الليل المُحرَّف. المدينة تتململ من سباتها العميق، و الطيور ترتعش في أوكارها، و تتفتح الأزهار دون شمس، و تتقافز القطط، و تنبح الكلاب. الجميع يتهيّب الحدث. و الليل يهمس في أذن الخلائق: إشارة البعث.
وصل الجمع إلي الطريق المقدس. يتلفحون الليل، و يتحركون كالظلال، فكأنهم هنا و ليسواْ هنا. الطريق المقدس هو طريق عادي و يومي، ربما تكون قد سلكته و أنت ذاهب إلي عملك أو و أنت تتنزه هنا و هناك. لكنه الآن، و بأمر من الليل، كشف عن نفسه، و أُضِئ بملايين القناديل و الشمعدانات المعلقة في الهواء، فأصبح له رونق و بريق، مثل أن توقد شمعةً ضخمةً في عمق الليل. الحشود تتحرك في الظلام، يلبسون الليل، و يتقدمون الطريق المقدس و كأنهم جسد واحد عملاق يخطو، يضع رجلاً و يرفع رجلاً.
هو هنالك، في عزلته المجيدة، في محرابه و لا يصلي. أخبروه بأن الحشود تتجه إليه، من أجل قيامته هو بالذات، و بأنهم قد عرفواْ طريق الوصول إليه: الطريق المقدس. هاج و ماج، قام و قعد، عض علي نواجذه و إضطرب. إستدعي كبير الزبانية يستفسره عما يحدث، و لكنه لم يكن موجوداً. أخبروه لاحقاً بأن الليل قد تآمر ضده، و خرج عن حكمه، و ثاب و تاب و رجع إلي الحشود. تلاطم موج الغضب في صفحات وجهه، و إنعقد التبرم بين حاجبيه، و جفت الكلمات في حلقه. و ظل صامتاً يتأهب الكلام، و لا يتكلم.
الحشود تتقدم تتلو نشيد الخلاص، و كأنهم في صلاة لا تنتهي. و الأضواء الساطعة علي طول الطريق تغذي ضعفهم، ترشدهم، و تقوّي إحساسهم بالأمل. كما ترشدهم الطيور و الرياح و الجمادات، و كأن الكون بما فيه من تنافر عجيب قد إتفق في تلك الساعة من الليل. و في اللحظة التي يريد فيها الزبانية أن ينقضّواْ علي الحشود الهادرة، تخونهم إرادتهم، و يبهرهم النور الساطع من القناديل و الشمعدانات علي طول الطريق. و بتلقائية فطرتهم السليمة، يخلعون ما يلبسون و ما ينتعلون، و ينضمون إلي الحشود عراة حفاة يغنون نشيد الخلاص، من أجل قيامته هو بالذات. الطريق ليس ثابتاً، بل هو طوع مشيئتهم، و أينما إتجهواْ يتجه معهم، شمالاً أو جنوباً، شرقاً أو غرباً، و يُضاء لهم، و يرشدهم كل ما حولهم في لهفة.
كان قد أعد العُدة للإحتفال بمناسبة إعادة تنصيبه سلطاناً عاماً للكون و ما حوله لمئة سنة أخري. فكان يجهز نفسه فترة ما قبل الظهر، و يُلمِّع التاج القديم الذي ملّ المكوث فوق رأسه حتي ما بعد العصر. دون أن يعلم أنه يجهز للإحتفال بقيامته الخاصة، و أنه دون أن يدري يشارك فيها بشكل فعال جداً. و في لحظات تخبطه الأخيرة، كان يصدر الأوامر دون أن يدري أنها بشكل أو بأخر تعجل من نهايته، و تزيد من غليان القدر. كما أن الزبانية الذين يرسلهم تجاه الحشود، لا يعودون أبداً، و يقومون برحلة من إتجاه واحد. نظر إلي مرآته التي كانت أكثر زبانيته إخلاصاً علي مر السنين، كان واثقاً بأنها لن تخذله. و لكنه، و لأوّل مرة، رأي نفسه كما كان دائماً، دون تسويف أو كذب، كعجوز هَرِم، نخّر وجهه الدود، و حوله الكذب إلي شئ لا يشبه الإنسان في شئ، و أن يديه مخضبتين بالدم، و أن جسده مترهل و ثقيل، و أن أظافره طويلة وحادة مثل من يقومون من القبور، و أن يديه الصغيرتين المعرورقتين ترتجفان طوال الوقت.
إقتربت الحشود من القصر. و الطريق المقدس أعلن عن نفسه بوضوح لم يسبق له مثيل منذ بدأ الخليقة. و الليل يقود الحشود مثل عرّاب عجوز. الجميع يغني نشيد الخلاص، الجميع يصلي بلا محراب، و الكون كله بأحيائه و جماداته يصفق، و إكتمل المهرجان.
أقدام الحشود تملأُها الدماء، و يتحرر الناس من ألامهم و أوجاعهم التي ضاعفتها السنين. يزفون أنفسهم إلي قيامته سعداء. أصوات وقع الأقدام الدامية علي الأرض أصبح واضحاً، مثل صوت المطرقة علي المسمار، صوت قوي و منسجم مع صميم روح الكون. خرج يتحري الأمر بنفسه، و هو علي شرفة رئاسته الدائمة: وجد الحشود أمامه تماماً، و جميعهم ينظرون إليه في نفس اللحظة، تنظر إليه القناديل و الشمعدانات و الجمادات و هوام الطريق، ليس كما ينظرون إلي ملك، و لكن كما ينظرون إلي متهم. بعد أن تفرّس في وجوههم جميعاً، تأكد بأن كل زبانيته هناك، يغنّون وسط الحشود، و هو الآن وحده. و بينما الحشود تغني المقطع الأخير من نشيد الخلاص، و تصعد السلالم الداخلية للقصر، بدأ جنونه الأخير: رمي التاج علي المرآة، كما ترمي حجراً في بركة ساكنة فيتوتر سطح الماء. مزق بدلته الرئاسية التي أعدها للإحتفال، حطّم صور الأجداد الأماجد التي تتزاحم في ممرات القصر. و كان لعاره الشديد، كلّما يختبأ أكثر يدل عليه قلبه الذي أصبح يخفق مثل طبل.
في لحظات صحوه الأخيرة في هذه الحياة، أدرك أن سريره كان مريحاً لأنه مصنوع من الجماجم و العظام. و أن طعامه كان لذيذاً لأنه كان مخلوطاً بدماء القتلي و عرق الرجال في الحقول. و أنه كان يلبس من عُري الناس، و يبتسم من بقايا مزاجهم الخاص. و بدأت تتكشّف له أشياء و أشياء. و لأول مرة إنتبه إلي أن طيور الزينة التي في القفص الكبير في القصر لم تكن إلا خفافيش. و أن النباتات المزروعة في الحديقة الدائرية علي أنها زهور لم تكن إلا شجيرات صحراوية ذات أشواك. و أن النافورة الكبيرة المبنية من الحجر و الجبص كانت جافة، و تحوي في شقوقها الثعابين و العقارب. و أن قصره الذي يدير منه الكون الواسع لم يكن إلا مغارة عميقة علي سفح جبل منسي. و أنه هو نفسه، بكل عظمته و سلطانه الفاني، مخلوق ضعيف و موحش و فاقد للروح، و بعيد كل البعد عن نبض الحياة اليومي.
وجدوه مع أولي نسائم الفجر العليلة و المليئة بالعافية، مشنوقاً بغروره الخاص، بحبل كان دائماً إحتياطه الوحيد للزمن الذي يكرر نفسه. عيناه فزعتان، مجمدتان علي هيئتهما الأخيرة تجاه الحشود. و الهواء البارد الذي كان يطوّع ضفائر النساء في بداية الليل، يضرب الآن في قدميه اللتين سيجف فيهما الدم إلي الأبد. و لم يبق في غرفته إلا صوت الساعة الكبيرة الأعزل: تك تك تك تك. خرج من الباب الخلفي للعالم، دون خطاب نهائي، أو بيان مقتضب يبرر فيه نفسه، دون أن يودع أحد، أو يودعه أحد، غريباً حتي عن نفسه. جاء من الظلام و الآن يعود إلي الظلام.
إنتهي زمن الأبدية الثقيل المكرر. إحتفلت الحشود، و تسالم الناس و قد إلتئمت جروح أقدامهم، و تحررواْ من ِوزرهم الخاص، و صار بإمكانهم الإبتسام أخيراً. إنطفأت القناديل و الشمعدانات، تدريجياً علي نفس المنوال الذي أُضيئت به، و إختقت ملامح الطريق المقدس الباهرة، و عادت الشوارع و الطرقات إلي نفسها. و مع إنبثاق أولي خيوط الشمس الذهبية من وراء المجهول، ودّع الليل الجميع، و لوّح لهم بعصاه البيضاء الطويلة التي تنتهي بعلامة النصر، و أحكم ردائه حول نفسه، و وعدهم بأنه لن يعود إلا بعد مئة سنة أخري.

19 يناير 2015
أمدرمان- السودان


الطريق المقدس
قصة قصيرة

قصة فائزة بجائزة الطيب صالح للشباب (مركز عبد الكريم مرغني)
الدورة السابعة .. 6/4/2015...

عوض كمال عوض

" أمشي وحيداً علي الطريق...
ذاك الذي يؤدي من أثينا..
إلي معبد اليوسبس...
و كان هذا الطريق، عندي، علي الدوام..
مسلكاً من مسالك الروح...
كان يبدو مثل نهر عظيم.. "
الشاعر اليوناني أنجلوس سكليانوس

هم هنالك، علي صورة خامدة، يتأرجحون بين الحياة و الموت. ينتظرون الإشارة حتي يبعثواْ أنفسهم إلي الحياة. ينتظرون يوم تقوم قيامتك أنت بالذات، فيخرجواْ إليك عراة حفاة كما ولدتهم أمهاتهم في حيوات سابقة. يخرجون من الليل و إلي الليل. يلفح الهواء البارد أجسامهم الهزيلة، و يرتِّب عظامهم النخرة علي صورتها الأصلية. أطراف الأطفال البضَّة إستحالت إلي شئٍ قاسٍ و جافٍ و مبهم. النساء يمشين في جماعات و هن يلطمن علي وجوههن، و ضفائرهن يطوعها الهواء البارد كمراجيح الأطفال الفقراء. و بينما أنت تتقلب في مملكة غفلتك الواسعة، تتجمع الحشود من الشوارع الفرعية، و من أزقة الأسواق، و من الرعشة بين الخطوة و الخطوة، و الدهشة بين الكلمة و الكلمة. يأتون من المدن البعيدة، و ممالك الحقيقة المنفيِّة، و من المرافئ التي نسيتها دروب السفن، ومن ما وراء البحار. يخرجون من تحت أخشاب المقصلة، و صميم حبال المشنقة، و من بين صفوف الخبز. كلهم يصلون علي نفس الهيئة: عراة حفاة من أجل قيامتك أنت بالذات.
و فجأة يتحول جمودهم إلي حركة، و موتهم إلي غضب، و شتاتهم إلي وحدة، و يبدأ المهرجان. يتعارفون بحرارة، أو يعيدون التعرف ببعضهم البعض، فهم جميعاً يأتون من نفس عمق الأوجاع اليومية، و أحلام السعادة المجهضة، و صمت الليل المُحرَّف. المدينة تتململ من سباتها العميق، و الطيور ترتعش في أوكارها، و تتفتح الأزهار دون شمس، و تتقافز القطط، و تنبح الكلاب. الجميع يتهيّب الحدث. و الليل يهمس في أذن الخلائق: إشارة البعث.
وصل الجمع إلي الطريق المقدس. يتلفحون الليل، و يتحركون كالظلال، فكأنهم هنا و ليسواْ هنا. الطريق المقدس هو طريق عادي و يومي، ربما تكون قد سلكته و أنت ذاهب إلي عملك أو و أنت تتنزه هنا و هناك. لكنه الآن، و بأمر من الليل، كشف عن نفسه، و أُضِئ بملايين القناديل و الشمعدانات المعلقة في الهواء، فأصبح له رونق و بريق، مثل أن توقد شمعةً ضخمةً في عمق الليل. الحشود تتحرك في الظلام، يلبسون الليل، و يتقدمون الطريق المقدس و كأنهم جسد واحد عملاق يخطو، يضع رجلاً و يرفع رجلاً.
هو هنالك، في عزلته المجيدة، في محرابه و لا يصلي. أخبروه بأن الحشود تتجه إليه، من أجل قيامته هو بالذات، و بأنهم قد عرفواْ طريق الوصول إليه: الطريق المقدس. هاج و ماج، قام و قعد، عض علي نواجذه و إضطرب. إستدعي كبير الزبانية يستفسره عما يحدث، و لكنه لم يكن موجوداً. أخبروه لاحقاً بأن الليل قد تآمر ضده، و خرج عن حكمه، و ثاب و تاب و رجع إلي الحشود. تلاطم موج الغضب في صفحات وجهه، و إنعقد التبرم بين حاجبيه، و جفت الكلمات في حلقه. و ظل صامتاً يتأهب الكلام، و لا يتكلم.
الحشود تتقدم تتلو نشيد الخلاص، و كأنهم في صلاة لا تنتهي. و الأضواء الساطعة علي طول الطريق تغذي ضعفهم، ترشدهم، و تقوّي إحساسهم بالأمل. كما ترشدهم الطيور و الرياح و الجمادات، و كأن الكون بما فيه من تنافر عجيب قد إتفق في تلك الساعة من الليل. و في اللحظة التي يريد فيها الزبانية أن ينقضّواْ علي الحشود الهادرة، تخونهم إرادتهم، و يبهرهم النور الساطع من القناديل و الشمعدانات علي طول الطريق. و بتلقائية فطرتهم السليمة، يخلعون ما يلبسون و ما ينتعلون، و ينضمون إلي الحشود عراة حفاة يغنون نشيد الخلاص، من أجل قيامته هو بالذات. الطريق ليس ثابتاً، بل هو طوع مشيئتهم، و أينما إتجهواْ يتجه معهم، شمالاً أو جنوباً، شرقاً أو غرباً، و يُضاء لهم، و يرشدهم كل ما حولهم في لهفة.
كان قد أعد العُدة للإحتفال بمناسبة إعادة تنصيبه سلطاناً عاماً للكون و ما حوله لمئة سنة أخري. فكان يجهز نفسه فترة ما قبل الظهر، و يُلمِّع التاج القديم الذي ملّ المكوث فوق رأسه حتي ما بعد العصر. دون أن يعلم أنه يجهز للإحتفال بقيامته الخاصة، و أنه دون أن يدري يشارك فيها بشكل فعال جداً. و في لحظات تخبطه الأخيرة، كان يصدر الأوامر دون أن يدري أنها بشكل أو بأخر تعجل من نهايته، و تزيد من غليان القدر. كما أن الزبانية الذين يرسلهم تجاه الحشود، لا يعودون أبداً، و يقومون برحلة من إتجاه واحد. نظر إلي مرآته التي كانت أكثر زبانيته إخلاصاً علي مر السنين، كان واثقاً بأنها لن تخذله. و لكنه، و لأوّل مرة، رأي نفسه كما كان دائماً، دون تسويف أو كذب، كعجوز هَرِم، نخّر وجهه الدود، و حوله الكذب إلي شئ لا يشبه الإنسان في شئ، و أن يديه مخضبتين بالدم، و أن جسده مترهل و ثقيل، و أن أظافره طويلة وحادة مثل من يقومون من القبور، و أن يديه الصغيرتين المعرورقتين ترتجفان طوال الوقت.
إقتربت الحشود من القصر. و الطريق المقدس أعلن عن نفسه بوضوح لم يسبق له مثيل منذ بدأ الخليقة. و الليل يقود الحشود مثل عرّاب عجوز. الجميع يغني نشيد الخلاص، الجميع يصلي بلا محراب، و الكون كله بأحيائه و جماداته يصفق، و إكتمل المهرجان.
أقدام الحشود تملأُها الدماء، و يتحرر الناس من ألامهم و أوجاعهم التي ضاعفتها السنين. يزفون أنفسهم إلي قيامته سعداء. أصوات وقع الأقدام الدامية علي الأرض أصبح واضحاً، مثل صوت المطرقة علي المسمار، صوت قوي و منسجم مع صميم روح الكون. خرج يتحري الأمر بنفسه، و هو علي شرفة رئاسته الدائمة: وجد الحشود أمامه تماماً، و جميعهم ينظرون إليه في نفس اللحظة، تنظر إليه القناديل و الشمعدانات و الجمادات و هوام الطريق، ليس كما ينظرون إلي ملك، و لكن كما ينظرون إلي متهم. بعد أن تفرّس في وجوههم جميعاً، تأكد بأن كل زبانيته هناك، يغنّون وسط الحشود، و هو الآن وحده. و بينما الحشود تغني المقطع الأخير من نشيد الخلاص، و تصعد السلالم الداخلية للقصر، بدأ جنونه الأخير: رمي التاج علي المرآة، كما ترمي حجراً في بركة ساكنة فيتوتر سطح الماء. مزق بدلته الرئاسية التي أعدها للإحتفال، حطّم صور الأجداد الأماجد التي تتزاحم في ممرات القصر. و كان لعاره الشديد، كلّما يختبأ أكثر يدل عليه قلبه الذي أصبح يخفق مثل طبل.
في لحظات صحوه الأخيرة في هذه الحياة، أدرك أن سريره كان مريحاً لأنه مصنوع من الجماجم و العظام. و أن طعامه كان لذيذاً لأنه كان مخلوطاً بدماء القتلي و عرق الرجال في الحقول. و أنه كان يلبس من عُري الناس، و يبتسم من بقايا مزاجهم الخاص. و بدأت تتكشّف له أشياء و أشياء. و لأول مرة إنتبه إلي أن طيور الزينة التي في القفص الكبير في القصر لم تكن إلا خفافيش. و أن النباتات المزروعة في الحديقة الدائرية علي أنها زهور لم تكن إلا شجيرات صحراوية ذات أشواك. و أن النافورة الكبيرة المبنية من الحجر و الجبص كانت جافة، و تحوي في شقوقها الثعابين و العقارب. و أن قصره الذي يدير منه الكون الواسع لم يكن إلا مغارة عميقة علي سفح جبل منسي. و أنه هو نفسه، بكل عظمته و سلطانه الفاني، مخلوق ضعيف و موحش و فاقد للروح، و بعيد كل البعد عن نبض الحياة اليومي.
وجدوه مع أولي نسائم الفجر العليلة و المليئة بالعافية، مشنوقاً بغروره الخاص، بحبل كان دائماً إحتياطه الوحيد للزمن الذي يكرر نفسه. عيناه فزعتان، مجمدتان علي هيئتهما الأخيرة تجاه الحشود. و الهواء البارد الذي كان يطوّع ضفائر النساء في بداية الليل، يضرب الآن في قدميه اللتين سيجف فيهما الدم إلي الأبد. و لم يبق في غرفته إلا صوت الساعة الكبيرة الأعزل: تك تك تك تك. خرج من الباب الخلفي للعالم، دون خطاب نهائي، أو بيان مقتضب يبرر فيه نفسه، دون أن يودع أحد، أو يودعه أحد، غريباً حتي عن نفسه. جاء من الظلام و الآن يعود إلي الظلام.
إنتهي زمن الأبدية الثقيل المكرر. إحتفلت الحشود، و تسالم الناس و قد إلتئمت جروح أقدامهم، و تحررواْ من ِوزرهم الخاص، و صار بإمكانهم الإبتسام أخيراً. إنطفأت القناديل و الشمعدانات، تدريجياً علي نفس المنوال الذي أُضيئت به، و إختقت ملامح الطريق المقدس الباهرة، و عادت الشوارع و الطرقات إلي نفسها. و مع إنبثاق أولي خيوط الشمس الذهبية من وراء المجهول، ودّع الليل الجميع، و لوّح لهم بعصاه البيضاء الطويلة التي تنتهي بعلامة النصر، و أحكم ردائه حول نفسه، و وعدهم بأنه لن يعود إلا بعد مئة سنة أخري.

19 يناير 2015
أمدرمان- السودان

* قصة فائزة بجائزة الطيب صالح للشباب (مركز عبد الكريم مرغني)
الدورة السابعة ..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...