بينما تجاوزت الجثة المكان , غادر الذباب طاولة المطعم في شكل سحابة وراء الجثة , و لكنهم عادوا مباشرةً بعد عدة دقائق .
الحشد الصغير من المشيعين – كلهم رجال و اطفال , من غير نساء – شقوا طريقهم خلال السوق ما بين اكوام الرمان و التاكسيات و الجِمال , مرددين انشودة قصيرة مراراً و تكرارً . ما يجذب الذباب حقيقةً هو ان الجثث هنا لا توضع ابداً في توابيت مغلقة , بل تغلف بقطعة قماش و توضع علي قطعة خشبية خشنة تحملها اكتاف اربعة من الاصدقاء . عندما يصل الاصدقاء الي مكان الدفن , يحفرون حفرة مستطيلة بعمق قدم واحد او أثنين , يرمون فيها الجثة , و يرمون فوقها بعضاً من كتل التراب الجافة, التي تبدو كطوب محطم . لا شاهد قبر, لا أسم , لا علامة تدل علي اي شي . مكان الدفن يبدو كمجرد هضبة نفايات هائلة, مثل موقع بناء مهجور . بعد شهر او اثنين لا احد يستطيع ان يكون متأكداً في اي مكان دُفن فيه اقاربه .
عندما تتمشي في قرية مثل هذه – مائتا الف قاطن , الذين علي الاقل 20 الف منهم لا يملكون في الواقع إلا تلك الخرقة التي يرتدونها امامك – عندما تري كيف يعيش هؤلاء الناس, وكيف يموتون ببساطة, يبدو لك دائماً كم هو من الصعب ان تصدق انك تمشي ما بين بشر. جميع الامبراطوريات المستعمرة وُجدت في الحقيقة علي هذا الاساس. الناس هنا يملكون وجوهاً بنية – بجانب عددهم الكبير جداً! هل هم حقاً من نفس لحمك و دمك ؟ هل يملكون اسماءً ؟ او هل هم مجرد نوع من الاشياء البنية المتشابهة لا غير, مثلهم مثل النحل او الحشرات المرجانية؟ إنهم يخرجون من الارض, يعرقون و يتلاشون مجدداً في التربة. بعض الاحيان, في الخارج تتمشي , بينما تقطع طريقك ما بين اشجار الصبار, تلاحظ ان الطريق وعرة تحت قدميك, بعد فترة تلاحظ انتظام المطبات في طريقك, ومن بعدها تلاحظ انك في الحقيقة تمشي فوق هياكل عظمية .
كنت اطعم احد الغزلان في احد الحدائق العامة .
الغزلان هم الحيوانات الوحيدة التي تبدو تقريباً جيدة للأكل عندما تكون حية , في الحقيقة, الشخص عندما ينظر الي افخاذهم الخلفية لا يمكن له إلا ان يفكر بصلصة النعناع . يبدو ان الغزال الذي اُطعمه يعلم ما يجول في ذهني , فقد اخذ قطعة الخبز التي كنت احملها, يبدو انني لا اروق للغزال. اخذ الغزال يقضم بسرعة في قطعة الخبز, ومن ثم وضع راسه اسفلاً و حاول نطحي, ومن ثم اخذ قضمةً اخري وحاول نطحي مجدداً. تبدو الفكرة انه إذا استطاع ان يبعدني, سيبقي الخبز كله له .
حفار عربي يعمل في الطريق القريب, وضع معوله الثقيل و جاء بجانبنا. نظر من الغزال الي الخبز ومن الخبز الي الغزال, بنوع من الدهشة, فلا اظن انه شاهد شيئاً مثل هذا فيما سبق, اخيراً قال بخجل الفرنسيين :
"يمكن لي ان اكل بعضا من هذا الخبز "
كسرت له قطعةً من الخبز فوضعها بامتنان في مكان سري تحت خرقته . هذا الرجل موظف في البلدية .
عندما تمشي في احياء يهودية, تتكون عندك مجموعة من الافكار عما كيف كانت الاحياء في العصور الوسطي. تحت حكم المغاربة, اليهود كان فقط مسموحاً لهم ان يملكوا الاراضي في اماكن محدودة, وبعد قرون من هذا النوع من المعاملة توقفوا عن الانزعاج من الازدحام. الكثير من الشوارع الي حد كبير تبدو اقل عرضاً من ستة اقدام, المنازل بدون نوافذ بالكامل, ويتجمع الاطفال المنزعجون باعدادٍ كبيرة في كل مكان, مثل غيومٍ من الذباب. في اسفل مركز الطريق هناك في اغلب الاحوال يجري نهرٌ صغير من البول.
في البازار, عائلات هائلة من اليهود, يرتدون كلهم اثواب سوداء و قبعات سوداء كذلك, يعملون في اكشاك مظلمة مليئة بالذباب تبدو مثل الكهوف. نجار يجلس القرفصاء امام مخرطة تبدو كأنها صُنعت ما قبل التاريخ, يدير فيها اقدام الكرسي بسرعة الضوء. يشغل المخرطة مع انحناءة في يده اليمني ويوجه الازميل بقدمه اليسري. الشكر الي عمر كامل قضاه جالساً في نفس الوضعية , فساقه اليسري تبدو مشوهة و بعيدة عن شكلها الطبيعي. بجانبه حفيده, البالغ ستة اعوام, الذي يبدو انه بدأ بالعمل مسبقاً علي اجزاء اقل بساطة من الشغل.
كنت بالكاد ماراً بجانب اكشاك النحاسين عندما لاحظ احدهم اني اشعلت سيجارةً . علي الفور , من الحفر السوداء في كل مكان , هرع اليهود مسعورين و مسرعين ,العديد منهم اجدادٌ كبار في العمر بلحي رمادية كثيفة , كلهم يطلبون بصخب سيجارةً مني . حتي من رجل اعمي في مكان ما خلف احد الاكشاك سمع بإشاعة السيجارة و جاء زاحفاً باحثاً بيديه في الهواء . في حوالي الدقيقة إنتهت علبة السجائر . لا احد من هؤلاء الناس , اعتقد , يعمل اقل من 12 ساعة في اليوم , و كل احد منهم يبحث عن سيجارة كنوع ما من الترف المستحيل .
بينما يعيش اليهود في مجتمعات مغلقة علي ذاتها , فإنهم يتبعون نفس انواع التجارة كالعرب , ما عدا الفلاحة . بائعو الفواكه , الخزافون , الصاغة , الحدادون , الجزارون , عاملوا الجلود , الخياطين , حمالو المياه , الشحاذون , الحمالون – اينما تري , لا تري إلا اليهود . في واقع الامر هناك 13 الف يهودي , يعيشون في فضاء بعض الهكتارات فقط . امرٌ جيد ان هتلر ليس هنا . ربما هو في طريقه, علي اي حال . تسمع الاشاعات الخبيثة المعتادة علي اليهود , ليس فقط من العرب , بل ايضاً من الاوربيين الفقراء .
" نعم, يا صاح, لقد اخذوا مني عملي القديم واعطوه لاحد اليهود. اليهود! هم الحكام الحقيقيين لهذا البلد, هل تعلم ذلك. لديهم كل المال, يتحكمون بالمصارف , الاقتصاد – كل شي "
" لكن " انا قلت, " اليس في الواقع ان اليهودي في المتوسط العام هو عامل يعمل من أجل بنس واحد في الساعة؟ "
" اها , هذا من اجل العرض فحسب ! هم في الحقيقة مرابون , مخادعون هؤلاء اليهود ."
بنفس الطريقة , مئات السنين الماضية , العجوز الفقيرة كانت تُحرق بتهمة الشعوذة عندما كانت لا تملك القدرة الكافية للقيام بأي خدعة سحرية لتتحصل علي وجبة جيدة.
كل الناس الذين يعملون بالأعمال اليدوية غير مرئيين جزئياً, وكلما زاد مقدار اهمية العمل الذي يقومون به, كلما زاد وضوحهم. مازال, صاحب الجلد الابيض واضحاً جداً دائماً. في اوروبا الشمالية, عندما تري عامل يحرث في حقل ما, علي الارجح ستنظر اليه مرة أخري . في البلد الحار , في اي مكان جنوب جبل طارق او شرقي السويس , فرص رؤيتهم ضئيلة جداً . لقد لاحظت هذا مرة بعد أخري. في المنظر الاستوائي عيني الشخص تري كل شي إلا الإنسان. تري الارض الجافة, اشجار الصبار, اشجار النخيل, والجبل البعيد, ولكنها دائماً تُغّيب الفلاح و هو يحرث قطعة ارضه . انه يملك نفس لون الارض , و مقداراً كبيراً من قلة الاهمية للنظر إليه.
فقط بسبب ذلك هذه البلدان الفقيرة من اسيا و افريقيا قُبلت كمنتجعات سياحية. لا احد يفكر بإدارة رحلات رخيصة الي الاماكن القاحلة. ولكن اينما يكون البشر ذوي الجلدة البنية , فقرهم ببساطة غير ملاحظ. ماذا تعني المغرب للرجل الفرنسي؟ بستان برتقال او عمل في الحكومة . او ماذا تعني للرجل الانجليزي ؟ جِمال , قلاع , اشجار نخيل, الفيلق الاجنبي, اواني نحاسية, عصابات. يمكنك ان تعيش لعدة سنين هنا من غير ان تلاحظ ان لتسعة الاعشار من الناس حقيقة الحياة هي كفاح شاق لا نهائي لعصر القليل من الطعام من هذه التربة المتآكلة .
أغلب اراضي المغرب مقفرة للغاية لدرجة انه لا يمكن لحيوان بري أكبر من الارنب ان يعيش عليها . مساحات كبيرة كانت مغطاة بالغابات تحولت الي ارض مقفرة خالية من الاشجار حيث ان التربة تبدو تماماً مثل قطعٍ من الطوب المحطم . علي الرغم من ذلك هناك نسبة جيدة من الاراضي المزروعة , بعد الكثير من العمل المجهد . كل شي يُعمل باليد . طوابير طويلة من النساء, ينحنون كحرف L مقلوب , يشقون طريقهم ببطء عبر الحقول , يجثثن بأياديهم الاعشاب الضارة الخشنة , و الفلاح يجمع البرسيم كعلفٍ للماشية و يقتلعه قصبة بقصبة بدلاً من ان يحصده كاملا , و بهذا يحافظ علي انش الي انشين علي كل ساق . المحراث شي خشبي تعيس, خفيف جداً بحيث يمكن ان يُحمل علي كتف احدهم بكل سهولة , يلائمه من تحت مسمار حديدي غليظ الذي بمقدوره ان يحرك التربة الي عمق حوالي اربع انشات. هذا ما يمكن ان تصل اليه قوة الحيوانات لا غير. من العادة ان يكون الحرث ببقرة و حمار مربوطين معاً . حمارين لن يكونا بالقوة الكافية , و لكن من ناحية اخري استخدام بقرتين سيكلف طعاماً اكثر . الفلاحون لا يملكون اشواكاً حديدية للحرث , هم فقط يحرثون الارض عدة مرات في اتجاهات مختلفة , في النهاية يتركونها كأخاديد وعرة , بعد ان يُشكل الحقل كاملاً كرقع مستطيلة صغيرة بالمعاول , و ذلك لحفظ الماء . ما عدا يوم او يومين من هطول امطارٍ نادرة , معظم الاحيان لا يوجد ماءٌ كافي. علي طول حافات الحقول, تُحفر القنوات الي عمق 30 او 40 قدم و ذلك للوصول الي مجاري المياه الصغيرة تحت التربة .
كل عصر مجموعة من النساء المسنات جداً يمرون علي الطريق امام منزلي, كل منهن يحملون حمولةً من الحطب, كلهم يبدون محنطاتٍ بالعمر و من الشمس, وكلهن يبدون بالغات الصغر في الحجم. يبدو عموماً انه في المجتمعات البدائية عندما تصل إمراةٌ لسنٍ معينة يتقلص حجمها الي ذلك من حجم الاطفال . في ذلك اليوم كائن مسن مسكين الذين كان يبدو لي لا يتجاوز طوله اربعة اقدام مر من جانبي تحت حمل هائل من الخشب . اوقفتها و وضعت 5 دانق ( اكثر بعض الشي من ربع بنس ) في يديها . اجابت بصخب شديد , تقريباً بدت لي كصرخة , التي كانت جزئياً امتنان و لكن اغلبها كان دهشة . اعتقد من وجهة نظرها , بإبداء اي نوع من الاهتمام بها , كأنني بطريقة ما انتهكت احد قوانين الطبيعة . لقد تقبلت وضعها كمراة مسنة , كما يمكن القول كبهيمةً تحمل الاثقال . عندما تسافر العائلة اغلب الاحيان تشاهد ان الاب و الابن يمتطيان الحمير في المقدمة , و ان امرأة ما مسنة تمشي خلفهما علي قدميها تحمل الامتعة .
لكن الغريب في هؤلاء الناس هو انهم يبدون غير مرئيين . لعدة اسابيع , في ذات الوقت دائماً من كل يوم , المجموعة من النساء المسنات اللاتي يحملن الحطب يمرون من امام منزلي , و علي الرغم من ان عيني سجلت مرورهن في كل مرة, لا يمكنني حقيقةً القول اني رايتهن فعلاً . الحطب كان يمر من امامي – هذا ما رأيت. كان فقط في ذلك اليوم انني بالمصادفة وجدت نفسي امشي ورائهن, والحركة الغريبة للحطب فوق و تحت جذبت انتباهي الي الانسان اسفل حمولة الحطب. ولاول مرة لاحظت الاجساد المسكينة الملونة بلون الارض, اجساد اُختزلت الي مجرد عظام و جلد, اجساد مقوسة تحت ثقل الوزن. بل اعتقد انني في اول خمس دقائق علي ارض المغرب لاحظت علي الفور الحمولة الزائدة للحمير و كان هذا الامر يزعجني كثيراً . ليس هناك شك ان الحمير تُعامل بطريقة سيئة . الحمار المغربي اكبر بالكاد من كلب من فصيلة سانت برنارد , انه يحمل حمولةً تعتبر في الجيش البريطاني ثقيلة جداً حتى علي بغل يبلغ حجمه خمسين ذراعاً , و اغلب الاحيان السروج تبقي علي ظهور الحمير لعدة اسابيع . لكن الشي الذي يثير الشفقة بشكل غريب هو ان هذا المخلوق اكثر المخلوقات إرادةً علي الارض , يتبع سيده مثل الكلب و ليس بحاجة لاي رسن او قيد . بعد عدة سنين من العمل الدءوب فجأةً يسقط ميتاً , عندها يلقيه سيده في احد الخنادق و تقوم كلاب القرية بأكل احشائه قبل ان يصبح جثة ً باردة.
مثل هذا الشي يجعل دم احدهم يغلي , بينما ان – في الاجمال - محنة هؤلاء البشر لا تجعل دمك يغلي . انا لا اقوم هنا بالتعليق , انا اشير الي حقيقةٍ فحسب . الاشخاص ذو البشر البنية غير مرئيين تقريباً . اي احد يمكن ان يكن مشاعر الاسف من اجل الحمار بظهره المغطى بالقروح , لكن في العموم يدان الامر كخطأ اذا لاحظ احدهم المرأة المسنة تحت حمولتها الثقيلة من الاغصان .
بينما تطير اللقالق اتجاه الشمال , يتقدم الزنوج إتجاه الجنوب – كعمود طويل يغطيه الغبار , مشاة , بطاريات المدفعية , و من ثم المزيد من المشاة , اربعة او خمسة ألاف رجل ككل , يلفون علي الطريق مع صوت وطأة احذيتهم الثقيلة و قعقعة عجلاتهم الحديدية .
كانوا سنغاليين ,اكثر الزنوج سواداً في إفريقيا ,سود جداً انه من الصعب احياناً ان تري في اي مكان من رقابهم يبدأ الشعر . اجسادهم الرائعة توارت تحت الزى " الكاكي" العسكري , اقدامهم المحشورة في الجزم الضيقة بدت ككتل من الخشب , و بدت كل خوذة اصغر بعدة مقاسات علي رؤوسهم . كان الجو حاراً جداً و الرجال بدوا انهم ساروا لمسافة طويلة . أجسادهم انحنت لأسفل من الحمل الثقيل لعدتهم , اما وجوههم السوداء الفضولية الحساسة بدت كأنها متلألئة مع العرق .
بينما مروا , التفت شاب طويل زنجي باتجاهي و اثار انتباهي . لكن النظرة التي نظر الي بها لم تكن علي الاقل النظرة التي كان يمكن لأحدهم ان يتوقعها . لم تكن نظرةً عدائية , و لا نظرة ازدراء , و لا نظرة متهجمة , و لا حتي نظرة فضول . كانت نظرةً خجولة لعينين زنجيتين واسعتين , التي في الحقيقة بدت كنظرة احترام عميق .لقد رأيت كيف كانت . هذا الشاب التعيس, الذي بصفته مواطناً فرنسياً جُر من الغابة لينظف الارضيات و ليُصاب بمرض الزهري في الحاميات العسكرية , في الحقيقة يملك مشاعر الوقار اتجاه ذوي البشرة البيضاء . لقد علموه ان العرق الابيض هم أسياده , و هو مازال يُصدق ذلك .
لكن هناك فكرة واحد تراود كل رجل ابيض ( و في هذا الصدد لا يهم إذا كان يعتبر نفسه اشتراكياً ) عندما يري جيشاً من الزنوج يمر بجانبه . " الي اي مدي يمكننا ان نستمر في خداع هؤلاء الناس ؟ الي متي قبل ان يوجهوا بندقياتهم في الاتجاه الأخر ؟ "
كان الأمر طريفاً , حقاً . كل رجل ابيض لديه هذه الفكرة مخفيةً في مكان او في أخر داخل عقله . كانت لدي , و عند المتفرجين ايضاً , وعند الضباط المسئولين عن البطاريات العسكرية و ضباط الصف البيض في وسط صفوف رتل الزنوج . كان الامر كالسر المعروف بيننا و كنا اذكياءً جداً لنصرح به . فقط الزنوج لم يعلموا بهذا السر . حقاً كان الامر تقريباً كرؤية قطيع من الماشية عند رؤية الرتل الطويل , ميل او ميلين من الرجال المسلحين , يتدفقون بسلام علي الطريق , بينما الطيور البيضاء الضخمة تحلق فوقهم في الاتجاه المقابل , ببريق ساطع كقصاصات من الورق .
* عن:
علي لّطيف - مراكش . مقال لجورج اورويل . *
الحشد الصغير من المشيعين – كلهم رجال و اطفال , من غير نساء – شقوا طريقهم خلال السوق ما بين اكوام الرمان و التاكسيات و الجِمال , مرددين انشودة قصيرة مراراً و تكرارً . ما يجذب الذباب حقيقةً هو ان الجثث هنا لا توضع ابداً في توابيت مغلقة , بل تغلف بقطعة قماش و توضع علي قطعة خشبية خشنة تحملها اكتاف اربعة من الاصدقاء . عندما يصل الاصدقاء الي مكان الدفن , يحفرون حفرة مستطيلة بعمق قدم واحد او أثنين , يرمون فيها الجثة , و يرمون فوقها بعضاً من كتل التراب الجافة, التي تبدو كطوب محطم . لا شاهد قبر, لا أسم , لا علامة تدل علي اي شي . مكان الدفن يبدو كمجرد هضبة نفايات هائلة, مثل موقع بناء مهجور . بعد شهر او اثنين لا احد يستطيع ان يكون متأكداً في اي مكان دُفن فيه اقاربه .
عندما تتمشي في قرية مثل هذه – مائتا الف قاطن , الذين علي الاقل 20 الف منهم لا يملكون في الواقع إلا تلك الخرقة التي يرتدونها امامك – عندما تري كيف يعيش هؤلاء الناس, وكيف يموتون ببساطة, يبدو لك دائماً كم هو من الصعب ان تصدق انك تمشي ما بين بشر. جميع الامبراطوريات المستعمرة وُجدت في الحقيقة علي هذا الاساس. الناس هنا يملكون وجوهاً بنية – بجانب عددهم الكبير جداً! هل هم حقاً من نفس لحمك و دمك ؟ هل يملكون اسماءً ؟ او هل هم مجرد نوع من الاشياء البنية المتشابهة لا غير, مثلهم مثل النحل او الحشرات المرجانية؟ إنهم يخرجون من الارض, يعرقون و يتلاشون مجدداً في التربة. بعض الاحيان, في الخارج تتمشي , بينما تقطع طريقك ما بين اشجار الصبار, تلاحظ ان الطريق وعرة تحت قدميك, بعد فترة تلاحظ انتظام المطبات في طريقك, ومن بعدها تلاحظ انك في الحقيقة تمشي فوق هياكل عظمية .
كنت اطعم احد الغزلان في احد الحدائق العامة .
الغزلان هم الحيوانات الوحيدة التي تبدو تقريباً جيدة للأكل عندما تكون حية , في الحقيقة, الشخص عندما ينظر الي افخاذهم الخلفية لا يمكن له إلا ان يفكر بصلصة النعناع . يبدو ان الغزال الذي اُطعمه يعلم ما يجول في ذهني , فقد اخذ قطعة الخبز التي كنت احملها, يبدو انني لا اروق للغزال. اخذ الغزال يقضم بسرعة في قطعة الخبز, ومن ثم وضع راسه اسفلاً و حاول نطحي, ومن ثم اخذ قضمةً اخري وحاول نطحي مجدداً. تبدو الفكرة انه إذا استطاع ان يبعدني, سيبقي الخبز كله له .
حفار عربي يعمل في الطريق القريب, وضع معوله الثقيل و جاء بجانبنا. نظر من الغزال الي الخبز ومن الخبز الي الغزال, بنوع من الدهشة, فلا اظن انه شاهد شيئاً مثل هذا فيما سبق, اخيراً قال بخجل الفرنسيين :
"يمكن لي ان اكل بعضا من هذا الخبز "
كسرت له قطعةً من الخبز فوضعها بامتنان في مكان سري تحت خرقته . هذا الرجل موظف في البلدية .
عندما تمشي في احياء يهودية, تتكون عندك مجموعة من الافكار عما كيف كانت الاحياء في العصور الوسطي. تحت حكم المغاربة, اليهود كان فقط مسموحاً لهم ان يملكوا الاراضي في اماكن محدودة, وبعد قرون من هذا النوع من المعاملة توقفوا عن الانزعاج من الازدحام. الكثير من الشوارع الي حد كبير تبدو اقل عرضاً من ستة اقدام, المنازل بدون نوافذ بالكامل, ويتجمع الاطفال المنزعجون باعدادٍ كبيرة في كل مكان, مثل غيومٍ من الذباب. في اسفل مركز الطريق هناك في اغلب الاحوال يجري نهرٌ صغير من البول.
في البازار, عائلات هائلة من اليهود, يرتدون كلهم اثواب سوداء و قبعات سوداء كذلك, يعملون في اكشاك مظلمة مليئة بالذباب تبدو مثل الكهوف. نجار يجلس القرفصاء امام مخرطة تبدو كأنها صُنعت ما قبل التاريخ, يدير فيها اقدام الكرسي بسرعة الضوء. يشغل المخرطة مع انحناءة في يده اليمني ويوجه الازميل بقدمه اليسري. الشكر الي عمر كامل قضاه جالساً في نفس الوضعية , فساقه اليسري تبدو مشوهة و بعيدة عن شكلها الطبيعي. بجانبه حفيده, البالغ ستة اعوام, الذي يبدو انه بدأ بالعمل مسبقاً علي اجزاء اقل بساطة من الشغل.
كنت بالكاد ماراً بجانب اكشاك النحاسين عندما لاحظ احدهم اني اشعلت سيجارةً . علي الفور , من الحفر السوداء في كل مكان , هرع اليهود مسعورين و مسرعين ,العديد منهم اجدادٌ كبار في العمر بلحي رمادية كثيفة , كلهم يطلبون بصخب سيجارةً مني . حتي من رجل اعمي في مكان ما خلف احد الاكشاك سمع بإشاعة السيجارة و جاء زاحفاً باحثاً بيديه في الهواء . في حوالي الدقيقة إنتهت علبة السجائر . لا احد من هؤلاء الناس , اعتقد , يعمل اقل من 12 ساعة في اليوم , و كل احد منهم يبحث عن سيجارة كنوع ما من الترف المستحيل .
بينما يعيش اليهود في مجتمعات مغلقة علي ذاتها , فإنهم يتبعون نفس انواع التجارة كالعرب , ما عدا الفلاحة . بائعو الفواكه , الخزافون , الصاغة , الحدادون , الجزارون , عاملوا الجلود , الخياطين , حمالو المياه , الشحاذون , الحمالون – اينما تري , لا تري إلا اليهود . في واقع الامر هناك 13 الف يهودي , يعيشون في فضاء بعض الهكتارات فقط . امرٌ جيد ان هتلر ليس هنا . ربما هو في طريقه, علي اي حال . تسمع الاشاعات الخبيثة المعتادة علي اليهود , ليس فقط من العرب , بل ايضاً من الاوربيين الفقراء .
" نعم, يا صاح, لقد اخذوا مني عملي القديم واعطوه لاحد اليهود. اليهود! هم الحكام الحقيقيين لهذا البلد, هل تعلم ذلك. لديهم كل المال, يتحكمون بالمصارف , الاقتصاد – كل شي "
" لكن " انا قلت, " اليس في الواقع ان اليهودي في المتوسط العام هو عامل يعمل من أجل بنس واحد في الساعة؟ "
" اها , هذا من اجل العرض فحسب ! هم في الحقيقة مرابون , مخادعون هؤلاء اليهود ."
بنفس الطريقة , مئات السنين الماضية , العجوز الفقيرة كانت تُحرق بتهمة الشعوذة عندما كانت لا تملك القدرة الكافية للقيام بأي خدعة سحرية لتتحصل علي وجبة جيدة.
كل الناس الذين يعملون بالأعمال اليدوية غير مرئيين جزئياً, وكلما زاد مقدار اهمية العمل الذي يقومون به, كلما زاد وضوحهم. مازال, صاحب الجلد الابيض واضحاً جداً دائماً. في اوروبا الشمالية, عندما تري عامل يحرث في حقل ما, علي الارجح ستنظر اليه مرة أخري . في البلد الحار , في اي مكان جنوب جبل طارق او شرقي السويس , فرص رؤيتهم ضئيلة جداً . لقد لاحظت هذا مرة بعد أخري. في المنظر الاستوائي عيني الشخص تري كل شي إلا الإنسان. تري الارض الجافة, اشجار الصبار, اشجار النخيل, والجبل البعيد, ولكنها دائماً تُغّيب الفلاح و هو يحرث قطعة ارضه . انه يملك نفس لون الارض , و مقداراً كبيراً من قلة الاهمية للنظر إليه.
فقط بسبب ذلك هذه البلدان الفقيرة من اسيا و افريقيا قُبلت كمنتجعات سياحية. لا احد يفكر بإدارة رحلات رخيصة الي الاماكن القاحلة. ولكن اينما يكون البشر ذوي الجلدة البنية , فقرهم ببساطة غير ملاحظ. ماذا تعني المغرب للرجل الفرنسي؟ بستان برتقال او عمل في الحكومة . او ماذا تعني للرجل الانجليزي ؟ جِمال , قلاع , اشجار نخيل, الفيلق الاجنبي, اواني نحاسية, عصابات. يمكنك ان تعيش لعدة سنين هنا من غير ان تلاحظ ان لتسعة الاعشار من الناس حقيقة الحياة هي كفاح شاق لا نهائي لعصر القليل من الطعام من هذه التربة المتآكلة .
أغلب اراضي المغرب مقفرة للغاية لدرجة انه لا يمكن لحيوان بري أكبر من الارنب ان يعيش عليها . مساحات كبيرة كانت مغطاة بالغابات تحولت الي ارض مقفرة خالية من الاشجار حيث ان التربة تبدو تماماً مثل قطعٍ من الطوب المحطم . علي الرغم من ذلك هناك نسبة جيدة من الاراضي المزروعة , بعد الكثير من العمل المجهد . كل شي يُعمل باليد . طوابير طويلة من النساء, ينحنون كحرف L مقلوب , يشقون طريقهم ببطء عبر الحقول , يجثثن بأياديهم الاعشاب الضارة الخشنة , و الفلاح يجمع البرسيم كعلفٍ للماشية و يقتلعه قصبة بقصبة بدلاً من ان يحصده كاملا , و بهذا يحافظ علي انش الي انشين علي كل ساق . المحراث شي خشبي تعيس, خفيف جداً بحيث يمكن ان يُحمل علي كتف احدهم بكل سهولة , يلائمه من تحت مسمار حديدي غليظ الذي بمقدوره ان يحرك التربة الي عمق حوالي اربع انشات. هذا ما يمكن ان تصل اليه قوة الحيوانات لا غير. من العادة ان يكون الحرث ببقرة و حمار مربوطين معاً . حمارين لن يكونا بالقوة الكافية , و لكن من ناحية اخري استخدام بقرتين سيكلف طعاماً اكثر . الفلاحون لا يملكون اشواكاً حديدية للحرث , هم فقط يحرثون الارض عدة مرات في اتجاهات مختلفة , في النهاية يتركونها كأخاديد وعرة , بعد ان يُشكل الحقل كاملاً كرقع مستطيلة صغيرة بالمعاول , و ذلك لحفظ الماء . ما عدا يوم او يومين من هطول امطارٍ نادرة , معظم الاحيان لا يوجد ماءٌ كافي. علي طول حافات الحقول, تُحفر القنوات الي عمق 30 او 40 قدم و ذلك للوصول الي مجاري المياه الصغيرة تحت التربة .
كل عصر مجموعة من النساء المسنات جداً يمرون علي الطريق امام منزلي, كل منهن يحملون حمولةً من الحطب, كلهم يبدون محنطاتٍ بالعمر و من الشمس, وكلهن يبدون بالغات الصغر في الحجم. يبدو عموماً انه في المجتمعات البدائية عندما تصل إمراةٌ لسنٍ معينة يتقلص حجمها الي ذلك من حجم الاطفال . في ذلك اليوم كائن مسن مسكين الذين كان يبدو لي لا يتجاوز طوله اربعة اقدام مر من جانبي تحت حمل هائل من الخشب . اوقفتها و وضعت 5 دانق ( اكثر بعض الشي من ربع بنس ) في يديها . اجابت بصخب شديد , تقريباً بدت لي كصرخة , التي كانت جزئياً امتنان و لكن اغلبها كان دهشة . اعتقد من وجهة نظرها , بإبداء اي نوع من الاهتمام بها , كأنني بطريقة ما انتهكت احد قوانين الطبيعة . لقد تقبلت وضعها كمراة مسنة , كما يمكن القول كبهيمةً تحمل الاثقال . عندما تسافر العائلة اغلب الاحيان تشاهد ان الاب و الابن يمتطيان الحمير في المقدمة , و ان امرأة ما مسنة تمشي خلفهما علي قدميها تحمل الامتعة .
لكن الغريب في هؤلاء الناس هو انهم يبدون غير مرئيين . لعدة اسابيع , في ذات الوقت دائماً من كل يوم , المجموعة من النساء المسنات اللاتي يحملن الحطب يمرون من امام منزلي , و علي الرغم من ان عيني سجلت مرورهن في كل مرة, لا يمكنني حقيقةً القول اني رايتهن فعلاً . الحطب كان يمر من امامي – هذا ما رأيت. كان فقط في ذلك اليوم انني بالمصادفة وجدت نفسي امشي ورائهن, والحركة الغريبة للحطب فوق و تحت جذبت انتباهي الي الانسان اسفل حمولة الحطب. ولاول مرة لاحظت الاجساد المسكينة الملونة بلون الارض, اجساد اُختزلت الي مجرد عظام و جلد, اجساد مقوسة تحت ثقل الوزن. بل اعتقد انني في اول خمس دقائق علي ارض المغرب لاحظت علي الفور الحمولة الزائدة للحمير و كان هذا الامر يزعجني كثيراً . ليس هناك شك ان الحمير تُعامل بطريقة سيئة . الحمار المغربي اكبر بالكاد من كلب من فصيلة سانت برنارد , انه يحمل حمولةً تعتبر في الجيش البريطاني ثقيلة جداً حتى علي بغل يبلغ حجمه خمسين ذراعاً , و اغلب الاحيان السروج تبقي علي ظهور الحمير لعدة اسابيع . لكن الشي الذي يثير الشفقة بشكل غريب هو ان هذا المخلوق اكثر المخلوقات إرادةً علي الارض , يتبع سيده مثل الكلب و ليس بحاجة لاي رسن او قيد . بعد عدة سنين من العمل الدءوب فجأةً يسقط ميتاً , عندها يلقيه سيده في احد الخنادق و تقوم كلاب القرية بأكل احشائه قبل ان يصبح جثة ً باردة.
مثل هذا الشي يجعل دم احدهم يغلي , بينما ان – في الاجمال - محنة هؤلاء البشر لا تجعل دمك يغلي . انا لا اقوم هنا بالتعليق , انا اشير الي حقيقةٍ فحسب . الاشخاص ذو البشر البنية غير مرئيين تقريباً . اي احد يمكن ان يكن مشاعر الاسف من اجل الحمار بظهره المغطى بالقروح , لكن في العموم يدان الامر كخطأ اذا لاحظ احدهم المرأة المسنة تحت حمولتها الثقيلة من الاغصان .
بينما تطير اللقالق اتجاه الشمال , يتقدم الزنوج إتجاه الجنوب – كعمود طويل يغطيه الغبار , مشاة , بطاريات المدفعية , و من ثم المزيد من المشاة , اربعة او خمسة ألاف رجل ككل , يلفون علي الطريق مع صوت وطأة احذيتهم الثقيلة و قعقعة عجلاتهم الحديدية .
كانوا سنغاليين ,اكثر الزنوج سواداً في إفريقيا ,سود جداً انه من الصعب احياناً ان تري في اي مكان من رقابهم يبدأ الشعر . اجسادهم الرائعة توارت تحت الزى " الكاكي" العسكري , اقدامهم المحشورة في الجزم الضيقة بدت ككتل من الخشب , و بدت كل خوذة اصغر بعدة مقاسات علي رؤوسهم . كان الجو حاراً جداً و الرجال بدوا انهم ساروا لمسافة طويلة . أجسادهم انحنت لأسفل من الحمل الثقيل لعدتهم , اما وجوههم السوداء الفضولية الحساسة بدت كأنها متلألئة مع العرق .
بينما مروا , التفت شاب طويل زنجي باتجاهي و اثار انتباهي . لكن النظرة التي نظر الي بها لم تكن علي الاقل النظرة التي كان يمكن لأحدهم ان يتوقعها . لم تكن نظرةً عدائية , و لا نظرة ازدراء , و لا نظرة متهجمة , و لا حتي نظرة فضول . كانت نظرةً خجولة لعينين زنجيتين واسعتين , التي في الحقيقة بدت كنظرة احترام عميق .لقد رأيت كيف كانت . هذا الشاب التعيس, الذي بصفته مواطناً فرنسياً جُر من الغابة لينظف الارضيات و ليُصاب بمرض الزهري في الحاميات العسكرية , في الحقيقة يملك مشاعر الوقار اتجاه ذوي البشرة البيضاء . لقد علموه ان العرق الابيض هم أسياده , و هو مازال يُصدق ذلك .
لكن هناك فكرة واحد تراود كل رجل ابيض ( و في هذا الصدد لا يهم إذا كان يعتبر نفسه اشتراكياً ) عندما يري جيشاً من الزنوج يمر بجانبه . " الي اي مدي يمكننا ان نستمر في خداع هؤلاء الناس ؟ الي متي قبل ان يوجهوا بندقياتهم في الاتجاه الأخر ؟ "
كان الأمر طريفاً , حقاً . كل رجل ابيض لديه هذه الفكرة مخفيةً في مكان او في أخر داخل عقله . كانت لدي , و عند المتفرجين ايضاً , وعند الضباط المسئولين عن البطاريات العسكرية و ضباط الصف البيض في وسط صفوف رتل الزنوج . كان الامر كالسر المعروف بيننا و كنا اذكياءً جداً لنصرح به . فقط الزنوج لم يعلموا بهذا السر . حقاً كان الامر تقريباً كرؤية قطيع من الماشية عند رؤية الرتل الطويل , ميل او ميلين من الرجال المسلحين , يتدفقون بسلام علي الطريق , بينما الطيور البيضاء الضخمة تحلق فوقهم في الاتجاه المقابل , ببريق ساطع كقصاصات من الورق .
* عن:
علي لّطيف - مراكش . مقال لجورج اورويل . *