سلمى الشيخ - البندر



* الى صديقى الراحل يوسف ابراهيم العشوائى

الملامح هى ذات الملامح .. عائشة وهى تعود فى المساء من حقل الفول والسمسم تجر خلفها احمد والسرة وحمارا صار يتعرج فى مشيه وهو يحمل الحطب والماء فى (القربة)الجلدية التى اسود ّ لونها كانت عائشة تغالب الرمل فى اتجاه البيت (الزى) كان مبنيا من القش تدخل اولا الى الحوش المسور بالقصب وتنضو عنها ثوبها الذى كان مرفوعا الى الركبة كيما تساعد قدميها فى الجلوس الى ربوة ظهر الحمار الذى لم يكن ظهره مكسوا بلبدة او ما يقيها حدبته الماكرة وهى تدغدغها كلما تحركت خطواته ، ترمى بثوبها الى العنقريب المجدوع وسط الحوش وتنزلق الى حافته فيما احمد والسرة يتابعان انزال الحمولة عن ظهر (كلول)كما اتفقوا على مناداته ، تصيح فيهم
ـ هى بت امى ، السرة ، عقب ما تنزلى العزال تعالو نشربو الشاى ، راسى موجعنى
ـ نان يمة الناخد نفسى وننجم
ـ حديثكى دا ما بتدورى الشاى ؟ وحيدى بنسوى
السرة تجاوزت العاشرة من عمرها ، لكنها حين تلمح وجهها تبدو لك فى العشرين او تزيد من فرط التعب والمشوار اليومى من البيت الى القردود ، تعب من بذر وقلع ، المنجل هو نديمها والمحراث خليلها تغنى مع ذلك لكليهما كما تغنى لحبيب جائر ومنسى
لكن كلول ذلكم الحمار الابيض الذى ورثوه عن والدهم كان وقايتهما من وعثاء المشوار ومطبات الرمل ، كانتا تترادفان فيه باتجاه الارض التى باتت لا تنجب الا القليل من المحصول كما كانت تحدثها امها عن ذلك الزمن
ـ هى بت امى ، زمان ابوكى الله يرحمو كان وكتين الموسم ينتهى البيت ( ست ) يملاهو شيتا فول وشيتا عيش ، وشيتا سمسم ، مليانة طب شونتنا عمرها ما نقصت ، ما متل الايام دى ، لكين امر الله حصل ، وخلانى وحيدى
ـ ماك براك يمة ترانا معاك
تبكى عائشة التى لم تتجاوز الثلاثين من عمرها لكن شقاء الحياة احالها الى عجوز هرمة قبل اوانها ، لونها الذى كان يتغنى به الشباب ايام الحصاد تلك الايام التى تتحسر على ما كانته ، ايام لم يكن احد من الكل يتساءل عن معيشة مهما كانت ، كل البيوت مفتوحة الى احدها الاخر (نفاجات ) تدخل منها فلا تنتهى الا فى نهاية ( الفريق )لم يكن احد يدرى من جاء غريبا الا لحظة ان ينادى احد الكبار فى دائرة البيت (السلام ) ويتوارى عن الباحة لتندلق الى الديوان الماكولات والمشروبات ، رجال يجيئون من اصقاع متباينة لكنهم محل ضيافة ، كانت عائشة ملكة من ملكات الضيوف العابرين شهق حين راها لاول مرة ولم يخرج الا معها الى بيت الزوجية ، لم تكن قد تجاوزت الخمسة عشر ربيعا بعد ، كان لونها ذهبيا ، وقامتها كما اسماها الكل فى تلك القرية ( الزرافة ) لطول ، حنته السنون الان شعرها الذى كانت جدائله تحاكى الليل ، حتى ان البنات كن يتمنين ان يكن لهن ما لها من جدائل حين تمشطها تبدو كفرس جامح خاصة لحظة تميل لشد الدلو من البئر ، لكنه الان بات ابيضا تصبغه بالحناء فى بعض اوقات راحتها ايام ان تكون الامطار خفيفة لا تستدعيها ان تمضى الى الحقول تلك التزلجات التى يصنعها المطر ، يا لها من امراة حال حرير يديها الى صخر صلد بفعل المنجل والطورية والمحراث
ـ هاى بت امى دنيا زمان ابوكى ما ياهو بسوى كلو دى ، يا هو البخت البذرة وياهو البحفر ويقلع ، الا يا بنية شكينا العوجة على الله
دموع من زمن سحيق انسدلت وغطت مجرى البصر وتدلتا على اخدود خديها النديين المتوردين رغم كل شئ
مديدة الدخن كما كانت تقول هى التى حافظت لها على تورد خديها وقوتها وجمالها وكانت تردف قولها ( حتى الشعر اب تقويهو )
ـ احمد مال عدوك ساكت كى ؟اول بتريد ؟
ـ يمه ، نريد شنوا ؟ البنيات بقن يمشن المدارس ومنى فيهن بدورنا نحنا الجهلة ديل؟
ـ اول ولد امى الراجل بقرايتاولا قدرتا ؟
ـ يمة ، نان فى واحدة ابترضى بى زولا متلى ؟ زمان قلنا ابوى كان حقو ، جنس الشايافاهو عينى دا دحين بخلى واحدتن من بنات المدارس ديل ساكت تعاين لى ؟ افو يمه
عائشة مسدار من ارض سوداء مبطنة دواخلها بالرمل الرطب ، حين تحفر فيها قليلا يخرج الماء ناعما وسريعا لكنها لم تعد فيها تلك الحيوية
ـ زمان وكتين ابوكن كان حى كنا نندلى على القردود بلا حمل الدعول نتجارى وسط الشدر ونلعب متل الجهال
ـ اكتى بتريديهو يمة ؟
ـ عاد زمنا الريدة ما متل زمنكم
ـ كيف الكلام دى ؟
ـ يعنى ما كان فى واحدا بقول لفلانة بريدك عينك عينك
ـ نان يمة كيف بتاخدى زولا ما بتريديهو ؟
ـ يا بت كفى
ـ بدور اعرف بس يمة
ـ زمان ، يا حليل زمان يا بنية
عبد الرحيم كان فى سن الصبا ،يسافر كثيرا ويعود محملا بارتال من الاشياء التى تبدو غريبة على عائشة تضج بالضحك كلما رات امرا لا تعرفه قبل الان ، كان يتاجر بين الحلال والمدن ، يجلب من المدن بضاعته ويسافر ليتاجر فيها بين الفرقان والحلال يحمل من هناك ما يجودون به من منتجات الموسم من سمسم وذرة ودخن ويعود محملا بالبصل والثوم والخضروات واحيانا الاقمشة والثياب وفرش الاسنان والمعجون وهذا كان مصدرا للتندر بين اهل بيته
ـ هى ولد امى كيف دى ؟
ـ دى شان السنون ما يتوسخن ، ترى ناس البندر بيسووهن كى ، ويشير الى فمه كناية عن السواك
ـ هفا ابو احمد نان ليش النيم وليش الاراك
ـ النيم مر حنضل ، والراجل قال دا حلو طب يا بنية
ـ يعنى متل الاراك والنيم ؟
ـ والله وكتين ادانى ياهن ، قلت لو ، على الطلاق دى قلة حيا ، الا الراجل بالو طويل علمنى كيفن نتسوك ، والله ام احمد سمحة طب ، اها دى ليكى ودى للسرة ، ودى هيلة احمد
كان ذلك منذ اعوام خلت ، حين ادهشهم مرة كان بوحى من صابون البودرة ،جلبه فى احد رحلاته ووصف لزوجته كيف تضعه على الملابس بعد غمسها فى الماء وتدعك من ثم الملابس ، لكنها خافت وكلمت جاراتها ان زجها ( جاب لينا سحر راسو عديل بالله كى من البندر )وصار سحرها بعد انتشاره مثار ضحك من اهل القرية تتهافت النساء على بيت عائشة حاملات الوصايا لعبد الرحيم ان لا يعود دون ذلك الساحر الذى خفف عنهن عناء الغسيل وبدلا عن صابون البودرة اصبح اسمه (عبد الرحيم )
ـ زمن ،هسي لا عبد الرحيم لا الصابون ولا المعجون
ـ يمه وحاتى لا تبكى
القرية كانت وادعة ، فى موسم الخريف تبدا الافراح تغمرها ، الشجر يخضر كانه ولد لتوهّ ، الارض مكسوة بالنبت الاخضر من (ضريسة) وتبدو كان لم تنضج بعد ، البهائم ترتفع معدلات البانها وخصوبتها ، ترتع فى مروج بسطت خضرتها على المدى بطول القرية ، البيوت مسورة مزروعة حولها الخضروات التى يفيد بها اهل القرية يوميا من طماطم وخضرة وبامية
كل بيت مزروعة حوله مزارع الرجلة والبامية والجرجير وحين تطورت الاساليب فى الطعام بات الطماطم والباذنجان من المزروعات الدائمة ، لكن البامية كان لها القدح المعلى فهى التى تجفف فى الصيف وتسحن وتدخر لوقت الحاجة حين يعز المطر والزرع يتشح بالغبار ياكلونها مع البصل والطماطم المجففة بدورها والبصل المجفف المدخر مفروكة مضافا اليها قليل من اللحم الجاف ، ومنهم من يقلى البصل ومنهم من ياكلها (بيضاء )
بات الان الجفاف ضيفا ثابتا ورمزا لحياة باتت كئيبة ، الحرقة اعترت القلوب والارض ، عائشة كانت فى كل يوم تفكر فى الرحيل الى البندر
ـ :هناك الموية بالحيوط ، والكلام بالخيوط والكهرباء ,والعربات تجول الشوارع ليل نهار، اصوات لا تكل ولا تمل تتصايح عربات الاسعاف والشرطة فى مباراة مربكة لكن هنا عربة واحدة يملكها موسي ود ابراهيم ( وهسى امكن عشرين يوم ما يجى وكتين يجى ابنسمع عربيتو تعيط من بعيد )قالت لهم
ـ : حتى السكر بقى قعر ماعون والبن وحيدو مدودو بى رويسى من عدم الجبنة ، الزراعة ابت بالله واحد ، البير جف ، الموية ما بتنحمل فرقتا ، الحال واقف دوت ، تعالو نمشو من هنا
ـ وين يمة ؟
ـ البندر
ـ البندر محل الناس الكتار ؟والكتر ؟
ـ لا لا لا ، البندر لا لا يمة
قالت السرة :
ـ نان واطاتنا يمة
ـ بنجو صادين ان الله كتب لنا حياة
ـ لا لا يمة البندر يبلع بير يمة
ـ لا لا يا احمد البندر ولا الجوع الهنا
ـ يمة الجوع والموت من الجوع ولا الغريب الما بنعرفو نمشى نتهان هناك
ـ لا لا مافى هانه هناك ، انى بنشتغل فى البيوت وانت بتلقالك شغلا ياكلنا لابدن تلقى
ـ والسرة يمة خوفى كلو على السرة البنات وكت يمشن البندر ببقن غير ما كانن هنا ، يمة الله يرضى عليك الكلام دا اكتلى نارو هنا دا
ـ ما بتجيها عوجة تحت عينى
ـ يمةالبندر لا ، اخير الموت هنا من الجوع ولا البندر ، هناك يمة الذلة والهانة ونحنا ناس عشنا على ضراعنا ما بندور ذلة الرجال ، وسمعت من اولاد ناس شيخ بكرى جنس الذلة والمهانة ما بنقدر عليها يمة ،
ـ ما تراهن شبعانين وتريانين
قالوا فنزلت عائشة واحمد والسرة فى اطراف امدرمان ولكنهم لم يهناوا كما ارادوا ، فقد حجزوهم فى معسكرات كان خيرا منها البقاء فى القردود والموت جوعا اكثر رحمة فلقد صار الكلام مشحونا بالدمع والندم واللغة مشحونة بليت ولو ، والعيون التى كانت مشعة خبا شعاعها حتى الاحلام وادها الصمت وعائشة احتشدت بالدموع صباحاتها ومساءاتها حين ترقد تتجه الى السماء داعية ان تعود الى الارض التى احبتها والشجيرات التى حملتها الى جوفها الرمال

30 ديسمبر 1997 القاهرة
التفاعلات: حاتم بابكر عوض

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...