وماتت الأغنية
إبراهيم عبد الغني
القصة الفائزة بجائزة الطيب صالح 2011
"قلتُ: فليكُن العدلُ في الأرض، عينٌ بعينٍ و سنٌّ بسن.
قلتُ: هل يأكل الذئبُ ذئباً، أو الشاةُ شاة ؟
ولا تضعِ السيفَ في عنق اثنين: طفل .. و شيخٍ مسن
و رأيتُ ابن آدم يُردي ابن آدم ، يُشعِلُ في المدن النار،
يغرسُ ختجرهُ في بطونِ الحوامل،
يلقي أصابعَ أطفالهِ علفاً للخيول، يقصُّ الشفاه وروداً
تزيّنُ مائدةَ النصر .. و هي تئِن
أصبحَ العدلُ موتاً ، و ميزانهُ البندقية،
أبناؤُه صلِبوا في الميادين، أو ُشِنقوا في زوايا المدُن.
قلتُ: فليكُنِ العدلُ في الأرض، لكنّهُ لم يكن.
أصبحَ العدلُ ملكاً لمن جلسُوا فوقَ عرشِ الجماجم
بالطيلسان ..
الكَفن
... ... ...
ورأى الربُّ ذلك غير حسن !"
أمل دنقل
مع أول شُعاع للضوءِ كان يخطو خطواته الأولى في الممرّ ..
تفتّح الصبح اليومَ كعادته مُنذ الأزل .. اصطبغَ الأفق بالأصفر الشفّاف، و تناثرت بضع سحاباتٍ هنا و هناك .. و إن بدت علاماتُ اللامبالاةِ التي ميزت الشروق مؤخراً أشدّ وضوحاً .. فبعد آلاف السنين من مراقبةِ بني الأنسان، فقدت أغلبُ نواميس الكون احترامها لنطفةِ الطين التي ظنوها منبعاً للحكمة و الفضيلة - فلم يروا منها سوى تعاسة الأخلاق و الجهل و الطمع ..
تفتح الصبح .. فبدأ البعضُ بغرورهم المعتاد يفسرونَ الناموس على حسب أهوائهم .. رمق المتشائمون قوسَ الأفق، فرأوا في اصفراره المشوب بالحمرة، و الذي انعكس على نثراتِ السحاب فاصطبغت بالأرجوان، رأوا فيه دليلاً قاطعاً على شؤم اليوم و تعاسته .. أما المتفائلون، فلم يروا فيه سوى لوحة بديعة تسرّ النفس و تنبئ بالمغنم ..
و الصبح ينظر باستهزاءٍ و لا مبالاةٍ للفريقين .. و يواصل زحفهُ الأبدي نحو الغرب ..
أما هو فلم ينضم لأي من الفريقين .. بدا له شعاعُ الضوء المتسرّب من النوافذ الصغيرة في أعلى الممر، واهناً ضعيفاً خادعاًً، كأنما يأتي من عالم آخر .. خاصة و أنه قد انفصلَ عن الوجودِ منذ فترةٍ طويلةٍ في انتظار هذا اليوم ..
لا يذكرُ أنه نام مؤخراً .. كلما أراحَ رأسهُ على الوسادةِ هاجمتهُ الكوابيسُ و الهواجس .. الخوفُ الممضّ من المجهول .. يستعيدُ كل مخاوف الطفولة .. الخوفُ من الظلام، من السكون، من الموت .. يتقلب علي الفراش .. تتناوشهُ الذكريات .. تتداعى الصور أمام عينيه .. تبدأ ضبابية مختلطة، ثم تتضح و تتمايز حتى تكاد تختلط بالواقع ..
يرى نفسه طفلاً، يلهو مع الأقران تحت ضوء القمر .. يركضُ على الرمال، يقفز، يتدحرج، يصرخ، يغني، يبكي، يضحك ..
ذكرياتُ الحب الأول، نشوةُ كلمات الحب الهامسة .. عناقُ الأيدي و النظرات .. سذاجة المراهقةِ و سعادتها .. ذلك الشعور بأنه قد امتلك العالم و ما فيه ..
ينسابُ نهر الذكريات طويلاً ماراً بعشرات المحطات، لينتهي أخيراً عند زوجته .. زوجته التي لم يقض معها سوى بضعةِ أشهر .. يتذكر ابتسامتها المشرقة الحنون .. يتذكرُ يوم زواجه كأنه الأمس ..يتخيلها جالسة بجانبه، تمسحُ على رأسه و تهمسُ بكلمات التشجيع .. يلوح ظل ابتسامةٍ على شفتيه .. ثم يتذكرُ طفلهُ الذي سيرى النور قريباً، فيعود اليأس ليسيطرَ عليه .. تدمع عيناه .. يحاول تلاوة بضع آياتٍ من القرآن علها تفرّج همه .. يفقد الإحساسَ بالزمن .. فلا يشعر إلا و ضوء الشمس قد تسلل من النافذةِ الصغيرة قرب السقف، معلناً بداية يوم جديد ..
يقضي نهارَه متربعاً على الأرض، مسنداً ظهره إلى الحائط الرمادي الكئيب .. و عيناه تائهتان في المجهول .. يسافرُ بعيداً بعيداً .. ثم ومن دون تخطيطٍ أو شعور .. يبدأ في الغناء .. يبدأ صوتهُ خفيضاً خجولاً .. ثم يعلو شيئأ فشيئاً .. الصوتُ العميق الصافي الذي ينساب من حنجرته يتمدد في الأرجاء .. يتسلل عبر الأبوابِ المغلقةِ و النوافذ المواربة، فتهدأ كل الأصوات الأخرى .. و بعد بضع دقائق، لا تُسمَع همسة و لا حركة .. فقط الصوت الملائكي القادم من أبعد السماوات .. من نهايات الكون .. من أعماق السديم .. اللحن السماويّ الأول الذي انبعثت منه الحياة .. النغم السرمدي الذي اقتبس منه الكروان و حاكاه الكمان ..
أما هو فغائبٌ عن الوجود .. تائه النظرات .. و كأنما لا يحسّ بما ينساب عبره من نغم .. و كأنما هو مجرد وسيلةٍ تبث عبرها السماء أغنياتها للأرض .. يغني و يغني .. يغني للحزن و الفراق .. للحب .. للحياةِ و للموت .. للوطن .. فتدمع الأعين، و تبكي القلوب .. و تستجيبُ السماء فتبكي هي الأخرى .. و يعمّ الحزن الأرض ..
أحلام ليلة الأمس كانت أشدّ وطأةً و أكثر وضوحاً ..
"رأى نفسه واقفاًَ على بُعد خُطوةٍ و بعض خطوةٍ من الهاوية .. أمامَه يمتدّ الفراغُ الأبدي الواعد بالخلاص .. و خلفهُ أكوامُ الحِجارةِ القاسيةِ المتعالية .. هبّت ريحٌ جبليةٌ لا تقل قسوة عن الصخر .. مرّت بين شقوق الحجارة فانكسرت حِدتها ، و تحوّل صوتُها إلى فحيحٍ مكتوم زادَه اكتئاباً .. تردّدت الأغنية .. استيقَظ فيه الحنين .. تحدّث للفراغ الأبدي، فجاوبهُ بصمتٍ و خواء كعادةِ الفراغ ..تقدّم خطوة .. فرأى الوجهَ القديم مرتسماً فوق قوس الأفق .. حينَها تأكد أنه قد وصل نهاية طريقه المرسوم مُنذ الأزل .. قفز .. أراد أن يصرخ، فخرج صوته واهناً ضعيفاً وضاع في فحيح الريح "
تقلّب في الفراش و قد نزّ العرقُ من جبينه بغزارة ..
"ينظرُ للسهل المستلقي على مدّ البصر .. و يرتجف .. بخلافِ السهل الأجردِ من كل حياة .. و السماءِ الناصعةِ الزرقة ، التي لا يعكر زرقتها طائرٌ أو سحاب .. لا شيء هنالك ..
تلة يتيمة ، عليها يقف .. رمادية حزينة ، لا يميزها عن السهل سوى الإرتفاع .. يتلفت ، يمنةً و يسرة .. لا شيءَ سوى اللا شيء ..
السهلُ الرمادي الكئيب يتمدّدُ في الأنحاء ، ينتشرُ في الجهات ، يسيطر على ومضات العين ، يغزو الحواس و ينتشر في الجوف ..
و الصوت يدوي : أنت اليومَ أنت، مثلما لم تكن قبلاً ! "
استيقظ منهكاً واهناً غارقاً في العرق ..
مع خطواته الأولى في الممرّ تلاشى كلًّ ما كان يحسًّ بهِ من وهن .. كل الكوابيس و المخاوف بدت شيئاً من الماضي البعيد .. مع كل خطوةٍ يخطوها للأمام يقلّ تقوسُ ظهره، و يرتفعُ رأسُهُ رويداً رويداً
شُعورٌ عجيبٌ بالسكينة تسللَ إلى نفسه .. خاطرٌ فجائيٌ اخترق عقله و جوانحه فملأهُ بالحبور .. هربت تلك النظرةُ الشاردة اليائسة من عينيه، و حلت محلها نظرةٌ متيقنة واثقة ..
خرجَ إلى الساحة .. أغشى ضوءُ الشمس عينيه للحظة فتوقف .. فتحَ عينيه ببطء فهالهُ المنظرُ المهيب .. امتلأت الساحة حتى ضاقت -على اتساعها- بالحضور .. مئاتُ الرجال و النساء، و الأطفال .. ما أن خرجَ إلى الساحة حتى ماتت كلّ الأصوات .. و تركزت عليهِ الأنظار ..
مشي بهدوء .. تنشّقَ الهواء .. تنشق الضوءَ و الدفء .. ازداد سكينةً و ثقة ..
اعتلى المنصّة .. التفت ليواجه الساحة ..
ماتت الأصواتُ و سكنت الكائنات ..
تراءت له أحلامُ الأمس ..
"أنت اليوم أنت، مثلما لم تكن قبلاً"
ابتسم ..
تعالت الصيحاتُ و الشهقات من الحضور .. و وقف بعضُهم من الإنفعال ..
غطى الحراس رأسَه بالكيسِ القماشي، فاختفت الإبتسامة .. و إن عاشت أبداً في أرواح الحضور ..
وُضع الحبلُ حول عنقه ..
تسارعت دقاتُ القلوب، و انكتمت الصدور ..
انبعث الصوتُ الملائكي فجأة .. متحدياً كيس القماش و حبل الموت .. متجاوزاً الحراس و الأسلحة ..
وقف الحضورُ جميعاً ..
تعالت الأغنية ..
دمعت عيونُ الحراس .. بكت الكائنات .. هبت ريحٌ محملة بالغضب .. رقصت ذراتُ الرمال رقصة الحزن .. و توارت الشمس خلفَ السحاب لتخفي دموعها ..
جذبَ الجلادُ الرافعة، فانفتحت الضلفتان أسفلَ قدميه، و انبعثَ صوتُ قرقعة خافتة ..
صمتت الأغنيةُ .. للأبد ..
شهقَ الحضور ..
تدلي الجسدُ من الحبل ..
انتفض مرّةً ، و أخرى ..
ثم سكن الجسد و عادَ لحقيقتهِ الأولى، وعاءً من الطين ..
و انطلقت الروحُ في رحلةِ الحقيقةِ الأبدية ..
حاملةً معها الأغنية ..
* وماتت الأغنية
إبراهيم عبد الغني
القصة الفائزة بجائزة الطيب صالح 2011
إبراهيم عبد الغني
القصة الفائزة بجائزة الطيب صالح 2011
"قلتُ: فليكُن العدلُ في الأرض، عينٌ بعينٍ و سنٌّ بسن.
قلتُ: هل يأكل الذئبُ ذئباً، أو الشاةُ شاة ؟
ولا تضعِ السيفَ في عنق اثنين: طفل .. و شيخٍ مسن
و رأيتُ ابن آدم يُردي ابن آدم ، يُشعِلُ في المدن النار،
يغرسُ ختجرهُ في بطونِ الحوامل،
يلقي أصابعَ أطفالهِ علفاً للخيول، يقصُّ الشفاه وروداً
تزيّنُ مائدةَ النصر .. و هي تئِن
أصبحَ العدلُ موتاً ، و ميزانهُ البندقية،
أبناؤُه صلِبوا في الميادين، أو ُشِنقوا في زوايا المدُن.
قلتُ: فليكُنِ العدلُ في الأرض، لكنّهُ لم يكن.
أصبحَ العدلُ ملكاً لمن جلسُوا فوقَ عرشِ الجماجم
بالطيلسان ..
الكَفن
... ... ...
ورأى الربُّ ذلك غير حسن !"
أمل دنقل
مع أول شُعاع للضوءِ كان يخطو خطواته الأولى في الممرّ ..
تفتّح الصبح اليومَ كعادته مُنذ الأزل .. اصطبغَ الأفق بالأصفر الشفّاف، و تناثرت بضع سحاباتٍ هنا و هناك .. و إن بدت علاماتُ اللامبالاةِ التي ميزت الشروق مؤخراً أشدّ وضوحاً .. فبعد آلاف السنين من مراقبةِ بني الأنسان، فقدت أغلبُ نواميس الكون احترامها لنطفةِ الطين التي ظنوها منبعاً للحكمة و الفضيلة - فلم يروا منها سوى تعاسة الأخلاق و الجهل و الطمع ..
تفتح الصبح .. فبدأ البعضُ بغرورهم المعتاد يفسرونَ الناموس على حسب أهوائهم .. رمق المتشائمون قوسَ الأفق، فرأوا في اصفراره المشوب بالحمرة، و الذي انعكس على نثراتِ السحاب فاصطبغت بالأرجوان، رأوا فيه دليلاً قاطعاً على شؤم اليوم و تعاسته .. أما المتفائلون، فلم يروا فيه سوى لوحة بديعة تسرّ النفس و تنبئ بالمغنم ..
و الصبح ينظر باستهزاءٍ و لا مبالاةٍ للفريقين .. و يواصل زحفهُ الأبدي نحو الغرب ..
أما هو فلم ينضم لأي من الفريقين .. بدا له شعاعُ الضوء المتسرّب من النوافذ الصغيرة في أعلى الممر، واهناً ضعيفاً خادعاًً، كأنما يأتي من عالم آخر .. خاصة و أنه قد انفصلَ عن الوجودِ منذ فترةٍ طويلةٍ في انتظار هذا اليوم ..
لا يذكرُ أنه نام مؤخراً .. كلما أراحَ رأسهُ على الوسادةِ هاجمتهُ الكوابيسُ و الهواجس .. الخوفُ الممضّ من المجهول .. يستعيدُ كل مخاوف الطفولة .. الخوفُ من الظلام، من السكون، من الموت .. يتقلب علي الفراش .. تتناوشهُ الذكريات .. تتداعى الصور أمام عينيه .. تبدأ ضبابية مختلطة، ثم تتضح و تتمايز حتى تكاد تختلط بالواقع ..
يرى نفسه طفلاً، يلهو مع الأقران تحت ضوء القمر .. يركضُ على الرمال، يقفز، يتدحرج، يصرخ، يغني، يبكي، يضحك ..
ذكرياتُ الحب الأول، نشوةُ كلمات الحب الهامسة .. عناقُ الأيدي و النظرات .. سذاجة المراهقةِ و سعادتها .. ذلك الشعور بأنه قد امتلك العالم و ما فيه ..
ينسابُ نهر الذكريات طويلاً ماراً بعشرات المحطات، لينتهي أخيراً عند زوجته .. زوجته التي لم يقض معها سوى بضعةِ أشهر .. يتذكر ابتسامتها المشرقة الحنون .. يتذكرُ يوم زواجه كأنه الأمس ..يتخيلها جالسة بجانبه، تمسحُ على رأسه و تهمسُ بكلمات التشجيع .. يلوح ظل ابتسامةٍ على شفتيه .. ثم يتذكرُ طفلهُ الذي سيرى النور قريباً، فيعود اليأس ليسيطرَ عليه .. تدمع عيناه .. يحاول تلاوة بضع آياتٍ من القرآن علها تفرّج همه .. يفقد الإحساسَ بالزمن .. فلا يشعر إلا و ضوء الشمس قد تسلل من النافذةِ الصغيرة قرب السقف، معلناً بداية يوم جديد ..
يقضي نهارَه متربعاً على الأرض، مسنداً ظهره إلى الحائط الرمادي الكئيب .. و عيناه تائهتان في المجهول .. يسافرُ بعيداً بعيداً .. ثم ومن دون تخطيطٍ أو شعور .. يبدأ في الغناء .. يبدأ صوتهُ خفيضاً خجولاً .. ثم يعلو شيئأ فشيئاً .. الصوتُ العميق الصافي الذي ينساب من حنجرته يتمدد في الأرجاء .. يتسلل عبر الأبوابِ المغلقةِ و النوافذ المواربة، فتهدأ كل الأصوات الأخرى .. و بعد بضع دقائق، لا تُسمَع همسة و لا حركة .. فقط الصوت الملائكي القادم من أبعد السماوات .. من نهايات الكون .. من أعماق السديم .. اللحن السماويّ الأول الذي انبعثت منه الحياة .. النغم السرمدي الذي اقتبس منه الكروان و حاكاه الكمان ..
أما هو فغائبٌ عن الوجود .. تائه النظرات .. و كأنما لا يحسّ بما ينساب عبره من نغم .. و كأنما هو مجرد وسيلةٍ تبث عبرها السماء أغنياتها للأرض .. يغني و يغني .. يغني للحزن و الفراق .. للحب .. للحياةِ و للموت .. للوطن .. فتدمع الأعين، و تبكي القلوب .. و تستجيبُ السماء فتبكي هي الأخرى .. و يعمّ الحزن الأرض ..
أحلام ليلة الأمس كانت أشدّ وطأةً و أكثر وضوحاً ..
"رأى نفسه واقفاًَ على بُعد خُطوةٍ و بعض خطوةٍ من الهاوية .. أمامَه يمتدّ الفراغُ الأبدي الواعد بالخلاص .. و خلفهُ أكوامُ الحِجارةِ القاسيةِ المتعالية .. هبّت ريحٌ جبليةٌ لا تقل قسوة عن الصخر .. مرّت بين شقوق الحجارة فانكسرت حِدتها ، و تحوّل صوتُها إلى فحيحٍ مكتوم زادَه اكتئاباً .. تردّدت الأغنية .. استيقَظ فيه الحنين .. تحدّث للفراغ الأبدي، فجاوبهُ بصمتٍ و خواء كعادةِ الفراغ ..تقدّم خطوة .. فرأى الوجهَ القديم مرتسماً فوق قوس الأفق .. حينَها تأكد أنه قد وصل نهاية طريقه المرسوم مُنذ الأزل .. قفز .. أراد أن يصرخ، فخرج صوته واهناً ضعيفاً وضاع في فحيح الريح "
تقلّب في الفراش و قد نزّ العرقُ من جبينه بغزارة ..
"ينظرُ للسهل المستلقي على مدّ البصر .. و يرتجف .. بخلافِ السهل الأجردِ من كل حياة .. و السماءِ الناصعةِ الزرقة ، التي لا يعكر زرقتها طائرٌ أو سحاب .. لا شيء هنالك ..
تلة يتيمة ، عليها يقف .. رمادية حزينة ، لا يميزها عن السهل سوى الإرتفاع .. يتلفت ، يمنةً و يسرة .. لا شيءَ سوى اللا شيء ..
السهلُ الرمادي الكئيب يتمدّدُ في الأنحاء ، ينتشرُ في الجهات ، يسيطر على ومضات العين ، يغزو الحواس و ينتشر في الجوف ..
و الصوت يدوي : أنت اليومَ أنت، مثلما لم تكن قبلاً ! "
استيقظ منهكاً واهناً غارقاً في العرق ..
مع خطواته الأولى في الممرّ تلاشى كلًّ ما كان يحسًّ بهِ من وهن .. كل الكوابيس و المخاوف بدت شيئاً من الماضي البعيد .. مع كل خطوةٍ يخطوها للأمام يقلّ تقوسُ ظهره، و يرتفعُ رأسُهُ رويداً رويداً
شُعورٌ عجيبٌ بالسكينة تسللَ إلى نفسه .. خاطرٌ فجائيٌ اخترق عقله و جوانحه فملأهُ بالحبور .. هربت تلك النظرةُ الشاردة اليائسة من عينيه، و حلت محلها نظرةٌ متيقنة واثقة ..
خرجَ إلى الساحة .. أغشى ضوءُ الشمس عينيه للحظة فتوقف .. فتحَ عينيه ببطء فهالهُ المنظرُ المهيب .. امتلأت الساحة حتى ضاقت -على اتساعها- بالحضور .. مئاتُ الرجال و النساء، و الأطفال .. ما أن خرجَ إلى الساحة حتى ماتت كلّ الأصوات .. و تركزت عليهِ الأنظار ..
مشي بهدوء .. تنشّقَ الهواء .. تنشق الضوءَ و الدفء .. ازداد سكينةً و ثقة ..
اعتلى المنصّة .. التفت ليواجه الساحة ..
ماتت الأصواتُ و سكنت الكائنات ..
تراءت له أحلامُ الأمس ..
"أنت اليوم أنت، مثلما لم تكن قبلاً"
ابتسم ..
تعالت الصيحاتُ و الشهقات من الحضور .. و وقف بعضُهم من الإنفعال ..
غطى الحراس رأسَه بالكيسِ القماشي، فاختفت الإبتسامة .. و إن عاشت أبداً في أرواح الحضور ..
وُضع الحبلُ حول عنقه ..
تسارعت دقاتُ القلوب، و انكتمت الصدور ..
انبعث الصوتُ الملائكي فجأة .. متحدياً كيس القماش و حبل الموت .. متجاوزاً الحراس و الأسلحة ..
وقف الحضورُ جميعاً ..
تعالت الأغنية ..
دمعت عيونُ الحراس .. بكت الكائنات .. هبت ريحٌ محملة بالغضب .. رقصت ذراتُ الرمال رقصة الحزن .. و توارت الشمس خلفَ السحاب لتخفي دموعها ..
جذبَ الجلادُ الرافعة، فانفتحت الضلفتان أسفلَ قدميه، و انبعثَ صوتُ قرقعة خافتة ..
صمتت الأغنيةُ .. للأبد ..
شهقَ الحضور ..
تدلي الجسدُ من الحبل ..
انتفض مرّةً ، و أخرى ..
ثم سكن الجسد و عادَ لحقيقتهِ الأولى، وعاءً من الطين ..
و انطلقت الروحُ في رحلةِ الحقيقةِ الأبدية ..
حاملةً معها الأغنية ..
* وماتت الأغنية
إبراهيم عبد الغني
القصة الفائزة بجائزة الطيب صالح 2011