عبرَ الساحة وسط ضجة العربات وصريرها، تدافع المارة وجرى بعضهم وراء البعض الاخر، كانوا يصدرون من حولهِ ( وهو يعبر نحو الضفة الاخرى ) اصواتاً وحركات غريبة، كأنهم يقلدون اطفالاً يتدافعون في ساقية ضيقة . حركات كالايماءة او الاشارة، والغبار يتصاعد زوابع صغيرة تتسع وتكبر وسط فوضى الطريق، رأيت رجالاً ونساءً يلوحون بأيديهم واذرعهم كأنهم يحاولون او يحلمون بالرحيل المفاجيء نحو المجهول … رأيته يقفز بينهم معتداً بنفسه، متعالٍ ومتسامٍ بأندفاعةٍ مباغته، اهتزاز الذراعين يجعلانه ينط بقدميه وسط الشارع، كأنه يتسلق الهواء الكثيف بأريحية او بعناد من عركته التجربة الصعبة … الان، اصبح في الجانب الاخر من الطريق والعصا القوية بيده، يمسك باحد طرفيها ويدع الطرف الاخر سائباً يصفع الهواء بأصرار، كأنه يدفع بالقطيع كله نحو الفلا او الى الهاوية، كانت العصا دليله الذي لا مفر من اعتماده حيناً من الدهر، في تلك اللحظة اوشكتُ على مناداته : ـــ ماذا تفعل بالعصا يا صاح ؟
ترددتُ في مجاراته او مناداته لأني فكرت جاداً؛ ربما سأدفعه الى تقليد صيحة موسى في توراته : ــ هي عصاي أهشُ بها على غنمي ولي فيها مآرب اخرى . كانت خشيتي من اعلانه امام الملأ عن مآربه الاخرى، وهذا لايصح ، لأن افشاء السر جناية لا تغتفر، تلك هي فتنة الصمت والسكوت على الاسرار الدفينة والولع بتراكم المخفي من الامور والمستور والمسكوت عنه، تلك عادة مستديمة عرف بها رهط من عباد الله الصالحين، ليس غريباً ان اكون واحداً منهم او اني تعلمت ذلك في الايام الاخيرة من اشتداد الازمة . ولما سالني احد معارفي : ــ أيعني هذا اننا سنعود نغلق افواهنا كما كنا فيما مضى من سنين ؟
ـــ يعود هذا الى تقديرك الخاص للحالة كلها !
ـــ يارجل، يا رجل حرام عليكَ ان تبث الرعب في قلبي .
ـــ لا رعب ولا هم يحزنون .
هزَ رأسه مخذولاً من الكلام، واستدار راجعاً من حيث جاء قبل ان نلتقي مصادفةً، كانت خشيتي من انتشار السر في أية حالة جرى عليها اتفاق مسبق .. ها هو صاحب العصا القوية يعبر الساحة ومعهُ عبرتُ وانا اتلفتُ يمنةً ويسره لئلا ارتطم باندفاعتي بجدار او اتعثر بحفرة في الطريق، عبرتُ وعبرَ معي سربٌ من رجال ونساء بل واطفال صغار حفاة الاقدام يركضون مذعورين يسابقون الريح ويعولون مع عويلها، هناك استقبلهم جمع من سيارات مندفعة تزفر دخانها في الانحاء، كانت تبغي التواري في البعيد، وبعد لحظات لاذ الناس بالفرار لما تقدمت مصفحة اجنبية تبينت انها تنوي عبور الطريق من منتصفة، ركض الحشد الغفير
لما ارتفعت في سماء المدينة قذائف طائشة سقطت هنا، وهناك في الزوايا والاركان ـــ يا للمدينة المستباحة المنتهكة ــ واشار الجندي الرابض فوق المصفحة بيده على المارة :
ـــ افرنقعوا يا اولاد الهرمة . تراجع الناس وتدافعت الاكتاف وتفرقوا وتواروا في كل فج عميق تحسباً مما لا تحمد عقباه ـــ في الحقيقة لم يصرخ الجندي بالحشود؛ افرنقعوا يا اولاد الهرمة . انما كان يرطن بلغة اشبه بالعويل ، او انثيال الرمل على الرأس .
ارتسم الخوف على الوجوه المرتبكة، والذين لم يتواروا تكدسوا في المقهى القريب واندفعوا نحو العمق منه، راحوا يتدافعون دون النظر الى بعضهم، يحدث ان تأتي نظرات احدهم بعيني جاره فيبتسم الاول على استحياء وقد يشاطره الجار ابتسامة حزينة، في ان الجندي يحذفهم ويجرفهم نحو المقهى او الازقة، كما لو كانوا اغنام الرب الضائعة في الفيافي والقيعان النائية . تناولوا اقداح الشاي صامتين، ومن كان يتفوه بعبارات او كلمات لم يكن ثمة احد ليسمعها، وليس شرطاً ان يفهمها، احتسوا الشاي وسط عاصفة الغبار واللغط غطى المكان بالدناءة المتوقعة،وحين يلتهم احدهم قطعة من طعام مجفف ويحتسي بعدها رشفة من الشاي، يرنو اليه الحضور، كما لو فاز بالكأس المعلى، لكني من زاويتي تحاشيت مواجهة الجموع الغفيرة التي ركضت دون هديٍ من غاية معلنةٍ او هدفٍ واضح، والغريب اني شاهدت من بين الناس، أمي وابي وشقيقتي، ورأيت زوجتي تركض ايضاً، توزعوا باندفاعةٍ صاخبةٍ وحاديهم عويل الساعة، ساعة الفوضى العارمة التي ألمسُ اطرافها كلما برزتْ في الطرقات مدرعة او دبابة او رهط من جنود يتراطنون باللغة الاخرى، اقول لنفسي مخاطباً اياهم :
ـــ ترى هل ما زالوا يجمعون الريح في شباكهم، واحة ايامهم الضائعة ؟
لا اصدقاء لهم، لا رفاق يعينونهم او يؤازرونهم او أحبة بفتقدونهم اتراهم هم انفسهم سجناء التونا ؟ ام المردة والمجانين الذين صنعوا من فوضاهم رحيق ايامهم الخوالي، يا للطرفة السمجة. ولما ناديت على امي، التفتت الىّ وهي تحث الخطى مسرعة وقد ارتفع صوتها يصرخ بيّ ، تدعوني للتواري عن الوجوه التي تناصبني العداء، ذلك لأني شاهدتُ وجهاً، ربما التقيته ذات يوم في مكان على شاطيء النهر وكان لا يجيد في كلامه معي غير كراهية الاخرين، مع انه أمضى اكثر من عشرين عاماً في عاصمة بلاد الغال وكان يتفاخر امامي وهو يلقي نظرة متعالية، نحو النهر، انه شتم الجميع حين كان هناك، ولما لم يجبه أحد على شتائمه، قرر ان يلقي بنفسه الى النهر، ولا أحد يعرف فيما اذا كان يجيد السباحة ام تراه اصبح طعاماً ميسوراً للأسماك الجائعة .
مرة اخرى رأيتُ صاحب العصا يرفع عصاه القوية ويلوح بها في كل الاتجاهات، كأنه يمشط المكان . ما الذي سيفعله بعصا الجنون وهي تبدو كجزء منه او قطعة الحقت بهِ، ترى أية نية وضعها نصب عينيه، لعله يشير بها الى النسوة الحافيات وهن يسلمن للريح سيقانهن والثياب ترفرف من حولهن، وللمرة الثانية التقت نظرتي المتأملة بنظرته المستريبة، استدار نحو الجهة الاخرى ليتحاشى النظر المتعمد الى شخص مثلي، حدث هذا عندما شاهدني أقف في مواجهته تماماً، كأني أتأمل اطلالته الغامضة .
سمعت صيحة تسأل : ـــ حتى انت يا سيلان ؟
ناديتهُ بالنبرة نفسها :
ـــ ما الذي تضمره سيلان لنا ؟
ـــ سيلان وسومطرة ومدغشقر والملايو وحكومة مالي، غير راضين عنا الان .
كان عليه ان يجيد قواعد اللعبة، لا ان يمنح عصاه الثقة كاملةً ، ويجعل منها دليله الوحيد في الليالي المقفرة، كنتُ افكر بهِ مع اني لا احمل عنه صورة واضحة، جلسته في تلك المقهى
وحدها زادت من طبيعة التفكير بهِ، لكني لم اتحدث معه لا قبلَ الاحتلال ولا بعده ـــ لما انتهت الحرب جاء بعدها الاحتلال، جاء ينتعل حذائين من فولاذ وقصدير ويخط بقدميه اديم الارض، كنا نقول همساً : يا للقدمين المعبأتين بالبارود ـــ لكني الان، استطيع القول عنه؛ انه رجل لم يتجاوز السن القانوني للموظفين التقليديين . استمر يرفع ذراعه في الهواء ويلوح بعصاه، كلما شاهد مجنزرة او مدرعة اجنبية، يرفعها ويشير بها الى الجندي الرابض عند برج القيادة . كنا نضحك حين يلوح بعصاه ويركز أحد طرفيها في وسطه، ثم ما يلبث ان يطلق صيحته المعتادة بأتجاه الجندي الذي يلوح له بيده هو الاخر، .. كان احد الحضور قد توجه الىّ بالكلام حين شاهد المجنزرة تعبر الشارع من منتصف الطريق، كأنها توشك على دخول المقهى عنوةً : ــ اليست هذهِ حرب سيئة ، بل حرب قذرة ؟
ولما لم أجب على كلماته، تلفت فيما حوله دون جدوى، عاد بسؤاله يخاطبني : ـــ لم نسمع صوت الاستاذ مؤلف القصص ؟
انتفضت في مكاني حالما سمعته يخاطبني بصفتي مؤلف قصص، يحدث ان يناديني احدهم بالمصادفة، مؤلف القصص . التفتُ اليه وعيناي تحدقان بهِ.
قال ثانية : أليست الحرب سيئة وابنة كلب ؟
ـــ آه ، صحيح لقد اسمتها العرب بالكريهة .
ضحك ساخراً :
ـــ من تقصد ؟ العرب العاربة ام المستعربة ؟
اصبح الان ضرورياً عدم اهمال صاحب العصا، اذ أي انحراف عن سير وحدة الموضوع، سوف يطيح بعرش البرهان وتفقد الفرضية تلك، اهميتها المتوقعة، كنتُ ادرك توزع الاهتمام بينهما، غير ان الرجل لم يقل العرب العاربة سخرية، بل صاغ سؤاله بنبرة أسى وحزن، وقال : ــ ترى ما الذي قدمه العرب لنا في محنتنا ؟
عندئذ لم ينتظر جواباً على سؤاله، بل غادر المكان تاركاً المجال لصاحب العصا ان يحتل موقعاً في مواجهة المدرعة، وهو يردد لحناً قديماً من بين شفتيه، تلك الاثناء هدرت المدرعة من جديد مثيرة زوبعة من غبار كثيف جعلت من الصعب الاستمرار في الجلوس في المقهى، هرب عدد من الحضور، بينما واصل صاحب العصا المكوث في مكانه المبرز عند واجهة المقهى، ابتسمتُ لهُ، لكنه اشاح بوجهه عني، بعدها صاح بأعلى صوته :
ـــ يا الهي، ما أكثر الجواسيس في البلد هذهِ الايام ؟
صرختُ بهِ : ـــ اللعنة على اجدادك يا مجنون .
اندفعت باتجاهه صارخاً وصاخباً في المكان، الذي لا تعوزه الحماقات، اردت الامساك بخناقه، كان قد تنبه الى اصراري على عراكه، دفعني بقوة وهو يزأر :
ـــ ثلاثة أيام مضت وانت تلاحقني .
ملأني صياحه بالحيرة، ترى هل يعرفني من قبل، ايصح ويكون قد نسيتهُ وسط فوضى الوجوه الكثيرة التي مرت في حياتي ؟ … وفجأة، قفزتْ عشرات الوجوه في شريط محكم الدقة تنثال منه الصور لوجوه حزينة واخرى بريئة وبعضها ظل ينظر نحوي ببلاهة او ضيق، وجوه اصدقاء او خصوم، لا فرق بينهما ما دامت تنتسب الى الماضي الذي لم اعد املك السيطرة عليه، انه الماضي حيث فضل الاستقرار في الزمن السحيق، انه يبتعد كلما اقتربتُ منه او استدعيته للمثول في الحاضر، لا يبعث لي سوى بالوجوه التي ابتعدت وتوغلت اكثر فأكثر ولم يبق منها سوى شبح ضئيل الحجم، يكاد يتلاشى، كلما مرت الايام والسنون، ولما تراجعتُ بعد استنكاره، لوح لي بعصاه واعاد الكرة ثانية وضربني على يدي، لأنه ادرك الجسارة التي حملتها اليد باندفاعتها، اعادة التلويح بالعصا من جديد وهو يبتسم شامتاً بي، كأنه يعبر لي عن سعادته بوجود العصا بين يديه بينما ابدو امامه اعزلاً تماماً، نظرتُ اليها طويلاً، اتراها عصا المعلم الذي ظل يهز طرفها السائب امام طلبته الحمقى أوالكسالى ؟ ان تكن هي تلك العصا، فما الحكمة التي دفعته للأحتفاظ بها طيلة الزمن المنصرم ؟ لعله كان احد معلمي الصفوف المتقدمة، اولئك الذين يعرفون كل شيء يدور من حولهم ولا يبوحون بأي سر من اسرارهم الدفينة لئلا يدفعون الثمن غالياً !! وأي ثمن كانوا سيدفعونه ؟ لا أحد يستطيع التكهن بما ستؤول اليه الامور في نهاية المطاف، وانا نفسي عجزت، بل اعترف أنه حين يفعل ذلك انما يعيد للعصا مجدها التليد في مقدرتها على الاشارة او فرضها للأيماءة، لعلها العصا التي اقتطعها من اشجار الغابة ام تراه اشتراها من احد باعة الخردة اولئك الذين يفترشون الارض في مواجهة الشمس دائماً ؟
ـــ ما الذي تفعله الكلاب السائبة في هذهِ الربوع ؟
لا أحد يستطيع الجزم في انه توجه بالكلام النابي لشخص محدد، انما اراه يهدد ويتوعد وقد اتخذ مكانه المفضل في مواجهة الضوء الباهر للصباح، متلذذاً برنين العبارات وفمه يضغط على نهاية الحروف، كأنه يبصم بشفتيه لا بيده على يومه كله، ونحن ننظر اليه، خائفين من تورطه او انزلاق لسانه في الهاوية، كان بعضنا يشير عليه خفية، بما يوحي بالقاء الخطوة التالية، لكنه، في نهاية المطاف سيكون هو الاول والاخيربيننا .
تلك اللحظة اهتزت الارض بدويٍ هائلٍ فيما حولنا، اهتزت وماجت وتحركت كأن زلزالاً اجتاحها وعرفنا اننا صائرون الى حتوفنا وسوف نضيع في ليل طويل ما لم نلوذ بالفرار من ارض الجحيم، اندفعت خارج المقهى وتدافع معي حشد كبير من الناس نحو الازقة القريبة،ركضتُ جزعاً وخائفاً تخفيتُ بين الاشجار والجدران حين انتشر رصاص هدر كالمطر في كل الجهات، تعثرتُ وسط مزابل الزقاق والفضلات، ولما ركضتُ وسط الفوضى، وجدتُ نفسي وحيداً وسط المزابل والهوام والحشرات غطت المكان، ركضتُ هرباً من الذباب وهو يطير من حولي، واجهتني الساحة من جديد وقد تغيرت بعض ملامحها وقد غطاها الدخان والغبار . كانت خالية من المارة، بل وجدت نفسي في مواجهة الفراغ، لم تكن المدرعة موجودة، اظنها انسحبت الى مكان اخر. كانت العصا القوية وحدها مرمية عند الرصيف .
بغداد / 2006
""
* نقلا عن:
عصا الجنون
ترددتُ في مجاراته او مناداته لأني فكرت جاداً؛ ربما سأدفعه الى تقليد صيحة موسى في توراته : ــ هي عصاي أهشُ بها على غنمي ولي فيها مآرب اخرى . كانت خشيتي من اعلانه امام الملأ عن مآربه الاخرى، وهذا لايصح ، لأن افشاء السر جناية لا تغتفر، تلك هي فتنة الصمت والسكوت على الاسرار الدفينة والولع بتراكم المخفي من الامور والمستور والمسكوت عنه، تلك عادة مستديمة عرف بها رهط من عباد الله الصالحين، ليس غريباً ان اكون واحداً منهم او اني تعلمت ذلك في الايام الاخيرة من اشتداد الازمة . ولما سالني احد معارفي : ــ أيعني هذا اننا سنعود نغلق افواهنا كما كنا فيما مضى من سنين ؟
ـــ يعود هذا الى تقديرك الخاص للحالة كلها !
ـــ يارجل، يا رجل حرام عليكَ ان تبث الرعب في قلبي .
ـــ لا رعب ولا هم يحزنون .
هزَ رأسه مخذولاً من الكلام، واستدار راجعاً من حيث جاء قبل ان نلتقي مصادفةً، كانت خشيتي من انتشار السر في أية حالة جرى عليها اتفاق مسبق .. ها هو صاحب العصا القوية يعبر الساحة ومعهُ عبرتُ وانا اتلفتُ يمنةً ويسره لئلا ارتطم باندفاعتي بجدار او اتعثر بحفرة في الطريق، عبرتُ وعبرَ معي سربٌ من رجال ونساء بل واطفال صغار حفاة الاقدام يركضون مذعورين يسابقون الريح ويعولون مع عويلها، هناك استقبلهم جمع من سيارات مندفعة تزفر دخانها في الانحاء، كانت تبغي التواري في البعيد، وبعد لحظات لاذ الناس بالفرار لما تقدمت مصفحة اجنبية تبينت انها تنوي عبور الطريق من منتصفة، ركض الحشد الغفير
لما ارتفعت في سماء المدينة قذائف طائشة سقطت هنا، وهناك في الزوايا والاركان ـــ يا للمدينة المستباحة المنتهكة ــ واشار الجندي الرابض فوق المصفحة بيده على المارة :
ـــ افرنقعوا يا اولاد الهرمة . تراجع الناس وتدافعت الاكتاف وتفرقوا وتواروا في كل فج عميق تحسباً مما لا تحمد عقباه ـــ في الحقيقة لم يصرخ الجندي بالحشود؛ افرنقعوا يا اولاد الهرمة . انما كان يرطن بلغة اشبه بالعويل ، او انثيال الرمل على الرأس .
ارتسم الخوف على الوجوه المرتبكة، والذين لم يتواروا تكدسوا في المقهى القريب واندفعوا نحو العمق منه، راحوا يتدافعون دون النظر الى بعضهم، يحدث ان تأتي نظرات احدهم بعيني جاره فيبتسم الاول على استحياء وقد يشاطره الجار ابتسامة حزينة، في ان الجندي يحذفهم ويجرفهم نحو المقهى او الازقة، كما لو كانوا اغنام الرب الضائعة في الفيافي والقيعان النائية . تناولوا اقداح الشاي صامتين، ومن كان يتفوه بعبارات او كلمات لم يكن ثمة احد ليسمعها، وليس شرطاً ان يفهمها، احتسوا الشاي وسط عاصفة الغبار واللغط غطى المكان بالدناءة المتوقعة،وحين يلتهم احدهم قطعة من طعام مجفف ويحتسي بعدها رشفة من الشاي، يرنو اليه الحضور، كما لو فاز بالكأس المعلى، لكني من زاويتي تحاشيت مواجهة الجموع الغفيرة التي ركضت دون هديٍ من غاية معلنةٍ او هدفٍ واضح، والغريب اني شاهدت من بين الناس، أمي وابي وشقيقتي، ورأيت زوجتي تركض ايضاً، توزعوا باندفاعةٍ صاخبةٍ وحاديهم عويل الساعة، ساعة الفوضى العارمة التي ألمسُ اطرافها كلما برزتْ في الطرقات مدرعة او دبابة او رهط من جنود يتراطنون باللغة الاخرى، اقول لنفسي مخاطباً اياهم :
ـــ ترى هل ما زالوا يجمعون الريح في شباكهم، واحة ايامهم الضائعة ؟
لا اصدقاء لهم، لا رفاق يعينونهم او يؤازرونهم او أحبة بفتقدونهم اتراهم هم انفسهم سجناء التونا ؟ ام المردة والمجانين الذين صنعوا من فوضاهم رحيق ايامهم الخوالي، يا للطرفة السمجة. ولما ناديت على امي، التفتت الىّ وهي تحث الخطى مسرعة وقد ارتفع صوتها يصرخ بيّ ، تدعوني للتواري عن الوجوه التي تناصبني العداء، ذلك لأني شاهدتُ وجهاً، ربما التقيته ذات يوم في مكان على شاطيء النهر وكان لا يجيد في كلامه معي غير كراهية الاخرين، مع انه أمضى اكثر من عشرين عاماً في عاصمة بلاد الغال وكان يتفاخر امامي وهو يلقي نظرة متعالية، نحو النهر، انه شتم الجميع حين كان هناك، ولما لم يجبه أحد على شتائمه، قرر ان يلقي بنفسه الى النهر، ولا أحد يعرف فيما اذا كان يجيد السباحة ام تراه اصبح طعاماً ميسوراً للأسماك الجائعة .
مرة اخرى رأيتُ صاحب العصا يرفع عصاه القوية ويلوح بها في كل الاتجاهات، كأنه يمشط المكان . ما الذي سيفعله بعصا الجنون وهي تبدو كجزء منه او قطعة الحقت بهِ، ترى أية نية وضعها نصب عينيه، لعله يشير بها الى النسوة الحافيات وهن يسلمن للريح سيقانهن والثياب ترفرف من حولهن، وللمرة الثانية التقت نظرتي المتأملة بنظرته المستريبة، استدار نحو الجهة الاخرى ليتحاشى النظر المتعمد الى شخص مثلي، حدث هذا عندما شاهدني أقف في مواجهته تماماً، كأني أتأمل اطلالته الغامضة .
سمعت صيحة تسأل : ـــ حتى انت يا سيلان ؟
ناديتهُ بالنبرة نفسها :
ـــ ما الذي تضمره سيلان لنا ؟
ـــ سيلان وسومطرة ومدغشقر والملايو وحكومة مالي، غير راضين عنا الان .
كان عليه ان يجيد قواعد اللعبة، لا ان يمنح عصاه الثقة كاملةً ، ويجعل منها دليله الوحيد في الليالي المقفرة، كنتُ افكر بهِ مع اني لا احمل عنه صورة واضحة، جلسته في تلك المقهى
وحدها زادت من طبيعة التفكير بهِ، لكني لم اتحدث معه لا قبلَ الاحتلال ولا بعده ـــ لما انتهت الحرب جاء بعدها الاحتلال، جاء ينتعل حذائين من فولاذ وقصدير ويخط بقدميه اديم الارض، كنا نقول همساً : يا للقدمين المعبأتين بالبارود ـــ لكني الان، استطيع القول عنه؛ انه رجل لم يتجاوز السن القانوني للموظفين التقليديين . استمر يرفع ذراعه في الهواء ويلوح بعصاه، كلما شاهد مجنزرة او مدرعة اجنبية، يرفعها ويشير بها الى الجندي الرابض عند برج القيادة . كنا نضحك حين يلوح بعصاه ويركز أحد طرفيها في وسطه، ثم ما يلبث ان يطلق صيحته المعتادة بأتجاه الجندي الذي يلوح له بيده هو الاخر، .. كان احد الحضور قد توجه الىّ بالكلام حين شاهد المجنزرة تعبر الشارع من منتصف الطريق، كأنها توشك على دخول المقهى عنوةً : ــ اليست هذهِ حرب سيئة ، بل حرب قذرة ؟
ولما لم أجب على كلماته، تلفت فيما حوله دون جدوى، عاد بسؤاله يخاطبني : ـــ لم نسمع صوت الاستاذ مؤلف القصص ؟
انتفضت في مكاني حالما سمعته يخاطبني بصفتي مؤلف قصص، يحدث ان يناديني احدهم بالمصادفة، مؤلف القصص . التفتُ اليه وعيناي تحدقان بهِ.
قال ثانية : أليست الحرب سيئة وابنة كلب ؟
ـــ آه ، صحيح لقد اسمتها العرب بالكريهة .
ضحك ساخراً :
ـــ من تقصد ؟ العرب العاربة ام المستعربة ؟
اصبح الان ضرورياً عدم اهمال صاحب العصا، اذ أي انحراف عن سير وحدة الموضوع، سوف يطيح بعرش البرهان وتفقد الفرضية تلك، اهميتها المتوقعة، كنتُ ادرك توزع الاهتمام بينهما، غير ان الرجل لم يقل العرب العاربة سخرية، بل صاغ سؤاله بنبرة أسى وحزن، وقال : ــ ترى ما الذي قدمه العرب لنا في محنتنا ؟
عندئذ لم ينتظر جواباً على سؤاله، بل غادر المكان تاركاً المجال لصاحب العصا ان يحتل موقعاً في مواجهة المدرعة، وهو يردد لحناً قديماً من بين شفتيه، تلك الاثناء هدرت المدرعة من جديد مثيرة زوبعة من غبار كثيف جعلت من الصعب الاستمرار في الجلوس في المقهى، هرب عدد من الحضور، بينما واصل صاحب العصا المكوث في مكانه المبرز عند واجهة المقهى، ابتسمتُ لهُ، لكنه اشاح بوجهه عني، بعدها صاح بأعلى صوته :
ـــ يا الهي، ما أكثر الجواسيس في البلد هذهِ الايام ؟
صرختُ بهِ : ـــ اللعنة على اجدادك يا مجنون .
اندفعت باتجاهه صارخاً وصاخباً في المكان، الذي لا تعوزه الحماقات، اردت الامساك بخناقه، كان قد تنبه الى اصراري على عراكه، دفعني بقوة وهو يزأر :
ـــ ثلاثة أيام مضت وانت تلاحقني .
ملأني صياحه بالحيرة، ترى هل يعرفني من قبل، ايصح ويكون قد نسيتهُ وسط فوضى الوجوه الكثيرة التي مرت في حياتي ؟ … وفجأة، قفزتْ عشرات الوجوه في شريط محكم الدقة تنثال منه الصور لوجوه حزينة واخرى بريئة وبعضها ظل ينظر نحوي ببلاهة او ضيق، وجوه اصدقاء او خصوم، لا فرق بينهما ما دامت تنتسب الى الماضي الذي لم اعد املك السيطرة عليه، انه الماضي حيث فضل الاستقرار في الزمن السحيق، انه يبتعد كلما اقتربتُ منه او استدعيته للمثول في الحاضر، لا يبعث لي سوى بالوجوه التي ابتعدت وتوغلت اكثر فأكثر ولم يبق منها سوى شبح ضئيل الحجم، يكاد يتلاشى، كلما مرت الايام والسنون، ولما تراجعتُ بعد استنكاره، لوح لي بعصاه واعاد الكرة ثانية وضربني على يدي، لأنه ادرك الجسارة التي حملتها اليد باندفاعتها، اعادة التلويح بالعصا من جديد وهو يبتسم شامتاً بي، كأنه يعبر لي عن سعادته بوجود العصا بين يديه بينما ابدو امامه اعزلاً تماماً، نظرتُ اليها طويلاً، اتراها عصا المعلم الذي ظل يهز طرفها السائب امام طلبته الحمقى أوالكسالى ؟ ان تكن هي تلك العصا، فما الحكمة التي دفعته للأحتفاظ بها طيلة الزمن المنصرم ؟ لعله كان احد معلمي الصفوف المتقدمة، اولئك الذين يعرفون كل شيء يدور من حولهم ولا يبوحون بأي سر من اسرارهم الدفينة لئلا يدفعون الثمن غالياً !! وأي ثمن كانوا سيدفعونه ؟ لا أحد يستطيع التكهن بما ستؤول اليه الامور في نهاية المطاف، وانا نفسي عجزت، بل اعترف أنه حين يفعل ذلك انما يعيد للعصا مجدها التليد في مقدرتها على الاشارة او فرضها للأيماءة، لعلها العصا التي اقتطعها من اشجار الغابة ام تراه اشتراها من احد باعة الخردة اولئك الذين يفترشون الارض في مواجهة الشمس دائماً ؟
ـــ ما الذي تفعله الكلاب السائبة في هذهِ الربوع ؟
لا أحد يستطيع الجزم في انه توجه بالكلام النابي لشخص محدد، انما اراه يهدد ويتوعد وقد اتخذ مكانه المفضل في مواجهة الضوء الباهر للصباح، متلذذاً برنين العبارات وفمه يضغط على نهاية الحروف، كأنه يبصم بشفتيه لا بيده على يومه كله، ونحن ننظر اليه، خائفين من تورطه او انزلاق لسانه في الهاوية، كان بعضنا يشير عليه خفية، بما يوحي بالقاء الخطوة التالية، لكنه، في نهاية المطاف سيكون هو الاول والاخيربيننا .
تلك اللحظة اهتزت الارض بدويٍ هائلٍ فيما حولنا، اهتزت وماجت وتحركت كأن زلزالاً اجتاحها وعرفنا اننا صائرون الى حتوفنا وسوف نضيع في ليل طويل ما لم نلوذ بالفرار من ارض الجحيم، اندفعت خارج المقهى وتدافع معي حشد كبير من الناس نحو الازقة القريبة،ركضتُ جزعاً وخائفاً تخفيتُ بين الاشجار والجدران حين انتشر رصاص هدر كالمطر في كل الجهات، تعثرتُ وسط مزابل الزقاق والفضلات، ولما ركضتُ وسط الفوضى، وجدتُ نفسي وحيداً وسط المزابل والهوام والحشرات غطت المكان، ركضتُ هرباً من الذباب وهو يطير من حولي، واجهتني الساحة من جديد وقد تغيرت بعض ملامحها وقد غطاها الدخان والغبار . كانت خالية من المارة، بل وجدت نفسي في مواجهة الفراغ، لم تكن المدرعة موجودة، اظنها انسحبت الى مكان اخر. كانت العصا القوية وحدها مرمية عند الرصيف .
بغداد / 2006
""
* نقلا عن:
عصا الجنون