يوسف زيدان - عنِّين.. بكسر العين.. قصة قصيرة

«انت خاين.. خاين»

صاحت صباحُ بذلك فى وجه زوجها، فكان صوتُها المُعذّبُ الشجىُّ مُشوَّشَ الأحرف، كأنه حشرجةٌ تخرج من صدرها مشتبكةً بأشواكِ العوسج، أو كأنه ترنيمٌ متبّلةٌ بعلقمية ذلك العشب الشيطانى الذى ينمو على ضفاف الترعة شحيحة الماء، الملتفّ مسارهُا الحلزونى حول قريتهم الفقيرة المشتق اسمها «نجع الحلزون» من هذه الترعة غير المُترعة. حتى المواشى، تتحاشى هذا العشب الشيطانى المُرّ وتعاف أكله، لكن فقراء القرية يتقوَّتون به مُضطرين.

لم تجد «صباح» ما تضيفه لصراخها، فاحتشدت بقلبها الأوجاع وانفجرت من عينيها الواسعتين دموعٌ وفيرة، تكفى لإنبات شجيرة. لاحقاً، سوف توحى دموعها لزوجها بفكرةٍ مبتكرةٍ، أما الآن فإن رأسه خالٍ من كل الأفكار. سَكَتَ وسَكَنَ واستكان، مستسلماً لعجزه عن تقديم العذر المبرّر لعجزه، ولأحواله المريعة التى أوصلتْ «صباح» إلى هذا الانهيار التام، المتمنِّى الاستقلال التام عنه أو الموت الزؤام. زؤام. توقف رأسه عن التوقُّف حين اصطدم بهذه الكلمة، ودار، فطفرت فجأةً بذهنه فكرةٌ رآها عبقرية. حتى إنه ابتسم بغير قصد، فازداد اهتياج زوجته إذ رأته يضحك بلا سبب، وظنته إنساناً قليل الأدب، فاحتدم غضبُها وكرّرت بصوتٍ أعلى مطلبها المعروف، المعتاد دوماً عند غضب الزوجات: الطلاق التام أو الموت الزؤام.

كان فى غفلةٍ تامةٍ عما يحيط به، لاستغراقه الشديد فى الفكرة العبقرية المستوحاة من كلمة زؤام. فقد بدا له أنه إذا استعاد قدرته على الواجبات الفراشية المطلوبة، فسوف ترضى عنه «صباح» وتنسى الحرمان الذى كان، وبطبيعة الحال سوف تحبل بعد أول لقاءٍ، بولدٍ سوف يشبه أباه الخالق الناطق الخارق. وعندئذٍ، وبدلاً من تلك الأسماء العجيبة التى صار أهل القرية التعيسة يسمون بها المواليد ذكوراً وإناثاً، سوف يسمى هو ابنه بهذا الاسمٍ اللذيذ الذى سوف يُدهش أهل القرية: زؤام.. طبعاً أهل القرية سوف يظهرون فى أول الأمر امتعاضهم من الاسم، لأنه جديد، وهم عادةً يمتعضون من كل جديدٍ. ثم يعجبون به بعد حينٍ، ويقلّدونه، فيطلقونه على كثيرٍ من المواليد الجدد الذين يفدون من بطون الزوجات بالقرية، كالذَّرِّ. وقد يتفنّنون، فيجعلون اسم الطفل الذكر «زؤام» فإن فُجع أحدهم بالأنثى فسوف يسميها «زؤامة» أو «زؤمة».. لكن ابنه سيبقى أول مَن حمل هذا الاسم الطنّان الرنّان، وحين يكبر سيكون كبير الزؤمين والزؤمات.

استطاب الفكرة، فكاد عقله يعود للعمل وأوشكتْ شفته السفلى على الارتفاع إلى مكانها، من بعد طول تهدُّلٍ، لكن «صباح» عادت للصياح فارتّجتِ الجدران وبقى عقله وشفته السفلى على حالهما، وجمدتْ على وجهه علاماتُ العَتَهِ والتخلُّفِ الذهنىّ والرغبة فى النعاس، وغير ذلك من الانفعالات الصادقة والكاذبة التى يواجه به الأزواجُ دوماً، ثورات الزوجات.

■ ■ ■

«انت بتخُونِّى يا ليل.. صحّ؟»

صاحت صباح بذلك فأبقته صامتاً، صامداً فى قعر بئر البلاهة، ومكتفياً بالتحديق فى الفراغ المحيط به. وهنا استشعرتْ الخطر، إذ ظنّت أنه ربما ينفجر فى أى لحظة، ويُطلّقها. فتردّد بداخلها على الفور صوتُ أمها وجدَّتها وجدَّة أمها، وراحت أصواتهن جميعاً تردِّد بنغمةٍ واحدةٍ، الأغنية النسوية التليدة «أعيش فى ضِلّ راجل، حتى لو أكبر فاشل» فمال قلبها إلى دخول دهاليز الأمل ومتاهاته، لأنها فى نهاية الأمر، لا تريد خراب البيت وفوضاه.. وعندئذٍ تمالكت نفسها وقالت له بصوتٍ مبللٍ بدموع الرىّ المستقبلى:

«أهون عليك تخونِّى؟»

طبعاً لم يرد. أين السؤال أصلاً ليرد عليه! هذه العبارة حسبما أفهمته أمُّه من قبل عدة مرات، ليست سؤالاً وإنما هى دعوة مجانية مفتوحة، ليأخذ زوجته إلى حضنه ويضمها، فتهدأ، ثم تلتهبُ رغبةً، فتلهبه، وفى خاتمة المطاف سوف يصل كلاهما إلى الحال المريح، والختام السعيد لكل الحكايات: وعاشوا فى تبات ونبات وخلفوا صبيان وبنات.. استراح لهذه الفكرة وتمنى لو يبقى قليلاً مُتمتّعاً بها، لكنه ارتدّ إلى الواقع عندما أخرجه من إبحاره فى محيط التأملات، صياحُ زوجته «صباح» التى يسميها فى سره «الشعنونة نونة نونة» فاستفاق على سؤالها السخيف اللحوح: أهون عليك تخونِّى؟.. سكتتْ لحظةً قصيرة ثم عاودت المتابعة، لكنها هذه المرة لم تزعق كالسابق، وإنما قالت بصوتٍ رخوٍ كالطبيخ الحامض: رد عليا يا «ليل» حرام عليك كده، أنا برضه مراتك وهاكون فى يوم من الأيام أم عيالك..

هنا أدرك أنه لا فائدة من هذا الحوار، فانتفض واقفاً من بعد نطاعة النُّعاس المفتعل، وخرج من البيت مُغاضباً أو مُظهراً الغضب، بعدما زعق فيها بكل ما فيه من كذبٍ قائلاً: أنا مُش عاوز كلام فى الموضوع ده تانى.

■ ■ ■

كان اسمه منذ مولده يضايقه، ولا يرى فيه من المعنى إلا العبودية للقهر المتوقّع، ولذلك بادر إلى تغييره فور خروجه من سرداب الطمس المدرسى للعقول، حاملاً الشهادة. يومها انعقد عزمه على إسقاط اسمه «صابر» بعدما ملأه يقينٌ راسخٌ بأن هذا الاسم لم يعد يناسبه، وهو لم يكن أصلاً يحبه، وقد صبر عليه حتى صار اليوم يمتلك زمام أموره، وبالتالى فقد آن أوانُ التغيير واقتحام عالمه الجديد، باسمٍ جديد. كان ذلك فى مطلع العام ٢٠١١ وكان جالساً فى عتمة حوش بيت أبيه، ويومها استعدّ للتفكير العميق فى اسمٍ جديدٍ بأن ملأ بطنه من «برام الكشك» الذى كانت أمه قد طبخته قبل عدة أيام، وعبَّ بعده من «الزير» الماء الكثير، ثم ذكّر نفسه بالقاعدة المعروفة: بعد الأكل لابد نحلّى.. نهش من الطبق المنسى على الطاولة، حفنةً من ثمار «الحرنكش» وخرج بها فى حِجْر جلبابه، وسار على ضفّة الترعة متمهّلاً كالعنكبوت، حتى جلس مختلياً بنفسه تحت شجرة المانجو غير المثمرة التى بمدخل القرية.. مدخل القرية الوحيد، هو المخرج الوحيد منها، لأن النقائع السَّبِخَة تحيط بها من الجهات كلها.

راح يحرِّك أفكاره على وقع صوت الحرنكش المتفجِّر بين ضروسه، وهو يحسُّ باستمتاع كبيرٍ، حتى أدرك فى لحظة إشراقٍ أن اسمه الجديد لابد أن يكون دالاً على شخصيته، ومرتبطاً به. وهو مرتبط حالياً بالبنت «صباح» التى يدللونها باسم «صابحة» للإيحاء بأنها قطعةٌ من القشدة البلدى، مع أنها أشبه بالمشِّ والجبن القديم. ولكن مادامت هذه البنت هى المتاحة، فسوف يختار لنفسه اسم «صبحى» أو «صابح» ليناسب ارتباطه بها. كاد يستريح لهذا الاسم، لكنه سرعان ما عاد وعنَّف نفسه على هذا الاختيار الدال على ضعف الشخصية، وأحرجه سؤاله لنفسه: وإذا طلق «صباح» الصابحة هذه ثم تزوّج بعد حين غيرها، هل ستلزق ذكراها به إلى الأبد بسبب هذا الاسم؟.. لا، وألف لا.. وبعدما التهم «الحرنكش» كله، وكما هو متوقع، سطعت بذهنه الأفكار العبقرية وتوهَّجت، فانتهى إلى أنه سوف يقوم بإشارةٍ خفية إلى البنت «صباح» التى يحبها ويخونها كلما وجد إلى ذلك سبيلاً، بأن يختار اسماً منفصلاً عن اسمها، وفى الوقت ذاته يرتبط بها على نحوٍ خفى.. سيكون اسمه من اليوم «ليل».

لم يستطع السيطرة على انفعاله بسبب هذا الاسم، الاكتشاف، فأخذ يركض على شط الترعة الحلزونية وهو يصيح: وجدتها، وجدتها.. وحين وصل منزلهم كان أبوه الحاج «أُنسى المنسى» جالساً بمفرده على الدكة الخشبية المتهالكة، الموضوعة بعناية إلى جوار باب البيت. وبالطبع، كان أبوه يجلس فى ملابسه الداخلية كالمعتاد، لأنه من يوم عزله عن الحُكم فى النجع لم يلبس جلباباً. ابتهج الولد حين وجد أباه ساكناً لا يعانى نوبات الصرع، ومن شدة ابتهاجه، وبكل ما فيه من نشوةٍ وانشراحٍ ألقى بنفسه فى حضن أبيه كأنه عائدٌ بعد هجرةٍ طويلة.

أزاحه أبوه عن صدره، وصدَّه عنه، ناصحاً إياه بالاستحمام.. تجاهل كالمعتاد النصيحة، وفاجأ أباه بأنه انتهى بعد تفكيرٍ عتيد إلى اختيار اسم جديد، يناسب حياته الجديدة المقبلة.. بلا اهتمامٍ كافٍ، رفع الأبُ العطوفُ عيناه ببطء إلى ابنه وسأله: واخترت اسم إيه يا بهيم؟

- ليل

أصيب الأبُ بالذهول المعتاد لحظةً، ثم أفاق متوتّراً، فاستشعر ابنه الخطر وعاد إلى الوراء بخطواتٍ متسارعة. لكنها لم تنقذه من مطفأة السجاير البلاستيكية التى قذفه أبوه بها، وهو يصيح فيه حانقاً: ليل، دا انت ليلة اللى خلّفوك سودة.

■ ■ ■

عاد إلى جلسة التأملات تحت شجرة المانجو العجفاء، ومجدّدا ساح بأفكاره بين سماوات الفكر ساعاتٍ، ثم قام بهمةٍ فأسرع الخطى إلى بيته وهو يقول بدون صوتٍ مسموع: وجدتها، وجدتها.. وجد أباه لايزال جالساً فى مكانه وعيناه سابحتان فى الفراغ المحيط، فعرف من هيئة أبيه ومن الاستغراق الشديد البادى عليه، أنه كالعادة يحسب بلا مقياس، مساحة السماء. لم يشأ أن يشوِّش على أبيه، ودخل الدار من فوره ليخبر أمه بما انتهى إليه، فالأمهاتُ أكثر طيبةً من الآباء. وينخدعن باختيارهن.

وجدها جالسة فى المطبخ وعيناها سابحتان فى الفراغ المحيط، فعرف أنها كالعادة تحصى عدد المرات التى طبختْ فيها، قبل أن تتزوّج أباه.. فكّر لحظة فى أن يتركها لحالها وللمهمة المستحيلة، لكن حاله غلب عليه فاقترب منها بلطف عاصفةٍ ترابيةٍ بطيئة، وقال لها بصوتٍ خفيض: خلاص يامَه، أنا اخترت اسمى الجديد بعد تفكير، ناجز.

- طيب يا ابنى، انجز وقول الاسم، علشان بالى دلوقتِ مشغول شويتين.

- ناجز.

- يا ابنى بقولك بالى مشغول، قول الاسم على طول.

- ناجز.. هُو الاسم كده، ناجز.

- والله ياضناى انت بعبطك ده عمرك ما تنجز أبداً، أقول لك، سيبك من حكاية تغيير الاسم. انت أحسن حاجة ليك، تتجَوز.

أشعره الاقتراح بالارتياحٍ، فصارح أمه بأنه كان يفكر فعلاً فى الزواج، بل فكَر فى اسمٍ يناسب البنت التى يريد الزواج منها، لكن أباه اعترض.. باهتمام الأمهات سألته عن الاسم الذى اختاره أولاً، ولمّا أخبرها بأنه «ليل» سكتتْ ثم ابتسمت وقد فهمتْ أن ابنها يريد الزواج من «ليلى» بنت حمدى السباك، وأسعدها هذا الاختيار. لكن ابنها سارع بتصويب فكرتها، وقال بوضوحٍ إنه يهوى «صباح» بنت وجدى الفرّان.. بحنوٍّ أمومى أخذته فى حضنها غيرَ عابئةٍ برائحته، وربتتْ على كتفه وهى تقول: وما له يا حبيبى صباح ولّا ليلى، أهى كلها أوقات وبتعدى، ربنا يابنى يتمّم لك بخير.

ومن فورها، قامت الأم الحنون إلى الأب العطوف فانتزعت منه الاعتراف باسم «ليل» فابتهج ابنها واستبشر، وشعر أنه على الطريق السليم لتحقيق الآمال. لكن البشارات تخدع. فأمه لم تستطع الحصول من أبيه على التصريح بالزواج من «صباح» ولا من غيرها، إلا بعدما يجد «ليل» عملاً يقتات منه.. وهنا انهارت الأم وهى تقول لزوجها إن هذا الشرط تعجيزى، فالعمل نادر الفرص والشباب معظمهم عاطل، ولا يجوز تعليق الزواج على شرطٍ شبه مستحيل كهذا.

كانت جعبة الأب حاوية وليست كالمعتاد خاوية، ولذلك عاد بعظمة الفراعين العظام إلى الوراء، حتى استند بكتفيه إلى الحائط الخلفى المتساقط طلاؤه وقال بثقةٍ لا حدود لها إن «الشغلانة» موجودة، والوظيفةٌ متاحة وتمَّ الإعلان عنها عصر اليوم. النائبُ يريد تعيين نائبٍ. صرخت الأم فَزِعةً وهى تقول أما كفانا من النيابة، لتذكير الأب بما جرى عندما عينوه نائباً فكان من الويلات ما كان، حتى وقعت الفاجعة فى فصل الربيع وكسّر ساقه جماعةٌ من الشباب، ومزّقوا جلبابه، فصار من يومها مُقعداً بساقه الخشبية فى مدخل الدار.

ابتسم الأب بشحوبٍ وهو يقول إن تلك أُمةٌ قد خلت، والزمان الآن اختلف، فكل الذين اعترضوه سابقاً قُتلوا فى الشوارع أو فى الحقول أو فى السجون، ولا مانع أمامهم الآن من استعادة الحال الذى كان، مادام الكل قد استكان.

قالت الأمُّ: فُرِجَتْ.. وأسرع ابنها إلى داخل البيت فبدّل جلبابه وانطلق من فوره إلى «كفر السريس» حيث يسكن النائب المشرف على الكَفر والنجوع المحيطة به، فوجده بالصدفة جالساً فوق حطام بيتٍ متهدِّمٍ، يحدّق فى الفراغ المحيط به محاولاً كالمعتاد إحصاء نسمات الهواء التى تمرُّ بالأنحاء.. سأله باستكانةٍ إن كان يطلب نائباً له، فأكّد، وسأله باستبشارٍ عن الشروط المطلوبة للوظيفة، فأخبره بأن نائب المركز الذى يعمل هو نائب له، حدّد شرطاً واحداً هو إقرار الأمان وطاعة الأعلى سلطةً وسلب الأغنى لصالح الأفقر لضمان ولائه والقدرة على إحداث التغيير.. فابتسم «ليل» وصاح من فوره: سيادتك هذا شرط بسيط، وأنا أكثر شخص قادر على إحداث التغيير، وبالصدفة غيّرت اسمى اليوم من صابر إلى ليل.

دمعت عينُ النائب من شدة التأثر، وحمد الله لإرساله الشخص المناسب فى الوقت المناسب، وأعطاه الوظيفة وجريدة النخل المحظور على غير النواب الإمساك بها.. فعاد «ليل» إلى النجع منتفخ الأوداج، يؤرجح بيسراه الجريدة متفاخراً بمنصبه الجديد الذى شغله أبوه من قبله، وهو نائب النجع وصاحب السلطة المطلقة باعتباره النائب عن نائب الكفر، النائب بدوره عن نائب المركز، النائب بدوره عن نائب المديرية، النائب بدوره عن الأعلى منه. فهو بالتالى المسؤول عن الضبط والربط فى النجع، فى إطار مسؤولية نائب الكفر، المسؤول عن ضبط الكفر والنجوع المحيطة فى إطار مسؤولية نائب المركز، المسؤول عن ضبط الناحية وربطها فى إطار مسؤولية نائب المديرية.. الحياة شبكة مسؤوليات، والأسماك كثيرة.

■ ■ ■

استهل «ليل» مهام منصبه فى الصباح التالى، باحتفالٍ مهيبٍ اجتمع له سكانُ النجع جمعيهم وقلوبهم تخفق بنبضات الابتهاج والفرح، فوقف النائب «ليل» وحوله الصفوة المُبجلة، وفقاً للبروتوكول الرسمى المعمول به فى مثل هذه المناسبات النادرة. عن يمينه أكبر رجال النجع سناً، وعن يساره أوفرهم مالاً، وأمامهم على الأرض جلست الطفلات البائسات اللواتى يلوحنَّ حسب المراسم بسعف النخيل. بدأ «النائب ليل» خطبته بالارتجال فقال إنه سيكون مباشراً فى كلامه ومحدداً، فصفّقوا. وأضاف أنه لن يلفّ عليهم أو يدور، فصفّقوا. وأكد لهم أنه منهم وأنهم منه، فصفّقوا. وقال إنه يحبهم بأكثر يحب نفسه، فصفّقوا.. وانتهى حفل التنصيب.

فى يومه الأول بالمنصب تزوّج ليل صباح، واعتذر منها عن عدم قيامه بواجبه الزوجى، نظراً لانشغال ذهنه بالمهام الملقاة على عاتقه. فاشمأزّتْ، لكنها لم تعترض.. وفى يومه الثانى دعا أهل النجع لجمع النقود المخزونة فى منازلهم للإنفاق منها على مشروعات التنمية، مع وعد بردِّ أموالهم إليهم فى فترةٍ محدّدة بدقةٍ، تبدأ بعد عامٍ من الآن وتنتهى يوم القيامة. فاستجاب له كثيرٌ من الناس، وفرحت «صباح» بانفراج الضائقة المالية المبشر بانفراج الضائقة الفراشية، لكنها صُدمت فى أول الليل لما اتخذّت زينتها واتخذ زوجها سبيله إلى النعاس سَرَباً.

فى اليوم الثالث كان أمام «ليل» مهمة عويصة، لكنه استطاع مع مجىء الغروب أن ينجزها، إذ قام بتوفيقٍ من السماء بنزع ما بيد الأغنياء من أهل النجع، وقام بتوزيع ما سلبه على الفقراء، فتعالت فى الطرقات أصوات المعدمين سابقاً، شاكرين مهللين، وذهب «ليل» إلى «صباح» يتمطّى فتوهّمتْ أن الليلة ليلتها، لأن فارسها كسر عين الجميع ولابدّ من أنه سوف يُمتع فرسه. لكن الأمانى خوادعُ.

■ ■ ■

سارت الأيام بها على ذات المنوال، بلا نوال، حتى جاء اليوم الذى انفجرت فيه «صباح» فى وجه «ليل» مُتّهمةً إياه بالخيانة، كى تُوجد له ولنفسها العذر فى عدم حصول المأمول.. لكنه أدرك أنه لا فائدة من هذا الحوار، فانتفض واقفاً من بعد نطاعة النُّعاس المفتعل، وخرج من البيت مُغاضباً أو مُظهراً الغضب، بعدما زعق فيها بكل ما فيه من كذبٍ قائلاً: أنا مُش عاوز كلام فى الموضوع ده تانى.

بين أزقّة النجع صاح المنادى بأن «النائب ليل» يدعو الجميع للاجتماع فى مدخل القرية، ولا عذر لمن يقعد عن تلبية الدعوة.. تحت شمس الظهيرة، جلس الجميعُ ساكنين، وتصادف أن جلست «صباح» بجوار جدَّتها العجوز اليابسة كعرجونٍ قديم، ومن تحت ظل الجريد اليابس تحدث «ليل» للحاضرين، بحزم، مبشراً لهم بأنه وجد حلاً لمشكلة جفاف الترعة وانعدام الماء اللازم للرى. قال إن كل رجلٍ عليه أن يغرس نبتة أمام منزله، وينكَّد على زوجته مثلما تنكّد عليه، حتى تبكى بالقدر الكافى لرىِّ النبتة.. فإذا التزمنا جميعاً بهذه المشروع العظيم، فسوف تمتلئ القرية بعد سنوات قليلة بالأشجار، فيأكل الجميعُ من الثمار..

عندئذٍ، وبعدما بلغ سيلُ «ليل» الزُّبى، همست الجدَّةُ العرجونيةُ لحفيدتها صباح، قائلة لها: فى الأمسيات لا تتعبى نفسك معه، لأنه لا فائدة منه.. فهو عنّين، بكسر العين.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...