الرسالة -1-
7 شباط فبراير سنة 1970
أخي العزيز
يسعدني كثيراً أن أعرف هذا الأسبوع أخبارك حتى 18 اكتوبر، وحتى 25 اكتوبر. وقد تسلمت من المصلحة خطابك 39 المؤرخ في 4 اكتوبر، الذي وصفت فيه كيف عرفت نبأ وفاة الرئيس وما تتمنى أن يفعله الرئيس الجديد. وقد ارتفعت حالتي المعنوية هذا الأسبوع. فبعد انقطاع دام خمسة شهور سمحوا لنا بالزيارة. زارتني إحسان وزيزي وفوفي: وأحسست انني أطل على مصر لأول مرة، بعد خمسة شهور كانت كل النوافذ مغلقة بالضبة والمفتاح! وحرمان المسجون من الزيارة عملية تعذيب تطول طول شهور الحرمان. ففي خلال هذه الفترة شعرت انني مقطوع عن كل شيء! عديم الصلة بأي شيء! أشبه بالأطرش في الزفة! فزيارات المسجونين هي الخيط الرفيع الذي يربطهم بالعالم. وفي كل يوم تكون لمسجون زيارة. وهكذا نشعر طوال الشهر بما يجري خارج الجدران! أما عندما نحرم من الزيارة فنشعر أننا في صناديق من الحديد، بعد أن كنا قانعين بأن نكون في أقفاص من حديد! ولقد أسفنا كثيراً أن خيرية وسعيد كانا في القاهرة أثناء فترة منع الزيارة، ولهذا لم أستطع أن أعرف أخبارك إلا من فوفي. واطمأننا أنك على ما يرام.
وقد دهشت لما جاء في خطابك أنك تنتظر خطاباً من سعيد لتعرف آخر أخباري. مع أن سعيد لم يرني ولم أره. والذين يتحدث لهم من تلاميذ مسيلمة الذين يجدون لذة في أن يكذبوا عليه ويؤكدون انني بخير، وأن كل شيء على ما يرام. وهم يعرفون جيداً أنني لست بخير، وأن كل شيء على أسوأ ما يرام! وأنا أعذر سعيد لأنه يصدق ما يسمع من أكاذيب، فالعادة أن القوي لا يكذب. والكذب سلاح الضعفاء. ولكن بعض الذين نحسبهم أقوياء من خارجهم يشعرون بضعفهم ويلجأون الى سلاح الكذب المهين!
ولقد قال لي سعيد من شهور إنه قابل أحد أصدقائنا ثلاث مرات في رحلة واحدة، وفي كل مرة كان الحديث عني، وعن الوعد المقطوع، وقال إن كل الظروف تشجع على الأقل بوفاء الوعد قريباً بإذن الله!
وإنني أتساءل هل هيكل مستعد أن يشهد أمام الرئيس أنور السادات بالوعد القاطع الذي وعده الرئيس جمال عبدالناصر بالإفراج عن إمام سعيد وهيكل... أم انه سوف يعتبر هذا الوعد من الأسرار التي لا يجوز أن يبوح بها!
إنني لا أزال أعتقد بأن هيكل إذا أراد أن يتم الإفراج عني لتمّ ذلك من اليوم الأول.
انني عرفت الرئيس عبدالناصر عن قرب. وعملنا معه يومياً لمدة 13 سنة! وأعرف جيداً أن كلمة واحدة في ساعة رضا، ممكن أن تفتح أبواب السجن في خمس دقائق! إنني لا ألقي هذا الكلام على عواهنه. إنني أقوله نتيجة تجربتي شخصياً، إنني انتهزت إحدى فرص رضاه وطلبت منه الإفراج عن محمد صلاح الدين باشا وزير الخارجية الوفدي المحكوم عليه بالسجن المؤبد، فأفرج عنه من اليوم التالي! وفعلت نفس الشيء بشأن فؤاد سراج الدين... وفعلته عشرات المرات بشأن مسجونين آخرين. ولا يمكن أن يكون عبدالناصر تغير عما عرفته، ولا يمكن أن تكون صلة هيكل به أقل مما كانت صلتي بالرئيس عبدالناصر. ولقد سبق أن أخبرتك بالوعود الكثيرة التي حملها لها هيكل. وهي نفس الوعود التي قيلت لكم. والفرق بيني وبينكم أنكم كنتم تصدقون... وكنت أنا لا أصدق!
ولقد كان كل ما تمنيت أن أحصل عليه، جزاء ما قدمت لبلادي من خدمات يشهدون بها ولا يستطيعون إنكارها، كل ما تمنيت هو حقي في العدالة! حتى هذا الحق البسيط حرمت منه! ومن أجلي أنا شخصياً تألفت محكمة عسكرية برئاسة الفريق الدجوي لتحاكمني حتى أحرم من المحاكمة العادلة أمام محكمة الجنايات العادية! ومن أجلي شخصياً صدر قانون يحرم الطعن في إجراءات التحقيق حتى أحرم من أن أثبت التلفيق والإجرام الذي ارتكب معي... ومن أجلي أنا صدر أمر بأن يطوى التحقيق في قضايا التعذيب حتى لا يظهر انني عذبت في التحقيق، وبعد أن شهد آخرون أمام النائب العام انهم رأوني وأنا أتعذب أمامهم!
وهكذا ترى أنني لم أنتظر من أحد خدمة ولا استثناء!... بل كل ما طلبت من الذين خدمتهم وأفنيت شبابي وعمري في خدمتهم أن يمنحوني الحق الذي يمنحه القانون لأبسط مواطن في هذا البلد!
وفي كل مرة كان سعيد يوسّط هيكل بشأن معاملتي... كنت أفاجأ بالمعاملة تشتد، وتصبح أقسى وأعنف وأغلظ! حتى أصبحت أتوسل إليكم ألّا تطلبوا لي أي شيء... لأن الذي يحدث كان العكس تماماً!
وأحب أن تعلموا أنني لم أتهمكم أبداً بالتقصير... إنني اتهمتكم دائماً بطيبة القلب وبحسن النية وبصفاء الطوية... وأنكم مكثتم أكثر من خمس سنوات تصدقون الأكاذيب!
في بعض الأحيان أتصورك أنت وسعيد في دور بشارة واكيم في مسرحيات نجيب الريحاني. كان دور بشارة هو دور الشامي، الطيب القلب، رجل على نياته، يصدق ما يسمح، ولا يفترض من الناس السوء. وكان بشارة دائماً يقع ضحية أكاذيب أولاد البلد الذين يكذبون عليه ويعتبرون هذا الكذب شطارة... وأن الصدق"عبط"!
والطبيعة البشـــرية تجـعلنا نصدق الذين يقولون لنا ما نريد أن نسمعه! أكاذيبهم تريحنا وخداعهم يملأ قلوبنا بالطمأنينة! وأنا أعتقد أنكم اشتريتم الترام عدة مرات! ولولا أن الترام داسني، لما عرفت أنكم اشتريتموه!
في مرة قابل فيها سعيد هيكل وصف له ما أعانيه بالضبط. واضطر الى إعلامه بأنني كتبت له خطاباً أخبره بحالتي، ورجاه أن يظل هذا الأمر سراً بينه وبينه، حتى لا أتعرض أنا ولا يتعرض سعيد لإجراءات نحن في غنى عنها.
وقال سعيد:"وأنا أثق بهيكل، وبحبه لك"، وقد قال لي بالحرف الواحد والدموع في عينيه:
- أقسم لك بأولادي يا سعيد أن مصطفى صعبان علي جداً.
وروى لي سعيد هذا وقال بأن هيكل وعده بأنه سيهتم شخصياً بموضوع وتحسن حالتي خلال 24 ساعة!
أتعرف ماذا حدث بعد 24 ساعة! حدث أن وزير الداخلية أبلغ مصلحة السجون أن بعض السياسيين يكتبون خطابات ويهربونها خارج السجن، ويجب العمل على ضبطها، ووضع كل حارس يضبط معه خطاب من مسجون في السجن! مصادفة غريبة فعلاً!
ومصادفة أغرب أنه لم يحدث تحسن في المعاملة في خلال 24 ساعة ولا 24 يوماً ولا 24 أسبوعاً!
ومصادفة أغرب وأغرب أن الأمر باستثنائي من المعاملة الحسنة هو أمر كتابي بإمضاء وزير الداخلية نفسه!
ولا يخطر ببالي ? لا سمح الله ? أن أحمل هيكل مسؤولية ما حدث لي، وإنما أردت أن تعرف نتائج"الاهتمام"بي!
وما زلت أعتقد أن هيكل لو كان تحدث مع الرئيس مرة واحدة بشأن الإفراج عني، لما بقيت في السجن ساعة واحدة!
وأعتقد أنه إذا كانت انتهت مسألة الشرق الأوسط، فقد كانوا سيجدون سبباً او مبرراً لعدم الإفراج... رغم الوعد القاطع!
وقد أكون سيئ الظن... فعندما قال لي سعيد إن أحد الأصدقاء ذكر له أن الحياة التي تعيشها في لندن تثير الكثير من التساؤل، وينبغي أن نجد رداً مقنعاً على هذه الأسئلة، وأن هذا الرد سوف يساعد على عمل شيء من أجلي، وأن سعيد أخبر خيرية بذلك، وطلب منها أن تثير مع صديقنا حكاية شرائك الشقة التي تسكنها بمبلغ أربعين ألف جنيه، وتدفع كل شيء، وتنفي الإشاعات التي تحولت الى حقائق...
عندما سمعت هذه الحكاية أغرقت في الضحك... قلت لنفسي لا بد أنهم يعتقدون بأن مسألة الشرق الأوسط سوف تحل قريباً... ولذلك بدأوا يبحثون عن عذر أو مبرر للتحلل من وعد الإفراج عن!
فالمسألة ببساطة أنهم كانوا يتوقعون أن نشحذ! انهم جردونا من كل ما نملك! نحن فقط الذين لم يدفع لنا أي تعويض عما أخذ منا!... المطلوب أن نموت جوعاً! أن نمشي حفاة عراة... أن نمد أيدينا نطلب إحساناً ويعطونا عشرة جنيهات إعانة من وزارة الأوقاف!
فإذا نحن لم نركع، ونسجد، ونسترحم، فيجب أن تدوسنا الأقدام! ألم يكفهم أننا سكتنا على الظلم... لم نقل إننا مظلومون... لأن معنى ذلك أنه يوجد"ظالم"!
ألم يكفهم أنك لم تفتح فمك. وأبيت أن تقول كلمة واحدة. حتى لا يتصور أحد أنك تطعن هذا الوطن الذي منحناه حبنا وحياتنا وكفايتنا وعمرنا!
بل ان عملية"مطاردتنا"مستمرة... حتى أنهم يستكثرون عليك ان تعيش تعيش في لندن... وفي لندن ألوف العرب يعيشون أحسن منك ولا يهتم بهم أحد!
لأن المطلوب أن تجوع وأن تتشرد!
ولا أتصور أن هذا الكلام الفارغ هزك. إنني شخصياً قهقهت لأنني عرفت أن الذين اعترضوا على الشقة... سوف يعترضون غداً على"الحذاء"!
قال لي سعيد مرة المهم أنك صبرت طويلاً، وتحملت كثيراً، وكنت في ذلك بطلاً!
كما كنت مثلاً لنا في الصمود المذهل والرائد، وأنا لا أقول لك ذلك لأشجعك على الاستمرار، بل أقوله لأتشجع أنا على عدم اليأس والانهيار!
وقال لي سعيد:"صدقني اني كثيراً ما تعرضت لليأس في قضيتك، ولكن صمودك كان هو المشجع لي ولعملي. فلا تضعف حتى لا نضعف معك. ولا تيأس حتى لا يشملنا اليأس جميعاً. ولا سيما أن هناك وعداً صريحاً لي وللأخ هيكل، والظروف الآن تمهد لتحقيق الوعد، فأرجو أن تأخذ ذلك بعين الجد والثقة، ولا تستمر في اتهامي واتهام علي بالعيش في الأحلام".
وأحب أن أقول لكم إنني ما زلت صامداً كما كنت. وما زلت صابراً كما كنت. ولكني أفضل أن أصبر وأصمد، معتمداً على قوة إيماني، على أن أصمد وأصبر معتمداً على حقن الأفيون! أفضل أن أواجه نار الحقيقة مفتوح العينين، على أن أغمض عيني وأتصور انني في الطريق الى الجنة، بينما النار مشتعلة في كل جسدي!
ان المعلومات التي لدي وأنا في زنزانتي أصدق للأسف، من المعلومات التي عندكم أنتم في عالم الحرية!
إسفلت الزنزانة وقضبانها وأغلالها تجعلني أعيش على أرض الواقع، السلاسل تمسك بي، فلا أستطيع أن أحلّق في السماء!
إن الأيام علمتني أن الذين يمشون في الشارع يرون الحقيقة أوضح مما يراها سكان الأدوار العالية!
لأن الحقيقة تمشي على قدميها!
والشارع يقول إن الرئيس أنور السادات يريد أن يفرج عن المسجونين السياسيين. يريد أن يفتح صفحة جديدة. يريد أن يكون رئيساً للجميع...
والذين يعارضون هذا الرأي هم الذين يذرفون الدموع ويتظاهرون بأنهم يتألمون ويتعذبون للمظلومين الذين يعيشون في قبور الأحياء!
الشارع هو الذي يقول هذا!
ويقول إن هناك من يريد المضي في البطش والإرهاب ويعتبرها دليل القوة!
إنني أؤمن أننا ضحية الذين يريدون أن يحتكروا لأنفسهم القمة! أولئك الذين تصوروا أن القمة لا تتسع إلا لفرد واحد... فألقوا من القمة من تصوروا انهم ينافسونهم فيها!
هؤلاء من مصلحتهم أن يبقى ضحاياهم في أقفاصهم. أن يخمدوا أنفاسهم. أن يكتموا أصواتهم. أن يقيدوهم في السلاسل والأغلال. هؤلاء عادة من الصغار أصحاب المقامات الصغيرة، الذين يتصورون أنهم لا يرتفعون بقاماتهم، ولا يصبحون عمالقة، إلا إذا صعدوا فوق جثث أصدقائهم وأشلاء زملائهم!
لقد قلت لك مرة إن"العز لا يقف أمام باب واحد الى الأبد".
ولا يزال هذا رأيي وإيماني، ما زلت أؤمن أن الله قادر أن يبطل كل مكيدة، وأن الحق لا بد أن ترتفع رايته في يوم من الأيام!
وأرجو ألاّ تضايقكم صراحتي! فإنني بقيت صامتاً أكثر من خمسة أعوام...
ولم يبق من العمر ما يكفي لصمت جديد... قبل أن يجيء الصمت الأكبر!
إن الضعفاء لا يستطيعون أن يكونوا مخلصين!
والصامتون لا يستطيعون أن يكونوا مقنعين!
لقد كنت أجد لذة لا حدّ لها عندما أسمع انساناً يكذب علي، وأعرف أنه كاذب، وأعرف أنه يريد أن يخدعني!
وأتظاهر بتصديقه... وبذلك أخدع من يحاول خداعي!
وهو موقف لذيذ لمدة خمس دقائق!
ولكنه موقف مؤلم... إذا استمر أكثر من خمس سنوات.
لا أعرف أين يصل إليك خطابي هذا. لقد علمت أن ثلاثة خطابات سابقة لا تزال في الانتظار. وأرجو ألاّ ينتظر هذا الخطاب طويلاً. ولو كنت في بيروت فأرجو أن تقبل سعيد وحسيبة وعصام وبسام وإلهام. وإذا كنت في لندن فأرجو أن تقبل خيرية وفاطمة وريتا ومنى.
وإلى اللقاء القريب
بإذن الله.
***
الرسالة -2- الى علي أمين
17 أكتوبر سنة 1970
أخي العزيز
سلمتني المصلحة هذا الأسبوع خطابك المؤرخ في 16 سبتمبر، الذي كان فيه صفحة 6، التي نسيت أن تضعها في خطاب 14 سبتمبر.
نحن نعيش اليوم في جو من التفاؤل، وجميع الموجودين هنا يتوقعون خيراً. على الأقل أن الرئيس أنور السادات الذي عاش في السجن وذاق عذابه، يعرف آلام القضبان... وأنه لا بد أن يفعل شيئاً ليخفف هذه القيود. وقد نشرت المصور كلمة كتبها أنور عن حياته في السجن ومشاعره، وشعر كل مسجون قرأها أنه عبر أصدق تعبير عن مشاعره هو وآلامه هو. وكان المسجونون يرددون هذه الكلمات كأنهم يرددون أغنية حفظوها عن ظهر قلب. وأنني أعتقد أنه على الرغم من مشاكله الكثيرة، فإن أنور سوف يفعل شيئاً لمن يعيشوا في قبور الأموات. بل اعتقد أن المشرفين على السجون سوف يتوقفون عن التفنن في البحث عن وسائل للتنكيل بسكان هذا المكان، والتنافس في حرمانهم من حقوق الأحياء! الذي ذاق السجن هو وحده الذي يستطيع أن يعرف ما هو السجن!
في العدد الأخير من "المصري" الصادر في 16 أكتوبر سنة 1970 في صفحة 9 تحدث أنور عن ذكرياته في السجن وكيف أن أولاده كانوا يتضورون جوعاً وهو مسجون الى أن صرف لهم تشكيل الضباط الأحرار عشرة جنيهات كل شهر ثم يقول أنور السادات:
"وكانت هذه العاطفة الصادقة من زملائي هي أسمى ما يمكن أن يشعر به مثلي في ظلمة الاعتقال، فقد يعرف الذين زاولوا الكفاح من أجل فكرة أنهم لا يضعفون أمام السجن، ولا يضعفون أمام التعذيب، وقد يخيل إليهم في لحظات الحماس والانفعال أنهم لن يضعفوا أمام شيء من الوجود... ولكنهم في هذا واهمون، فهناك الشيء الذي يضعفون أمامه، والذي لا يملكون حياله شيئاً إلا الفرار من الواقع، والفرار من التفكير في القرار من المطارق التي تطرق الرأس والقلب والضمير، وتحيل الجبار وهماً ضعيفاً يكاد يستسلم، ويكاد يستغيث، لولا كبرياء الكفاح، ويقظة الفكرة المتأصلة في نفسه، ومثالية الهدف... هذا الشيء الذي يضعف أمامه المجاهدون هو الولد، الطفل، العيال. وكانت هذه الجنيهات العشرة هي العون الوحيد الذي أقبله لأطفالي، لأنها لم تصدر عن عطف وإشفاق، وإنما صدرت عن فكرة مشتركة وتكافل بين مكافحين".
الذي يكتب هذه الكلمات، يشعر بقلب المسجون وهو ينفطر حزناً وأسى على أحبائه! يعرف معنى الحرمان من الأهل. يعرف أن الحكم على المسجون هو حكم على أسرته بالتشرد والضياع.
لا أعتقد أن مثل هذا الرجل يستطيع أن يترك أبرياء في السجون. يحرم مسجوناً مريضاً من العلاج في مستشفى. يمنع المسجون من أن يرى أولاده إلا في سلك يشبه قفص القرود. يمنع مسجوناً من أن يتسلم الطعام الذي تجيء به أسرته في الزيارة. يطارد كل يد تحمل الطعام الى أسرة سجين، ويضعها في السجن!
لا يمكن أن ينسى أنور زنزانته رقم 54 من سجن مصر. لا يمكن أن ينسى العسف والعذاب والحرمان الذي شعر به في تلك الزنزانة. أنه وحده الذي يعرف كيف يموت المسجون من الجوع. ويموت المريض من الإهمال. ويموت الصحيح من الاختناق!
أن أقل ما سوف يفعله أنور أنه سيذكر البؤساء والمساكين الذين يعيشون في أقفاص من حديد، في غرف تشبه القبور لا تدخلها الشمس ولا يدخلها هواء. سيذكر أنصاف الموتى وأنصاف الأحياء الذين يجلدون بلا ذنب. أولئك المقهورين الذين لا يستطيعون أن يرفعوا أصواتهم حتى بالاستغاثة!
انني لاحظت في اجتماعاتي الكثيرة به أنه يذكر دائماً أيام السجن، يذكر ما كان يلاقيه من قهر وإذلال وعسف. أحياناً كانت عيناه تدمعان وهو يتذكر هذه الأيام!
وقد وصلتني آخر أخبارك حتى يوم 4 أكتوبر. وفهمت أنك غير متفائل. لأول مرة تعطي التفاؤل إجازة! ولاحظت أن سعيد متشائم، وأنه أعلن هذا التشاؤم في تلفزيون لبنان، وفي مقال في الصياد. وأعتقد أن سبب تشاؤمك أنك أشبه بالرجل الذي يحمل شيكاً على بنك، وأفلس البنك فجأة! وأنا لم أثق في يوم من الأيام في الشيكات المؤجلة انها عندي مثل شيك بلا رصيد! ولعلك سوف تتعلم من هذا أن الشيك المؤجل لا قيمة له. وأن الشيك الذي له قيمة هو الذي يستحق الدفع فوراً!
وزعت الشبكة هذا الأسبوع. وقد فاتتني حلقة من القصة التي تنشرها. وسوف أحاول الحصول على هذه الحلقة. اعجبتني جداً قصيدة نزار قباني عن الرئيس جمال عبدالناصر. أنها في رأيي أحسن قصيدة نظمت في هذه المناسبة حتى الآن. وان كانت طبعاً لم ترض البعض لأنه قال ان الرئيس هو آخر الأنبياء. ولاحظت تحسيناً في تحرير الصياد، حتى تصورت ان انقلاباً حدث في التحرير.
سررت بإقالة الفريق حردان التكريتي نائب رئيس الجمهورية العراقية. كنت أحس أنه جزار. أشعر أنه المسؤول الأول عن حمامات الدم في العراق. أرجو أن يختفي معه البطش والإرهاب الذي طبع الحكم البعثي بلون الدم الأحمر! وعزله عن الأمة العربية. ولعل حزب البعث يجعله الشماعة التي يعلق فيها كل ما تردى فيه من أخطاء وجرائم!
ولعلك قرأت نتيجة استفتاء رئاسة الجمهورية. ان هذه النتيجة أراحتني. أشعرتني أنني كنت على في تنازلي بأنور. كان في استطاعته بكلمة واحدة منه أن يجعل النتيجة 100% لو كان يريد أن يكون"الزعيم الأوحد". لو كان يريد أن يكون الرجل الحديدي. ولكن سماحه بأن يعلم العالم بأن مليوناً من الناخبين لم يشتركوا في انتخابه. وأن 750 ألف ناخب قالوا له"لا"يدل على أننا نبدأ مرحلة جديدة، يستطيع 750 ألف ناخب أن يقولوا"لا"بغير خوف ولا تردد. هذا شيء هام جداً. لا يجوز أن يأخذه المراقب السياسي ببساطة. ان معناه أن أنور السادات لا يريد أن يفرض نفسه بالقوة. لا يريد ان لا يرتفع صوت إلا صوته. أكاد أقول ان هذا الاتجاه خطوة جديدة في الطريق الصحيح. ولا أتصور ان خطوات أنور ستكون سريعة، أو متلاحقة، ولكن أتصور انه يشعر بضخامة المسؤولية، ويريد فعلاً أن يشرك الشعب في تحملها معه. وهذا اتجاه صحيح في الطريق الصحيح. وأعرف أن البعض لا يرحبون بهذا. يتصورون ان من الممكن أن يتكرر جمال عبدالناصر بالحرف الواحد. وهذا شيء مستحيل. فالعباقرة لا يتكررون. القلم عندما ينتقل من يد الى يد يتغير خطه. سائق السيارة اذا تغير يجيء سائق آخر يقودها بطريقة مختلفة. طريقته في فشل عملية القيادة. طريقة في الفرملة طريقته في ضرب الكلاكسون. كل هذا سوف يختلف باختلاف قائد السيارة. فطريقة عصمت ايتونر اختلفت عن طريقة مصطفى كمال أتاتورك. طريقة خلفاء ستالين اختلفت عن طريقة ستالين وقد حضرنا خلافة النحاس لسعد زغلول. ورأينا ان النحاس كان يحاول أن يقلد سعد في كل شيء، ومع ذلك اختلفت طريقة كل من الزعيمين. وكذلك حدث نفس الشيء عندما خلف محمد فريد الزعيم مصطفى كامل. هذا مع أنني على ثقة أن أنور سوف يسير في طريق جمال عبدالناصر. لن يفرط في شبر واحد من ارض الوطن. لن يقبل هدنة مع الاستعمار. لن يخرج قيد أنملة على مبادئ الثورة. وأنه سيكون بنفس الإصرار على عزة مصر وكرامتها.
لقد كان كثيرون يتصورون ان أنور لن يجرؤ على إيقاف اطلاق النار. تصوروا أنه أضعف من أن يفعل ذلك. ولكن الذي حدث انه أعلن في شجاعة عن استعداده هذا في وسط معركة انتخابية كان يجب أن يظهر فيها في صورة المتطرف جداً. ولكنه مشى في الطريق بكل شجاعة، وبغير تردد. هذه الشجاعة في رأيي يجب أن تجعل الذين يترددون في إعطائه قيمته الحقيقية في مراجعة أحكامهم.
إنني شـــخصياً تمنيت لو حصل أنور في هذا الظرف العصـــيب على مائة في المائة من الأصوات. تمنيت أن يقول كل الشعب نعم. ولكني شــعرت بعد إعلان النتيجة بأنها أعظم من مائة في المائة. واعتقد ان العالم سوف يصدق هذه النتيجة أكثر كثيراً مما كان يصدقها لو كانت مائة في المائة.
إنني لاحظت في المدة التي عرفت فيها أنور انه ليس معزولاً عن الشعب. كانت الناس تقول له ما كانت لا تجرؤ أن تقوله لأي عضو من أعضاء مجلس الثورة. ولقد أمضى في الحركات الشعبية أكثر مما أمضى في الحركات داخل الجيش. وهذا يجعلني أتفاءل بأنه سوف يضع إصبعه على نبض الجماهير. وسوف يهتم كثيراً بمشاكلها. وسوف يحاول فعلاً ان يرفع شعار سيادة القانون. وأن تدريجياً سوف يشعر بأنه يجب أن يفعل شيئاً في المسجونين السياسيين وفي المعتقلات. ولكن من طبيعتنا أننا مستعجلون.. نريد أن يفعل الحاكم كل شيء في وقت واحد. وطبعاً الناس معذورة في استعجالها... فهذا الشعب يحمل فوق رأسه مظالم ألوف السنين. ويريد أن يخلصه منها الحاكم في 24 ساعة.
لا أريد أن أضع على عيني منظاراً وردياً، في الوقت الذي يغطي كثيرون عيونهم بنظارات سوداء. ولكن مؤمن بأن الحياة يجب أن تسير. مؤمن أن الشعب المصري هو الذي يخلق زعماءه، وليس الزعماء هم الذين يخلقون الشعب المصري. مؤمن أن هذه الكارثة سوف تعلم الدول العربية أن تمشي على أقدامها، بعد أن تعودت طوال 18 سنة أن يحملها عبدالناصر فوق كتفيه! الأطفال لا يتعلمون السباحة إلا إذا ألقيناهم في البحر.. وأنا أشعر أن هذا الشعب سيعوم... ولن يغرق أبداً!
كم أتمنى أن نبذل من العرق ما بذلناه من الدموع. أن تعلو أصوات المصانع على أصوات النحيب والعويل. إنني أفضل أن تنشئ كل دولة عربية فرقة ميكانيكية في جيشها اسمها فرقة جمال عبدالناصر، على ان تقيم حفلات التأبين، وتطلق اسمه على الشوارع والميادين.
وفي الختام أضمك الى صدري وأقبلك وابعث بقبلاتي وأشواقي الى خيرية وفاطمة ومنى وريتا والى اللقاء القريب بإذن الله.
***
< الرسالة -3-
24 اكتوبر سنة 1970
أخي العزيز
عرفت أخبارك حتى يوم 11 اكتوبر. وأعجبتني اقتراحات لما يجب أن تفعله بلادنا، وهي اقتراحات عظيمة أتمنى لو أخذنا بها. ولكن في دهشة كيف أنك لم تقترح الإفراج عن المعتقلين والعفو عن المسجونين السياسيين. هذا أول ما يجب أن يفكر فيه أي رئيس جديد. ولكن يظهر أن المفكرين ينسون الذين يعيشون في قبور الأموات! الأصوات تطالب بتحسين العلاقات مع المملكة السعودية. ولا أحد يرفع صوته ويطالب بالإفراج عن المسجونين السياسيين! ولقد كنت أتمنى أن يقوم الرئيس عبدالناصر نفسه بهذه الخطوة. وأعتقد أنه لو عاش لأقدم عليها. ولكن الأزمات المتتابعة ومرضه حالت دون التفكير في هذه المسألة. ومن عجبي أن صلاح نصر وشمس بدران اللذين لفقا هذه القضايا في نفس السجن الذي فيه ضحاياهم! ولم يقل أحد كلمة واحدة بأنه ما دام المحققون مجرمين فلا بد أن الضحايا أبرياء!
ان الرئيس أنور السادات وعد الشعب بتنفيذ بيان 30 مارس. وما هو بيان 30 مارس. هو تنفيذ سيادة القانون. ومعنى ذلك أن لا محاكم استثنائية ولا تهم استثنائية ولا أحكام استثنائية. والطبيعي إذا حدث هذا فعلاً أن تعاد محاكمة الذين حوكموا محاكمات استثنائية. وصدرت قوانين خاصة تحرمهم من الطعن في إجراءات التحقيق. تحرمهم من حقوق المواطن العادي من الاستئناف أو الطعن أمام محكمة النقض والإبرام. وقد لا تكون من المصلحة الآن إثارة هذه القضايا وما جرى فيها. ولكن لا أقل من خروج هؤلاء الأبرياء من سجونهم. وإنني أعتقد أن من مصلحة البلد ومن مصلحة الرئيس الجديد أن يبدأ عهده بفتح أبواب السجون والمعتقلات. ولقد تحرك كثيرون من المسجونين السياسيين وكتبوا الى أنور يهنئونه ويطالبوه بالإفراج عن المسجونين السياسيين. أما أنا فلم أفعل شيئاً ولم أطلب شيئاً.
وقد كانت خطتي طوال السنوات الماضية أن لا أتحرك ولا أفتح فمي، وكنت أصدق شعار أن الفجر على الأبواب، ولكن وقد مات الشاهد الوحيد على براءتي. الذي كنت أتمنى أن يتكلم لأنه يعرف انني بريء من هذه التهم الظالمة... الآن فقط أنا مضطر أن أتكلم بعد أن صمت خمس سنوات كاملة وبدأت سنة الصمت السادسة!
لقد كنت أتصور أن الصحافيين العرب سوف يتحركون ليطلبوا الإفراج عني! ولكني أعذرهم فهم مشغولون بتأييد استمرار"العلاقة الخاصة"!
وكنت أتصور أن كل صحافي أجنبي سوف يحضر الى القاهرة، سوف يتحدث عني، وسوف يطالب بالإفراج عني. كنت أتوقع أن تكتب وأنت في كل بلد فيه حرية تطالب بالإفراج عن صحافي من أكبر الصحافيين في العالم أو تطالب له بمحاكمة عادلة محاكمة علنية أمام محكمة عادية. ولكن كبار صحافيي العالم لا يهمهم فيما يبدو زميل لهم مسجون ظلماً بقدر اهتمامهم بالحصول على حديث صحافي!...
وأخشى بأن الطريقة التي تصرفنا بها منذ أول الأمر كانت خطأ. لقد تصورنا إنه إذا صمتنا فسوف تتحرك ضمائر من ظلمونا! وسكتنا... وسكتت الضمائر معنا!
وأعتقد أنك تشعر الآن بأن البيت الذي بنيته من الأماني والتفاؤل قد انهار فجأة في لحظة واحدة. ولكني أرى أن نبدأ من حيث انتهينا. لقد وعد الرئيس جمال عبدالناصر بالإفراج عني. فيجب أن يذهب سعيد الى انور السادات ويبلغه هذا الوعد الذي قطعه الرئيس على نفسه. وقد كان هذا الوعد أمام شاهد. ولا أتصور أن هذا الشاهد سوف يأبى أن يقول ما سمعه من الرئيس أو ينكر شهادته. أما إذا انتظرتم الى الوقت المناسب فلن يجيء الوقت المناسب. إذا كانت هناك وعود فعلاً فيجب أن يعلمها الرئيس الجديد. ويجب أن نعلم رأيه فيه. أما إذا لم تتحركوا فوراً، فسوف نعود الى الحلقة المفرغة... وسوف ندخل في السنة العاشرة من سنوات التفاؤل والفجر الذي على الأبواب!
وإذا كان في هذا الحديث الآن بعض الإحراج، فلا مانع أن توكلوا محامياً يجري وراء هذه المسألة، وتناولوه على أن يتولى هذا العمل. وقد حدث مثل هذا في قضايا مماثلة، ونجحت المساعي، وخرج المسجونون. إنني لا أطلب شيئاً سوى العدل. أطلب أن ينفذ بيان 30 مارس في ما يختص بي. تطبيق هذا البيان معناه أن لا يحاكم مدني أمام محكمة عسكرية. معناه أن أحاكم أمام محكمة جنايات عادية. معناه أن يستطيع المحامي أن يفتح فمه أمام القضاة ولا يهدد بأن يوضع في السجن إذا فتح فمه! لقد قال الدكتور محمد عبدالله المحامي المشهور إنه لو عرضت قضيتي أمام محكمة عادية، القاضي فيها تلميذ في كلية الحقوق، فسوف يصدر على الفور حكماً ببراءتي!
إنني لا أريد أن تربط مسألتي بمسألة الشرق الأوسط! وإذا كانت الأنباء التي لديك أن هذه المسألة سوف تحل في 90 يوماً، فإن خبرتي السياسية تؤكد أنها تحتاج الى سنوات وسنوات! وأرفض أن تربط مسألتي بمسألة إعادة العلاقات مع الولايات المتحدة. فالذين يقولون هذا يريدون أن يثبتوا عليّ تهمة لم يجدوا دليلاً واحداً عليها!
يجب أن تكون لدينا الشجاعة أن نعترف الآن بأننا أخطأنا اختيار الطريق الذي يوصلنا للحصول على حقنا من العدالة. الإصرار على الخطأ هو جريمةّ!
يكفي تجارب الخمس سنوات الماضية. وإذا كنا لا نعترف بالفشل بعد كل هذه السنوات، فكم نحتاج من السنوات لنقتنع أننا كنا ندور حول أنفسنا ونتوهم أننا نتحرك!
إن اعتزازنا بكرامتنا، وإيماننا ببراءتنا، هو الذي جعلنا نقف شبه جادين، مؤملين أن تظهر الحقيقة في يوم من الأيام، نصدق ما نتمنى أن نصدقه، إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين... وأنت وسعيد لدغتما من نفس الجحر مئات المرات ولا تريدون أن تصدقون أنها لدغة ثعبان! ولكن أشعر هنا بالسم!
انني ما زلت آمل أن تصل الى أذن الرئيس الجديد أصوات الأبرياء، وأنين المظلومين. لا أعتقد أن أحداً يستطيع أن يمنع هذه الأصوات أن تصل إليه. أصوات الأطفال الذين حرموا سنوات طويلة من آبائهم. يتامى وهم غير يتامى! أصوات الأمهات المفجوعة وهي ترى أولادها يذوبون وينصهرون ويداسون بالأقدام. أصوات الزوجات أشباه الأرامل، أو أنصاف الأرامل! ان كثيرين من أطفال وزوجات المسجونين السياسيين كتبوا الى الرئيس الجديد خطابات تنزف دماً وتقطر دموعاً عن حالتهم وعذابهم وجهنم التي يعيشون فيها. وأرجو أن تؤدي هذه الحركة الى أن يصل هذا الأنين الى أذن الرئيس الجديد. فإنني لا أشك أنه مؤمن في صميم قلبه بالعدالة والأنصاف. لقد ذاق السجن. عرف الظلم. عاش في قبور الأحياء...
إنني أرى أن الصلوات لا تكفي! الله طلب منا أن نصلي ونعمل في وقت واحد. والحديث عن الفجر جميل جداً. ولكنها عملة لا تصرف داخل الزنزانة!
إنني أعتقد أن الحركة فيها بركة!... أعتقد أن الظروف إذا لم تسمح بأن تأخذ العدالة مجراها، فقد تسمح بالإفراج، وإذا لم تسمح بالإفراج في الوقت الحالي، فهي تسمح بنقلي الى مستشفى...
وإنني لا أوجه لوماً أو عتاباً على الماضي. فإنني أعرف أن على المرء أن يسعى، وليس عليه الوصول الى مبتغاه! ولكن أعتقد أنه يجب أن نعترف الآن، بعد خمس سنوات، إننا كنا نتحرك في فراغ! وأن الشيكات التي في أيدينا أصبحت كلها شيكات بلا رصيد!... ولهذا أريد أن نبدأ مرة أخرى! أريد أن لا نيأس.
إننا لم نجد في أيدينا بعد كل هذه السنين إلا الهواء!
أخشى أن تتصور انني أنفجر بعد صمت دام أكثر من خمس سنوات. ولكن أشعر برغبة أن أكلمك بكل صراحة وقد مرت من السنة السادسة ثلاثة أشهر! لقد زارني هيكل في سجن الاستئناف وأبلغني باسم الرئيس انني لن أدخل السجن. بل قال إنني سأنقل الى مستشفى عبدالله الكاتب أبقى فيها مدة ثم يفرج عني... وبعد ذلك دخلت الى ليمان طرة! وجاءني هيكل في ليمان طرة وقال لي باسم الرئيس أيضاً إنني لن أبقى في الليمان سوى شهر واحد، أنقل بعده الى مستشفى خاص! وجاءني مرة أخرى وقال لي إن الرئيس قرر العفو عني، واختار لي العمل الذي أقوم به، ولكن حدث العدوان، في 5 يونيو، ولهذا لم يفرج عني في 23 يوليو كما كان مقرراً! وجاءني مرة أخرى ليؤكد لي أن مسألة الإفراج عني أصبحت مسألة أسابيع قليلة! وقد مر على هذا الوعد الأخير أكثر من عام أو عامين!
ولم ينفذ أي وعد من هذه الوعود! بل على العكس صدرت الأوامر بحرماني من حق السجين العادي! وانتقل وزير الداخلية خصيصاً الى الليمان لينقل مدير الليمان لأنه سمح لي في الزيارة بجبن روكفور! وحرمت من الصحف الأجنبية التي كنت أقرأها. وحرمت من السجائر التي كنت أدخنها. وحرمت من طعام السكر والتفرش!
وكان آخر الوعود هو وعد سعيد بأن معاملتي سوف تتغير في خلال 24 ساعة! ومضت الأيام، والأسابيع والشهور، والمعاملة تزداد سوءاً!
وأظن أن من حق سيدنا أيوب بعد كل هذا أن يقول إننا كنا نمشي في طريق مفروش بالوعود التي لا تتحقق!
انني آسف أنني أتعبتك معي! ولكن أعتقد أنك سوف تتعب أكثر إذا مضيت تمشي في نفس الطريق الذي سرت فيه خلال السنوات الماضية! ولهذا فإنني أفضل ألف مرة أن أقبل شيكاً بمليم يكون الدفع فيه فوراً، على أن أقبض شيكاً بمليون جنيه بلا تاريخّ
وإذا كنت لا تجد أي فائدة في أن لا تتحرك... فأرجو أن تخبرني... لا تتركني أنبح في الظلام!
إنني لا أطلب شيئاً إلا حق في العدالة...
حقي في محاكمة عادلة!
حقي في بيان 30 مارس!
وإنني أخشى أن نكون نرهق سعيد بأمرنا أكثر مما يجب. فيكفي محاولاته العديدة. ويكفي كل ما فعل من أجلي وإنني سأذكر ما حييت ما رأينا منه من أخوة صادقة نبيلة.
وسوف يحتاج سعيد الى وقت لتكون بينه وبين الرئيس الجديد هذه الصداقة القوية الحميمة، ومع ذلك أعتقد أن الحديث مع الرئيس الجديد الآن سيكون أسهل جداً الحديث معه بعد فترة طويلة.
سلمتني المصلحة هذا الأسبوع خطابك 35 المؤرخ في 7 سبتمبر وخطابك 37 المؤرخ في 20 سبتمبر وخطابك 38 المؤرخ في 27 سبتمبر.
ولقد أعجبتني الفقرات التي لخصتها من كتاب THE SENSOUS WOMAN وأرجو أن ترسل لي هذا الكتاب، وإذا لم تجده في لندن، فيمكن ان تشتريه من بيروت أو من باريس! ولعلك سوف تقول إن اهتمامي بهذا الكتاب دليل على انني متفائل، وأعتقد أن الفجر قريب! والواقع أنني متفائل فعلاً. وأعتقد أن المنطق والمعقول هو أن تشرق الشمس.
وقد سررت كثيراً من اختيار الدكتور فوزي رئيساً للوزارة. وقد أراح هذا الاختيار الناس. وكنت أتوقع أن فوزي سوف يحتفظ بكل الوزراء، برغم أن كثرين توهموا غير ذلك، وقد صدقت وجهة نظر.
وأعتقد أن هيكل أحسن بالاستقالة. وقد كنت ضد دخوله الوزارة. فإنني لا أزال أؤمن أن منصب الصحافي أكبر من منصب الوزير.
وأشكرك كثيراً لإرسالك الألوان فقد وصلت فألف شكر. وكنت طلبت منك بعض فُرش الرسم وذكرت لك أرقامها، فأكون شاكراً لو تذكرت أن ترسلها.
وفي الختام أقبلك وأضمك الى صدري، وأشكرك على خطاباتك الممتعة التي تمكنني من أن أطل منها على العالم، فأرى كل ما يجري فيه. إن هذه الخطابات هي متعة حقيقية...
وقبلاتي الى خيرية وفاطمة وريتا ومنى
والى اللقاء القريب
بإذن الله
> الرسالة -4-
17 - 10 يوليو سنة 1971
أخي العزيز
بقيت طويلاً أنتظر خطابك المؤرخ في 20 حزيران يونيو! كنت أنتظر وبـــفارغ صبر لأعرف أنك خطوت خطوة استـــئناف الكــتابة التي حدتني عنها في خطاب 13 يونيو وقلت أنها ستتم بعد أسبوع واحد!... ومضت الأيام ولم يصلني الخطاب المنتظر!
ثم سمعت ان الخطاب وصل. وانه اختفى في جيب المدير! وعلمت أن المدير وجد فيه تفصيلات لذيذة، مثيرة عن رحلة كريمة فاتنة المعادي الى لندن. وقد اهتم بهذه المسألة اهتماماً خاصاً. فكان يدور على أصدقائه الكبراء والعظماء ويخرج لهم الخطاب من جيبه ويقرأه لهم، ليثبت لهم انه عليم ببواطن الأمور! وهكذا تأخر ارسال هذا الخطاب الى المصلحة أكثر من أسبوع... ثم فوجئت اليوم بالمدير يأمر أن أطلع على هذا الخطاب مع أن المفروض أن لا أطلع عليه إلا بعد شهر كامل! وقد دهشنا لهذا العطف السامي، الذي لم أتعوده خلال ست سنوات! ولا أظن أن المدير اهتم أن أعرف تفاصيل ما فعلته فاتنة المعادي بالعشرة آلاف جنيه استرليني عملة صعبة التي حولها لها سامي شرف لتنفقها في أسبوعين، وتنفق مثلها وتطلب من رجال السفارة المصرية تسديدها، وقد يدهشك أن تعلم أن جميع ضباط البوليس خصم من بدلهم ثلاث جنيهات شهرياً بسبب الحرب، فكأن كريمة فاتنة المعادي انفقت في نصف شهر ما ينفقه 3300 ضابط بوليس في شهر كامل!
قلت لنفسي أنه لا بد أن هناك حكمة أخرى من حرص المدير على اطلاعي على الخطاب. ووجدت في نهاية الخطاب أنك تقول أنك تتفائل وتؤمن أن شهر يوليو سيحمل لنا أخباراً تسعدنا، وتريح أعصابنا، وتسدل الستار على الآلام الطويلة التي احتملناها، وتطلب مني أن اتفاءل معك وأن أمد لآخر مرة في حبال صبري - وتضع خطاً تحت"آخر مرة"وتطلب مني أن أتأكد أن الفرج الذي طال انتظارنا له أصبح على بعد أسابيع قليلة، ويظهر أن المدير فهم من هذا أن لديك أخباراً مؤكدة أنه سيتم الإفراج عني في شهر حزيران يوليو، ولهذا سارع المدير بإبلاغي البشرى! وقد دهشنا من تصرف المدير، فالمفروض أنه مخضوض باشا، ولهذا ذهلت عندما تصرف هذا التصرف الجريء!!...
وقد حدث في الشهر الماضي شيء غريب؟ فبين المسجونين هنا جندي سابق من المخابرات العامة اسمه محمود الحلو. وفوجئت به يطلب مندوباً من المخابرات العامة ليبلغها أنني أنا وبعض زملائي نقوم بطبع منشورات ضد الحكومة! ودهشت أن يختلق هذا المسجون هذه الحكاية التي لا أساس لها من الصحة! وقلت لنفسي لا بد أن عندي"اختلاق أبيل"- على وزن السكس أبيل - فلا يكاد يراني أحد حتى يلفق لي تهمة! وأكثر ما أذهلني أنني لم أسئ الى هذا الشخص، وأسلمت أمري الى الله!
وإذا بالإدارة تحقق في هذا الاتهام الظالم وتكتشف أنه أراد به ابتزاز سجائر من المسجونين، وأراد به أن يلفق قضية متصوراً أن عهد رئيسه السابق صلاح نصر لا يزال مستمراً، إذا اختلق واحد منهم قضية تلقى مكافأة، في الحال! وإذا بالمصلحة تتابع التحقيق، ويتبين لها كذبه فيصدر قرار بنقله من الطابق الرابع الى الطابق الأول الذي يودع فيه المشاغبون؟ كل هذا وأنا لم أتحرك ولم أفتح فمي! وفوجئت بهذا الشاب بعد ذلك بأيام يكتب من تلقاء نفسه اعترافاً بخط يده، ويقدمه لمأمور أول اللجا يقول فيه انه يعترف أنه كذب وأنه لفق عليّ وعلى زملائي تهماً نحن أبرياء منها، وأن الشيطان هو الذي جعله يفعل ما فعل! ويبدأ تحقيق من جديد، ويسأله المحقق ما الذي جعله يعدل عن اتهاماته... فيقول في التحقيق أنه يريد أن ينام. ان ضميره يؤنبه طوال الليل لأنه ظلم أبرياء وافترى عليهم، وأنه اعترف بما فعل لأنه يريد أن ينام!
لم أكن أتصور أن هذا ممكن أن يحدث. لم أتصور أن الله يقف معي كما وقف في هذه الأزمة ويمنع النوم عن رجل لأنه ظلمني! وتمنيت أن يجيء يوم يعترف فيه صلاح نصر وسامي شرف وعلي صبري وشعراوي جمعة مثل هذا الاعتراف كتابة كما اعترف محمود الحلو هذا!
أقشعر بدني وأنا أقرأ فضائح العصابة ومحاسبيها في لندن! اننا في كل يوم نسمع عن فضائح جديدة يشيب من هولها الولدان. وسيجيء يوم تعرف الدنيا حقيقة العصابة التي حكمتنا. ومن الأسف أن صحف دار الصياد تكتفي بالتفرج من بعيد! وقد خسرت الصياد كثيراً بموقفها وبخاصة عندما قالت عن أعضاء العصابة الذين اذلّوا هذا الشعب وداسوا عليه بالأقدام، وحاولوا أن يجعلوه"يلبس الطرح"انهم وطنيون مخلصون! بينما ان الحوادث لم تتردد أن تنشر بعض جرائم هذه العصابة. ويكفي أن الحوادث نشرت أن كل القضايا التي قدمها صلاح نصر ملفقة!
وقد أسفت وحزنت للموقف المذري الذي وقفه سليم اللوزي مع محمود الدرة، وإذا كانت رواية محمود الدرة صحيحة، فهي صفحة سوداء في تاريخ صحافة لبنان.
لقد فرحت جداً بتعيينات مجالس ادارات الصحف، لو كنت أنا الذي اختار أعضاء مجلس ادارة أخبار اليوم لما اخترت أحسن مما عينهم أنور السادات. وقد فرحت جداً بتعيين موسى صبري وعبدالرحمن الشرقاوي، فمعنى تعينهم ان الرئيس راض عن الحملة التي قاما بها من أجل الحرية وضد الإرهاب. وهذا شيء عظيم جداً. وزاد من فرحي أنه جرى في اليوم نفسه انتخاب أعضاء الاتحاد الاشتراكي في أخبار اليوم فإذا بالذين ينتخبهم الناخبون هم جميعاً الذين اختارهم أنا إذا كلفت بالترشيح! اختفت أسماء الأفادين والنصابين والانتهازيين.
وقد أسفت"للتنزيل"الذي حدث لبهاء، والهبوط بأمين رئيس مؤسسة الهلال الى رئيس مؤسسة روز اليوسف. واعتقد أن هذا التنزيل نزل على بهاء نزول الصاعقة وفهمت أنه رفض تولي المنصب الجديد، وتوسط هيكل في تعيينه محرراً في الأهرام. وقد سعدت للقرار الذي صدر بأن المحررين والموظفين ينتخبون اثنين منهم من مجلس الإدارة، وينتخب العمال اثنين منهم. وقد بح صوتي طوال السنوات الماضية من أجل هذا القرار بغير جدوى. وبذلك لا يتغاضى سعد عبدالعليم عن أخطاء الطبع في سبيل الحصول على أصوات العمال! وأرجو أن يوفق أنور الى اختيار رئيس مجلس إدارة صالح لمؤسسة روز اليوسف. ولقد بدأت أتفاءل من مستقبل الصحافة، ومن حذف أسماء الصحافيين من القوائم السوداء عند سفرهم الى الخارج. وكل هذه خطوات طيبة في الطريق الصحيح.
من الغريب أن الناس جميعاً لاحظت ما لاحظت أنت عندما نشرت أخبار اليوم ان الجهاز السري كان يضرب كل شخص يكون موضع ثقة الرئيس عبدالناصر، وأنهم كانوا يكتبون تقارير زائفة ويحورون الشرائط والتسجيلات!
وفي اليوم نفســـه الذي علمت به بأخبارك حتى 24 يونيو، عرفت أخبارك حتى يوم 28 يونيو! وقد أسعدني جداً أن أسمع رأيك في الفصول الثلاثة، وأتمنى أن يسعدك الباقي! وقد تتبعت باهتمام الموضوعات الصحافية الممتازة التي تنشر في الديلي ميردر والديلي ميل والسان... وتمنيت أن تعود صحفنا الى الاشتغال بالصحافة! وسرني كثيراً قولك أنك ستكون في بيروت في أوائل يوليو. وأسعدني ما سمعت أن مقابلات أنور السادات وفيصل كانت ممتازة جداً، وأن هناك تجاوباً وانسجاماً بين الاثنين.
وسأبلغ زيزي أنك قمت بتنفيذ كل أوامرها!
وأسعدني قولك في خطابك الأخير أنك متفاءل بأن يوم الفرج أصبح"قريباً جداً".
وانني مهتم بصحتي، ومهتم بأن تستقبلني البنطلونات في الزمالك استقبالاً شعبياً!
انني مثلك أتطلع الى السماء. أتمنى أن يحقق الله كل أخبارك السارة... ان يقترب اليوم الذي أضمك فيه الى صدري، ونمشي معاً فوق السحب من جديد!
لقد كان من أجمل الأخبار التي سمعناها هذا الأسبوع أن الرئيس أمر بالإفراج عن اللواء محمد نجيب رئيس الجمهورية السابق، بعد أن كانت إقامته محددة لمدة 17 سنة! ولم تنشر الصحف الخبر، وإنما نشرت أن اللواء أركان حرب محمد نجيب ذهب الى القصر الجمهوري في القبة وقيد اسمه للشكر - اننا في كل يوم نرى علامات طيبة. الشعب يأمل كثيراً بأنور السادات. الناس كلها تتوقع أنه سيفرج عن المسجونين السياسيين في 23 يوليو. وأتمنى أن يحقق أنور للشعب كل أمانيه وأحلامه.
وفي الختام أضمك الى صدري وأقبلك والى اللقاء القريب بإذن الله.
****
> الرسالة -5-
17 يوليو سنة 1971
أخي العزيز
بعد أربعة أيام سأدخل السنة السابعة من سنوات سجني! وقد مضت حتى اليوم أكثر من ست سنوات منذ أن افترقنا. ولعلك تذكر أنني عندما ودعتك انفجرت ببكاء لم أعرف مثله طوال حياتي. أذهل المئات الذين كانوا يودعونك. فقد كنت أشعر في تلك اللحظة بشعور غريب لا أعرف سببه أن هذا وداع بلا لقاء! ويومها كتبت في أخبار اليوم كلمة تحت عنوان"كلمة من المحرر"عن فراقنا أبكت كل من قرأها! ويظهر أن الله كشف عني الغيب في هذه الكلمة، فرأيت ما لم يتصور أحد أنني سأراه! ولا أعرف ما الذي يجعلني أتذكر هذا المقال الآن! فأنت تؤكد لي أن تفاؤلك أصبح بلا حدود. وأنت تؤكد لي في آخر خطاب أن المسألة أصبحت قريبة جداً. وأشعر برغبة لا حدّ لها في أن أصدقك، ولكن لا زلت أتأرجح بين الفجر الذي تبشرني به وبين الظلام الذي أعيش فيه. ولقد سررت أنك الآن في بيروت، وخيل اليّ أنك اقتربت لتشمّ أخباري! ولتستطيع أنفك الصحفية أن تشم من بيروت وأحسن مما تشم من لندن. وأعتقد عندما يصل اليك هذا الخطاب سوف تعرف على وجه التأكيد اذا كنت لا أزال في المرجيحة، أم تركت المرجيحة، أم وقعت من المرجيحة!
ان التفاؤل يملأ الجو في هذا المكان. أخبار البشريات تتوالى! ولكن خبرتي الصحفية تجعلني أفرق كثيراً بين"الأماني"و"الأخبار"! وكل ما أسمعه حتى الآن ليس أكثر من أماني وتمنيات، ينقصه المصدر الموثوق به الذي يمكن الاعتماد عليه في مثل هذه الأنباء. ومنذ أيام زار السجن السكرتير الأول لسفارة اليونان في القاهرة وقابل القبطان نقولا ? وهو قبطان ناقلة بترول يونانية حكم عليه بالسجن 15 عاماً بتهمة التجسس لاسرائيل وأمضى منها عاماً واحداً في السجن. وأبلغه أن الرئيس أنور السادات أصدر عفواً عنه، وسيفرج عنه غداً. وسأل السكرتير الأول عني، وقال إن معلوماته أنه سيفرج عني قريباً جداً! ولكن لا اطمئن الى أخبار اليونانيين... فأخبارهم دائماً مصدرها الجرسونات!! ثم أعود الى تأكيداتك القاطعة، وأقول لنفسي أنه لا يمكن أن تكون اعتمدت فيها على الإشاعات التي تملأ القاهرة، التي لا تزيد عن ان تكون تمنيات. ولا بد أن لديك تأكيدات لا تقبل الشك، وأعود فأطمئن الى هذه التأكيدات، وأعيش عليها، وأعد الأيام في انتظار تحققها، ولا أتصور أن تكون مخدوعاً هذه المرة. فقد شعرت وأنا أقرأ خطابك أنني أقرأ أخباراً مؤكدة لا أقرأ أحلاماً وتمنيات!
والناس كلها تقول إن الرئيس سيعلن أخباراً سارة للشعب في 23 يوليو، وتجمع أن هذه الأخبار السارة هي الإفراج عن جميع المسجونين السياسيين. وبعض الناس يؤكدون أن الرئيس وقّع القرار! وبعضهم يقول إن القرار أُعد ولا ينقصه الا التوقيع. وذهبت أسرة زميل لنا الى محمد أحمد وزير القصر وقدمت له التماساً بالإفراج عن ولدها. فقال الوزير إنه لا داعي لهذا الالتماس لأن الرئيس قرر الإفراج عن جميع المسجونين السياسيين، لكن أستقبل كل هذه الأنباء بتحفظ شديد، وأخشى أن يكون المقصود منها رفع الروح المعنوية لبعض المسجونين الذين هم في حالة انهيار شديد، بسبب القلق والحيرة، وعجزهم عن معرفة الأخبار الصحيحة. وقيل في رواية أخرى إن الإفراج سيكون على ثلاث دفعات، دفعة تخرج في 23 يوليو لمناسبة عيد الثورة ودفعة تخرج في سبتمبر لمناسبة الدستور، وتخرج الدفعة الأخيرة في نوفمبر لمناسبة العيد الصغير. وكل هذه الأخبار بفلوس اليوم، وبعد أقل من أسبوع ستصبح مجاناً!
ولم يصلني منك خطاب هذا الأسبوع. وأعتقد أن الخطاب سوف يكون من بيروت. وأنني في أشد الشوق لأن أعرف ماذا فعلت في بيروت. ومصيبتي الكبرى أن كل مسؤول في السجن يقع في يده خطابك يريد أن يقرأه ويستمتع به، ويقرأه لزوجته أو لحبيبته... وبهذا يتأخر وصول الخطاب إليّ! ويجب أن تطمئن أن لك قرّاء ومعجبين من المشرفين على السجن وفي مصلحة السجون وغيرها، ينتظرون خطابك كما كانوا ينتظرون فكرة في كل صباح في الأخبار!
وأنا لا أعرف أين ستقرأ هذا الخطاب؟ هل ستقرأه في بيروت، أم سوف تقرأه عند عودتك من لندن! وهل ستقرأه وأنا لا زالت في السجن أم ستقرأه وأنا أستمتع بالحرية؟!
لقد أرسلت ليّ ريتا هذا الأسبوع خطاباً مطولاً تعتذر فيه عن تفكيرها الخاطئ، وتقول إنها اكتشفت أنها كانت"عبيطة"و"هبلة". وقالت إنها ستدخل جامعة القاهرة، وإنها لن تعود الى لندن، وإن هذا قرارها النهائي! ولا أعرف حتى الآن هل هي صادقة في توبتها، أم انها تريد أن تضحك"عليّ"! ومع ذلك فقد قبلت اعتذارها لكن لا أسد أمامها باب التراجع. ولكنني وافقت فقط على السفر الى لندن بعد ظهور نتيجة الثانوية العامة في آخر هذا الشهر. ومرة أخرى أشكرك على هذا الحزم الذي أظهرته في هذه المسألة.
تسلمت من المصلحة هذا الأسبوع خطابك 21 ? المؤرخ في 13 يونيو الذي قلت فيه"وأخيراً قررت أن أذكر ولاة الامور بقلمي السجين. فقررت أن أكتب وعاد أصدقاء أعزاء يلحون عليّ ان أنتظر فترة قصيرة أخرى. وقد مضى على هذه الفترة ما يزيد على اسبوعين وسأنتظر اسبوعاً ثالثاً، وبعدها سأكتب، وأنا واثق أن كتابتي ستذكر ولاة الامور بالقلم السجين، وبكل سجين آخر". ونحن الآن في 17 يوليو، أي مضى حوالى خمسة أسابيع على نهاية المهلة ولم نكتب شيئاً! وخطاباتك التالية لم تذكر كلمة واحدة عن عدولك عن قرارك النهائي بالكتابة. وقد فهمت من عدم كتابتك ان لديك أخباراً مؤكدة بأن الفجر أصبح مسألة أيام، ولهذا لم تشأ أن تكتب، حتى لا يتعلل أحد بأن كتابتك هي التي أخرت ظهور الفجر! ولا أظن أن أي سبب آخر يمكن أن يعدل عن هذا القرار النهائي!؟
أخشى أن أكون الوحيد بين زملائي هنا الذي لم يفقد عقله حتى الآن! بعض الزملاء أرسلوا في إحضار ملابسهم من بيوتهم، ليخرجوا بها يوم تتم الافراجات! آخرون بدأوا يبحثون في الاعلانات المبوبة عن الوظائف الخالية! العزّاب منهم أرسلوا الى أسرهم يطلبون منهم أن يعدوا لهم"العرايس"! زميل طبيب أرسل الى زوجته يطلب منها أن تدهن الشقة! كل واحد منهم يشمر عن ساقيه قبل أن يرى البحر! يبيع جلد الذئب قبل صيده! يحمل المظلة قبل أن تشرق الشمس!... وهكذا ترى أنني أعيش في جو وردي، وخاصة أن أغلب المسجونين يحلمون من أجلي، وكل أحلامهم تجمع على أنه سيتم الإفراج عنّا خلال أيام! وكل الموظفين والأطباء والضباط والحراس يؤكدون لي كل يوم أنه سيفرج عني في القريب! وكل هذا الكلام لا يؤكد لي شيئاً كلامك وحده هو الذي يؤكد لي كل شيء! هو العملة الذهبية وسط العملات الزائفة التي تنهال عليّ! وأنني أعيش أيامي على هذه العملة الصحيحة! لعلك تذكر المسجون"شنبو"الذي كان يعكنن علينا الحياة هنا بتلفيقاته وبلاغاته الكاذبة وادعاءاته المخترعة. وقد عوقب على أكاذيبه فنقلوه الى سجن الاسكندرية وهناك استمر في تلفيقاته على الأبرياء، فعاقبوه بالنقل الى سجن طنطا!.. وهناك ضاعف من تلفيقاته ومكائده فقرروا معاقبته بنقله الى ليمان طرة!!! وما كاد المسجونون في العنبر يعلمون بوصوله الى هنا حتى جن جنونهم! توقعوا أياماً كلها نكد وتلفيقات وأكاذيب وعكننة! قالوا كنا ننتظر في هذه الأيام السعيدة ان تجيء لنا أنباء الإفراجات فإذا بالذي يجن نبيل متولي... أن شنبو!
وعاش الجميع في مأتم! واسودت الدنيا في وجوههم، واعتبروا إحضاره ليعيش بيننا هو عملية تعذيب يومية يتعرض كل واحد منا لها!
ويظهر أن الله أشفق على هؤلاء المسجونين في محنتهم، فألهم"شنبو"أن يعضّ إصبع أحد الحراس! وانهال عليه الحراس ضرباً، وتقرر وضعه في"التأديب"لمدة شهرين! ومعنى ذلك ان لا نراه، ولا يرانا! واذا أكمل الله فضله وخرجنا من الجحيم قبل مرور هذين الشهرين فقد أراحنا... والا فستكون كل أيامنا"هباب"!
أرجو أن تكون قد نجحت أثناء اقامتك في بيروت في اجراء عملية جراحية للصياد. فإنني لا زلت على رأيي بأن مجلة الحوادث متفوقة عليه تفوقاً ظاهراً. وقد لاحظت أن الاسبوع العربي، قد ضعف عما كان. لعلك عرفت ان عثمان العبد قد انتخب عضواًَ في مجلس ادارة أخبار اليوم، وأن بهاء انتقل للأهرام. واعتقد أنه لا بد ان حالة بهاء المعنوية سيئة جداً بعد نقله الى روز اليوسف، وأنه الآن في اجازة يستريح من هذه الصدمة. وفي الختام اضمك الى صدري، واقلبك والى اللقاء القريب بإذن الله.
7 شباط فبراير سنة 1970
أخي العزيز
يسعدني كثيراً أن أعرف هذا الأسبوع أخبارك حتى 18 اكتوبر، وحتى 25 اكتوبر. وقد تسلمت من المصلحة خطابك 39 المؤرخ في 4 اكتوبر، الذي وصفت فيه كيف عرفت نبأ وفاة الرئيس وما تتمنى أن يفعله الرئيس الجديد. وقد ارتفعت حالتي المعنوية هذا الأسبوع. فبعد انقطاع دام خمسة شهور سمحوا لنا بالزيارة. زارتني إحسان وزيزي وفوفي: وأحسست انني أطل على مصر لأول مرة، بعد خمسة شهور كانت كل النوافذ مغلقة بالضبة والمفتاح! وحرمان المسجون من الزيارة عملية تعذيب تطول طول شهور الحرمان. ففي خلال هذه الفترة شعرت انني مقطوع عن كل شيء! عديم الصلة بأي شيء! أشبه بالأطرش في الزفة! فزيارات المسجونين هي الخيط الرفيع الذي يربطهم بالعالم. وفي كل يوم تكون لمسجون زيارة. وهكذا نشعر طوال الشهر بما يجري خارج الجدران! أما عندما نحرم من الزيارة فنشعر أننا في صناديق من الحديد، بعد أن كنا قانعين بأن نكون في أقفاص من حديد! ولقد أسفنا كثيراً أن خيرية وسعيد كانا في القاهرة أثناء فترة منع الزيارة، ولهذا لم أستطع أن أعرف أخبارك إلا من فوفي. واطمأننا أنك على ما يرام.
وقد دهشت لما جاء في خطابك أنك تنتظر خطاباً من سعيد لتعرف آخر أخباري. مع أن سعيد لم يرني ولم أره. والذين يتحدث لهم من تلاميذ مسيلمة الذين يجدون لذة في أن يكذبوا عليه ويؤكدون انني بخير، وأن كل شيء على ما يرام. وهم يعرفون جيداً أنني لست بخير، وأن كل شيء على أسوأ ما يرام! وأنا أعذر سعيد لأنه يصدق ما يسمع من أكاذيب، فالعادة أن القوي لا يكذب. والكذب سلاح الضعفاء. ولكن بعض الذين نحسبهم أقوياء من خارجهم يشعرون بضعفهم ويلجأون الى سلاح الكذب المهين!
ولقد قال لي سعيد من شهور إنه قابل أحد أصدقائنا ثلاث مرات في رحلة واحدة، وفي كل مرة كان الحديث عني، وعن الوعد المقطوع، وقال إن كل الظروف تشجع على الأقل بوفاء الوعد قريباً بإذن الله!
وإنني أتساءل هل هيكل مستعد أن يشهد أمام الرئيس أنور السادات بالوعد القاطع الذي وعده الرئيس جمال عبدالناصر بالإفراج عن إمام سعيد وهيكل... أم انه سوف يعتبر هذا الوعد من الأسرار التي لا يجوز أن يبوح بها!
إنني لا أزال أعتقد بأن هيكل إذا أراد أن يتم الإفراج عني لتمّ ذلك من اليوم الأول.
انني عرفت الرئيس عبدالناصر عن قرب. وعملنا معه يومياً لمدة 13 سنة! وأعرف جيداً أن كلمة واحدة في ساعة رضا، ممكن أن تفتح أبواب السجن في خمس دقائق! إنني لا ألقي هذا الكلام على عواهنه. إنني أقوله نتيجة تجربتي شخصياً، إنني انتهزت إحدى فرص رضاه وطلبت منه الإفراج عن محمد صلاح الدين باشا وزير الخارجية الوفدي المحكوم عليه بالسجن المؤبد، فأفرج عنه من اليوم التالي! وفعلت نفس الشيء بشأن فؤاد سراج الدين... وفعلته عشرات المرات بشأن مسجونين آخرين. ولا يمكن أن يكون عبدالناصر تغير عما عرفته، ولا يمكن أن تكون صلة هيكل به أقل مما كانت صلتي بالرئيس عبدالناصر. ولقد سبق أن أخبرتك بالوعود الكثيرة التي حملها لها هيكل. وهي نفس الوعود التي قيلت لكم. والفرق بيني وبينكم أنكم كنتم تصدقون... وكنت أنا لا أصدق!
ولقد كان كل ما تمنيت أن أحصل عليه، جزاء ما قدمت لبلادي من خدمات يشهدون بها ولا يستطيعون إنكارها، كل ما تمنيت هو حقي في العدالة! حتى هذا الحق البسيط حرمت منه! ومن أجلي أنا شخصياً تألفت محكمة عسكرية برئاسة الفريق الدجوي لتحاكمني حتى أحرم من المحاكمة العادلة أمام محكمة الجنايات العادية! ومن أجلي شخصياً صدر قانون يحرم الطعن في إجراءات التحقيق حتى أحرم من أن أثبت التلفيق والإجرام الذي ارتكب معي... ومن أجلي أنا صدر أمر بأن يطوى التحقيق في قضايا التعذيب حتى لا يظهر انني عذبت في التحقيق، وبعد أن شهد آخرون أمام النائب العام انهم رأوني وأنا أتعذب أمامهم!
وهكذا ترى أنني لم أنتظر من أحد خدمة ولا استثناء!... بل كل ما طلبت من الذين خدمتهم وأفنيت شبابي وعمري في خدمتهم أن يمنحوني الحق الذي يمنحه القانون لأبسط مواطن في هذا البلد!
وفي كل مرة كان سعيد يوسّط هيكل بشأن معاملتي... كنت أفاجأ بالمعاملة تشتد، وتصبح أقسى وأعنف وأغلظ! حتى أصبحت أتوسل إليكم ألّا تطلبوا لي أي شيء... لأن الذي يحدث كان العكس تماماً!
وأحب أن تعلموا أنني لم أتهمكم أبداً بالتقصير... إنني اتهمتكم دائماً بطيبة القلب وبحسن النية وبصفاء الطوية... وأنكم مكثتم أكثر من خمس سنوات تصدقون الأكاذيب!
في بعض الأحيان أتصورك أنت وسعيد في دور بشارة واكيم في مسرحيات نجيب الريحاني. كان دور بشارة هو دور الشامي، الطيب القلب، رجل على نياته، يصدق ما يسمح، ولا يفترض من الناس السوء. وكان بشارة دائماً يقع ضحية أكاذيب أولاد البلد الذين يكذبون عليه ويعتبرون هذا الكذب شطارة... وأن الصدق"عبط"!
والطبيعة البشـــرية تجـعلنا نصدق الذين يقولون لنا ما نريد أن نسمعه! أكاذيبهم تريحنا وخداعهم يملأ قلوبنا بالطمأنينة! وأنا أعتقد أنكم اشتريتم الترام عدة مرات! ولولا أن الترام داسني، لما عرفت أنكم اشتريتموه!
في مرة قابل فيها سعيد هيكل وصف له ما أعانيه بالضبط. واضطر الى إعلامه بأنني كتبت له خطاباً أخبره بحالتي، ورجاه أن يظل هذا الأمر سراً بينه وبينه، حتى لا أتعرض أنا ولا يتعرض سعيد لإجراءات نحن في غنى عنها.
وقال سعيد:"وأنا أثق بهيكل، وبحبه لك"، وقد قال لي بالحرف الواحد والدموع في عينيه:
- أقسم لك بأولادي يا سعيد أن مصطفى صعبان علي جداً.
وروى لي سعيد هذا وقال بأن هيكل وعده بأنه سيهتم شخصياً بموضوع وتحسن حالتي خلال 24 ساعة!
أتعرف ماذا حدث بعد 24 ساعة! حدث أن وزير الداخلية أبلغ مصلحة السجون أن بعض السياسيين يكتبون خطابات ويهربونها خارج السجن، ويجب العمل على ضبطها، ووضع كل حارس يضبط معه خطاب من مسجون في السجن! مصادفة غريبة فعلاً!
ومصادفة أغرب أنه لم يحدث تحسن في المعاملة في خلال 24 ساعة ولا 24 يوماً ولا 24 أسبوعاً!
ومصادفة أغرب وأغرب أن الأمر باستثنائي من المعاملة الحسنة هو أمر كتابي بإمضاء وزير الداخلية نفسه!
ولا يخطر ببالي ? لا سمح الله ? أن أحمل هيكل مسؤولية ما حدث لي، وإنما أردت أن تعرف نتائج"الاهتمام"بي!
وما زلت أعتقد أن هيكل لو كان تحدث مع الرئيس مرة واحدة بشأن الإفراج عني، لما بقيت في السجن ساعة واحدة!
وأعتقد أنه إذا كانت انتهت مسألة الشرق الأوسط، فقد كانوا سيجدون سبباً او مبرراً لعدم الإفراج... رغم الوعد القاطع!
وقد أكون سيئ الظن... فعندما قال لي سعيد إن أحد الأصدقاء ذكر له أن الحياة التي تعيشها في لندن تثير الكثير من التساؤل، وينبغي أن نجد رداً مقنعاً على هذه الأسئلة، وأن هذا الرد سوف يساعد على عمل شيء من أجلي، وأن سعيد أخبر خيرية بذلك، وطلب منها أن تثير مع صديقنا حكاية شرائك الشقة التي تسكنها بمبلغ أربعين ألف جنيه، وتدفع كل شيء، وتنفي الإشاعات التي تحولت الى حقائق...
عندما سمعت هذه الحكاية أغرقت في الضحك... قلت لنفسي لا بد أنهم يعتقدون بأن مسألة الشرق الأوسط سوف تحل قريباً... ولذلك بدأوا يبحثون عن عذر أو مبرر للتحلل من وعد الإفراج عن!
فالمسألة ببساطة أنهم كانوا يتوقعون أن نشحذ! انهم جردونا من كل ما نملك! نحن فقط الذين لم يدفع لنا أي تعويض عما أخذ منا!... المطلوب أن نموت جوعاً! أن نمشي حفاة عراة... أن نمد أيدينا نطلب إحساناً ويعطونا عشرة جنيهات إعانة من وزارة الأوقاف!
فإذا نحن لم نركع، ونسجد، ونسترحم، فيجب أن تدوسنا الأقدام! ألم يكفهم أننا سكتنا على الظلم... لم نقل إننا مظلومون... لأن معنى ذلك أنه يوجد"ظالم"!
ألم يكفهم أنك لم تفتح فمك. وأبيت أن تقول كلمة واحدة. حتى لا يتصور أحد أنك تطعن هذا الوطن الذي منحناه حبنا وحياتنا وكفايتنا وعمرنا!
بل ان عملية"مطاردتنا"مستمرة... حتى أنهم يستكثرون عليك ان تعيش تعيش في لندن... وفي لندن ألوف العرب يعيشون أحسن منك ولا يهتم بهم أحد!
لأن المطلوب أن تجوع وأن تتشرد!
ولا أتصور أن هذا الكلام الفارغ هزك. إنني شخصياً قهقهت لأنني عرفت أن الذين اعترضوا على الشقة... سوف يعترضون غداً على"الحذاء"!
قال لي سعيد مرة المهم أنك صبرت طويلاً، وتحملت كثيراً، وكنت في ذلك بطلاً!
كما كنت مثلاً لنا في الصمود المذهل والرائد، وأنا لا أقول لك ذلك لأشجعك على الاستمرار، بل أقوله لأتشجع أنا على عدم اليأس والانهيار!
وقال لي سعيد:"صدقني اني كثيراً ما تعرضت لليأس في قضيتك، ولكن صمودك كان هو المشجع لي ولعملي. فلا تضعف حتى لا نضعف معك. ولا تيأس حتى لا يشملنا اليأس جميعاً. ولا سيما أن هناك وعداً صريحاً لي وللأخ هيكل، والظروف الآن تمهد لتحقيق الوعد، فأرجو أن تأخذ ذلك بعين الجد والثقة، ولا تستمر في اتهامي واتهام علي بالعيش في الأحلام".
وأحب أن أقول لكم إنني ما زلت صامداً كما كنت. وما زلت صابراً كما كنت. ولكني أفضل أن أصبر وأصمد، معتمداً على قوة إيماني، على أن أصمد وأصبر معتمداً على حقن الأفيون! أفضل أن أواجه نار الحقيقة مفتوح العينين، على أن أغمض عيني وأتصور انني في الطريق الى الجنة، بينما النار مشتعلة في كل جسدي!
ان المعلومات التي لدي وأنا في زنزانتي أصدق للأسف، من المعلومات التي عندكم أنتم في عالم الحرية!
إسفلت الزنزانة وقضبانها وأغلالها تجعلني أعيش على أرض الواقع، السلاسل تمسك بي، فلا أستطيع أن أحلّق في السماء!
إن الأيام علمتني أن الذين يمشون في الشارع يرون الحقيقة أوضح مما يراها سكان الأدوار العالية!
لأن الحقيقة تمشي على قدميها!
والشارع يقول إن الرئيس أنور السادات يريد أن يفرج عن المسجونين السياسيين. يريد أن يفتح صفحة جديدة. يريد أن يكون رئيساً للجميع...
والذين يعارضون هذا الرأي هم الذين يذرفون الدموع ويتظاهرون بأنهم يتألمون ويتعذبون للمظلومين الذين يعيشون في قبور الأحياء!
الشارع هو الذي يقول هذا!
ويقول إن هناك من يريد المضي في البطش والإرهاب ويعتبرها دليل القوة!
إنني أؤمن أننا ضحية الذين يريدون أن يحتكروا لأنفسهم القمة! أولئك الذين تصوروا أن القمة لا تتسع إلا لفرد واحد... فألقوا من القمة من تصوروا انهم ينافسونهم فيها!
هؤلاء من مصلحتهم أن يبقى ضحاياهم في أقفاصهم. أن يخمدوا أنفاسهم. أن يكتموا أصواتهم. أن يقيدوهم في السلاسل والأغلال. هؤلاء عادة من الصغار أصحاب المقامات الصغيرة، الذين يتصورون أنهم لا يرتفعون بقاماتهم، ولا يصبحون عمالقة، إلا إذا صعدوا فوق جثث أصدقائهم وأشلاء زملائهم!
لقد قلت لك مرة إن"العز لا يقف أمام باب واحد الى الأبد".
ولا يزال هذا رأيي وإيماني، ما زلت أؤمن أن الله قادر أن يبطل كل مكيدة، وأن الحق لا بد أن ترتفع رايته في يوم من الأيام!
وأرجو ألاّ تضايقكم صراحتي! فإنني بقيت صامتاً أكثر من خمسة أعوام...
ولم يبق من العمر ما يكفي لصمت جديد... قبل أن يجيء الصمت الأكبر!
إن الضعفاء لا يستطيعون أن يكونوا مخلصين!
والصامتون لا يستطيعون أن يكونوا مقنعين!
لقد كنت أجد لذة لا حدّ لها عندما أسمع انساناً يكذب علي، وأعرف أنه كاذب، وأعرف أنه يريد أن يخدعني!
وأتظاهر بتصديقه... وبذلك أخدع من يحاول خداعي!
وهو موقف لذيذ لمدة خمس دقائق!
ولكنه موقف مؤلم... إذا استمر أكثر من خمس سنوات.
لا أعرف أين يصل إليك خطابي هذا. لقد علمت أن ثلاثة خطابات سابقة لا تزال في الانتظار. وأرجو ألاّ ينتظر هذا الخطاب طويلاً. ولو كنت في بيروت فأرجو أن تقبل سعيد وحسيبة وعصام وبسام وإلهام. وإذا كنت في لندن فأرجو أن تقبل خيرية وفاطمة وريتا ومنى.
وإلى اللقاء القريب
بإذن الله.
***
الرسالة -2- الى علي أمين
17 أكتوبر سنة 1970
أخي العزيز
سلمتني المصلحة هذا الأسبوع خطابك المؤرخ في 16 سبتمبر، الذي كان فيه صفحة 6، التي نسيت أن تضعها في خطاب 14 سبتمبر.
نحن نعيش اليوم في جو من التفاؤل، وجميع الموجودين هنا يتوقعون خيراً. على الأقل أن الرئيس أنور السادات الذي عاش في السجن وذاق عذابه، يعرف آلام القضبان... وأنه لا بد أن يفعل شيئاً ليخفف هذه القيود. وقد نشرت المصور كلمة كتبها أنور عن حياته في السجن ومشاعره، وشعر كل مسجون قرأها أنه عبر أصدق تعبير عن مشاعره هو وآلامه هو. وكان المسجونون يرددون هذه الكلمات كأنهم يرددون أغنية حفظوها عن ظهر قلب. وأنني أعتقد أنه على الرغم من مشاكله الكثيرة، فإن أنور سوف يفعل شيئاً لمن يعيشوا في قبور الأموات. بل اعتقد أن المشرفين على السجون سوف يتوقفون عن التفنن في البحث عن وسائل للتنكيل بسكان هذا المكان، والتنافس في حرمانهم من حقوق الأحياء! الذي ذاق السجن هو وحده الذي يستطيع أن يعرف ما هو السجن!
في العدد الأخير من "المصري" الصادر في 16 أكتوبر سنة 1970 في صفحة 9 تحدث أنور عن ذكرياته في السجن وكيف أن أولاده كانوا يتضورون جوعاً وهو مسجون الى أن صرف لهم تشكيل الضباط الأحرار عشرة جنيهات كل شهر ثم يقول أنور السادات:
"وكانت هذه العاطفة الصادقة من زملائي هي أسمى ما يمكن أن يشعر به مثلي في ظلمة الاعتقال، فقد يعرف الذين زاولوا الكفاح من أجل فكرة أنهم لا يضعفون أمام السجن، ولا يضعفون أمام التعذيب، وقد يخيل إليهم في لحظات الحماس والانفعال أنهم لن يضعفوا أمام شيء من الوجود... ولكنهم في هذا واهمون، فهناك الشيء الذي يضعفون أمامه، والذي لا يملكون حياله شيئاً إلا الفرار من الواقع، والفرار من التفكير في القرار من المطارق التي تطرق الرأس والقلب والضمير، وتحيل الجبار وهماً ضعيفاً يكاد يستسلم، ويكاد يستغيث، لولا كبرياء الكفاح، ويقظة الفكرة المتأصلة في نفسه، ومثالية الهدف... هذا الشيء الذي يضعف أمامه المجاهدون هو الولد، الطفل، العيال. وكانت هذه الجنيهات العشرة هي العون الوحيد الذي أقبله لأطفالي، لأنها لم تصدر عن عطف وإشفاق، وإنما صدرت عن فكرة مشتركة وتكافل بين مكافحين".
الذي يكتب هذه الكلمات، يشعر بقلب المسجون وهو ينفطر حزناً وأسى على أحبائه! يعرف معنى الحرمان من الأهل. يعرف أن الحكم على المسجون هو حكم على أسرته بالتشرد والضياع.
لا أعتقد أن مثل هذا الرجل يستطيع أن يترك أبرياء في السجون. يحرم مسجوناً مريضاً من العلاج في مستشفى. يمنع المسجون من أن يرى أولاده إلا في سلك يشبه قفص القرود. يمنع مسجوناً من أن يتسلم الطعام الذي تجيء به أسرته في الزيارة. يطارد كل يد تحمل الطعام الى أسرة سجين، ويضعها في السجن!
لا يمكن أن ينسى أنور زنزانته رقم 54 من سجن مصر. لا يمكن أن ينسى العسف والعذاب والحرمان الذي شعر به في تلك الزنزانة. أنه وحده الذي يعرف كيف يموت المسجون من الجوع. ويموت المريض من الإهمال. ويموت الصحيح من الاختناق!
أن أقل ما سوف يفعله أنور أنه سيذكر البؤساء والمساكين الذين يعيشون في أقفاص من حديد، في غرف تشبه القبور لا تدخلها الشمس ولا يدخلها هواء. سيذكر أنصاف الموتى وأنصاف الأحياء الذين يجلدون بلا ذنب. أولئك المقهورين الذين لا يستطيعون أن يرفعوا أصواتهم حتى بالاستغاثة!
انني لاحظت في اجتماعاتي الكثيرة به أنه يذكر دائماً أيام السجن، يذكر ما كان يلاقيه من قهر وإذلال وعسف. أحياناً كانت عيناه تدمعان وهو يتذكر هذه الأيام!
وقد وصلتني آخر أخبارك حتى يوم 4 أكتوبر. وفهمت أنك غير متفائل. لأول مرة تعطي التفاؤل إجازة! ولاحظت أن سعيد متشائم، وأنه أعلن هذا التشاؤم في تلفزيون لبنان، وفي مقال في الصياد. وأعتقد أن سبب تشاؤمك أنك أشبه بالرجل الذي يحمل شيكاً على بنك، وأفلس البنك فجأة! وأنا لم أثق في يوم من الأيام في الشيكات المؤجلة انها عندي مثل شيك بلا رصيد! ولعلك سوف تتعلم من هذا أن الشيك المؤجل لا قيمة له. وأن الشيك الذي له قيمة هو الذي يستحق الدفع فوراً!
وزعت الشبكة هذا الأسبوع. وقد فاتتني حلقة من القصة التي تنشرها. وسوف أحاول الحصول على هذه الحلقة. اعجبتني جداً قصيدة نزار قباني عن الرئيس جمال عبدالناصر. أنها في رأيي أحسن قصيدة نظمت في هذه المناسبة حتى الآن. وان كانت طبعاً لم ترض البعض لأنه قال ان الرئيس هو آخر الأنبياء. ولاحظت تحسيناً في تحرير الصياد، حتى تصورت ان انقلاباً حدث في التحرير.
سررت بإقالة الفريق حردان التكريتي نائب رئيس الجمهورية العراقية. كنت أحس أنه جزار. أشعر أنه المسؤول الأول عن حمامات الدم في العراق. أرجو أن يختفي معه البطش والإرهاب الذي طبع الحكم البعثي بلون الدم الأحمر! وعزله عن الأمة العربية. ولعل حزب البعث يجعله الشماعة التي يعلق فيها كل ما تردى فيه من أخطاء وجرائم!
ولعلك قرأت نتيجة استفتاء رئاسة الجمهورية. ان هذه النتيجة أراحتني. أشعرتني أنني كنت على في تنازلي بأنور. كان في استطاعته بكلمة واحدة منه أن يجعل النتيجة 100% لو كان يريد أن يكون"الزعيم الأوحد". لو كان يريد أن يكون الرجل الحديدي. ولكن سماحه بأن يعلم العالم بأن مليوناً من الناخبين لم يشتركوا في انتخابه. وأن 750 ألف ناخب قالوا له"لا"يدل على أننا نبدأ مرحلة جديدة، يستطيع 750 ألف ناخب أن يقولوا"لا"بغير خوف ولا تردد. هذا شيء هام جداً. لا يجوز أن يأخذه المراقب السياسي ببساطة. ان معناه أن أنور السادات لا يريد أن يفرض نفسه بالقوة. لا يريد ان لا يرتفع صوت إلا صوته. أكاد أقول ان هذا الاتجاه خطوة جديدة في الطريق الصحيح. ولا أتصور ان خطوات أنور ستكون سريعة، أو متلاحقة، ولكن أتصور انه يشعر بضخامة المسؤولية، ويريد فعلاً أن يشرك الشعب في تحملها معه. وهذا اتجاه صحيح في الطريق الصحيح. وأعرف أن البعض لا يرحبون بهذا. يتصورون ان من الممكن أن يتكرر جمال عبدالناصر بالحرف الواحد. وهذا شيء مستحيل. فالعباقرة لا يتكررون. القلم عندما ينتقل من يد الى يد يتغير خطه. سائق السيارة اذا تغير يجيء سائق آخر يقودها بطريقة مختلفة. طريقته في فشل عملية القيادة. طريقة في الفرملة طريقته في ضرب الكلاكسون. كل هذا سوف يختلف باختلاف قائد السيارة. فطريقة عصمت ايتونر اختلفت عن طريقة مصطفى كمال أتاتورك. طريقة خلفاء ستالين اختلفت عن طريقة ستالين وقد حضرنا خلافة النحاس لسعد زغلول. ورأينا ان النحاس كان يحاول أن يقلد سعد في كل شيء، ومع ذلك اختلفت طريقة كل من الزعيمين. وكذلك حدث نفس الشيء عندما خلف محمد فريد الزعيم مصطفى كامل. هذا مع أنني على ثقة أن أنور سوف يسير في طريق جمال عبدالناصر. لن يفرط في شبر واحد من ارض الوطن. لن يقبل هدنة مع الاستعمار. لن يخرج قيد أنملة على مبادئ الثورة. وأنه سيكون بنفس الإصرار على عزة مصر وكرامتها.
لقد كان كثيرون يتصورون ان أنور لن يجرؤ على إيقاف اطلاق النار. تصوروا أنه أضعف من أن يفعل ذلك. ولكن الذي حدث انه أعلن في شجاعة عن استعداده هذا في وسط معركة انتخابية كان يجب أن يظهر فيها في صورة المتطرف جداً. ولكنه مشى في الطريق بكل شجاعة، وبغير تردد. هذه الشجاعة في رأيي يجب أن تجعل الذين يترددون في إعطائه قيمته الحقيقية في مراجعة أحكامهم.
إنني شـــخصياً تمنيت لو حصل أنور في هذا الظرف العصـــيب على مائة في المائة من الأصوات. تمنيت أن يقول كل الشعب نعم. ولكني شــعرت بعد إعلان النتيجة بأنها أعظم من مائة في المائة. واعتقد ان العالم سوف يصدق هذه النتيجة أكثر كثيراً مما كان يصدقها لو كانت مائة في المائة.
إنني لاحظت في المدة التي عرفت فيها أنور انه ليس معزولاً عن الشعب. كانت الناس تقول له ما كانت لا تجرؤ أن تقوله لأي عضو من أعضاء مجلس الثورة. ولقد أمضى في الحركات الشعبية أكثر مما أمضى في الحركات داخل الجيش. وهذا يجعلني أتفاءل بأنه سوف يضع إصبعه على نبض الجماهير. وسوف يهتم كثيراً بمشاكلها. وسوف يحاول فعلاً ان يرفع شعار سيادة القانون. وأن تدريجياً سوف يشعر بأنه يجب أن يفعل شيئاً في المسجونين السياسيين وفي المعتقلات. ولكن من طبيعتنا أننا مستعجلون.. نريد أن يفعل الحاكم كل شيء في وقت واحد. وطبعاً الناس معذورة في استعجالها... فهذا الشعب يحمل فوق رأسه مظالم ألوف السنين. ويريد أن يخلصه منها الحاكم في 24 ساعة.
لا أريد أن أضع على عيني منظاراً وردياً، في الوقت الذي يغطي كثيرون عيونهم بنظارات سوداء. ولكن مؤمن بأن الحياة يجب أن تسير. مؤمن أن الشعب المصري هو الذي يخلق زعماءه، وليس الزعماء هم الذين يخلقون الشعب المصري. مؤمن أن هذه الكارثة سوف تعلم الدول العربية أن تمشي على أقدامها، بعد أن تعودت طوال 18 سنة أن يحملها عبدالناصر فوق كتفيه! الأطفال لا يتعلمون السباحة إلا إذا ألقيناهم في البحر.. وأنا أشعر أن هذا الشعب سيعوم... ولن يغرق أبداً!
كم أتمنى أن نبذل من العرق ما بذلناه من الدموع. أن تعلو أصوات المصانع على أصوات النحيب والعويل. إنني أفضل أن تنشئ كل دولة عربية فرقة ميكانيكية في جيشها اسمها فرقة جمال عبدالناصر، على ان تقيم حفلات التأبين، وتطلق اسمه على الشوارع والميادين.
وفي الختام أضمك الى صدري وأقبلك وابعث بقبلاتي وأشواقي الى خيرية وفاطمة ومنى وريتا والى اللقاء القريب بإذن الله.
***
< الرسالة -3-
24 اكتوبر سنة 1970
أخي العزيز
عرفت أخبارك حتى يوم 11 اكتوبر. وأعجبتني اقتراحات لما يجب أن تفعله بلادنا، وهي اقتراحات عظيمة أتمنى لو أخذنا بها. ولكن في دهشة كيف أنك لم تقترح الإفراج عن المعتقلين والعفو عن المسجونين السياسيين. هذا أول ما يجب أن يفكر فيه أي رئيس جديد. ولكن يظهر أن المفكرين ينسون الذين يعيشون في قبور الأموات! الأصوات تطالب بتحسين العلاقات مع المملكة السعودية. ولا أحد يرفع صوته ويطالب بالإفراج عن المسجونين السياسيين! ولقد كنت أتمنى أن يقوم الرئيس عبدالناصر نفسه بهذه الخطوة. وأعتقد أنه لو عاش لأقدم عليها. ولكن الأزمات المتتابعة ومرضه حالت دون التفكير في هذه المسألة. ومن عجبي أن صلاح نصر وشمس بدران اللذين لفقا هذه القضايا في نفس السجن الذي فيه ضحاياهم! ولم يقل أحد كلمة واحدة بأنه ما دام المحققون مجرمين فلا بد أن الضحايا أبرياء!
ان الرئيس أنور السادات وعد الشعب بتنفيذ بيان 30 مارس. وما هو بيان 30 مارس. هو تنفيذ سيادة القانون. ومعنى ذلك أن لا محاكم استثنائية ولا تهم استثنائية ولا أحكام استثنائية. والطبيعي إذا حدث هذا فعلاً أن تعاد محاكمة الذين حوكموا محاكمات استثنائية. وصدرت قوانين خاصة تحرمهم من الطعن في إجراءات التحقيق. تحرمهم من حقوق المواطن العادي من الاستئناف أو الطعن أمام محكمة النقض والإبرام. وقد لا تكون من المصلحة الآن إثارة هذه القضايا وما جرى فيها. ولكن لا أقل من خروج هؤلاء الأبرياء من سجونهم. وإنني أعتقد أن من مصلحة البلد ومن مصلحة الرئيس الجديد أن يبدأ عهده بفتح أبواب السجون والمعتقلات. ولقد تحرك كثيرون من المسجونين السياسيين وكتبوا الى أنور يهنئونه ويطالبوه بالإفراج عن المسجونين السياسيين. أما أنا فلم أفعل شيئاً ولم أطلب شيئاً.
وقد كانت خطتي طوال السنوات الماضية أن لا أتحرك ولا أفتح فمي، وكنت أصدق شعار أن الفجر على الأبواب، ولكن وقد مات الشاهد الوحيد على براءتي. الذي كنت أتمنى أن يتكلم لأنه يعرف انني بريء من هذه التهم الظالمة... الآن فقط أنا مضطر أن أتكلم بعد أن صمت خمس سنوات كاملة وبدأت سنة الصمت السادسة!
لقد كنت أتصور أن الصحافيين العرب سوف يتحركون ليطلبوا الإفراج عني! ولكني أعذرهم فهم مشغولون بتأييد استمرار"العلاقة الخاصة"!
وكنت أتصور أن كل صحافي أجنبي سوف يحضر الى القاهرة، سوف يتحدث عني، وسوف يطالب بالإفراج عني. كنت أتوقع أن تكتب وأنت في كل بلد فيه حرية تطالب بالإفراج عن صحافي من أكبر الصحافيين في العالم أو تطالب له بمحاكمة عادلة محاكمة علنية أمام محكمة عادية. ولكن كبار صحافيي العالم لا يهمهم فيما يبدو زميل لهم مسجون ظلماً بقدر اهتمامهم بالحصول على حديث صحافي!...
وأخشى بأن الطريقة التي تصرفنا بها منذ أول الأمر كانت خطأ. لقد تصورنا إنه إذا صمتنا فسوف تتحرك ضمائر من ظلمونا! وسكتنا... وسكتت الضمائر معنا!
وأعتقد أنك تشعر الآن بأن البيت الذي بنيته من الأماني والتفاؤل قد انهار فجأة في لحظة واحدة. ولكني أرى أن نبدأ من حيث انتهينا. لقد وعد الرئيس جمال عبدالناصر بالإفراج عني. فيجب أن يذهب سعيد الى انور السادات ويبلغه هذا الوعد الذي قطعه الرئيس على نفسه. وقد كان هذا الوعد أمام شاهد. ولا أتصور أن هذا الشاهد سوف يأبى أن يقول ما سمعه من الرئيس أو ينكر شهادته. أما إذا انتظرتم الى الوقت المناسب فلن يجيء الوقت المناسب. إذا كانت هناك وعود فعلاً فيجب أن يعلمها الرئيس الجديد. ويجب أن نعلم رأيه فيه. أما إذا لم تتحركوا فوراً، فسوف نعود الى الحلقة المفرغة... وسوف ندخل في السنة العاشرة من سنوات التفاؤل والفجر الذي على الأبواب!
وإذا كان في هذا الحديث الآن بعض الإحراج، فلا مانع أن توكلوا محامياً يجري وراء هذه المسألة، وتناولوه على أن يتولى هذا العمل. وقد حدث مثل هذا في قضايا مماثلة، ونجحت المساعي، وخرج المسجونون. إنني لا أطلب شيئاً سوى العدل. أطلب أن ينفذ بيان 30 مارس في ما يختص بي. تطبيق هذا البيان معناه أن لا يحاكم مدني أمام محكمة عسكرية. معناه أن أحاكم أمام محكمة جنايات عادية. معناه أن يستطيع المحامي أن يفتح فمه أمام القضاة ولا يهدد بأن يوضع في السجن إذا فتح فمه! لقد قال الدكتور محمد عبدالله المحامي المشهور إنه لو عرضت قضيتي أمام محكمة عادية، القاضي فيها تلميذ في كلية الحقوق، فسوف يصدر على الفور حكماً ببراءتي!
إنني لا أريد أن تربط مسألتي بمسألة الشرق الأوسط! وإذا كانت الأنباء التي لديك أن هذه المسألة سوف تحل في 90 يوماً، فإن خبرتي السياسية تؤكد أنها تحتاج الى سنوات وسنوات! وأرفض أن تربط مسألتي بمسألة إعادة العلاقات مع الولايات المتحدة. فالذين يقولون هذا يريدون أن يثبتوا عليّ تهمة لم يجدوا دليلاً واحداً عليها!
يجب أن تكون لدينا الشجاعة أن نعترف الآن بأننا أخطأنا اختيار الطريق الذي يوصلنا للحصول على حقنا من العدالة. الإصرار على الخطأ هو جريمةّ!
يكفي تجارب الخمس سنوات الماضية. وإذا كنا لا نعترف بالفشل بعد كل هذه السنوات، فكم نحتاج من السنوات لنقتنع أننا كنا ندور حول أنفسنا ونتوهم أننا نتحرك!
إن اعتزازنا بكرامتنا، وإيماننا ببراءتنا، هو الذي جعلنا نقف شبه جادين، مؤملين أن تظهر الحقيقة في يوم من الأيام، نصدق ما نتمنى أن نصدقه، إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين... وأنت وسعيد لدغتما من نفس الجحر مئات المرات ولا تريدون أن تصدقون أنها لدغة ثعبان! ولكن أشعر هنا بالسم!
انني ما زلت آمل أن تصل الى أذن الرئيس الجديد أصوات الأبرياء، وأنين المظلومين. لا أعتقد أن أحداً يستطيع أن يمنع هذه الأصوات أن تصل إليه. أصوات الأطفال الذين حرموا سنوات طويلة من آبائهم. يتامى وهم غير يتامى! أصوات الأمهات المفجوعة وهي ترى أولادها يذوبون وينصهرون ويداسون بالأقدام. أصوات الزوجات أشباه الأرامل، أو أنصاف الأرامل! ان كثيرين من أطفال وزوجات المسجونين السياسيين كتبوا الى الرئيس الجديد خطابات تنزف دماً وتقطر دموعاً عن حالتهم وعذابهم وجهنم التي يعيشون فيها. وأرجو أن تؤدي هذه الحركة الى أن يصل هذا الأنين الى أذن الرئيس الجديد. فإنني لا أشك أنه مؤمن في صميم قلبه بالعدالة والأنصاف. لقد ذاق السجن. عرف الظلم. عاش في قبور الأحياء...
إنني أرى أن الصلوات لا تكفي! الله طلب منا أن نصلي ونعمل في وقت واحد. والحديث عن الفجر جميل جداً. ولكنها عملة لا تصرف داخل الزنزانة!
إنني أعتقد أن الحركة فيها بركة!... أعتقد أن الظروف إذا لم تسمح بأن تأخذ العدالة مجراها، فقد تسمح بالإفراج، وإذا لم تسمح بالإفراج في الوقت الحالي، فهي تسمح بنقلي الى مستشفى...
وإنني لا أوجه لوماً أو عتاباً على الماضي. فإنني أعرف أن على المرء أن يسعى، وليس عليه الوصول الى مبتغاه! ولكن أعتقد أنه يجب أن نعترف الآن، بعد خمس سنوات، إننا كنا نتحرك في فراغ! وأن الشيكات التي في أيدينا أصبحت كلها شيكات بلا رصيد!... ولهذا أريد أن نبدأ مرة أخرى! أريد أن لا نيأس.
إننا لم نجد في أيدينا بعد كل هذه السنين إلا الهواء!
أخشى أن تتصور انني أنفجر بعد صمت دام أكثر من خمس سنوات. ولكن أشعر برغبة أن أكلمك بكل صراحة وقد مرت من السنة السادسة ثلاثة أشهر! لقد زارني هيكل في سجن الاستئناف وأبلغني باسم الرئيس انني لن أدخل السجن. بل قال إنني سأنقل الى مستشفى عبدالله الكاتب أبقى فيها مدة ثم يفرج عني... وبعد ذلك دخلت الى ليمان طرة! وجاءني هيكل في ليمان طرة وقال لي باسم الرئيس أيضاً إنني لن أبقى في الليمان سوى شهر واحد، أنقل بعده الى مستشفى خاص! وجاءني مرة أخرى وقال لي إن الرئيس قرر العفو عني، واختار لي العمل الذي أقوم به، ولكن حدث العدوان، في 5 يونيو، ولهذا لم يفرج عني في 23 يوليو كما كان مقرراً! وجاءني مرة أخرى ليؤكد لي أن مسألة الإفراج عني أصبحت مسألة أسابيع قليلة! وقد مر على هذا الوعد الأخير أكثر من عام أو عامين!
ولم ينفذ أي وعد من هذه الوعود! بل على العكس صدرت الأوامر بحرماني من حق السجين العادي! وانتقل وزير الداخلية خصيصاً الى الليمان لينقل مدير الليمان لأنه سمح لي في الزيارة بجبن روكفور! وحرمت من الصحف الأجنبية التي كنت أقرأها. وحرمت من السجائر التي كنت أدخنها. وحرمت من طعام السكر والتفرش!
وكان آخر الوعود هو وعد سعيد بأن معاملتي سوف تتغير في خلال 24 ساعة! ومضت الأيام، والأسابيع والشهور، والمعاملة تزداد سوءاً!
وأظن أن من حق سيدنا أيوب بعد كل هذا أن يقول إننا كنا نمشي في طريق مفروش بالوعود التي لا تتحقق!
انني آسف أنني أتعبتك معي! ولكن أعتقد أنك سوف تتعب أكثر إذا مضيت تمشي في نفس الطريق الذي سرت فيه خلال السنوات الماضية! ولهذا فإنني أفضل ألف مرة أن أقبل شيكاً بمليم يكون الدفع فيه فوراً، على أن أقبض شيكاً بمليون جنيه بلا تاريخّ
وإذا كنت لا تجد أي فائدة في أن لا تتحرك... فأرجو أن تخبرني... لا تتركني أنبح في الظلام!
إنني لا أطلب شيئاً إلا حق في العدالة...
حقي في محاكمة عادلة!
حقي في بيان 30 مارس!
وإنني أخشى أن نكون نرهق سعيد بأمرنا أكثر مما يجب. فيكفي محاولاته العديدة. ويكفي كل ما فعل من أجلي وإنني سأذكر ما حييت ما رأينا منه من أخوة صادقة نبيلة.
وسوف يحتاج سعيد الى وقت لتكون بينه وبين الرئيس الجديد هذه الصداقة القوية الحميمة، ومع ذلك أعتقد أن الحديث مع الرئيس الجديد الآن سيكون أسهل جداً الحديث معه بعد فترة طويلة.
سلمتني المصلحة هذا الأسبوع خطابك 35 المؤرخ في 7 سبتمبر وخطابك 37 المؤرخ في 20 سبتمبر وخطابك 38 المؤرخ في 27 سبتمبر.
ولقد أعجبتني الفقرات التي لخصتها من كتاب THE SENSOUS WOMAN وأرجو أن ترسل لي هذا الكتاب، وإذا لم تجده في لندن، فيمكن ان تشتريه من بيروت أو من باريس! ولعلك سوف تقول إن اهتمامي بهذا الكتاب دليل على انني متفائل، وأعتقد أن الفجر قريب! والواقع أنني متفائل فعلاً. وأعتقد أن المنطق والمعقول هو أن تشرق الشمس.
وقد سررت كثيراً من اختيار الدكتور فوزي رئيساً للوزارة. وقد أراح هذا الاختيار الناس. وكنت أتوقع أن فوزي سوف يحتفظ بكل الوزراء، برغم أن كثرين توهموا غير ذلك، وقد صدقت وجهة نظر.
وأعتقد أن هيكل أحسن بالاستقالة. وقد كنت ضد دخوله الوزارة. فإنني لا أزال أؤمن أن منصب الصحافي أكبر من منصب الوزير.
وأشكرك كثيراً لإرسالك الألوان فقد وصلت فألف شكر. وكنت طلبت منك بعض فُرش الرسم وذكرت لك أرقامها، فأكون شاكراً لو تذكرت أن ترسلها.
وفي الختام أقبلك وأضمك الى صدري، وأشكرك على خطاباتك الممتعة التي تمكنني من أن أطل منها على العالم، فأرى كل ما يجري فيه. إن هذه الخطابات هي متعة حقيقية...
وقبلاتي الى خيرية وفاطمة وريتا ومنى
والى اللقاء القريب
بإذن الله
> الرسالة -4-
17 - 10 يوليو سنة 1971
أخي العزيز
بقيت طويلاً أنتظر خطابك المؤرخ في 20 حزيران يونيو! كنت أنتظر وبـــفارغ صبر لأعرف أنك خطوت خطوة استـــئناف الكــتابة التي حدتني عنها في خطاب 13 يونيو وقلت أنها ستتم بعد أسبوع واحد!... ومضت الأيام ولم يصلني الخطاب المنتظر!
ثم سمعت ان الخطاب وصل. وانه اختفى في جيب المدير! وعلمت أن المدير وجد فيه تفصيلات لذيذة، مثيرة عن رحلة كريمة فاتنة المعادي الى لندن. وقد اهتم بهذه المسألة اهتماماً خاصاً. فكان يدور على أصدقائه الكبراء والعظماء ويخرج لهم الخطاب من جيبه ويقرأه لهم، ليثبت لهم انه عليم ببواطن الأمور! وهكذا تأخر ارسال هذا الخطاب الى المصلحة أكثر من أسبوع... ثم فوجئت اليوم بالمدير يأمر أن أطلع على هذا الخطاب مع أن المفروض أن لا أطلع عليه إلا بعد شهر كامل! وقد دهشنا لهذا العطف السامي، الذي لم أتعوده خلال ست سنوات! ولا أظن أن المدير اهتم أن أعرف تفاصيل ما فعلته فاتنة المعادي بالعشرة آلاف جنيه استرليني عملة صعبة التي حولها لها سامي شرف لتنفقها في أسبوعين، وتنفق مثلها وتطلب من رجال السفارة المصرية تسديدها، وقد يدهشك أن تعلم أن جميع ضباط البوليس خصم من بدلهم ثلاث جنيهات شهرياً بسبب الحرب، فكأن كريمة فاتنة المعادي انفقت في نصف شهر ما ينفقه 3300 ضابط بوليس في شهر كامل!
قلت لنفسي أنه لا بد أن هناك حكمة أخرى من حرص المدير على اطلاعي على الخطاب. ووجدت في نهاية الخطاب أنك تقول أنك تتفائل وتؤمن أن شهر يوليو سيحمل لنا أخباراً تسعدنا، وتريح أعصابنا، وتسدل الستار على الآلام الطويلة التي احتملناها، وتطلب مني أن اتفاءل معك وأن أمد لآخر مرة في حبال صبري - وتضع خطاً تحت"آخر مرة"وتطلب مني أن أتأكد أن الفرج الذي طال انتظارنا له أصبح على بعد أسابيع قليلة، ويظهر أن المدير فهم من هذا أن لديك أخباراً مؤكدة أنه سيتم الإفراج عني في شهر حزيران يوليو، ولهذا سارع المدير بإبلاغي البشرى! وقد دهشنا من تصرف المدير، فالمفروض أنه مخضوض باشا، ولهذا ذهلت عندما تصرف هذا التصرف الجريء!!...
وقد حدث في الشهر الماضي شيء غريب؟ فبين المسجونين هنا جندي سابق من المخابرات العامة اسمه محمود الحلو. وفوجئت به يطلب مندوباً من المخابرات العامة ليبلغها أنني أنا وبعض زملائي نقوم بطبع منشورات ضد الحكومة! ودهشت أن يختلق هذا المسجون هذه الحكاية التي لا أساس لها من الصحة! وقلت لنفسي لا بد أن عندي"اختلاق أبيل"- على وزن السكس أبيل - فلا يكاد يراني أحد حتى يلفق لي تهمة! وأكثر ما أذهلني أنني لم أسئ الى هذا الشخص، وأسلمت أمري الى الله!
وإذا بالإدارة تحقق في هذا الاتهام الظالم وتكتشف أنه أراد به ابتزاز سجائر من المسجونين، وأراد به أن يلفق قضية متصوراً أن عهد رئيسه السابق صلاح نصر لا يزال مستمراً، إذا اختلق واحد منهم قضية تلقى مكافأة، في الحال! وإذا بالمصلحة تتابع التحقيق، ويتبين لها كذبه فيصدر قرار بنقله من الطابق الرابع الى الطابق الأول الذي يودع فيه المشاغبون؟ كل هذا وأنا لم أتحرك ولم أفتح فمي! وفوجئت بهذا الشاب بعد ذلك بأيام يكتب من تلقاء نفسه اعترافاً بخط يده، ويقدمه لمأمور أول اللجا يقول فيه انه يعترف أنه كذب وأنه لفق عليّ وعلى زملائي تهماً نحن أبرياء منها، وأن الشيطان هو الذي جعله يفعل ما فعل! ويبدأ تحقيق من جديد، ويسأله المحقق ما الذي جعله يعدل عن اتهاماته... فيقول في التحقيق أنه يريد أن ينام. ان ضميره يؤنبه طوال الليل لأنه ظلم أبرياء وافترى عليهم، وأنه اعترف بما فعل لأنه يريد أن ينام!
لم أكن أتصور أن هذا ممكن أن يحدث. لم أتصور أن الله يقف معي كما وقف في هذه الأزمة ويمنع النوم عن رجل لأنه ظلمني! وتمنيت أن يجيء يوم يعترف فيه صلاح نصر وسامي شرف وعلي صبري وشعراوي جمعة مثل هذا الاعتراف كتابة كما اعترف محمود الحلو هذا!
أقشعر بدني وأنا أقرأ فضائح العصابة ومحاسبيها في لندن! اننا في كل يوم نسمع عن فضائح جديدة يشيب من هولها الولدان. وسيجيء يوم تعرف الدنيا حقيقة العصابة التي حكمتنا. ومن الأسف أن صحف دار الصياد تكتفي بالتفرج من بعيد! وقد خسرت الصياد كثيراً بموقفها وبخاصة عندما قالت عن أعضاء العصابة الذين اذلّوا هذا الشعب وداسوا عليه بالأقدام، وحاولوا أن يجعلوه"يلبس الطرح"انهم وطنيون مخلصون! بينما ان الحوادث لم تتردد أن تنشر بعض جرائم هذه العصابة. ويكفي أن الحوادث نشرت أن كل القضايا التي قدمها صلاح نصر ملفقة!
وقد أسفت وحزنت للموقف المذري الذي وقفه سليم اللوزي مع محمود الدرة، وإذا كانت رواية محمود الدرة صحيحة، فهي صفحة سوداء في تاريخ صحافة لبنان.
لقد فرحت جداً بتعيينات مجالس ادارات الصحف، لو كنت أنا الذي اختار أعضاء مجلس ادارة أخبار اليوم لما اخترت أحسن مما عينهم أنور السادات. وقد فرحت جداً بتعيين موسى صبري وعبدالرحمن الشرقاوي، فمعنى تعينهم ان الرئيس راض عن الحملة التي قاما بها من أجل الحرية وضد الإرهاب. وهذا شيء عظيم جداً. وزاد من فرحي أنه جرى في اليوم نفسه انتخاب أعضاء الاتحاد الاشتراكي في أخبار اليوم فإذا بالذين ينتخبهم الناخبون هم جميعاً الذين اختارهم أنا إذا كلفت بالترشيح! اختفت أسماء الأفادين والنصابين والانتهازيين.
وقد أسفت"للتنزيل"الذي حدث لبهاء، والهبوط بأمين رئيس مؤسسة الهلال الى رئيس مؤسسة روز اليوسف. واعتقد أن هذا التنزيل نزل على بهاء نزول الصاعقة وفهمت أنه رفض تولي المنصب الجديد، وتوسط هيكل في تعيينه محرراً في الأهرام. وقد سعدت للقرار الذي صدر بأن المحررين والموظفين ينتخبون اثنين منهم من مجلس الإدارة، وينتخب العمال اثنين منهم. وقد بح صوتي طوال السنوات الماضية من أجل هذا القرار بغير جدوى. وبذلك لا يتغاضى سعد عبدالعليم عن أخطاء الطبع في سبيل الحصول على أصوات العمال! وأرجو أن يوفق أنور الى اختيار رئيس مجلس إدارة صالح لمؤسسة روز اليوسف. ولقد بدأت أتفاءل من مستقبل الصحافة، ومن حذف أسماء الصحافيين من القوائم السوداء عند سفرهم الى الخارج. وكل هذه خطوات طيبة في الطريق الصحيح.
من الغريب أن الناس جميعاً لاحظت ما لاحظت أنت عندما نشرت أخبار اليوم ان الجهاز السري كان يضرب كل شخص يكون موضع ثقة الرئيس عبدالناصر، وأنهم كانوا يكتبون تقارير زائفة ويحورون الشرائط والتسجيلات!
وفي اليوم نفســـه الذي علمت به بأخبارك حتى 24 يونيو، عرفت أخبارك حتى يوم 28 يونيو! وقد أسعدني جداً أن أسمع رأيك في الفصول الثلاثة، وأتمنى أن يسعدك الباقي! وقد تتبعت باهتمام الموضوعات الصحافية الممتازة التي تنشر في الديلي ميردر والديلي ميل والسان... وتمنيت أن تعود صحفنا الى الاشتغال بالصحافة! وسرني كثيراً قولك أنك ستكون في بيروت في أوائل يوليو. وأسعدني ما سمعت أن مقابلات أنور السادات وفيصل كانت ممتازة جداً، وأن هناك تجاوباً وانسجاماً بين الاثنين.
وسأبلغ زيزي أنك قمت بتنفيذ كل أوامرها!
وأسعدني قولك في خطابك الأخير أنك متفاءل بأن يوم الفرج أصبح"قريباً جداً".
وانني مهتم بصحتي، ومهتم بأن تستقبلني البنطلونات في الزمالك استقبالاً شعبياً!
انني مثلك أتطلع الى السماء. أتمنى أن يحقق الله كل أخبارك السارة... ان يقترب اليوم الذي أضمك فيه الى صدري، ونمشي معاً فوق السحب من جديد!
لقد كان من أجمل الأخبار التي سمعناها هذا الأسبوع أن الرئيس أمر بالإفراج عن اللواء محمد نجيب رئيس الجمهورية السابق، بعد أن كانت إقامته محددة لمدة 17 سنة! ولم تنشر الصحف الخبر، وإنما نشرت أن اللواء أركان حرب محمد نجيب ذهب الى القصر الجمهوري في القبة وقيد اسمه للشكر - اننا في كل يوم نرى علامات طيبة. الشعب يأمل كثيراً بأنور السادات. الناس كلها تتوقع أنه سيفرج عن المسجونين السياسيين في 23 يوليو. وأتمنى أن يحقق أنور للشعب كل أمانيه وأحلامه.
وفي الختام أضمك الى صدري وأقبلك والى اللقاء القريب بإذن الله.
****
> الرسالة -5-
17 يوليو سنة 1971
أخي العزيز
بعد أربعة أيام سأدخل السنة السابعة من سنوات سجني! وقد مضت حتى اليوم أكثر من ست سنوات منذ أن افترقنا. ولعلك تذكر أنني عندما ودعتك انفجرت ببكاء لم أعرف مثله طوال حياتي. أذهل المئات الذين كانوا يودعونك. فقد كنت أشعر في تلك اللحظة بشعور غريب لا أعرف سببه أن هذا وداع بلا لقاء! ويومها كتبت في أخبار اليوم كلمة تحت عنوان"كلمة من المحرر"عن فراقنا أبكت كل من قرأها! ويظهر أن الله كشف عني الغيب في هذه الكلمة، فرأيت ما لم يتصور أحد أنني سأراه! ولا أعرف ما الذي يجعلني أتذكر هذا المقال الآن! فأنت تؤكد لي أن تفاؤلك أصبح بلا حدود. وأنت تؤكد لي في آخر خطاب أن المسألة أصبحت قريبة جداً. وأشعر برغبة لا حدّ لها في أن أصدقك، ولكن لا زلت أتأرجح بين الفجر الذي تبشرني به وبين الظلام الذي أعيش فيه. ولقد سررت أنك الآن في بيروت، وخيل اليّ أنك اقتربت لتشمّ أخباري! ولتستطيع أنفك الصحفية أن تشم من بيروت وأحسن مما تشم من لندن. وأعتقد عندما يصل اليك هذا الخطاب سوف تعرف على وجه التأكيد اذا كنت لا أزال في المرجيحة، أم تركت المرجيحة، أم وقعت من المرجيحة!
ان التفاؤل يملأ الجو في هذا المكان. أخبار البشريات تتوالى! ولكن خبرتي الصحفية تجعلني أفرق كثيراً بين"الأماني"و"الأخبار"! وكل ما أسمعه حتى الآن ليس أكثر من أماني وتمنيات، ينقصه المصدر الموثوق به الذي يمكن الاعتماد عليه في مثل هذه الأنباء. ومنذ أيام زار السجن السكرتير الأول لسفارة اليونان في القاهرة وقابل القبطان نقولا ? وهو قبطان ناقلة بترول يونانية حكم عليه بالسجن 15 عاماً بتهمة التجسس لاسرائيل وأمضى منها عاماً واحداً في السجن. وأبلغه أن الرئيس أنور السادات أصدر عفواً عنه، وسيفرج عنه غداً. وسأل السكرتير الأول عني، وقال إن معلوماته أنه سيفرج عني قريباً جداً! ولكن لا اطمئن الى أخبار اليونانيين... فأخبارهم دائماً مصدرها الجرسونات!! ثم أعود الى تأكيداتك القاطعة، وأقول لنفسي أنه لا يمكن أن تكون اعتمدت فيها على الإشاعات التي تملأ القاهرة، التي لا تزيد عن ان تكون تمنيات. ولا بد أن لديك تأكيدات لا تقبل الشك، وأعود فأطمئن الى هذه التأكيدات، وأعيش عليها، وأعد الأيام في انتظار تحققها، ولا أتصور أن تكون مخدوعاً هذه المرة. فقد شعرت وأنا أقرأ خطابك أنني أقرأ أخباراً مؤكدة لا أقرأ أحلاماً وتمنيات!
والناس كلها تقول إن الرئيس سيعلن أخباراً سارة للشعب في 23 يوليو، وتجمع أن هذه الأخبار السارة هي الإفراج عن جميع المسجونين السياسيين. وبعض الناس يؤكدون أن الرئيس وقّع القرار! وبعضهم يقول إن القرار أُعد ولا ينقصه الا التوقيع. وذهبت أسرة زميل لنا الى محمد أحمد وزير القصر وقدمت له التماساً بالإفراج عن ولدها. فقال الوزير إنه لا داعي لهذا الالتماس لأن الرئيس قرر الإفراج عن جميع المسجونين السياسيين، لكن أستقبل كل هذه الأنباء بتحفظ شديد، وأخشى أن يكون المقصود منها رفع الروح المعنوية لبعض المسجونين الذين هم في حالة انهيار شديد، بسبب القلق والحيرة، وعجزهم عن معرفة الأخبار الصحيحة. وقيل في رواية أخرى إن الإفراج سيكون على ثلاث دفعات، دفعة تخرج في 23 يوليو لمناسبة عيد الثورة ودفعة تخرج في سبتمبر لمناسبة الدستور، وتخرج الدفعة الأخيرة في نوفمبر لمناسبة العيد الصغير. وكل هذه الأخبار بفلوس اليوم، وبعد أقل من أسبوع ستصبح مجاناً!
ولم يصلني منك خطاب هذا الأسبوع. وأعتقد أن الخطاب سوف يكون من بيروت. وأنني في أشد الشوق لأن أعرف ماذا فعلت في بيروت. ومصيبتي الكبرى أن كل مسؤول في السجن يقع في يده خطابك يريد أن يقرأه ويستمتع به، ويقرأه لزوجته أو لحبيبته... وبهذا يتأخر وصول الخطاب إليّ! ويجب أن تطمئن أن لك قرّاء ومعجبين من المشرفين على السجن وفي مصلحة السجون وغيرها، ينتظرون خطابك كما كانوا ينتظرون فكرة في كل صباح في الأخبار!
وأنا لا أعرف أين ستقرأ هذا الخطاب؟ هل ستقرأه في بيروت، أم سوف تقرأه عند عودتك من لندن! وهل ستقرأه وأنا لا زالت في السجن أم ستقرأه وأنا أستمتع بالحرية؟!
لقد أرسلت ليّ ريتا هذا الأسبوع خطاباً مطولاً تعتذر فيه عن تفكيرها الخاطئ، وتقول إنها اكتشفت أنها كانت"عبيطة"و"هبلة". وقالت إنها ستدخل جامعة القاهرة، وإنها لن تعود الى لندن، وإن هذا قرارها النهائي! ولا أعرف حتى الآن هل هي صادقة في توبتها، أم انها تريد أن تضحك"عليّ"! ومع ذلك فقد قبلت اعتذارها لكن لا أسد أمامها باب التراجع. ولكنني وافقت فقط على السفر الى لندن بعد ظهور نتيجة الثانوية العامة في آخر هذا الشهر. ومرة أخرى أشكرك على هذا الحزم الذي أظهرته في هذه المسألة.
تسلمت من المصلحة هذا الأسبوع خطابك 21 ? المؤرخ في 13 يونيو الذي قلت فيه"وأخيراً قررت أن أذكر ولاة الامور بقلمي السجين. فقررت أن أكتب وعاد أصدقاء أعزاء يلحون عليّ ان أنتظر فترة قصيرة أخرى. وقد مضى على هذه الفترة ما يزيد على اسبوعين وسأنتظر اسبوعاً ثالثاً، وبعدها سأكتب، وأنا واثق أن كتابتي ستذكر ولاة الامور بالقلم السجين، وبكل سجين آخر". ونحن الآن في 17 يوليو، أي مضى حوالى خمسة أسابيع على نهاية المهلة ولم نكتب شيئاً! وخطاباتك التالية لم تذكر كلمة واحدة عن عدولك عن قرارك النهائي بالكتابة. وقد فهمت من عدم كتابتك ان لديك أخباراً مؤكدة بأن الفجر أصبح مسألة أيام، ولهذا لم تشأ أن تكتب، حتى لا يتعلل أحد بأن كتابتك هي التي أخرت ظهور الفجر! ولا أظن أن أي سبب آخر يمكن أن يعدل عن هذا القرار النهائي!؟
أخشى أن أكون الوحيد بين زملائي هنا الذي لم يفقد عقله حتى الآن! بعض الزملاء أرسلوا في إحضار ملابسهم من بيوتهم، ليخرجوا بها يوم تتم الافراجات! آخرون بدأوا يبحثون في الاعلانات المبوبة عن الوظائف الخالية! العزّاب منهم أرسلوا الى أسرهم يطلبون منهم أن يعدوا لهم"العرايس"! زميل طبيب أرسل الى زوجته يطلب منها أن تدهن الشقة! كل واحد منهم يشمر عن ساقيه قبل أن يرى البحر! يبيع جلد الذئب قبل صيده! يحمل المظلة قبل أن تشرق الشمس!... وهكذا ترى أنني أعيش في جو وردي، وخاصة أن أغلب المسجونين يحلمون من أجلي، وكل أحلامهم تجمع على أنه سيتم الإفراج عنّا خلال أيام! وكل الموظفين والأطباء والضباط والحراس يؤكدون لي كل يوم أنه سيفرج عني في القريب! وكل هذا الكلام لا يؤكد لي شيئاً كلامك وحده هو الذي يؤكد لي كل شيء! هو العملة الذهبية وسط العملات الزائفة التي تنهال عليّ! وأنني أعيش أيامي على هذه العملة الصحيحة! لعلك تذكر المسجون"شنبو"الذي كان يعكنن علينا الحياة هنا بتلفيقاته وبلاغاته الكاذبة وادعاءاته المخترعة. وقد عوقب على أكاذيبه فنقلوه الى سجن الاسكندرية وهناك استمر في تلفيقاته على الأبرياء، فعاقبوه بالنقل الى سجن طنطا!.. وهناك ضاعف من تلفيقاته ومكائده فقرروا معاقبته بنقله الى ليمان طرة!!! وما كاد المسجونون في العنبر يعلمون بوصوله الى هنا حتى جن جنونهم! توقعوا أياماً كلها نكد وتلفيقات وأكاذيب وعكننة! قالوا كنا ننتظر في هذه الأيام السعيدة ان تجيء لنا أنباء الإفراجات فإذا بالذي يجن نبيل متولي... أن شنبو!
وعاش الجميع في مأتم! واسودت الدنيا في وجوههم، واعتبروا إحضاره ليعيش بيننا هو عملية تعذيب يومية يتعرض كل واحد منا لها!
ويظهر أن الله أشفق على هؤلاء المسجونين في محنتهم، فألهم"شنبو"أن يعضّ إصبع أحد الحراس! وانهال عليه الحراس ضرباً، وتقرر وضعه في"التأديب"لمدة شهرين! ومعنى ذلك ان لا نراه، ولا يرانا! واذا أكمل الله فضله وخرجنا من الجحيم قبل مرور هذين الشهرين فقد أراحنا... والا فستكون كل أيامنا"هباب"!
أرجو أن تكون قد نجحت أثناء اقامتك في بيروت في اجراء عملية جراحية للصياد. فإنني لا زلت على رأيي بأن مجلة الحوادث متفوقة عليه تفوقاً ظاهراً. وقد لاحظت أن الاسبوع العربي، قد ضعف عما كان. لعلك عرفت ان عثمان العبد قد انتخب عضواًَ في مجلس ادارة أخبار اليوم، وأن بهاء انتقل للأهرام. واعتقد أنه لا بد ان حالة بهاء المعنوية سيئة جداً بعد نقله الى روز اليوسف، وأنه الآن في اجازة يستريح من هذه الصدمة. وفي الختام اضمك الى صدري، واقلبك والى اللقاء القريب بإذن الله.