قبل ثوان من إطلاق النار عليه .. قفز الجنرال من مقعده المبتل بالماء .. وصاح بصوت متقطع كأنه في
كابوس .. " لا .. لا .. ما عاوز أموت " حاول أن يصل الى المسدس الموجه إلى رأسه .. واندفع بكل ثقل الاجساد التي أيقنت أنها لا محالة في القبر .. وأن الفرصة الأخيرة لها لن تحقق شيئا سوى مزيد من الدما ء .. ومزيد من القتلى .. وعندما طوح بيديه في الهواء .. سمع دويا غامضا بلوريا .. وأحس بلسعة باردة ثلجية بين حاجبيه .. ثم شعر برأسه يتفجر والشعر الأشيب يتطاير من فروته في كل الاتجاهات .. وأسنانه تتبعثر في أرضية الطائرة .. وأحس بهالة شمعية من الضوء تسدل الستار على حياته .
قبطان الانتينوف رجل احمق مستهتر له لحية طويلة وكان في كل رحلة يضع الخمر تحت مقعده ويتجرعها وهو يحكي عن مغامراته مع فتيات الاوتوستوب في شارع المطار وكان هو الناجي الوحيد من تلك الكارثة حينما تحطمت الطائرة في نهر السوباط .. وحينما يسأل عن سبب نجاته العجيبة التي كانت أشيه بمعجزة فانه لا يردها الى الارادة السماوية وانما يقول " هوي يا بجم .. انا كتا واقف زمبارا " وأحس الذين تحروا معه ان استهتاره يخفي سرا سيموت معه .. لأن جهات عليا في الدولة قد وضعت يدها على الملفات .
كانا دائما يضع احدهما يده في يد الآخر .. عاشا الأماني والأحلام معا .. وخاضا الحروب الجائرة الظالمة في الأحراش المكشوفة المنهوبة .. وشربا الدماء والدموع في ليالي الحروب المنسية .. ولكن الحقيقة أثبتت أن القتلة لن يكونوا أبدا إخوانا .. وأن السلاح الذي قتلوا به ( الغير) سيكون السلاح الذي يدمرون به بعضهم البعض .. واذا كانت الانتينوف المحلقة تلغي الحدود فإن الجريمة تلغي المبادئ .. صعدا سلم الطائرة يدا بيد يضحكان ولكن أحدهما كان دائما يتحسس مقبض مسدسه الأمريكي الثقيل ويشعر أن المهمة لن تكون سهلة .. جلسا في الطائرة متقابلين يحدق كل منهما في ملامح الآخر .. وفي اللحظة التي اندفعت فيها الطائرة في المدرج كان صاحب المسدس يتفرس في وجه الجنرال .. وفي عينيه .. ويريد ان يعرف الأشياء التي يصنعها الشخص المقبل على الموت دون أن يدري .. حلقت الطائرة بين السحب وصارت ترتجف كأنها ثوب معلق في مشجب.. الجنرال يضحك كأنه في نزهة ويحادث بعض الضباط الشباب بجانبه .. هل يعقل ان يكون احد الناس مقبلا على الموت دون ان تحدث له بعض التغيرات ؟ .. ألا تحمي الطبيعة نفسها ؟ .. هل سيتم الوحي ويقفز الجنرال من موته المحقق بالباراشوت ؟ كلا إن إرادة الجريمة أكبر من الوحي و أكبر من الحاسة السادسة و أكبر من الحدس الفجائي .. وعندما دخلت الطائرة بين سحب داكنة ممطرة ينير لها البرق دروبها عبرت سحابة حزن فجائية جبهة الجنرال التي صارت تتجمع فيها قطرات عرق حمراء وتتساقط حباتها على قميصه العسكري فجأة وقف على قدميه صائحا بصوت متقطع " في واحد فيكم عندو سيجارة ؟"لم يدخن الجنرال في كل حياته .. أخرج له احدهم سيجارة مارلبورو .. فصاح الجنرال " ولعا. " وجلس في المقعد يدخن ويرتجف سأله أحدهم " مالك يا سيادتو . في حاجة ؟ "
قال له كأنه يحتج على سؤاله .
" انتو ما شايفين البرق دا .. البرق دا زي الشمع ؟ "
قالوا له .
" طبيعي . الشمع لونو ابيض . "
فكر الرجل صاحب المسدس الذي كان يدير عينيه في كل الاتجاهات في أمر السيجارة وتذكر أن أحد الرجال الذين عملوا في بيوت الأشباح ثم أصبح جلادا في مشنقة سجن ( كوبر ) انه قال إن معظم المحكومين بالشنق يطلبون قبل ثوان من إعدامهم سيجارة مارلبورو ولكنهم يحضرون لهم سيجائر ( البرنجي ) وأن احد المحكومين دخن علبة كاملة وطلع الى المشنقة وسيجارة اخيرة في فمه ولكن القاضي قال له " الكلام دا ممنوع " ولكن المحكوم واصل التدخين وقبل ان ينفث اخر دخان انهار على الارض ولما فحصه الطبيب وجده جثة هامدة قد فارقت الحياة .. وضع الجنرال رأسه على طرف المقعد بينما كانت الطائرة تهتز في مطب هوائي وتضيق عليها الطرق الواسعة في الفضاء العريض وتصبح كقشة في مهب الريح .. ولاحظ الرجل ذو الوجه الداكن الحليق وهو يتحسس البنطلون حيث وضع المسدس بحيث يمكن الوصول اليه بسرعة في الوقت المناسب أن الجنرال يضع يده على معدته ورآه يفتح فمه كأنه كتكوت مصاب بضيق تنفسي .. كانت الصواعق تضرب سطح الطائرة .. وكانت الانتنوف تطوح وترقص رقصة الموت وعلى الإفق البعيد يبدو نهر السوباط باهتا و متعرجا ومتأهبا للمأساة كأنه ثعبان سينقض على ضفدع .. وبعد لحظات معدودات صفت السماء وظهرت زرقاء ومعافاة كأنها صفحة بحيرة في القصور القديمة .. ولكن الانتنوف العجوز كانت تتأرجح وتكركب كأنها قافلة يسحقها الظمأ ودخانها الاسود يلفها ويكاد يحرقها .. وهنا صاح الجنرال .
" أنا جيعان .. هناك شئ يأكل في معدتي "
جرى أحدهم وأحضر له طبق دجاج وسمك .. فابتلعه كأنه تمساح .. وأحضروا له ماء مثلجا .. ولكنه صاح كأنه ممغوص
" أنا جيعان . عاوز صخور .. معدتي عاوزة تطحن صخور "
كان الرجل الداكن الملامح الذي لم يحس باي رغبة في التراجع عن قتل الجنرال يتأمل في إشارات الموت وفي هذا الجوع الغاصب الذي لا يعرفه الفقراء ولا المشردون ولا المساجين في زنازينهم .. هذا الجوع الذي يأكل الجسد كما تأكل النار الحطب .. ويقال إنه نوع من الجوع العقابي الذي يحس به بعض المقبلين على موت عنيف .. وبعد أن أكل الجنرال كل الدجاج والسمك في الطائرة صار يغرز أسنانه في ذراعيه ويقضم أصابعه حتى سالت منها الدماء ولكنه فجأة توقف واغرورقت عيناه بالدموع عندما تذكر احد اصدقائه الذين اعدموا في أحد الانقلابات .. في تلك الليلة كان يجب أن ينضم اليه في الدبابة ولكنه أحس بالمجهول وبالهول الذي يحس به كل إنقلابي .. انتظره العقيد الذي سار في دروب الموت والخيانة الوطنية ولكنه لم يأت .. فركب العقيد الدبابة التي تحركت قبلها عدة دبابات وحيدا وانطلق بها من الكبري حيث كانت مرابطة منذ عدة شهور .. في شارع الموردة رأى شبحا تحت أحد الأشجار .. فاقترب بدبابته متمهلا .. كانت امرأة في ريعان الشباب .. ممتلئة الجسد .. تلبس ثوبا شفافا يظهر الفستان القصير الذي تلبسه .. كانت تنظر اليه باغراء وغنج لا يقاومان .. لقد ظلت منتظرة هنا حتى الساعة الثانية عشرة منتصف الليل دون أن يقف لها أحد . قال لها ..
" أركبي "
نظرت اليه بقوة في عينيه فرأى كل سحر الانقلابات والبطولة تسيل مع ذلك الكحل العميق حول عينيها . قالت له
" كم ستدفع ؟ "
قال لها وهو صادق .
" أي شئ تطلبينه "
قالت له وهي مازالت تنظر بحدة
" يعني كم ؟ "
قال لها بيقين تام .
" سأدفع أي حاجة انت عاوزاها . غدا صباحا سأصبح رئيس مجلس قيادة الثورة وسيكون السودان كله رهن إشارتي . وستلبسين أغلى ثياب الحرير .. والذهب .. وستعيشين في قصر " ولكي يؤكد لها صدقه أخرج لها بيان الثورة الأول .. وقرأ جزءا منه .. نظرت اليه والى الملابس العسكرية التي يلبسها والى القبعة فوق رأسه وأحزمة الرصاص فوق فخذيه وأحست هذه المرأة المدربة على المخاوف والمغامرات الغير محسوبة أن هذه هي اللحظة الفاصلة بين الحياة في الأعالي والحياة في الحفر .. والحياة كبائعة هوى يمكن أن تموت في بيت مجهول .. والحياة كامرأة محترمة يمكن أن تموت في قصر .. صعدت الدبابة بلا خوف لأول مرة في حياتها القصيرة وخلعت ثوبها المورد بالأحمر كما أمرها وجلست قربه بفستانها القصير الشفاف الذي انحسر عن فخذين من المرمر غمسا في عطور معتقة منذ مملكة سنار .. فتح السوستة من الخلف .. واصطدمت أصابعه بحمالة الصدر الغائصة في ظهرها .. فأحس بها تشهق كأنها تشاهد فيلم رعب .. وأحس بقلبه يتفجر تحت الاشجار ويجرف ملابسها التي تعرت منها تماما .. في الساعة الثانية صباحا ظهرت الدبابة المتمهلة قرب باب الإذاعة .. اطلقت قذيفة واحدة لتحية العقيد قائد الانقلاب وفتحت له الأبواب .. وجاء احدهم في الظلام وقدم له تنويرا شاملا عن سقوط القيادة العامة وعن اعتقال رئيس الوزراء ووزير الدفاع ووزير الداخلية وأن البحث جار عن رئيس الجمهورية .. وتمركز عشرات الجنود حول مواقع حصينة في الإذاعة وتمركزت الدبابات في المداخل والمخارج .. أما دبابة العقيد فقد وجدت لها مكانا تحت شجرة وارفة كثيفة الاغصان كان القمر يضئ أجزاء منها .. وفي الوقت الذي كانت فيه المارشات تعزف الألحان العسكرية منتظرة الفجر .. كان العقيد مع تلك الشابة الدافئة يرقدان قرب الدبابة في سجادة مربعة يمارسان كل طقوس رجل وامرأة مقبلين إما على الموت أو على المجد .. لقد فتحت له كل قلبها كأنها تعشقه منذ بدء الخليقة .. وسلمت له كل جسدها الباحث عن حلول جذرية كما لم تفعل من قبل مع كل الرجال الذين عبروا حياتها وخيالها في تلك الليالى كثيفة الظلام في شوارع الموردة والاربعين والعرضة .. كانا لا يتوقفان عن أن يذوب كل منهما في الآخر الا ريثما يعودان لذلك الكفاح الأبدي المبطن ببطولات أبطال التاريخ الذين فتحوا المدن وكسحوا المجندين وقاتلوا طواحين الهواء .. وعندما فشل الانقلاب وقصفت الدبابات قصفا مكثفا مريعا قبيل الفجر وفر الجنود الى سوق امدرمان وبعض قفز في النهر .. وجد العقيد في الاستوديو هادئا وأمامه (المكرفون) وهو يحاول أن يلقي بيانه الأول .. وكانت المرأة وهي شبه عارية وتلبس بدلته مفتوحة الأزرة وقبعته الملوثة بعرقها وتحمل بندقية وتلف أحزمة الرصاص حول ظهرها تقف بجانبه لتستمع الى البيان (لايف) .. أعدمت معه في باحة الاذاعة وهي تصيح باسمه وبأنه رئيس الجمهورية قبل ان يحصدهما الرصاص معا.
كان هذا الخيال كثيفا ومؤرقا وقريبا في ذهن الجنرال بينما كانت طائرة الانتنوف العرجاء تتوسط نهر السوباط تماما .. وفي لحظة خرج أحد الجالسين في كابينة القيادة ليعلن أنهم سيهبطون اضطراريا لتحطم جزء من جناح الطائرة الأيمن .. ولكنهم لم ينتبهوا لهذا الحديث لأن الرجل كان متلعثما ومترنحا ولأن الطائرة كانت في أحوال هادئة ولأنهم كانوا مشغولين بالجنرال الذي تقيأ كل الدجاج والسمك وصار يتقيأ مادة مخاطية سوداء مخلوطة بمادة حمراء .. وفي اللحظة التي دخل فيها قبطان الطائرة الى الكابينة انقلبت الطائرة رأسا على عقب .. وتدحرج الجنرال الى مؤخرة الطائرة .. ولكن عيني الرجل المسلح كانتا تراقبانه باستمرار كأنه كان خائفا أن يفلت منه ويهبط بمظلة .. ثم اعتدلت الطائرة وهي تزعق وتزأر وتشخر وتهدر ولاحظ الركاب بما لا يدع مجالا للشك بأن جناح الطائرة قد تعرى تماما من أغطيته وأن اضواء النيران تنبعث من منطقة ما من الطائرة .. وما هي الا لحظات حتى رأوا جناح الطائرة ينخلع من مكانه ويطير في الهواء واحسوا بتيارات باردة عنيفة تقتحم الطائرة وأن قبعة الجنرال والرجل الذي ما فتئ يراقبه في كل الظروف والاحوال قد اصطدمتا ودارتا معا ثم اخذهما التيار الهوائي الى خارج الطائرة حيث اختلطتا بالنيران التي ملأت الافق .. كانت الطائرة في حالة سقوط .. وهنا خرج القبطان يرقص غير واع بما يحدث أو أنه واع ولكنه غير مبال بحياته وحياة الآخرين .. وفي لحظات وهي على بعد أمتار من الماء انشقت الطائرة الى نصفين .. وانقسم الركاب ايضا الى نصفين متساويين .. وحدث اصطدام عنيف .. جزء من الطائرة غرق تماما بركابه .. أما الجزء الآخر فقد ظل طافيا فوق جذوع بعض الاشجار .. كانت الدماء تسيل من الموتى وكان الجنرال في حالة من الهلع والفزع وهو يرى الماء يتدفق الى داخل الطائرة التي كانت تغوص شيئا فشيئا وكان يبدو جريحا في قدمه اليمنى .. أما الرجل الآخر الذي كان يتحسس مسدسه .. فقد كان في أحسن الأحوال .. رابط الجأش .. مصمم على اداء واجبه .. طلب منه الجنرال ان يساعده في الخروج من الطائرة .. ولكن إبتسم ابتسامة بشعة .. واستل مسدسه .. وصوبه الى وجه الجنرال .. سأله الجنرال وهو في احوال من الهلع والجزع عما يريد أن يفعله .. فقال له " قتلك " وانطلقت عدة رصاصات متوالية اصدرت صوتا رنانا كأنها تصطدم بصخرة صماء ورأى الجنرال الذي كان واقفا على قدميه يسقط على وجهه المحطم في الماء .. نظر إليه نظر أخيرة وإلى بركة الدماء حوله .. وبدأ يسبح نحو الشاطئ بعد أن رمى المسدس في اللجة .
كابوس .. " لا .. لا .. ما عاوز أموت " حاول أن يصل الى المسدس الموجه إلى رأسه .. واندفع بكل ثقل الاجساد التي أيقنت أنها لا محالة في القبر .. وأن الفرصة الأخيرة لها لن تحقق شيئا سوى مزيد من الدما ء .. ومزيد من القتلى .. وعندما طوح بيديه في الهواء .. سمع دويا غامضا بلوريا .. وأحس بلسعة باردة ثلجية بين حاجبيه .. ثم شعر برأسه يتفجر والشعر الأشيب يتطاير من فروته في كل الاتجاهات .. وأسنانه تتبعثر في أرضية الطائرة .. وأحس بهالة شمعية من الضوء تسدل الستار على حياته .
قبطان الانتينوف رجل احمق مستهتر له لحية طويلة وكان في كل رحلة يضع الخمر تحت مقعده ويتجرعها وهو يحكي عن مغامراته مع فتيات الاوتوستوب في شارع المطار وكان هو الناجي الوحيد من تلك الكارثة حينما تحطمت الطائرة في نهر السوباط .. وحينما يسأل عن سبب نجاته العجيبة التي كانت أشيه بمعجزة فانه لا يردها الى الارادة السماوية وانما يقول " هوي يا بجم .. انا كتا واقف زمبارا " وأحس الذين تحروا معه ان استهتاره يخفي سرا سيموت معه .. لأن جهات عليا في الدولة قد وضعت يدها على الملفات .
كانا دائما يضع احدهما يده في يد الآخر .. عاشا الأماني والأحلام معا .. وخاضا الحروب الجائرة الظالمة في الأحراش المكشوفة المنهوبة .. وشربا الدماء والدموع في ليالي الحروب المنسية .. ولكن الحقيقة أثبتت أن القتلة لن يكونوا أبدا إخوانا .. وأن السلاح الذي قتلوا به ( الغير) سيكون السلاح الذي يدمرون به بعضهم البعض .. واذا كانت الانتينوف المحلقة تلغي الحدود فإن الجريمة تلغي المبادئ .. صعدا سلم الطائرة يدا بيد يضحكان ولكن أحدهما كان دائما يتحسس مقبض مسدسه الأمريكي الثقيل ويشعر أن المهمة لن تكون سهلة .. جلسا في الطائرة متقابلين يحدق كل منهما في ملامح الآخر .. وفي اللحظة التي اندفعت فيها الطائرة في المدرج كان صاحب المسدس يتفرس في وجه الجنرال .. وفي عينيه .. ويريد ان يعرف الأشياء التي يصنعها الشخص المقبل على الموت دون أن يدري .. حلقت الطائرة بين السحب وصارت ترتجف كأنها ثوب معلق في مشجب.. الجنرال يضحك كأنه في نزهة ويحادث بعض الضباط الشباب بجانبه .. هل يعقل ان يكون احد الناس مقبلا على الموت دون ان تحدث له بعض التغيرات ؟ .. ألا تحمي الطبيعة نفسها ؟ .. هل سيتم الوحي ويقفز الجنرال من موته المحقق بالباراشوت ؟ كلا إن إرادة الجريمة أكبر من الوحي و أكبر من الحاسة السادسة و أكبر من الحدس الفجائي .. وعندما دخلت الطائرة بين سحب داكنة ممطرة ينير لها البرق دروبها عبرت سحابة حزن فجائية جبهة الجنرال التي صارت تتجمع فيها قطرات عرق حمراء وتتساقط حباتها على قميصه العسكري فجأة وقف على قدميه صائحا بصوت متقطع " في واحد فيكم عندو سيجارة ؟"لم يدخن الجنرال في كل حياته .. أخرج له احدهم سيجارة مارلبورو .. فصاح الجنرال " ولعا. " وجلس في المقعد يدخن ويرتجف سأله أحدهم " مالك يا سيادتو . في حاجة ؟ "
قال له كأنه يحتج على سؤاله .
" انتو ما شايفين البرق دا .. البرق دا زي الشمع ؟ "
قالوا له .
" طبيعي . الشمع لونو ابيض . "
فكر الرجل صاحب المسدس الذي كان يدير عينيه في كل الاتجاهات في أمر السيجارة وتذكر أن أحد الرجال الذين عملوا في بيوت الأشباح ثم أصبح جلادا في مشنقة سجن ( كوبر ) انه قال إن معظم المحكومين بالشنق يطلبون قبل ثوان من إعدامهم سيجارة مارلبورو ولكنهم يحضرون لهم سيجائر ( البرنجي ) وأن احد المحكومين دخن علبة كاملة وطلع الى المشنقة وسيجارة اخيرة في فمه ولكن القاضي قال له " الكلام دا ممنوع " ولكن المحكوم واصل التدخين وقبل ان ينفث اخر دخان انهار على الارض ولما فحصه الطبيب وجده جثة هامدة قد فارقت الحياة .. وضع الجنرال رأسه على طرف المقعد بينما كانت الطائرة تهتز في مطب هوائي وتضيق عليها الطرق الواسعة في الفضاء العريض وتصبح كقشة في مهب الريح .. ولاحظ الرجل ذو الوجه الداكن الحليق وهو يتحسس البنطلون حيث وضع المسدس بحيث يمكن الوصول اليه بسرعة في الوقت المناسب أن الجنرال يضع يده على معدته ورآه يفتح فمه كأنه كتكوت مصاب بضيق تنفسي .. كانت الصواعق تضرب سطح الطائرة .. وكانت الانتنوف تطوح وترقص رقصة الموت وعلى الإفق البعيد يبدو نهر السوباط باهتا و متعرجا ومتأهبا للمأساة كأنه ثعبان سينقض على ضفدع .. وبعد لحظات معدودات صفت السماء وظهرت زرقاء ومعافاة كأنها صفحة بحيرة في القصور القديمة .. ولكن الانتنوف العجوز كانت تتأرجح وتكركب كأنها قافلة يسحقها الظمأ ودخانها الاسود يلفها ويكاد يحرقها .. وهنا صاح الجنرال .
" أنا جيعان .. هناك شئ يأكل في معدتي "
جرى أحدهم وأحضر له طبق دجاج وسمك .. فابتلعه كأنه تمساح .. وأحضروا له ماء مثلجا .. ولكنه صاح كأنه ممغوص
" أنا جيعان . عاوز صخور .. معدتي عاوزة تطحن صخور "
كان الرجل الداكن الملامح الذي لم يحس باي رغبة في التراجع عن قتل الجنرال يتأمل في إشارات الموت وفي هذا الجوع الغاصب الذي لا يعرفه الفقراء ولا المشردون ولا المساجين في زنازينهم .. هذا الجوع الذي يأكل الجسد كما تأكل النار الحطب .. ويقال إنه نوع من الجوع العقابي الذي يحس به بعض المقبلين على موت عنيف .. وبعد أن أكل الجنرال كل الدجاج والسمك في الطائرة صار يغرز أسنانه في ذراعيه ويقضم أصابعه حتى سالت منها الدماء ولكنه فجأة توقف واغرورقت عيناه بالدموع عندما تذكر احد اصدقائه الذين اعدموا في أحد الانقلابات .. في تلك الليلة كان يجب أن ينضم اليه في الدبابة ولكنه أحس بالمجهول وبالهول الذي يحس به كل إنقلابي .. انتظره العقيد الذي سار في دروب الموت والخيانة الوطنية ولكنه لم يأت .. فركب العقيد الدبابة التي تحركت قبلها عدة دبابات وحيدا وانطلق بها من الكبري حيث كانت مرابطة منذ عدة شهور .. في شارع الموردة رأى شبحا تحت أحد الأشجار .. فاقترب بدبابته متمهلا .. كانت امرأة في ريعان الشباب .. ممتلئة الجسد .. تلبس ثوبا شفافا يظهر الفستان القصير الذي تلبسه .. كانت تنظر اليه باغراء وغنج لا يقاومان .. لقد ظلت منتظرة هنا حتى الساعة الثانية عشرة منتصف الليل دون أن يقف لها أحد . قال لها ..
" أركبي "
نظرت اليه بقوة في عينيه فرأى كل سحر الانقلابات والبطولة تسيل مع ذلك الكحل العميق حول عينيها . قالت له
" كم ستدفع ؟ "
قال لها وهو صادق .
" أي شئ تطلبينه "
قالت له وهي مازالت تنظر بحدة
" يعني كم ؟ "
قال لها بيقين تام .
" سأدفع أي حاجة انت عاوزاها . غدا صباحا سأصبح رئيس مجلس قيادة الثورة وسيكون السودان كله رهن إشارتي . وستلبسين أغلى ثياب الحرير .. والذهب .. وستعيشين في قصر " ولكي يؤكد لها صدقه أخرج لها بيان الثورة الأول .. وقرأ جزءا منه .. نظرت اليه والى الملابس العسكرية التي يلبسها والى القبعة فوق رأسه وأحزمة الرصاص فوق فخذيه وأحست هذه المرأة المدربة على المخاوف والمغامرات الغير محسوبة أن هذه هي اللحظة الفاصلة بين الحياة في الأعالي والحياة في الحفر .. والحياة كبائعة هوى يمكن أن تموت في بيت مجهول .. والحياة كامرأة محترمة يمكن أن تموت في قصر .. صعدت الدبابة بلا خوف لأول مرة في حياتها القصيرة وخلعت ثوبها المورد بالأحمر كما أمرها وجلست قربه بفستانها القصير الشفاف الذي انحسر عن فخذين من المرمر غمسا في عطور معتقة منذ مملكة سنار .. فتح السوستة من الخلف .. واصطدمت أصابعه بحمالة الصدر الغائصة في ظهرها .. فأحس بها تشهق كأنها تشاهد فيلم رعب .. وأحس بقلبه يتفجر تحت الاشجار ويجرف ملابسها التي تعرت منها تماما .. في الساعة الثانية صباحا ظهرت الدبابة المتمهلة قرب باب الإذاعة .. اطلقت قذيفة واحدة لتحية العقيد قائد الانقلاب وفتحت له الأبواب .. وجاء احدهم في الظلام وقدم له تنويرا شاملا عن سقوط القيادة العامة وعن اعتقال رئيس الوزراء ووزير الدفاع ووزير الداخلية وأن البحث جار عن رئيس الجمهورية .. وتمركز عشرات الجنود حول مواقع حصينة في الإذاعة وتمركزت الدبابات في المداخل والمخارج .. أما دبابة العقيد فقد وجدت لها مكانا تحت شجرة وارفة كثيفة الاغصان كان القمر يضئ أجزاء منها .. وفي الوقت الذي كانت فيه المارشات تعزف الألحان العسكرية منتظرة الفجر .. كان العقيد مع تلك الشابة الدافئة يرقدان قرب الدبابة في سجادة مربعة يمارسان كل طقوس رجل وامرأة مقبلين إما على الموت أو على المجد .. لقد فتحت له كل قلبها كأنها تعشقه منذ بدء الخليقة .. وسلمت له كل جسدها الباحث عن حلول جذرية كما لم تفعل من قبل مع كل الرجال الذين عبروا حياتها وخيالها في تلك الليالى كثيفة الظلام في شوارع الموردة والاربعين والعرضة .. كانا لا يتوقفان عن أن يذوب كل منهما في الآخر الا ريثما يعودان لذلك الكفاح الأبدي المبطن ببطولات أبطال التاريخ الذين فتحوا المدن وكسحوا المجندين وقاتلوا طواحين الهواء .. وعندما فشل الانقلاب وقصفت الدبابات قصفا مكثفا مريعا قبيل الفجر وفر الجنود الى سوق امدرمان وبعض قفز في النهر .. وجد العقيد في الاستوديو هادئا وأمامه (المكرفون) وهو يحاول أن يلقي بيانه الأول .. وكانت المرأة وهي شبه عارية وتلبس بدلته مفتوحة الأزرة وقبعته الملوثة بعرقها وتحمل بندقية وتلف أحزمة الرصاص حول ظهرها تقف بجانبه لتستمع الى البيان (لايف) .. أعدمت معه في باحة الاذاعة وهي تصيح باسمه وبأنه رئيس الجمهورية قبل ان يحصدهما الرصاص معا.
كان هذا الخيال كثيفا ومؤرقا وقريبا في ذهن الجنرال بينما كانت طائرة الانتنوف العرجاء تتوسط نهر السوباط تماما .. وفي لحظة خرج أحد الجالسين في كابينة القيادة ليعلن أنهم سيهبطون اضطراريا لتحطم جزء من جناح الطائرة الأيمن .. ولكنهم لم ينتبهوا لهذا الحديث لأن الرجل كان متلعثما ومترنحا ولأن الطائرة كانت في أحوال هادئة ولأنهم كانوا مشغولين بالجنرال الذي تقيأ كل الدجاج والسمك وصار يتقيأ مادة مخاطية سوداء مخلوطة بمادة حمراء .. وفي اللحظة التي دخل فيها قبطان الطائرة الى الكابينة انقلبت الطائرة رأسا على عقب .. وتدحرج الجنرال الى مؤخرة الطائرة .. ولكن عيني الرجل المسلح كانتا تراقبانه باستمرار كأنه كان خائفا أن يفلت منه ويهبط بمظلة .. ثم اعتدلت الطائرة وهي تزعق وتزأر وتشخر وتهدر ولاحظ الركاب بما لا يدع مجالا للشك بأن جناح الطائرة قد تعرى تماما من أغطيته وأن اضواء النيران تنبعث من منطقة ما من الطائرة .. وما هي الا لحظات حتى رأوا جناح الطائرة ينخلع من مكانه ويطير في الهواء واحسوا بتيارات باردة عنيفة تقتحم الطائرة وأن قبعة الجنرال والرجل الذي ما فتئ يراقبه في كل الظروف والاحوال قد اصطدمتا ودارتا معا ثم اخذهما التيار الهوائي الى خارج الطائرة حيث اختلطتا بالنيران التي ملأت الافق .. كانت الطائرة في حالة سقوط .. وهنا خرج القبطان يرقص غير واع بما يحدث أو أنه واع ولكنه غير مبال بحياته وحياة الآخرين .. وفي لحظات وهي على بعد أمتار من الماء انشقت الطائرة الى نصفين .. وانقسم الركاب ايضا الى نصفين متساويين .. وحدث اصطدام عنيف .. جزء من الطائرة غرق تماما بركابه .. أما الجزء الآخر فقد ظل طافيا فوق جذوع بعض الاشجار .. كانت الدماء تسيل من الموتى وكان الجنرال في حالة من الهلع والفزع وهو يرى الماء يتدفق الى داخل الطائرة التي كانت تغوص شيئا فشيئا وكان يبدو جريحا في قدمه اليمنى .. أما الرجل الآخر الذي كان يتحسس مسدسه .. فقد كان في أحسن الأحوال .. رابط الجأش .. مصمم على اداء واجبه .. طلب منه الجنرال ان يساعده في الخروج من الطائرة .. ولكن إبتسم ابتسامة بشعة .. واستل مسدسه .. وصوبه الى وجه الجنرال .. سأله الجنرال وهو في احوال من الهلع والجزع عما يريد أن يفعله .. فقال له " قتلك " وانطلقت عدة رصاصات متوالية اصدرت صوتا رنانا كأنها تصطدم بصخرة صماء ورأى الجنرال الذي كان واقفا على قدميه يسقط على وجهه المحطم في الماء .. نظر إليه نظر أخيرة وإلى بركة الدماء حوله .. وبدأ يسبح نحو الشاطئ بعد أن رمى المسدس في اللجة .