دنفر – كلورادو في 27 نوفمير 2006
الدكتور الفاضل/ عبد السلام
لك خالص التحايا وجزيل الشكر علي موافقتك علي المشاركة في الحوار الذي جرى بيني والدكتور الجعلي في شأن القضايا الكبري والأسئلة الملحة في ساحة الحركة الاتحادية و الحزب الإتحادي الديموقراطي.
في حديثنا الهاتفي كنّا قد تناولنا المساحة التي تود المساهمة فيها بطرح فكري يهدف الي التناول المتعّمق لأمر الطبقة الوسطى السودانية بغرض الإجابة علي الأسئلة المتعلقة بالإخفاقات والنجاحات التي صاحبت مسيرة الحزب منذ التأسيس.
لقد قمنا بحصر المراجع والأبحاث التي ستستند اليها الدراسة وهي حتى الآن :
1. رسالة الدكتوراة التي أعدها المرحوم الدكتور خالد الكد عن الأفندية.
2. رسالة الدكتوراة التي أعدتها الدكتورة عفاف عبد الماجد ابوحسبو.
3. مذكرات المرحوم عبد اللطيف الخليفة ( جزءين).
4. كتاب السودان: المأزق التاريخي وآفاق المستقبل. المرحوم محمد أبوالقاسم حاج حمد.
5. مذكرات الرئيس اسماعيل الأزهري.
6. مذكرات خضر حمد.
7. مذكرات عبد الماجد أبو حسبو( جزءين, أحدهما منشور والآخر مخطوط).
هذا ما أسعفتني الذاكرة به, وبالطبع القائمة قابلة للإضافة متى ما وجد المصدر المتعلق بالموضوع.
الدكتور عبد السلام
في رسالتي الأولى لأستاذنا الجعلي كنت قد نوهًّت الي ضرورة تقصي أمر الطبقة الوسطي بوصفها الوعاء الإجتماعي الذي إستندت اليه الحركة الوطنية وحزبها الإتحادي, وكذلك أشرت الي ضرورة النظر في ما آلت اليه أحوال تلك الطبقة من جرَّاء السياسات الإقتصادية لحكمي النميري والبشير.
بعد مراجعته لتلك النقطة كتب أستاذنا الجعلي مُقترِحاً ضرورة فك الإشتباك المفاهيمي والإبهام المنهجي الذي تم به طرح القضية, وفي رسالة لاحقة حاولت التفصيل في ذلك الموضوع.
من الأسئلة التي طرحها الدكتور الجعلي السؤال التالي:
ما هو تعريف الطبقة ؟ هل يتم التعامل معها من منظور ماركسي؟
في إجابتي علي هذا السؤال تجدني أكثر حذراً في تحليل التكوين الطبقي في السودان خشية الإنزلاق في نفق البحث النظري المجرَّد أو المستند علي قوالب تعريفية مستلفة من تجارب أخرى وعلي وجه الخصوص التجربة الأوروبية التي ينتمي اليها التحليل الماركسي/اللينيني. ومن هذا المنطلق أتفق مع الراحل محمد أبو القاسم حاج حمد في نظرته للطبقة العاملة السودانية, ومن هنا كذلك يجيء خلافي مع غازي الصوراني في نظراته الناقدة لتعريفات الدكتور حليم بركات والدكتور رمزي زكي للطبقة الوسطى.
بداية أورد هذا النص لحاج حمد في مقابلة صحفية نشرتها صحيفة سودانايل الإلكترونية في 4/27/2004 , في تعليقه علي الإهتمام الذي ظل يوليه لدراسة قوى التطوُّر الدافعة للتغيير في الوطن العربي عموماً والسودان خصوصا يقول حاج حمد:
( كنت أهتم بمناقشة اشكالية محددة: ما هي القاعدة الإجتماعية للتغيير في العالم الثالث؟, في العالم
المتقدم , كارل ماركس حدَّد قضية طبقة البروليتاريا (العمال) في مواجهة الرأسمالية, وحدًّد البرجوازية التجارية في مواجهة الإقطاع. حين نريد التغيير في العالم الثالث علي أي قاعدة إجتماعية نعتمد؟ في كتاب " السودان: المأزق التاريخي وآفاق المستقبل" درستُ وضع العمال, ووجدت أنَّ القاعدة العمالية ليست قاعدة طبقية, فهى قاعدة أسست قبل الرأسمالية في السودان نتيجة للإستثمار الاستعماري في السكك الحديدية والورش في عطبرة وميناء بورتسودان. اذن, طبقتنا العمالية ليست متولدة جدلياً عن وجود طبقة رأسمالية, انما سبقتها في التكوين. طبقة الفلاحين الجدد أيضاً ارتبطت بالإستثمار الإستعماري قبل نشوء الرأسمالية الزراعية في مشاريع الزيداب, والبرقيق, والجزيرة, منذ 1924, في حين أنَّ إرهاصات الرأسمالية السودانية بدأت في الخمسينيات. اذن, وجدت أنه ليست هناك قواعد إجتماعية عمالية أو زراعية بالمعنى الطبقي ثم أنَّ الجدلية معكوسة, فالقوى العمالية-كفئويين- قوتها نقابية وليست طبقية, وقوى المزارعين نشأت قبل نشوء الرأسماليتين الصناعية والزراعية. هذه المعضلة جعلتني أفترق عن تحليلات الفكر الماركسي في السودان حول القاعدة الإجتماعية للتغيير حيث اعتمدوا على العمال والفلاحين ). إنتهى حديث حاج حمد.
يبدو جلياً أنَّ الوضع السوداني يتمايز عن الوضع الأوروبي الذي ألهمت معطياته أدوات التحليل الماركسي/اللينيني والتي تشترط أساساً إنبثاق طبقة العمَّال عن الطبقة الرأسمالية وبالتالي يصعب تتبع ذلك التحليل حذوك النعل بالنعل. وقريبٌ من تحليل حاج حمد هذا ما قال به المرحوم عوض عبد الرازق في تقريره المرفوع للحزب الشيوعي في عام 1953 وهو التقرير الذي قمتُ بتحليله في مقال سابق نشرته صحيفة الصحافة في مايو2000.
هذا الحذر في تناول مفهوم الطبقة إعتماداً علي المنظور الماركسي هو الذي يجعلني أتوقف متسائلاً عند تبني غازي الصوراني لتعريف المفكّر الماركسي الراحل د. فؤاد مرسي للبرجوازية الصغيرة بوصفها هي الطبقة الوسطى ذاتها, يؤكد فؤاد مرسي أنَّ :
"الحرفيين وصغار المنتجين وأصحاب الحوانيت وصغار الفلاحين والموظفين, يشكلون جميعاً ما يسمى بالبورجوازية الصغيرة, أكثر الطبقات عدداً وأوسعها نفوذاً وأبعدها أثراً في مجتمعنا ".
في حين أنه يقول أنَّ الطبقة البرجوازية المتوسطة:
" تتميز بضعف بنيتها وحجمها ودورها, وبتماسك موقفها الآيديولوجي الأقرب الى آيدولوجية البرجوازية الكبيرة, بحكم توافق المصالح وتداخلها بينهما".
يبدو من تعريف الدكتور فؤاد مرسي للبرجوازية الصغيرة إستبعاده للمثقفين وفئات المعلمين وأساتذة الجامعة والأطباء والمحاميين والمهندسين والقضاة وأصحاب الأعمال الحرّة من هذه الطبقة التي يظن أنهّا(هي الأكثر عدداً والأوسع نفوذاً والأبعد أثراً في المجتمع ),واذا كان مفهومه هذا صحيحاً فإنه يعني أنَّ البرجوازية الصغيرة هي ذاتها الطبقة الوسطى التي نجتهد في تحديد ملامحها, وهنا علي وجه التحديد يجيء إعتراضي علي هذا التعريف.
فعلى الرغم من أنَّ الطبقة الوسطى السودانية قد ضمَّت بعض الفئات التي حددّها مرسي في تعريفه: الحرفيين وأصحاب الحوانيت (الكناتين) والموظفين, الاّ أنها لم تقتصر عليهم بل شملت كل الفئات السالف ذكرها وهى الفئات التي لعبت الأدوار الأهم في التأريخ السوداني الحديث.
يبدو من تعريف مرسي للبرجوازية المتوسطة أنه يعني ذات الفئات التي أعدها أنا ضمن الطبقة الوسطى : المثقفين وأساتذة الجامعة والموظفين وغيرهم , وهنا تكمن نقطة الخلاف مع التعريف الماركسي الذي يقول بتواطؤ البرجوازية المتوسطة مع البرجوازية الكبيرة بحكم توافق المصالح وهو ما لا يُفسِّر حالة السودان. إنَّ ما يفسر حالة السودان هو تحديداً الخلل الذي صاحب نمو وتطور هذه الطبقة في ظل حاضنة إستعمارية وسمتها بمياسم أفلح في تصويرها المفكرِّ المارتينيكي فرانتز فانون Frantz Fanon في كتابه ذائع الصيتThe Wretched of the Earth . وأرجو أن تسمح لي بتسطير هذا الإقتباس المُطوَّل من فصله الموسوم ب The Pitfalls of National Consciousness يكتب فانون :
(The national middle class who takes over power at the end of the colonial regime is an underdeveloped middle class. It has practically no economic power, and in no way commensurate with the bourgeoisie of the mother country which it hopes to replace. In its narcissism, the national middle class is easily convinced that it can advantageously replace the middle class of the mother country. But the same independence which literally drives it into a corner will give rise within its ranks to catastrophic reactions, and will oblige it to send out frenzied appeals for help to the former mother country. The university and merchant classes which make up the most enlightened sections of the new state are in fact characterized by the smallness of their number and their being concentrated in the capital, and the type of activities in which they are engaged: business, agriculture, and liberal professions. The national bourgeoisie of underdeveloped countries is not engaged in production, nor in invention, nor building, nor labor; is it completely canalized into activities of the intermediary type. Its innermost vocation seems to be to keep in the running and to be part of the racket. The psychology of the national bourgeoisie is that of a businessman, not that of a captain of industry; and it is only too true that the greed of the settlers and the system of embargoes set up by colonialism have hardly left them any other choice).
من الواضح أنَّ فرانتز فانون يعد التجار وأصحاب المهن الحرَّة والمثقفين الجامعيين بمختلف تخصصاتهم ( وهم الفئات سالفة الذكر) ضمن فئات الطبقة المتوسطة وهو ما يخالف تعريف الدكتور مرسي, ثم أنّه يستصحب في تحليله المعوقات التي ترثها بالضرورة تلك الطبقة الوسطى من المستعمر الذي يُجرِّدها من تملك أدوات مرحلة الإنتقال والتي تتمثل أساساً في الإنتاج والعمل والبناء المرتبط بالتصنيع . إنَّ الطبقة الوسطى تتحول بفعل سياسات الإستعمار إلى مُجرَّد جهاز خادم لتيسير تسيير جهاز الدولة وهو الأمر الذي لاحظه بذكائه المعهود المرحوم حاج حمد الذي يتحدَّث في ذات اللقاء الصحفي واصفاً أفراد تلك الطبقة:
( المثقفون في وقت متأخر. تلك الأشكالية الأولى التي كنت أعالجها في محاولة البحث عن قاعدة
التغيير, تغيير ماذا ؟ هذه قضية مهمة هي التي قادتني فيما بعد. المثقفون حين نحللهم, ليس بالشكل التجريدي ولكن بمنطق جدل الواقع وتكوينه, هم عبارة عن فئات كوّنها البريطانيون بمنهج تجريبي محدود جداً ليكونوا محاسبين, وكتبة, وإداريين, ومعلمي مراحل وسطى. فهم جهاز خدمات مرتبط بالمستعمر, ولم يستطيعوا تشكيل طبقة وسطى لأنهم لم يرتبطوا بقوى الإنتاج, وكان أكبر ما كانوه – في حال تحولّهم من موظفين الى القطاع الاقتصادي- ملاك عقارات, أو كومبرادور في شركات ذات أصول أجنبية (كونتي ميخالوس, بيطار, جلاتلي هانكين). لنأخذ المثقفين كقوي رافعة للمجتمع لم نجد هذه المقومات.). إنتهى
الدكتور عبد السلام
بعيداً عن تعقيدات تعريف المصطلح –رغما عن أهميتها- يهمني أن نبحث في جذور العلل التي صاحبت مسيرة تلك الطبقة والتي ألقت بظلالها علي التاريخ الوطني كله, والتي كانت إحدى مفاجآتها هي تلك الهزيمة التي ظلت محط تساؤلات في ذهنك منذ العام 1958, وأعني بها هزيمة (لابس بدلة الدمور) الأزهري إسماعيل وحزبه الوطني الإتحادي.
قراءة أولية في دفتر روّاد ثورة 1924:
لا أقفُ- مثل حاج حمد- في تلمسي لبدايات نشوء تلك الطبقة عند عقد الخمسينيات, بل أرجعُ بذلك إلى العقد الثاني من القرن العشرين وبالتحديد إلى العام 1920 وهو عام قيام جمعية الأتحاد السوداني التي أعتبرها نواة التكوين للوعي المختلف في مسارات السياسة والقطع مع موروث القبيلة/الجهة/الطائفة . يكتب محمَّد سليمان عن نشاط تلك الجمعية بالتركيز علي دور عبيد حاج الأمين:
( ... ويخرج عبيد علي ظهر درّاجته يشق عليها وبها الظلام وتستقبله والدته عرفة وهو يتسلل خفية الي المنزل وتتدفق المنشورات في كل تجمعات الناس في بيوت الأعراس والمآتم ويتسّع النشاط ليشمل بعض الموظفين والتجّار والطلاب ويسجل التاريخ لجمعية الإتحاد السوداني السرية أنها أول تنظيم سياسي في تاريخ البلاد لا تقوم مقاومته علي أساس قبلي ).
تحالف الموظفين والتجَّار والطلاب هذا سيتبلور بصورة أكثر وضوحاً في التطور الطبيعي لجمعية الإتحاد وهو جمعية اللواء الأبيض. سيشمل هذا التحالف العريض الحرفيين والتجار والموظفين وطلاب المدرسة الحربية حيث تشكلت القيادة الميدانية لثورة1924. ودون الدخول في تفاصيل تلك الإنتفاضة , أود أن أشير هنا إلى الوثيقة التي أعدتها قيادة تلك الحركة بعنوان "مطالب الأمة", والتي تعتبر بمثابة المانيفستو في بيان الوعي الطبقي لتلك القيادة والفئات التي تعبِّر عنها الجمعية, تمثلت مطالب الوثيقة في التالي:
1. زيادة فرص التعليم.
2. نزع أحتكار السكر.
3. مراجعة الأوضاع في مشروع الجزيرة وأسناد الوظائف للسودانيين.
4. رفع الحيف عن المزارعين وتخفيض الضرائب.
الملفت للنظر في أمر هذه الوثيقة أنها لم تحصر مطالبها الأساسية في هموم الفئة التي تشكل تحالف اللواء الأبيض والتي هي بمثابة نواة الطبقة الوسطى, ولكنها إمتدت للبحث في مطالب فئة أخري مهمة وهي المزارعين. لذلك تجدني مرة أخرى أؤكد علي الدور الذي يلعبه الإستعمار في وقف النمو الطبيعي لهذه الفئة التي تشّكل في ظني الرافعة الأساسية للتغيير في مرحلة ما بعد الإستعمارpost colonialism.
لقد أدَّى القمع العنيف من قبل المستعمر البريطاني لحركة 1924 إلى نتائج كارثية علي صعيد النمو والتطور الطبيعي لذلك التحالف الجنيني لفئات الطبقة الوسطى السودانية, ولا شك أنَّ ذلك سيؤثر في مستقبلها ومستقبل البلاد علي وجه العموم. ليس الإشكالُ هنا إذن ذاتياً متعلقاً بخلل أصيل في وعي تلك الفئات ولكنه أشكالاً موضوعياً مرتبطاً بالوجود والفعل الإستعماري.
بعد ثلاثين عاماً : لابس بدلة الدمور وجيله
هنا أعود مرة أخرى الي تحليل فرانتز فانون لوعي الطبقة الوسطى وإشكاليات ما بعد الإستعمار. وتجدني أمعن النظر في أكثر مواطن الضعف في ذلك الوعي وهو أمر النهضة الإقتصادية وسؤال التنمية الذي إستعصى علي جيل لابس بدلة الدمور وطبقته المتوسطة, يقول فانون:
(The objective of nationalist parties as from a certain given period is, we have seen, strictly national. They mobilize the people with slogans of independence, and for the rest leave it to future events. When such parties are questioned on the economic program of the state that they are clamoring for, or on the nature of the regime which they propose to install, they are incapable of replying, because, precisely, they are completely ignorant of the economy of their own country. This economy has always developed outside the limits of their knowledge…… After independence this underdeveloped middle class, reduced in numbers and without capital, which refuses to follow the path of revolution, will fall into a deplorable stagnation. It is unable to give free rein to its genius, who formerly it was want to lament, though rather too glibly, was held in check by colonial domination).
وهذا هو مربط الفرس. فعندما تقلّب صفحات الكتب التي تؤرِّخ لتلك الطبقة بجمعياتها الأدبية وأحزابها السياسية فإنك لا تكاد تجد كثير إعتناء بأمر الإقتصاد والتنمية سوى شذراتٍ متفرقة اُلحقت بالبرنامج السياسي لحزب الإتحاديين, وريث جمعية أبوروف, وعند المرحوم أحمد خير وفي حنايا سفره العظيم "كفاح جيل" نلمح الخبر الذي يتسلل في حياء:
( كان الإتحاديون يتعصبون للمباديء ويغالون في التشبث بالنظريات, وهم أول حزب سياسي سوداني يهتم بوضع برنامج مُفصَّل... وعندما أحس واضعو دستور الإتحاديين بما فيه من نقص نهضوا لإتمامه في صورة مذكرة تفسيرية أتاحت الفرصة لعرض برنامج إصلاحي أقتبس كثيراً من الفابية الإنجليزية, ثم وقف بمنأى عن الماركسية الفاقعة ). إنتهى
وحتي هؤلاء الرهبان المتبتلين في دير الفكر, الحاملين علي أكتافهم صلبان المباديء, والسائرين في درب آلام الوطنية , ورثة جمعية أبوروف , لم يعن لهم سؤال الإقتصاد والتنمية سوى صفحاتٍ ألحقوها بأهداب برنامجهم السياسي. هنا يا دكتور عبد السلام يكمن مقتل هذه الطبقة !
ما الذي حدث في فترة الإنقطاع الممتدة منذ هزيمة طليعة الوثبة في 1924؟ وكيف تثنى للإستعمار قهر وتطويع هذه الفئة المستنيرة وإحالتها الى مجرَّد فئة خادمة ومسيرِّة لدولابه الحكومي؟ ولماذا لم تنجب هذه الفئة مفكراً إقتصادياً واحداً علي الأقل؟ هذه هي الأسئلة التي يجب أن نعمل علي الإجابة عليها في بحثنا هذا المنشود.
وأخيراً أعود لحاج حمد وهو ينعي العقل الإقتصادي لتلك الطبقة في محاضرة محضورة في العام 2004:
( أما العقل الأقتصادي فهو غير موجود. فكل الذين أمسكوا بإقتصاد السودان أفندية يعّدون الميزانية وغير دارسين للاقتصاد وكل الذي يعرفونه كم هو الدخل والمنصرف لذلك أمسكوا الأقتصاد بغير مفهوم التنمية وهذا ينطبق علي كل الكوادر التي حكمت البلد بعد الأستقلال اذ المقصود ان لا يكون تأهيلها تأهيل تنمية ). إنتهى
الدكتور عبد السلام:
هذه بعضُ أفكار عنت لي في طريق البحث عن العبقرية المفقودة في الفئة السودانية الوسطى التي أصابك سقوط ممثلها الوطني الإتحادي في انتخابات 1958 بتلك الحيرة والتساؤلات التي تسعى للإجابة عليها, والتي نسعى جميعاً للإجابة عليها.
بالطبع الموضوع شائك ومعقَّد ودراسته تحتاج للإحاطة بالجوانب السياسية والإجتماعية والإقتصادية , وقد ركزَّتُ في النقاط السابقة علي الجانب الإقتصادي لقناعتي الكاملة بأنه كعب أخيل الممارسة في تجربة الطبقة المتوسطة.
مع خالص شكري وتقديري
***
الأخ الفاضل بابكر
لك خالص المودة والتقدير
لك كثير الشكر على رسالتك الحميمة .
يدخل كثيراً من الاحساس الطيب في نفسي – أنك تجد في ما أكتبه عن الاتحادي الديمقراطي شيئاً يستحق القراءة والاشادة - إنَّ ذلك يُلقي علىَّ الكثير من المسئوولية أن أكون دقيقاً في ايراد المعلومات وحريصاً أن لا أُلقى الكلام على عواهنه وأن أبذل المزيد من الجهد في ترقية المنهج حتى لا أسقط ضحية للأحكام الجزافية والمزاجية واحتطابات العقل الجمعي.
*****
على أن أرد على سؤالك بما يستحقه من صدق :
– يبدو انك انسان عميق الإحساس بما يجري في السودان وأكثر من كل ذلك – انك تبحث عن آلية مدنية فاعلة لتغيير ما يجرى في السودان ليصب في مجرى تطلعات وآمال العدد الأكبر من مواطني السودان- و أن الحزب الاتحادي يمثل لك تلك الآلية – وهذا بذاته يدعو الي التقدير لاننا كثيراً ما نفتقر لهذا الحس المدني الرفيع
*****
لم اك يوماً عضواً بالحزب الوطني الاتحادي وقد حفلت كتاباتي بكثير من النقد لهذا الحزب ومع ذلك فقد تلقيت كثيراً من الرسائل من أعضاء في الوطني الاتحادي فيها كثير من الاستقبال والحفاوة بهذه المقالات الشيء الذي يؤكد لي أن هذا الحزب ورغم التحديات المتكاثرة التي تواجهه وتقعد به أحياناً لا يزالُ يحمل في جوانحه قدرات النهوض والاستجابة الفاعلة لكل نقد.
*****
سألتُ نفسى كثيراً هل أحملُ في أغوار دواخلي شيئاً من الوطني الاتحادي رغم عدم انتمائي له ومآخذي ونقدي له ؟
حينما كتبتُ قبل عامين رثاءً للراحل على أبو سن( بطل السباحة ضد التيار) كتب لي سفير مرموق بوصفي عضواً في الوطني الاتحادي- وقد تعجبُ كثيراً حينما تعلم بانني لست اتحادياً ولا انتمي الي أي حزب سياسي
ولكن بالطبع لي موقفٌ واضح مما يجرى في السودان وما يجري في العالم.
*****
حينما أصدرت دارالنسق للنشر – تقويماً في الذكرى الخمسين لمؤتمر الخريجين (1938-1988) بلوحات من خيار رسامي الشخصية في السودان وضمَّت صور اللجنة التنفيذية لمؤتمر الخريجين وعلى رأسهم اسماعيل الازهري - علق الراحل حسن مكى الأمين سليمان من أقطاب الوطني الاتحادي ورجال الأعمال- قائلا لي " ليس عجيبا أن تأتى " بناسك في المقدمة – فقد تصور حسن مكي بانني كأبي " وطني اتحادي بالميلاد - على وزن سوداني بالميلاد – لأنَّ والدي وكل أسرتي من الوطني الاتحادي وقد إتفق لي أن أرى حماس والدى وفرحته الكبري باكتساح الوطني الاتحادي لأول انتخابات سودانية 1954 - وكنت بالمدرسة الأولية ثم أتى الاستقلال 56 – وكنت بالمرحلة الوسطى وقد شاهدت الاستقبال الذي لا نظير له لاسماعيل الازهري بمدينة النهود 1958- واعقبتها هزيمة لاتزال محط تساؤل في ذهني.
*****
يشرفني أن اشارك في حوار واسع من مواقع الاستقلال وابداء الملاحظات – ولابد أنك قد لاحظت في مقالاتي – التي نشرتها قبل أكثر من سنتين – أنني أفرق بين الوطني الاتحادى – والاتحادي الديمقراطي – اذ بدا لي - أن الحزب الوطني الاتحادي اقرب الي التجمع الواسع وأن اندماجه مع حزب الشعب الديمقراطي قبيل 1969 قد الحق به ضرراً كبيراً تماماً كتحالفه مع حزب الأمة بعد اكتوبر 1964-
*****
لا يستطيع الحزب الوطني الاتحادي أن يحافظ على توازاناته الداخلية وأن تستبين له الرؤية الا اذا استقل تماما عن الطائفتين – الأنصار والختمية - الأمة والشعب الديمقراطي.
لك كثير الشكر على رسالتك الكريمة التي أججت فىَّ حماساً في أجلاء الرؤية
أخوك
عبدالسلام نور الدين
الدكتور الفاضل/ عبد السلام
لك خالص التحايا وجزيل الشكر علي موافقتك علي المشاركة في الحوار الذي جرى بيني والدكتور الجعلي في شأن القضايا الكبري والأسئلة الملحة في ساحة الحركة الاتحادية و الحزب الإتحادي الديموقراطي.
في حديثنا الهاتفي كنّا قد تناولنا المساحة التي تود المساهمة فيها بطرح فكري يهدف الي التناول المتعّمق لأمر الطبقة الوسطى السودانية بغرض الإجابة علي الأسئلة المتعلقة بالإخفاقات والنجاحات التي صاحبت مسيرة الحزب منذ التأسيس.
لقد قمنا بحصر المراجع والأبحاث التي ستستند اليها الدراسة وهي حتى الآن :
1. رسالة الدكتوراة التي أعدها المرحوم الدكتور خالد الكد عن الأفندية.
2. رسالة الدكتوراة التي أعدتها الدكتورة عفاف عبد الماجد ابوحسبو.
3. مذكرات المرحوم عبد اللطيف الخليفة ( جزءين).
4. كتاب السودان: المأزق التاريخي وآفاق المستقبل. المرحوم محمد أبوالقاسم حاج حمد.
5. مذكرات الرئيس اسماعيل الأزهري.
6. مذكرات خضر حمد.
7. مذكرات عبد الماجد أبو حسبو( جزءين, أحدهما منشور والآخر مخطوط).
هذا ما أسعفتني الذاكرة به, وبالطبع القائمة قابلة للإضافة متى ما وجد المصدر المتعلق بالموضوع.
الدكتور عبد السلام
في رسالتي الأولى لأستاذنا الجعلي كنت قد نوهًّت الي ضرورة تقصي أمر الطبقة الوسطي بوصفها الوعاء الإجتماعي الذي إستندت اليه الحركة الوطنية وحزبها الإتحادي, وكذلك أشرت الي ضرورة النظر في ما آلت اليه أحوال تلك الطبقة من جرَّاء السياسات الإقتصادية لحكمي النميري والبشير.
بعد مراجعته لتلك النقطة كتب أستاذنا الجعلي مُقترِحاً ضرورة فك الإشتباك المفاهيمي والإبهام المنهجي الذي تم به طرح القضية, وفي رسالة لاحقة حاولت التفصيل في ذلك الموضوع.
من الأسئلة التي طرحها الدكتور الجعلي السؤال التالي:
ما هو تعريف الطبقة ؟ هل يتم التعامل معها من منظور ماركسي؟
في إجابتي علي هذا السؤال تجدني أكثر حذراً في تحليل التكوين الطبقي في السودان خشية الإنزلاق في نفق البحث النظري المجرَّد أو المستند علي قوالب تعريفية مستلفة من تجارب أخرى وعلي وجه الخصوص التجربة الأوروبية التي ينتمي اليها التحليل الماركسي/اللينيني. ومن هذا المنطلق أتفق مع الراحل محمد أبو القاسم حاج حمد في نظرته للطبقة العاملة السودانية, ومن هنا كذلك يجيء خلافي مع غازي الصوراني في نظراته الناقدة لتعريفات الدكتور حليم بركات والدكتور رمزي زكي للطبقة الوسطى.
بداية أورد هذا النص لحاج حمد في مقابلة صحفية نشرتها صحيفة سودانايل الإلكترونية في 4/27/2004 , في تعليقه علي الإهتمام الذي ظل يوليه لدراسة قوى التطوُّر الدافعة للتغيير في الوطن العربي عموماً والسودان خصوصا يقول حاج حمد:
( كنت أهتم بمناقشة اشكالية محددة: ما هي القاعدة الإجتماعية للتغيير في العالم الثالث؟, في العالم
المتقدم , كارل ماركس حدَّد قضية طبقة البروليتاريا (العمال) في مواجهة الرأسمالية, وحدًّد البرجوازية التجارية في مواجهة الإقطاع. حين نريد التغيير في العالم الثالث علي أي قاعدة إجتماعية نعتمد؟ في كتاب " السودان: المأزق التاريخي وآفاق المستقبل" درستُ وضع العمال, ووجدت أنَّ القاعدة العمالية ليست قاعدة طبقية, فهى قاعدة أسست قبل الرأسمالية في السودان نتيجة للإستثمار الاستعماري في السكك الحديدية والورش في عطبرة وميناء بورتسودان. اذن, طبقتنا العمالية ليست متولدة جدلياً عن وجود طبقة رأسمالية, انما سبقتها في التكوين. طبقة الفلاحين الجدد أيضاً ارتبطت بالإستثمار الإستعماري قبل نشوء الرأسمالية الزراعية في مشاريع الزيداب, والبرقيق, والجزيرة, منذ 1924, في حين أنَّ إرهاصات الرأسمالية السودانية بدأت في الخمسينيات. اذن, وجدت أنه ليست هناك قواعد إجتماعية عمالية أو زراعية بالمعنى الطبقي ثم أنَّ الجدلية معكوسة, فالقوى العمالية-كفئويين- قوتها نقابية وليست طبقية, وقوى المزارعين نشأت قبل نشوء الرأسماليتين الصناعية والزراعية. هذه المعضلة جعلتني أفترق عن تحليلات الفكر الماركسي في السودان حول القاعدة الإجتماعية للتغيير حيث اعتمدوا على العمال والفلاحين ). إنتهى حديث حاج حمد.
يبدو جلياً أنَّ الوضع السوداني يتمايز عن الوضع الأوروبي الذي ألهمت معطياته أدوات التحليل الماركسي/اللينيني والتي تشترط أساساً إنبثاق طبقة العمَّال عن الطبقة الرأسمالية وبالتالي يصعب تتبع ذلك التحليل حذوك النعل بالنعل. وقريبٌ من تحليل حاج حمد هذا ما قال به المرحوم عوض عبد الرازق في تقريره المرفوع للحزب الشيوعي في عام 1953 وهو التقرير الذي قمتُ بتحليله في مقال سابق نشرته صحيفة الصحافة في مايو2000.
هذا الحذر في تناول مفهوم الطبقة إعتماداً علي المنظور الماركسي هو الذي يجعلني أتوقف متسائلاً عند تبني غازي الصوراني لتعريف المفكّر الماركسي الراحل د. فؤاد مرسي للبرجوازية الصغيرة بوصفها هي الطبقة الوسطى ذاتها, يؤكد فؤاد مرسي أنَّ :
"الحرفيين وصغار المنتجين وأصحاب الحوانيت وصغار الفلاحين والموظفين, يشكلون جميعاً ما يسمى بالبورجوازية الصغيرة, أكثر الطبقات عدداً وأوسعها نفوذاً وأبعدها أثراً في مجتمعنا ".
في حين أنه يقول أنَّ الطبقة البرجوازية المتوسطة:
" تتميز بضعف بنيتها وحجمها ودورها, وبتماسك موقفها الآيديولوجي الأقرب الى آيدولوجية البرجوازية الكبيرة, بحكم توافق المصالح وتداخلها بينهما".
يبدو من تعريف الدكتور فؤاد مرسي للبرجوازية الصغيرة إستبعاده للمثقفين وفئات المعلمين وأساتذة الجامعة والأطباء والمحاميين والمهندسين والقضاة وأصحاب الأعمال الحرّة من هذه الطبقة التي يظن أنهّا(هي الأكثر عدداً والأوسع نفوذاً والأبعد أثراً في المجتمع ),واذا كان مفهومه هذا صحيحاً فإنه يعني أنَّ البرجوازية الصغيرة هي ذاتها الطبقة الوسطى التي نجتهد في تحديد ملامحها, وهنا علي وجه التحديد يجيء إعتراضي علي هذا التعريف.
فعلى الرغم من أنَّ الطبقة الوسطى السودانية قد ضمَّت بعض الفئات التي حددّها مرسي في تعريفه: الحرفيين وأصحاب الحوانيت (الكناتين) والموظفين, الاّ أنها لم تقتصر عليهم بل شملت كل الفئات السالف ذكرها وهى الفئات التي لعبت الأدوار الأهم في التأريخ السوداني الحديث.
يبدو من تعريف مرسي للبرجوازية المتوسطة أنه يعني ذات الفئات التي أعدها أنا ضمن الطبقة الوسطى : المثقفين وأساتذة الجامعة والموظفين وغيرهم , وهنا تكمن نقطة الخلاف مع التعريف الماركسي الذي يقول بتواطؤ البرجوازية المتوسطة مع البرجوازية الكبيرة بحكم توافق المصالح وهو ما لا يُفسِّر حالة السودان. إنَّ ما يفسر حالة السودان هو تحديداً الخلل الذي صاحب نمو وتطور هذه الطبقة في ظل حاضنة إستعمارية وسمتها بمياسم أفلح في تصويرها المفكرِّ المارتينيكي فرانتز فانون Frantz Fanon في كتابه ذائع الصيتThe Wretched of the Earth . وأرجو أن تسمح لي بتسطير هذا الإقتباس المُطوَّل من فصله الموسوم ب The Pitfalls of National Consciousness يكتب فانون :
(The national middle class who takes over power at the end of the colonial regime is an underdeveloped middle class. It has practically no economic power, and in no way commensurate with the bourgeoisie of the mother country which it hopes to replace. In its narcissism, the national middle class is easily convinced that it can advantageously replace the middle class of the mother country. But the same independence which literally drives it into a corner will give rise within its ranks to catastrophic reactions, and will oblige it to send out frenzied appeals for help to the former mother country. The university and merchant classes which make up the most enlightened sections of the new state are in fact characterized by the smallness of their number and their being concentrated in the capital, and the type of activities in which they are engaged: business, agriculture, and liberal professions. The national bourgeoisie of underdeveloped countries is not engaged in production, nor in invention, nor building, nor labor; is it completely canalized into activities of the intermediary type. Its innermost vocation seems to be to keep in the running and to be part of the racket. The psychology of the national bourgeoisie is that of a businessman, not that of a captain of industry; and it is only too true that the greed of the settlers and the system of embargoes set up by colonialism have hardly left them any other choice).
من الواضح أنَّ فرانتز فانون يعد التجار وأصحاب المهن الحرَّة والمثقفين الجامعيين بمختلف تخصصاتهم ( وهم الفئات سالفة الذكر) ضمن فئات الطبقة المتوسطة وهو ما يخالف تعريف الدكتور مرسي, ثم أنّه يستصحب في تحليله المعوقات التي ترثها بالضرورة تلك الطبقة الوسطى من المستعمر الذي يُجرِّدها من تملك أدوات مرحلة الإنتقال والتي تتمثل أساساً في الإنتاج والعمل والبناء المرتبط بالتصنيع . إنَّ الطبقة الوسطى تتحول بفعل سياسات الإستعمار إلى مُجرَّد جهاز خادم لتيسير تسيير جهاز الدولة وهو الأمر الذي لاحظه بذكائه المعهود المرحوم حاج حمد الذي يتحدَّث في ذات اللقاء الصحفي واصفاً أفراد تلك الطبقة:
( المثقفون في وقت متأخر. تلك الأشكالية الأولى التي كنت أعالجها في محاولة البحث عن قاعدة
التغيير, تغيير ماذا ؟ هذه قضية مهمة هي التي قادتني فيما بعد. المثقفون حين نحللهم, ليس بالشكل التجريدي ولكن بمنطق جدل الواقع وتكوينه, هم عبارة عن فئات كوّنها البريطانيون بمنهج تجريبي محدود جداً ليكونوا محاسبين, وكتبة, وإداريين, ومعلمي مراحل وسطى. فهم جهاز خدمات مرتبط بالمستعمر, ولم يستطيعوا تشكيل طبقة وسطى لأنهم لم يرتبطوا بقوى الإنتاج, وكان أكبر ما كانوه – في حال تحولّهم من موظفين الى القطاع الاقتصادي- ملاك عقارات, أو كومبرادور في شركات ذات أصول أجنبية (كونتي ميخالوس, بيطار, جلاتلي هانكين). لنأخذ المثقفين كقوي رافعة للمجتمع لم نجد هذه المقومات.). إنتهى
الدكتور عبد السلام
بعيداً عن تعقيدات تعريف المصطلح –رغما عن أهميتها- يهمني أن نبحث في جذور العلل التي صاحبت مسيرة تلك الطبقة والتي ألقت بظلالها علي التاريخ الوطني كله, والتي كانت إحدى مفاجآتها هي تلك الهزيمة التي ظلت محط تساؤلات في ذهنك منذ العام 1958, وأعني بها هزيمة (لابس بدلة الدمور) الأزهري إسماعيل وحزبه الوطني الإتحادي.
قراءة أولية في دفتر روّاد ثورة 1924:
لا أقفُ- مثل حاج حمد- في تلمسي لبدايات نشوء تلك الطبقة عند عقد الخمسينيات, بل أرجعُ بذلك إلى العقد الثاني من القرن العشرين وبالتحديد إلى العام 1920 وهو عام قيام جمعية الأتحاد السوداني التي أعتبرها نواة التكوين للوعي المختلف في مسارات السياسة والقطع مع موروث القبيلة/الجهة/الطائفة . يكتب محمَّد سليمان عن نشاط تلك الجمعية بالتركيز علي دور عبيد حاج الأمين:
( ... ويخرج عبيد علي ظهر درّاجته يشق عليها وبها الظلام وتستقبله والدته عرفة وهو يتسلل خفية الي المنزل وتتدفق المنشورات في كل تجمعات الناس في بيوت الأعراس والمآتم ويتسّع النشاط ليشمل بعض الموظفين والتجّار والطلاب ويسجل التاريخ لجمعية الإتحاد السوداني السرية أنها أول تنظيم سياسي في تاريخ البلاد لا تقوم مقاومته علي أساس قبلي ).
تحالف الموظفين والتجَّار والطلاب هذا سيتبلور بصورة أكثر وضوحاً في التطور الطبيعي لجمعية الإتحاد وهو جمعية اللواء الأبيض. سيشمل هذا التحالف العريض الحرفيين والتجار والموظفين وطلاب المدرسة الحربية حيث تشكلت القيادة الميدانية لثورة1924. ودون الدخول في تفاصيل تلك الإنتفاضة , أود أن أشير هنا إلى الوثيقة التي أعدتها قيادة تلك الحركة بعنوان "مطالب الأمة", والتي تعتبر بمثابة المانيفستو في بيان الوعي الطبقي لتلك القيادة والفئات التي تعبِّر عنها الجمعية, تمثلت مطالب الوثيقة في التالي:
1. زيادة فرص التعليم.
2. نزع أحتكار السكر.
3. مراجعة الأوضاع في مشروع الجزيرة وأسناد الوظائف للسودانيين.
4. رفع الحيف عن المزارعين وتخفيض الضرائب.
الملفت للنظر في أمر هذه الوثيقة أنها لم تحصر مطالبها الأساسية في هموم الفئة التي تشكل تحالف اللواء الأبيض والتي هي بمثابة نواة الطبقة الوسطى, ولكنها إمتدت للبحث في مطالب فئة أخري مهمة وهي المزارعين. لذلك تجدني مرة أخرى أؤكد علي الدور الذي يلعبه الإستعمار في وقف النمو الطبيعي لهذه الفئة التي تشّكل في ظني الرافعة الأساسية للتغيير في مرحلة ما بعد الإستعمارpost colonialism.
لقد أدَّى القمع العنيف من قبل المستعمر البريطاني لحركة 1924 إلى نتائج كارثية علي صعيد النمو والتطور الطبيعي لذلك التحالف الجنيني لفئات الطبقة الوسطى السودانية, ولا شك أنَّ ذلك سيؤثر في مستقبلها ومستقبل البلاد علي وجه العموم. ليس الإشكالُ هنا إذن ذاتياً متعلقاً بخلل أصيل في وعي تلك الفئات ولكنه أشكالاً موضوعياً مرتبطاً بالوجود والفعل الإستعماري.
بعد ثلاثين عاماً : لابس بدلة الدمور وجيله
هنا أعود مرة أخرى الي تحليل فرانتز فانون لوعي الطبقة الوسطى وإشكاليات ما بعد الإستعمار. وتجدني أمعن النظر في أكثر مواطن الضعف في ذلك الوعي وهو أمر النهضة الإقتصادية وسؤال التنمية الذي إستعصى علي جيل لابس بدلة الدمور وطبقته المتوسطة, يقول فانون:
(The objective of nationalist parties as from a certain given period is, we have seen, strictly national. They mobilize the people with slogans of independence, and for the rest leave it to future events. When such parties are questioned on the economic program of the state that they are clamoring for, or on the nature of the regime which they propose to install, they are incapable of replying, because, precisely, they are completely ignorant of the economy of their own country. This economy has always developed outside the limits of their knowledge…… After independence this underdeveloped middle class, reduced in numbers and without capital, which refuses to follow the path of revolution, will fall into a deplorable stagnation. It is unable to give free rein to its genius, who formerly it was want to lament, though rather too glibly, was held in check by colonial domination).
وهذا هو مربط الفرس. فعندما تقلّب صفحات الكتب التي تؤرِّخ لتلك الطبقة بجمعياتها الأدبية وأحزابها السياسية فإنك لا تكاد تجد كثير إعتناء بأمر الإقتصاد والتنمية سوى شذراتٍ متفرقة اُلحقت بالبرنامج السياسي لحزب الإتحاديين, وريث جمعية أبوروف, وعند المرحوم أحمد خير وفي حنايا سفره العظيم "كفاح جيل" نلمح الخبر الذي يتسلل في حياء:
( كان الإتحاديون يتعصبون للمباديء ويغالون في التشبث بالنظريات, وهم أول حزب سياسي سوداني يهتم بوضع برنامج مُفصَّل... وعندما أحس واضعو دستور الإتحاديين بما فيه من نقص نهضوا لإتمامه في صورة مذكرة تفسيرية أتاحت الفرصة لعرض برنامج إصلاحي أقتبس كثيراً من الفابية الإنجليزية, ثم وقف بمنأى عن الماركسية الفاقعة ). إنتهى
وحتي هؤلاء الرهبان المتبتلين في دير الفكر, الحاملين علي أكتافهم صلبان المباديء, والسائرين في درب آلام الوطنية , ورثة جمعية أبوروف , لم يعن لهم سؤال الإقتصاد والتنمية سوى صفحاتٍ ألحقوها بأهداب برنامجهم السياسي. هنا يا دكتور عبد السلام يكمن مقتل هذه الطبقة !
ما الذي حدث في فترة الإنقطاع الممتدة منذ هزيمة طليعة الوثبة في 1924؟ وكيف تثنى للإستعمار قهر وتطويع هذه الفئة المستنيرة وإحالتها الى مجرَّد فئة خادمة ومسيرِّة لدولابه الحكومي؟ ولماذا لم تنجب هذه الفئة مفكراً إقتصادياً واحداً علي الأقل؟ هذه هي الأسئلة التي يجب أن نعمل علي الإجابة عليها في بحثنا هذا المنشود.
وأخيراً أعود لحاج حمد وهو ينعي العقل الإقتصادي لتلك الطبقة في محاضرة محضورة في العام 2004:
( أما العقل الأقتصادي فهو غير موجود. فكل الذين أمسكوا بإقتصاد السودان أفندية يعّدون الميزانية وغير دارسين للاقتصاد وكل الذي يعرفونه كم هو الدخل والمنصرف لذلك أمسكوا الأقتصاد بغير مفهوم التنمية وهذا ينطبق علي كل الكوادر التي حكمت البلد بعد الأستقلال اذ المقصود ان لا يكون تأهيلها تأهيل تنمية ). إنتهى
الدكتور عبد السلام:
هذه بعضُ أفكار عنت لي في طريق البحث عن العبقرية المفقودة في الفئة السودانية الوسطى التي أصابك سقوط ممثلها الوطني الإتحادي في انتخابات 1958 بتلك الحيرة والتساؤلات التي تسعى للإجابة عليها, والتي نسعى جميعاً للإجابة عليها.
بالطبع الموضوع شائك ومعقَّد ودراسته تحتاج للإحاطة بالجوانب السياسية والإجتماعية والإقتصادية , وقد ركزَّتُ في النقاط السابقة علي الجانب الإقتصادي لقناعتي الكاملة بأنه كعب أخيل الممارسة في تجربة الطبقة المتوسطة.
مع خالص شكري وتقديري
***
الأخ الفاضل بابكر
لك خالص المودة والتقدير
لك كثير الشكر على رسالتك الحميمة .
يدخل كثيراً من الاحساس الطيب في نفسي – أنك تجد في ما أكتبه عن الاتحادي الديمقراطي شيئاً يستحق القراءة والاشادة - إنَّ ذلك يُلقي علىَّ الكثير من المسئوولية أن أكون دقيقاً في ايراد المعلومات وحريصاً أن لا أُلقى الكلام على عواهنه وأن أبذل المزيد من الجهد في ترقية المنهج حتى لا أسقط ضحية للأحكام الجزافية والمزاجية واحتطابات العقل الجمعي.
*****
على أن أرد على سؤالك بما يستحقه من صدق :
– يبدو انك انسان عميق الإحساس بما يجري في السودان وأكثر من كل ذلك – انك تبحث عن آلية مدنية فاعلة لتغيير ما يجرى في السودان ليصب في مجرى تطلعات وآمال العدد الأكبر من مواطني السودان- و أن الحزب الاتحادي يمثل لك تلك الآلية – وهذا بذاته يدعو الي التقدير لاننا كثيراً ما نفتقر لهذا الحس المدني الرفيع
*****
لم اك يوماً عضواً بالحزب الوطني الاتحادي وقد حفلت كتاباتي بكثير من النقد لهذا الحزب ومع ذلك فقد تلقيت كثيراً من الرسائل من أعضاء في الوطني الاتحادي فيها كثير من الاستقبال والحفاوة بهذه المقالات الشيء الذي يؤكد لي أن هذا الحزب ورغم التحديات المتكاثرة التي تواجهه وتقعد به أحياناً لا يزالُ يحمل في جوانحه قدرات النهوض والاستجابة الفاعلة لكل نقد.
*****
سألتُ نفسى كثيراً هل أحملُ في أغوار دواخلي شيئاً من الوطني الاتحادي رغم عدم انتمائي له ومآخذي ونقدي له ؟
حينما كتبتُ قبل عامين رثاءً للراحل على أبو سن( بطل السباحة ضد التيار) كتب لي سفير مرموق بوصفي عضواً في الوطني الاتحادي- وقد تعجبُ كثيراً حينما تعلم بانني لست اتحادياً ولا انتمي الي أي حزب سياسي
ولكن بالطبع لي موقفٌ واضح مما يجرى في السودان وما يجري في العالم.
*****
حينما أصدرت دارالنسق للنشر – تقويماً في الذكرى الخمسين لمؤتمر الخريجين (1938-1988) بلوحات من خيار رسامي الشخصية في السودان وضمَّت صور اللجنة التنفيذية لمؤتمر الخريجين وعلى رأسهم اسماعيل الازهري - علق الراحل حسن مكى الأمين سليمان من أقطاب الوطني الاتحادي ورجال الأعمال- قائلا لي " ليس عجيبا أن تأتى " بناسك في المقدمة – فقد تصور حسن مكي بانني كأبي " وطني اتحادي بالميلاد - على وزن سوداني بالميلاد – لأنَّ والدي وكل أسرتي من الوطني الاتحادي وقد إتفق لي أن أرى حماس والدى وفرحته الكبري باكتساح الوطني الاتحادي لأول انتخابات سودانية 1954 - وكنت بالمدرسة الأولية ثم أتى الاستقلال 56 – وكنت بالمرحلة الوسطى وقد شاهدت الاستقبال الذي لا نظير له لاسماعيل الازهري بمدينة النهود 1958- واعقبتها هزيمة لاتزال محط تساؤل في ذهني.
*****
يشرفني أن اشارك في حوار واسع من مواقع الاستقلال وابداء الملاحظات – ولابد أنك قد لاحظت في مقالاتي – التي نشرتها قبل أكثر من سنتين – أنني أفرق بين الوطني الاتحادى – والاتحادي الديمقراطي – اذ بدا لي - أن الحزب الوطني الاتحادي اقرب الي التجمع الواسع وأن اندماجه مع حزب الشعب الديمقراطي قبيل 1969 قد الحق به ضرراً كبيراً تماماً كتحالفه مع حزب الأمة بعد اكتوبر 1964-
*****
لا يستطيع الحزب الوطني الاتحادي أن يحافظ على توازاناته الداخلية وأن تستبين له الرؤية الا اذا استقل تماما عن الطائفتين – الأنصار والختمية - الأمة والشعب الديمقراطي.
لك كثير الشكر على رسالتك الكريمة التي أججت فىَّ حماساً في أجلاء الرؤية
أخوك
عبدالسلام نور الدين