(1)
قبل عشر سنوات، كانت كاري طالبة فقيرة، دائمًا ما كانت تتحدث في تحفظ شديد، وتخرج الكلمات من بين شفتيها علي مهل، وعلي الطريق تمضي بخطي ثقيلة.. كاري فتاة متواضعة الشكل؛ لم تكن قبيحة وفي الوقت نفسه لم تكن فاتنة الجمال ترتدي نظارة سميكة وتشبه معظم فتيات الجامعة. لم تنتبه يومًا إلي هذا السحر الذي يسكن عينيها؛عينان واسعتان وهادئتان يشعان ذكاء. ذات يوم تحدث إليها أحد زملائها قائلًا:
- كاري، ثمة بريق غريب يسكن عينيك!
- ومن منا لا تلتمع عيناه بمثل هذا البريق؟
فنظر إليها وابتسم قائلًا:
- أنا أقصد بريق عقلك!
وحينما أدركت ما يعنيه زميلها، شعرت بالخجل.. لم تكن كاري فتاة معروفة في الوسط الجامعي، فنادرًا ما كانت تثير انتباه أحد.. طالبة عادية، لم تعكف علي الدراسة، ولم تكن كبقية الطالبات تلهث وراء قصص الحب أو شغلتها الموضة والزينة. أفكار وخواطر غريبة راحت تدور في عقلها كل يوم كانت أشبه بفقاعات تتصاعد وتتصاعد... كان بالفعل بريق متوهج مثل نار متأججة تومض عينيها الهادئتين العميقتين؛ تحلق تلك الأفكار في سماء رأسها ولاتفارقها يومًا. أحياناً كانت تخشي أن تدفعها مثل هذه الأفكار للقيام بأشياء غريبة تثير التساؤلات حولها، وأحيانًا أخري كانت تحيا في فيض من السعادة لم تعهده من قبل.
وطوال سنوات الدراسة الأربع نعمت كاري بحياة هادئة لم يعكر صفوها شيئ.. أغلقت باب عقلها علي أفكاره الثائرة، دون أن تطلع أحدًا عليها، وحمدًا للسماء إنها لم تفعل شيئًا من وراء العقل طيلة هذا الوقت!
في خريف عامها الدراسي الأخير انتقلت إلي البلدة المجاورة للتدريب في إحدي المحاكم المتوسطة، وأثناء فترة التدريب التي لم تتجاوز ستة أشهر، عرف الهوي طريق قلبها، فقد وقعت في غرام رئيس القسم الذي تعمل به، وسرعان ما تطورالأمر بينهما. كان يُدعي جانغ، قاضي ماهر قد تجاوز الثلاثين من عمره.. رجل متزوج وأب لصبي في الثامنة من عمره. وقد بدت السعادة علي أسرته في صورة عائلية قد جمعتهم ظهرت من أسفل زجاج مكتبه؛ زوجان في منتصف العمر يتوسطهما طفل صغير وهم يجلسون علي العشب الأخضر الزاهي، وينظرون إلي مكان شاغر أمامهم وترتسم علي شفتيهم ابتسامة حلوة... بينما سكن الحزن في جنبات قلب كاري.. حزن دفين.
وقعت كاري في شرك حب بلا أمل.. فتاة مثلها تسبح دائمًا في دنيا الخيالات، ولم تذق حلاوة الحب من قبل، ولسنوات طوال قد كبحت زمام عواطفها ولم تضعف يومًا أمام زملائها في الجامعة.. لكنها لم تصمد طويلًا أمام نضج رجل أربعيني.. كان مكتبها ينتصب في المقابل من مكتبه، وفي بعض الأحيان كانت تتقابل أعينهم صدفة، لكنها لم تكن تجرؤ النظر إلي عينيه الهادئتين الظاهرتين من خلف نظارته.. رجل لم ينل الزمن منه، فبدا أصغر من عمره الحقيقي.. رجل رزين وهادئ الطباع.
في ظهيرة يوم الخميس تساقطت الأمطار، ويومها غادر الجميع للذهاب إلي حضور القضايا، ولم يتبق سواها في المكتب. كانت حينها تتطلع إلي جريدة قديمة، ومن وقتٍ لآخر تربت علي كتفيها من شدة البرد. وفي هذه اللحظة سمعت صوتًا قد جاء من أمامها قائلًا:
- الجو بارد؟
لم يباغتها صوته ورفت علي شفتيها ابتسامة حلوة. كان يبدو وكأنه قادم من دعوة علي الطعام، فشعره كان رطبًا وجسده اختلطت به رائحتا المطر والنبيذ. ذهب وتفقد سريعًا ما وضع علي مكتبه من ملفات... في هذه اللحظة وقعت عيناه عليها وأخذ يحدق بها، ثم توجه إلي حوض الغسل والتقط المنشفة التي كانت بالجوار، سار بحذائها وتوقف فجأة ليسألها عن بعض الأمورفي العمل.. كانت تستند بمرفقها علي المكتب، فظهر ذراعها الأبيض المرمري من الكم المفتوح للسترة الرقيقة التي كانت ترتديها.. لم تره وقتها لكنها كانت تشعر أن عينيه تتفرس في ذراعها وتزحف إليه كأسراب من النمل...
أرخت كاري ذراعها وقد اعتلي وجهها حمرة الخجل.. وفجأةً تحسس كم السترة التي كانت ترتديها بين إصبعيه قائلًا:
- كيف ترتدين مثل هذه الملابس الخفيفة!
تملكتها الدهشة وأحست حينما همس في أذنها، كأنه قد أطلق نفسًا هادئًا داخلها!
التقيا في مساء يوم الأحد، جاء إلي الغرفة يبحث عنها وهو يحمل عدة ملفات، وقد بدا وكـأنه علي عجلةٍ من أمره، وسرعان ما ألقي التحية علي زملائه، وتحدث إليهم ببعض من الكلمات الروتينية، وحينما دلف إلي الداخل تلاشت كلماته وجلس علي مقعد من الصمت، وراح ينظر إليها دون أن ينبس بكلمة. لم يتقابلا منذ يومين وبدت حالته مزرية؛ فقد ارتدي ثيابًا غير مهندمة وترك ذقنه طويلة، وبدت عليه علامات الإرهاق الشديد. أخبرها بعد ذلك، أنه لم يرف له جفن طيلة الليل، فخفق قلبها في شدة قائلةً:
- ماذا بك؟
فأسبل جفنيه علي عيونه، واستوي واقفا وأحاطها بذراعيه، ثم اقترب بشفتيه من أذنها وهمس ببعض من الكلمات.
كان كل منهما يعلم أنه حب محكوم عليه بالموت، حتي أيامها المتبقية في المدينة باتت معدودة، فكانت بعد شهرين ستعود إلي الجامعة لتتسلم تكليف العمل. ظل يحسب طيلة الوقت أيامها المتبقية... لايزال لدينا ثلاثة وأربعون يومًا.. لم يتبقِ سوي اثنين وثلاثين يومًا...
كرت الأيام وكاد يطير عقله. في بعض الأوقات قد تظاهر بهدوء الأعصاب، ويظل يسبح في جسدها وكأنه لا يعرفها من قبل، فيناديها:
- كاري!
- نعم!
ويناديها مرة أخري:
- كاري
فتجذب شعره وتبتسم قائلةً:
- ماذا بك؟
فيتمتم قائلًا:
- أود فقط الصياح باسمك!
وحينها أدركت أنه يحبها.. عندما كان يستلقيان معًا في الفراش ويسبحان في بحر الحب... نعم، كانت تشعر أنه يحبها.. كان يتحدث إليها بكلاٍم كثير، وفض أسرار قلبه الحزين.. راح يتحدث عن القسم؛ من جيد ومن ليس، وكيف ترقي في المناصب حتي صار رئيسًا للقسم، وكيف أنجب ابنه بعد عناء طويل، وكيف كانت زوجته تلاحقه قبل الزواج، فالجميع يري أنها امرأة صالحة ورغم هذا يكرهها.. يكرهها بشدة! فطيلة زواج قد استمر خمسة عشر عامًا، فلم يكونا زوجين حقيقيين سوي لسبعة أعوامٍ فقط!
لم يتقابلا فوق فراش الهوي سوي مرات قليلة، بل كانا يتقابلان كل يوم صباحًا ومساء، فقط يختلسان النظرات دون أن تسنح الفرصة ليخمدا ثورة الجسد الفائر. وفي بعض الأيام كان يفقد أعصابه، فيتطلع إليها ويتأملها بشهوة جامحة، وكأنه يستنفر قوته... ولم يكن يبالي إذا كان أحدُ يراه أم لا، فسرعان ما تطرق رأسها في خجل، ولا تعبأ بنظراته المتفرسة، فيجن جنونه.
ذهب مرة متذرعًا بأنه يطالع ملفًا ووقف بجوارها يتحدث إليها، وفي الوقت نفسه راح يشير بيده إلي الملف، بينما قد تسللت يده الأخري إلي راحة يدها وتشبثت يده بها بقوة.. تطلعت كاري إلي زملائها وقد تصبب جسدها بعرق بارد. وراحت تفكر في الوحش الذي سيتملك من هذا الرجل بعد سنوات طوال!
وعلي الرغم من ضجيج الجسد المشتعل، إلا أن العمل قد استحوذ علي معظم أوقاته، فكان يحاصره كل يوم الكثير من الناس: رؤساؤه، وأصحاب الدعاوي، وزملاؤه، وأصدقاؤه، وزوجته، وابنه...... فلم يعطها سوي القليل من وقته الثمين. وفي النهاية ينتزع من وقته ويذهبان إلي أحد الفنادق، وبعد الانتهاء من الطعام سرعان ما يعانقها، حتي إنه لايمكنه البقاء للحظة واحدة. فتتنهد كاري، ولأنها تحبه، فكان عليها ألا تظهر استياءها.
لم تكن كاري تعلم ما هي المتعة الحقيقية في مثل هذه العلاقات العاطفية، فقد أحبته لأنه كان يبدو رجلًامختلفًا؛ كان نحيف البدن، وعادة لم يكن الآخرون ينتبهون إلي شعره، وملابسه، وعينيه الهادئتين كهدوء وقت الغسق، وروحه الطفولية. فحينما تلعب الخمر برأسه كان يفقد عقله معها، فيتحدث عن زملائه بمنتهي السوء، ويبدأ بالقرع علي الطاولة، وكأنه يتباهي بنفسه أمام الآخرين... وذات مساء أجهش بالبكاء أمامها وأخبرها أنه رجلٌ تعيسٌ وفاشلٌ......
ورغم أنه لم يكن مخمورًا، ولم تطلب منه زوجته العودة إلي المنزل، واستطاعت يومها كاري أن تشعر بالألم الذي نخر روحه عميقًا، إلا أنه في النهاية تركها وحدها وغادر.
في مساء ذلك اليوم، أدركت كاري أنها تحب معاناة هذا الرجل، تحب هذا الجانب الخفي من حياته الذي لا يعرفه أحد.. في ظهيرة أحد الأيام كانا يقفان في شرفة المبني وذراعاه تطوقانها من الخلف، ويتكيء برأسه علي كتفها مثل طفل صغير، وفجأةً تنهدت كاري بصوت مخنوق، فلبث صامتًا وغطت يده عينيها، فإذا بماء عينيها يسيل علي خديها، فمسح دموعها وجذبها نحوه قائلًا بخجل: »كاري، أنا لا أستطيع أن أقدم لك شيئًا!» .
فابتسمت من خلف دموعها وأومأت برأسها وكأنها تقول له، إنها لا تريد شيئًا.. كانت تري أنها تعيش أجمل فترة في حياتها قد امتلكت جسدًا جميلًا وهي في الثانية والعشرين من عمرها، وبعد مضي سنوات طوال سوف تتذكر هذه الفترة من حياتها، ولن يبرح ذاكرتها هذا الرجل.. الرجل الذي تحرر جسدها علي يديه وتعلمت علي يديه فنون الحب والقتال.
كاري فتاة فقيرة من أسرة متواضعة، فكانت تعتمد علي الحوالة البريدية التي تأتيها من والديها كل شهر لتعينها علي نفقات الحياة.. أبواها عاملان بسيطان يقترضان من أجل نفقات جامعة أختها الكبري وأخيها الصغير... ولاتفارق ذاكرتها صيفية أحد الأعوام التي قضت منها بضعة أيام في منزل زميلتها، وكانت تلك الفتاة تفوقها طولًا، يومها أعطتها والدتها ملابس ابنتها القديمة لترتديها، فرفضت كاري بشدة. فقالت الأم انظري إليها إنها ملابس قديمة لا قيمة لها. فانتابت كاري نوبة من البكاء...
لم تستطع كاري أن تمحو فقرها من ذاكرتها، فهو يسكن قلبها ودائمًا تذكر نفسها به؛ فتأكل أبسط طعام وترتدي ثيابًا متواضعةً وتحيا حياةً صارمةً... وأوقاتا تفكر، ما هو أكثر شيء تحبه في حياتها؟ هل هو رجلٌ؟ هل هي مشاعر حب محفورة علي جدران قلبها؟ لكن لم تكن هذه الأشياء... إنما هو الفقر.. فحينما يطول الزمن منها وتشارف علي الموت، فلا شك أن هذه الفترة السوداء من حياتها ستظل عالقة في ذاكرتها؛ سنوات الجامعة الأربع وأيامها الحالكة التي لم ترِ فيها نهارًا.. كانت شديدة الحساسية عن أي شخصٍ آخر وكثيرًا ما تأذت مشاعرها حتي استوطنت مشاعر الحقد من قلبها.. بغضت كاري فقرها وأحبته في آن واحد، ويا طالما كانت تخشي أن تظل أسيرة هذه الكلمة الموحشة!
وطوال هذه الفترة، وهي تذهب معه إلي فنادق كبري، كان يصطحبها إلي أفخم النوادي الليلية ويدفع مبالغ كبيرة، لكنها كانت تعلم أنه لا ينفق من ماله الخاص؛ فهو لا يملك أية نقود، ونادرًا ما كان يهديها شيئًا، سوي مرة واحدة أهداها خاتمًا بعد عودته من سفرة عمل.. حينها رفضت بشدة أن تقبله، فقد اعتادت الفقر ولا ترغب في أن يزين يدها خاتم ثمين، حتي إنه قد بدا لا يناسب يدها، فلم تكن تفهم شيئًا عن الذهب.. بينما قد ابتاعت عمتها في يوم خاتمًا ذا رأسٍ أكبرٍ من هذا الخاتم، وكان أنيقًا جدًا، وثمنه قد اقترب من ألف يوان. قدرت كاري خاتمه بحوالي ربعمائة أو خمسمائة يوان. وكلما فكرت في ثمنه، أصرت أكثر علي رفضه.
- يومها استاء جانغ كثيرًا قائلًا:
- كاري، أنا لا أقصد بهديتي معني آخر.
- أعلم هذا!
أخذ الخاتم ووضعه في يدها، فضحكت كاري وخلعته، فوضعه مرة أخري، وخلعته ثانيةً، فاستشاط غضبًا، وجلس جانبًا بوجهٍ متجهمٍ دون أن ينطق بكلمة واحدة. فرق قلبها، لكنها لا تستطيع أن تقبل هديته، وهذا خاتم وليس شيئًا هينًا.. فخاتم يعني نقودًا وهي لاتملك أن ترد هذه النقود. خيم صمت مطبق ثم خرج عن صمته قائلًا:
- كاري أنا جادٌ جدًا نحوك، وهذا ما في وسعي أن أقدمه لك، فأنا لا أملك سواه يا عزيزتي، ولا أعلم كيف أعبر لك عن حبي الكبير!
رضخت له في النهاية وقبلت الخاتم.. ومنذ ذلك الحين، ولم يتجرأ أن يهديها شيئًا آخر. كان دائمًا يرغب في أن يشتري لها ملابس جديدة، فلم تكن تكترث إلي مظهرها علي الإطلاق، وقد اعتادت ارتداء الملابس البسيطة. ذات يوم تحدث إليها دون حرج قائلًا:
- كاري إنك جميلةٌ جدًا!
- حقًا! ضحكت كاري عاليًا.
- لكنك في حاجة إلي أن تتزيني قليلًا! أردف قائلًا.
أطرقت كاري، فكان هذا هو سبب معاناتها. فأين المرأة التي لا تحب أن تتزين؟ أين المرأة التي لا ترغب أن ترتدي ثيابًا أنيقةً كل يوم؟ كانت تنظر إلي هؤلاء الفتيات الجميلات الأنيقات علي الطريق.. لا، لم تكن تنظر إليهنّ، بل تحقد عليهنّ وتكرهٌّن من قلبها! المال هو المشكلة الكبري التي تؤرقها كل يوم...
انقضت عدة أيام،ثم ذهب إلي أحد الأسواق التجارية الكبري ليبتاع لها بعض الملابس، كان يخشي أن ترفض أيضًا هذه المرة، فاتفق معها مسبقًا قائلًا: »كاري،لا تبالغي هذه المرة!» فخضعت له بعد تفكير.. لم ترقها الملابس التي أحضرها لها، فقد كانت ملابس ذات طراز قديم وألوانها فاقعة، فساورتها الشكوك في ثمن هذه الملابس. لم تستطع أن تمنع نفسها من الذهاب فيما بعد إلي المتجر لتتحقق بنفسها، فاستاءت وقتها بشدة؛ فقد أيقنت أنه رجل لا يحب الإنفاق، وابتاع لها أرخص الملابس!
كانت هذه هي المرة الوحيدة التي يهديها ملابس.. فقد سبحا معًا في نهر الحب طيلة ستة أشهر وهو يمسك يديه عن الإنفاق!
خلعت الخاتم هذه المرة وذهبت إلي الصائغ لتقدر ثمنه، فضحكت حينها هازئةً، إنه لايساوي شيئًا علي الإطلاق! لكن ما معني هذا؟! فهي ليست مشكلة نقود إذن! الآن كشفت الحقيقة عن وجهها القبيح، إنه لا يحبها، فإذا كان قد أنفق عليها حفنة نقود، فهذا واجب عليه، فحتي بائعات الهوي يتقاضين أجرًا عن عملهن.. كانت تري أنه أنفق علي جسدها طيلة نصف عام ما لا يكفي ليدفعه أجرًا لبائعة هوي في ثلاث مرات.. ثلاث مرات! فكم مرة كانت معها هي...
فجأة انفجرت كاري في البكاء.. فقد أيقنت أن قيمتها لا تضاهي حتي إحدي بائعات الهوي!
ما زالت تحمل ذاكرتها المرة التي تحدثت معه عن الزواج، وقتها سكن وجهه ابتسامة خجلة، وربت برفق علي رأسها قائلًا بحزمٍ إنه لا يمكنه أن ينفصل عن زوجته، وينبغي أن يهتم بعمله في الوقت الحالي، وهي فتاةٌ ذكية وعليها أن تتفهم موقفه. فعلي الرغم من أن زوجته ليست جيدة في جوانب كثيرة، لكن......
سقطت دموعها علي الفور، ثم فاضت عيناها بغزارة وأشفقت علي حالها. فلا أحد سيحبه مثلها.. لا أحد سيهتم به مثلما تفعل هي، إنما هو... يرغب فقط في جسدها!
وفي ظهيرة ليلة رحيلها، اصطحبها إلي المحطة، وكان الوقت لا يزال مبكرًا علي موعد انطلاق القطار، فوضع الأمتعة في المكان المخصص لها، ثم انطلقا عائدين في طريقهما للبحث عن فندق قريب.. ستظل صورة هذا الفندق القذر عالقة في ذهنها أبد الدهر، وخيوط العنكبوت التي تغطي سطح سلالم الدرج المتهالكة، فاستاءت بشدة ووقفت في ذهول تام، فكيف وقعت في شرك حب مثل هذا الرجل! رجل لا يبالي بمشاعر أحد ولا يفكر سوي في رغباته. وقد انتصب سرير واحد في الغرفة وقد بدا علي الشرشف بعض من البقع.
في البداية رغبت كاري في الحديث إليه، فتطلع إلي ساعته وابتسم قائلًا، »ليس لدينا متسع من الوقت»، فعانقته بجنون...... بدا مشهد الربيع الخلاب من الخارج، فظهرت الورود والأزهار من الشرفة الزجاجية، فاندهشت قليلًا، فلم تتوقع أن تري هذا المشهد البديع في مثل هذه البيئة المتسخة!
مضي وقت فوق فراش الحب.. شعرت كاري حينها بمسافة كبيرة بينها وبين ذلك الرجل الشهواني، وكأنها لم تكن تعرفه من قبل، بل لم تعد ترغب في رؤيته مرة أخري. حتي هذه المدينة بدأت تكرهها... فهنا عاشت طيلة ستة أشهر وتنفست هواءً ملوثًا.
أمسك بوجهها بين كفيه وراح يتطلع إليها في حنان دافق، وأشعة الشمس التي تتسلل من الشرفة الغربية تنعكس علي زجاج نظارته.. مرت فترة وكأنها دهر، ويبدو أن مشاعره قد تحركت خلالها، ثم هتك صوته الصمت الطويل قائلاً: - كاري، لن نتقابل مرة أخري بعد الآن؟
فأومأت رأسها بالإيجاب.
فأردف قائلًا:
- أنا سأذهب وأبحث عنك!
كانت تستمع إلي صوته كلمة كلمة، وكأنه أتي بها من عالمٍ آخر سحريٍ. فجأة ضمها إلي صدره، وأخذ يمطرها بقبل الحب الشهية...... ضاعت كاري في هذه اللحظة وغمرتها نشوة حبه، وأشعرها بحبه.. والآن قد أيقنت أنها أخطأت وأساءت الظن به، فشعرت نحوه بأسف شديد، فهي فتاة حمقاء لا تفهم طبيعة الرجال علي الإطلاق.. الرجل هو أغرب الحيوانات التي تحيا بيننا، هو حيوان شرس ولا يجيد التعبير عن الحب، علي الرغم من أنه يكون غارقًا فيه!
بدا وكأنه قد تذكر شيئًا هامًا، فأخرج من ملابسه ثلاثمائة يوانًا، ودسهما في جيب ملابسها، قائلًا: »خذي هذه النقود واشتري بها أغراضًا لك.» نهضت كاري وجلست في الفراش، وأخذت تحدق بعينيها الواسعتين في وجهه دون أن تتفوه بكلمة. فلم تكن تتوقع أن يفعل هذا بعد أن ذاق معها حلاوة الحب منذ قليل... فكيف بعد أن كانا يذوبان كروح واحدة يعطيها نقودًا؟! زمت كاري شفتيها، وأخذت تبكي بصوتٍ خافتٍ.
لم يفهم جانغ قصدها، فارتبك قليلًا، وحاول تهدئتها فجاءت كلماته مرتبكةً مثله: »هذه النقود... كاري خذي هذه النقود، أعلم أنك بحاجة إليها، وأعلم أنك لن تفكري بي بعد الآن»، ثم خفت صوته فجأةً وقد تهدج بعض الشيء، واهتزت الكلمات بين شفتيه قائلاً: »أعتذر منك النقود ليست كافية!» .
قفزت كاري علي الفور من فوق الفراش، ووضعت يديها علي أذنيها، وأطلقت بوجهه صرخةً كاد يسمعها من كان ينتظر ذلك اليوم بالقرب من محطة القطار.....
(2)
وقد نعمت كاري طيلة العشر سنوات الماضية بحياة طيبة. أقامت في المدينة التي كانت بها جامعتها، في البداية غيرت عملها عدة مرات، وقبل أربع سنوات، أسست شركة مع أحد زملائها، ثم انسحب شريكها، فظلت تباشر الأمور بمفردها. وقد تحسنت الأحوال كثيرًا في العامين الماضيين، فابتاعت مكتبًا بمكان متميز في وسط المدينة وعينت بضعة موظفين.. وفي كل يوم كانت تستقل سيارتها السوداء »الأودي» وتسير علي الطريق المؤدي إلي البيوت الريفية.
لم تفهم السبب الحقيقي في الحياة التي تعيشها الآن... حياة فارهة وسطحية، فلا من مانع أنها أصبحت الآن تمتلك نقودًا، ينبغي أن تتمتع بها وتعوض سنوات الحرمان، لكن هناك الكثير من الأغنياء ولا يعيشون مثلها، حياتهم بسيطة وليست فارغة ولا ينفقون أموالهم عبثًا.. لم تكن كاري تحيا مثل هؤلاء الأغنياء، فقد كانت تشعر أن هذه النقود من أجلها فقط، فاعتادت الجلوس في المطعم الدوار لأحد الفنادق ذات الخمس نجوم ولا أحد كان يعرفها، تتناول طعامها في هدوء، وتنفق علي وجبة اللحوم ستمائة أو سبعمائة يوان.
وعلي الرغم من الحياة المترفة التي نعمت بها، إلا أنها لم تعرف معني السعادة يومًا. كانت أحياناً تفكر، لماذا تفقد النقود قيمتها حينما تصبح في قبضتها؟ ألم تحيا طيلة هذه السنوات السوداء تحلم بالثراء؟ لكن ما الجدوي الآن وهي تقضي أيام حياتها في رتابة وملل؟ فلم تكن سوي فتاة بسيطة، تعلمت منذ صغرها كيف تحيا حياةً صارمةً؛ حينها كانت دائمًا تتحدث عن فقرها دون خجل، دون أن يحّقر أحد من شأنها.. نعم، فقد تجرعت من قبل قسوة الحرمان ومرارة الفقر!
في مساء أحد الأيام، كانت تجلس في بيتها بعد عودتها من العمل، وفجأة قفزت إلي ذاكرتها الثلاثون عامًا التي انقضت من عمرها، وزملاؤها في الجامعة الذين كانت تتحدث إليهم، فقد طوي الزمان كل هذه الأشياء. وما زالت تتذكر زميلها الذي امتدح عقلها وخيالها الجامح يومًا، وتلك الأفكار الغريبة التي كانت تصول وتجول في رأسها، وذلك الخيال السارح الذي سكن عقلها... قد ذهب كل شيء الآن ولم يتبقٍ شيء منه.. وفجأة زحف الخوف إلي قلبها ورغبت في البكاء.. جلست علي الأريكة ثم انزلقت إلي الأرض راكعة، وسرعان ما تكورت علي جسدها.
في ظهيرة أحد الأيام تلقت هاتفًا، وما إن التقطت سماعة الهاتف وسمعت »مرحبًا!»، عرفت علي الفور من يحادثها... ورغم مضي عشر سنوات، وحتي لو فارقت روحه الحياة، سوف تعرف صوته. تملكتها الدهشة، كيف عثرعليها! فطيلة هذه السنوات، كان أكثر شيئًا يشعرها بالزهو هو أنها قد نجحت في التخلص من حبه، وطوت صفحة هذا الرجل إلي الأبد.
في السنوات الأولي لم تبرح ذاكرتها صورته، فكانت تستيقظ ليلاً من نومها فجأةً وترقد علي فراشها تفكر به، وأحيانًا أخري في الصباح الباكر وهي في طريقها إلي العمل، وأوقات وهي تنتظر أسفل لافتة محطة الأتوبيس وسط الجموع؛ وعند الغروب وهي تجلس عند محل تصليح الأحذية تصلح حذاءها، دائمًا ما كانت تنسال دموعها. وقتها كان يراها الكثيرمن الناس، لكن لا يعلمون لماذا تبكي، ومن أجل من تبكي؟ ورغم هذا ما هاتفته مرة طيلة هذه السنوات!
في عيد الربيع لأحد الأعوام، هاتفها في منزل والديها، حينها تذكرت كاري أنها قد أعطته من قبل رقم الهاتف الخاص بمنزل أهلها.
ألقي عليها التحية، وتحدث باقتضاب عن بعض أحواله، وفجأة تنهد قائلًا، »كاري، اشتقت إليك!» .
شعرت كاري بالحزن الذي يقرب حد الكراهية، بينما وقف والداها في الزاوية يرمقانها بنظرات تملؤها الشك. لم تدر ماذا تقول له، فوضعت سماعة الهاتف في عجالة ثم طلبت من والديها ألا يبلغا أحدًا عن كيفية الاتصال بها بعد الآن. ويبدو أن والديها قد نسيا ما طلبته منهما، لذلك كان ينجح جانغ في العثور عليها كل ستة أشهر تقريبًا، فيتحدث إليها بصوتٍ حزين... فراودتها الفكرة بأن تغير رقم هاتفها.
كان الاتصال الأخير قبل ستة أعوام، وقتها تعمدت كاري أن تختلق أكذوبة، فأخبرته أنها قد تزوجت. لزم حينها جانغ الصمت.. ثم خرج عن صمته بعد فترة طويلة سائلًا، »هل أنتِ بخير؟».
فأجابته كاري، »أنا في أحسن حال».. ومن ذلك الحين وسماعة الهاتف لم تحرك ساكنًا.
اعتزمت كاري علي مقابلته منذ أن نزلت أقدامه المدينة.. فقد جاء في مهمة عمل، وتحدث إليها عبر الهاتف قائلًا، »إنه دائمًا يفكر بها، وما فارقت فكره طوال هذه السنوات!». استدعي ما يمتلك من شجاعة ليهاتفها هذه المرة، وأخبرها أنه دائمًا يأتي إلي هنا للعمل، كان يأمل وهو يسير أحيانًا علي الطريق أن يقابلها صدفةً وسط الجموع الغفيرة الذين يروحون ويأتون، ويسمع صوتًا يناديه ويشعر بيد تربت علي كتفه من الخلف، فيستدير بجسده ويقول فجأة.
- كاري، لقد تغيرتِ كثيرًا؟
- إنني كبرت! فتخفض كاري رأسها قائلة.
- وأنا أيضاً كبرت!
كانت تحتضن سماعة الهاتف بيد، واليد الأخري التي تمسك بالقلم عالقة في الفضاء، وقد أيقنت أنه قد تقدم في العمر.. فشعرت حينها أنها امرأة قاسية، فكلاهما قد تقدم به العمر.. فهي التي أعطته أكثر فترات عمرها شبابًا وحيويةً، ألم يغلبها الشوق إلي ذلك الرجل؟ ألم يأخذها الحنين إلي تلك الأيام الحلوة؟ وفي هذه اللحظة رق قلبها، فحاكت أكذوبة ثانيةً وأخبرته أنها قد انفصلت عن زوجها.
تنهد جانغ، ولم يعد الهاتف مناسبًا للحديث... والآن هما علي موعد في المساء.
في الرابعة أو الخامسة من بعد الظهيرة، استعدت كاري للذهاب إلي تصفيف شعرها وشراء بعض الملابس، ثم العودة إلي منزلها لترتاح بعض الوقت.. كانت تري أنه لا مفر من إخماد نيران الجسد الثائر لطيلة هذه السنوات، فلم يتقابلا منذ عشر سنوات، وهي الآن امرأة مطلقة. فلن تستطيع ألا تلبي نداء الحب في هذه الليلة المجيدة!
بعد أن انتهت من هذه الأمور، وصلت أمام أحد المحال التجارية التي تبيع الملابس المستعملة ورغبت في الدخول. دفعت الباب بخجل ودلفت إلي الداخل. ظلت السيدة البدينة رئيسة المحل تتعقبها وكأنها المرة الأولي التي تستقبل فيها زبونًا يرتدي ملابس أنيقة. التقطت كاري من سلة البامبو القديمة بعض قمصان الطلاب المتهالكة ذات النقوش المتداخلة، وحذاء جلديًا قديمًا قد فقد بريقه، وسترة سوداء فضفاضة مزدوجة الصدر.. اختبرت الملابس علي جسدها، فاعتلي وجهها ابتسامة رضا.
الآن... تعلم ماذا تود أن تفعل، فهي ترغب في وضع ماكياج لتصبح امرأة أخري، فقبل عشر سنوات كانت تبدو قاتمة وفقيرة وبائسة. والآن ترغب في أن تستعيد تلك الهيئة الشاحبة، حتي لا يعرفها أحد من الناس.. لا أحد يستطيع أن يتذكر تلك الفترة الحالكة التي عاشتها في شبابها.. ذلك الألم الذي اعتصر قلبها.. تلك الإهانات التي تعرضت لها... لا أحد يستطيع أن يتذكرها قبل عشر سنوات حتي والديها وأخيها الصغير، لكن هو وحده من يعرف أوجاعها المريرة.. هو وحده من يستشعر معاناتها الطويلة.
فجأة تسلل الدفء إلي قلبها وسرت في جسدها رعشة، فاستسلم جسدها بأسره إلي تلك الحالة الشعورية، واكتشفت للمرة الأولي أنها طيلة ثلاثين عامًا لم تتأثر إلي مثل هذا الحد. فكانت دائمًا تستقل سيارتها وتسير مسرعةً علي الطريق وتري الريح وهي تهب علي الحقول في موسم ازدهار أوراق الشجر وسنابل القمح. لم تر كاري حياتها في هذا اللون من قبل؟ والآن، تتطلع إلي منظر الحقول وهي تسير مسرعةً علي طول الطريق، فتتنهد وابتسامة حلوة تسكن شفتيها.
كانت كاري في حاجة إلي طيلة النهار لتشعر بالرضا عن نفسها.. الآن تقف أمام المرآة، تتفحص نفسها بعنايةٍ فائقة، وتشعر أنها علي أكمل وجه. هذه المرأة التي تنعكس صورتها في المرآة، هي في الثلاثين من عمرها ترتدي نظارة سميكة (ذلك هو الشيء الوحيد الذي وجدته منذ عشر سنوات في صندوق النفايات)، وعيونها يسكنها قلق مخيف، ووجهها شاحب وجلدها جاف، فما إن تبتسم ستظهر التجاعيد الساكنة حول عينيها.. وعلي الرغم من أن ثيابها كانت نظيفة ومرتبة، وبدت متناسقة، إلا أنها تبدو وكأنها قد ابتاعتها من محل يبيع ملابس مخفضة الأسعار... والليلة هي علي موعد مع شخص فوق العادة، فوضع أحمر الشفاه أمرٌ لا غني عنه، فبدت وكأنها امرأة غير متمرسة وتضع أحمر الشفاه للمرة الأولي، وضعته وأزالته عدة مرات حتي صار لونه وفي النهاية باهتًا يثير الازعاج لمن يراه. ويمكن القول باختصار، إن مثل هذه الفتاة، يمكن أن تقابله كل يوم في الطريق؛ فتاة بسيطة ومتواضعة الشكل، عند النظر إليها للوهلة الأولي ستعرف أنها فتاة فقيرة من طبقة متدنية.
أوه، فتاةٌ فقيرةٌ! فجأة ارتجف جسدها.. فمن منا يستطيع أن يشعر بمعاناة شخص فقير؛ الظلم والكراهية اللذين تعرضت لهما، وخيبة الأمل التي شعرت بها، والظلمة الحالكة التي عاشت فيها فحالت بينها وبين حتي رؤية أصابع يديها... ترقرقت عيناها بالدموع.. والآن هي علي يقين، أنها عادت مرة أخري إلي ذلك الظلام الدامس.. فجأة استعادت العشر سنوات التي طواها الزمن.. عشر سنوات من الكفاح، فقبل ساعتين ثلاث فقط كانت كاري الجديدة؛ الفتاة المتألقة المشرقة... لكن الآن تشعر وكأنها تعيش حلمًا من الزمن الغابر.
تألم قلبها فجأة وأمسكت بالحائط أمامها، ثم مضت بخطوات متعثرة حتي وصلت أمام أريكة غرفة الجلوس، والتوت بجسدها فوقها.. أخذت تنظر إلي كل الأشياء الكائنة في الفضاء الساكن أمامها: الأضواء الساطعة، والبار الفاخر، والتلفاز الكبير، وسجادة الدرج، والحشائش الخضراء التي تظهر من الشرفة، وطفل الجيران والكلب الخاص بهم. كرة تتدحرج فوق العشب الأخضر وأشعة الشمس تركض بصحبتها. راحت تتأمل هذه الأشياء بعناية، وكأن يومًا سيأتي وتفقدها؛ كانت ترغب في أن تحفر علي جدران ذاكرتها كل ما تمتلكه من أشياء.
غادرت كاري المنزل وهي علي هذه الحالة، راحت تمضي بخطوات مترددة، تقدم قدمًا وتؤخر أخري. استقلت سيارتها في البداية ثم تركتها في أحد الأماكن المخصصة للانتظار في المدينة. كان خروجها وقت رحيل الشمس إلي المغيب، وظلال الشفق الأحمر الدامي تنساب علي الطريق، وقد صادف وقت ذروة انتهاء العمل والمارة الذين يروحون ويأتون علي جانبي الطريق أشبه بأوراق الاشجارالمتساقطة.
حينها رأت كاري شخصًا يعبرالطريق من الجهة المقابلة يدعي لي مينغ ليانغ، وكان يرأس منصب المدير التنفيذي لشركة أوراق مالية. وقبل عامين، كان علي اتصال بها لفترة قصيرة بسبب إحدي المنازعات المالية، بعد ذلك تمكنت كاري من كسب الدعوي لصالحه، ومن وقتها وهما علي اتصال. وعلي ما يبدو أنه قد أحس شيئًا نحوها، فكان يهاتفها من وقت لآخر للاطمئنان عليها. ومنذ وقت قريب، دعاها لتناول الشاي معه بعد الظهيرة، وشعر كل منهما حينها ببعض الارتباك، حتي وإن لم يتجاوز حديثهما بعض الأمور في العمل.
لم تتوقع كاري، أنها بمجرد خروجها ستقابل شخصًا تعرفه! الآن سار نحوها ويبدو وكأنه رآها.... وقفت مذعورة علي جانب الطريق، ووقف شعر جسدها من الخوف. وكانت أول فكرة خطرت لها أن تستدير بجسدها، وتنطلق مضيًا في طريقها، لتتجنب كل الناس؛ من يعرفها ومن لا يعرفها، وفجأة سمعت صوتًا، »آنسة» فما إن رفعت رأسها، وجدته يقف أمامها. فاحتبست أنفاسها في صدرها، ونظر كل منهما إلي الآخر فابتسم إليها قائلاً،»معذرة قد أخطأت الشخص!»، فأجابته،»نعم، قد أخطات الشخص!».. وفجأة ارتعش جسدها وأمسكت بأحد أعمدة الإنارة في الطريق، بينما مضي هو في طريقه.. الآن تعلم جيدًا أنه لم يعد أحد يعرفها حتي أصدقائها وأقاربها، وسيأتي يوم ويتخلي عنها الجميع.. نعم، سيتخلي عنها الجميع!
الآن، هي ذاهبة بقلب متلهف لرؤية رجل، ما من أحدٍ غيره سيعرفها.. فمهما كبرت ونال منها الزمن، ومهما ارتدت ثيابًا مهترئة وخرجت تتسول علي الطرقات، سيكون هو الشخص الوحيد الذي يثق بها، وحتي وإن وقفت أمامه، ولم تتفوه بكلمةٍ واحدة، سرعان ما يعرف أنها هي!
ذهبت بخطوات مترددة لركوب الأتوبيس (ولقول الصدق، لم تكن كاري ترغب في أن تستقل سيارة أجرة)، كانت تسير مطأطئة الرأس وكأنها لص هارب يراقب المارة من حوله في حذر، والجميع علي عجلة من أمرهم يمضون دون اكتراث.. كانت هذه المرة الأولي التي تنظر كاري إلي العالم من حولها بنظرة مختلفة؛ هؤلاء الرجال ببزاتهم الأنيقة وأحذيتهم الجلدية، هؤلاء الفتيات الأنيقات اللاتي يهبطن من مكاتبهنّ. عادة كان يتطلع كل منهم إلي الآخر وهو يحمل داخله ميزانًا يقيم به هيئة الآخر، هويته، وظيفته، وراتبه..... لكن اليوم، مهما تطلعت إليهم، لن ينظر إليها أحدٌ بعين الاحترام!
ارتعدت كاري فجأة، ووقفت بعيدًا علي جانب الطريق؛ هؤلاء يحتقرونها ويحتقرون الفقراء.. فهي لا تملك إلا أن تكرههم في داخلها.. ماذا يفعلون؟ من أعطاهم الحق لفعل هذا؟ هؤلاء الموظفون الصغار الذين يعملون بالشركات الكبري يقفون تحت لافتة محطة الأتوبيس في شموخ وعزة، وفي هدوء دون اكتراث لشيء... بينما الغيرة تأكل قلبها بسببهم.. استطاعت بين الحين والآخر أن تختلس النظرات إلي هؤلاء الموظفين من دون أن تنسي من هي، فبصقت عليهم داخلها قائلة، »أنتم، ينبغي أن تتوددون إليّ فربما أكون رئيستكم في العمل يومًا ما!»
جاء الأتوبيس، فاعتصرت وسط الزحام وصعدت إليه بفضل الجموع دون أن تلمس قدماها الأرض. عبق الأتوبيس برائحة عرق كريهة، وهذه الرائحة كانت تألفها جيدًا. رفعت يدها ووضعتها سريعًا علي فمها بسبب رائحة عرق تدعو للتقيؤ قد انبعثت من تحت كتف يحازيها. أخذت تتفرس بتلك الوجوه الكثيرة التي التقتها في الزحام: الوجه الأصفر، والوجه المتوتر، والوجه الدميم...... هذه الوجوه قد أحبتها كثيرًا، فهي جزءٌ من حياتها الماضية، لكنها الآن تعيش بمنأي عن أصحاب هذه الوجوه.. هي وحدها التي تعلم كيف انزلقت إلي مثل هذه الحياة؟! كيف خانت فقرها وخانت هؤلاء الفقراء؟!
انحنت كاري بجسدها إلي الأمام، فمرت بيدها من فوق الرؤوس التي لا تعد ولا تحصي وأمسكت بإحدي الحلقات المعلقة، شعرت حينها بالإثارة، فانتفخ وجهها واعتلاه حمرة. بينما أخذ محصل التذاكر ينادي في مكبر الصوت مرارًا وتكرارًا قائلًا، »رجاء شراء التذاكر، المحطة القادمة آن خوه لي، رجاء شراء التذاكر!».. فاندست كاري وسط الجموع، وأعلنت خفية عن مخطط الهروب من دفع الأجرة...
نعم، إنها لا ترغب في دفع الأجرة. فعلي الرغم من أن يوانًا واحدًا لم يعد يعني لها شيئًا الآن، لكنه يعني إلي شخص فقير الكثير؛ يعني له صحنا صغيرا من اللحم الطازج، أو ثلاث حبات من البسكويت المجفف، أو الذهاب مرة إلي صالون الحلاقة، وإذا استطاع الراكب التهرب مرتين ثلاثا من شراء التذكرة، سوف يقدر علي شراء حذاء رياضي، وقميص وسروال قصير ملون... وهذا يعني لها حياة جديدة تتوق إلي أن تعيشها من جديد.
لم يحدث وتهربت كاري من دفع الأجرة من قبل، والآن قد اندست وسط الجموع، وأذناها حاضرة لتستمع بعناية إلي كل ما يحدث حولها. مالت بجسدها قليلًا، ثم استوت مرة أخري وأخذت تحدق عيناها في هدوء، وهي تنظر إلي مشهد السيارات المارة في الخارج من خلف النافذة.. تقدم الأتوبيس إلي الأمام، ثم انعطف من أحد الشوارع الجانبية الضيقة اختصارًا للطريق. فتنهدت برفق، ولم يسعها إلا أن تفكر في إلي أين سيقود هذا الأتوبيس حياتها؟
توقف الأتوبيس، فتبعت كاري المغادرين. كان المحصل وقتها لا يزال يتفقد تذاكر الركاب، وكانت رأسها أشبه بطبلة صغيرة تتحرك في جميع الاتجاهات؛ فراحت تلتفت نحو الباب الأماميّ والخلفيّ، ويمينًا ويسارًا.. هبطت كاري من باب الأتوبيس الخلفيّ، ولم تكن في مأمن بأن محصل التذاكر سيستدير برأسه نحو الباب الأماميّ في هذه اللحظة، انحشرت سريعًا وسط الحشود وقفزت من العربة كأرنب هارب، وسارت مندفعةً علي الطريق.. وقف كثير من الناس ينظرون إليها بعيون تملاؤها الدهشة، فلم تكترث إليهم، لأنها تعلم أن الليلة الموعودة قد حانت الآن...
(3)
وصلت كاري منهكة إلي الفندق الذي نزل به جانغ، وكانت قد تأخرت علي موعدها أكثر من ساعة.. وقف عامل الاستقبال في زي رماديٍ علي باب بهو الفندق، كان ينحني بجسده قليلًا وهو يضع يده خلف ظهره ويفتح باليد الأخري باب السيارة التي يهبط منها الزوار. لا تعلم لماذا انتابها وقتها شيء من الدهشة. تبادل كل منهما النظرات، وابتسمت إليه متوددةً، وأثناء سيرها في طريقها سمعت صوته يناديها. أخذ يتفحصها في البداية ذلك الشاب الوسيم الواثق بنفسه الذي قد شارف علي العشرين، وراح يتطلع إليها بعيون تملاؤها الشك، ثم سألها إلي أين هي ذاهبة. جمدت كاري مكانها، وسرعان ما انتفخ وجهها واعتلاه حمرة الغضب.. نعم، فهنا ليس مكانها! لم تعبأ بسؤاله ومضت في طريقها إلي الداخل، وفجأةً مد يده أمامها واعترض طريقها، قائلًا في هدوء بالغ:
- معذرة عمن تبحثين؟ فاستشاطت غضبًا، وقطبت حاجبيها ورمقته طويلًا ثم قالت:
- قل لي أنت عمن أبحث؟
فأسبل جفنيه ووضع يديه جانبًا، قائلاً في نبرة تشي بالبرود:
- أنا لا أعلم !
- أنت لا تعلم عن أي شيٍء تسأل؟ فجأة ارتفع صوتها عاليًا، فتوجهت إليها أنظار الأعداد الكثيرة الذين يملأون بهو الفندق. فركض نحوها رجل، وكان يبدو أنه مدير صالة الفندق، وسألها ماذا حدث.
وفجأة انخرطت في البكاء... ماذا يحدث لها اليوم؟ ماذا أصابها؟ أخد يتهامس كل من المدير وعامل الاستقبال للحظات، ثم ابتسم إليها المدير وهو يفرك يديه قائلًا:
- معذرة يا آنسةً، حدث فقط سوء فهم بسيط!
- سوء فهم؟ ما هذا الحقير المغرور المرتزق! ثم أشارت بيدها إلي الأشخاص الذين يروحون ويأتون داخل صالة الفندق قائلةً:
- لماذا لايقع سوء فهم مع هؤلاء؟هل تجرؤون علي فعل هذا معهم؟ سوف أشتكي عليكم أيها السفلة، فأنا محامية.انتظروا وسترون ماذا سأفعل!
فجأة احتبس صوتها في حنجرتها، فماذا قالت! إنها محامية!
تفجرت ضحكات مكتومة من بين الجموع التي تلتف حولها، اكتشفت كاري حينها أنها محاطة بعمال النظافة، وموظفة الاستقبال، وبعض النزلاء الرجال.. يقف الجميع حولها وينظرون إليها نظرات غريبة كأنهم ينتظرون الكلمات التي ستخرج من فمها لتثير ضحكاتهم. ووقف عن يمينها ويسارها رجلان من رجال الأمن الأقوياء، وقد نفد صبرهم منذ وقت طويل، وكانا بين الحين والآخر يغمزان إلي المدير، فلو أنهما لم يريا مبررًا في حديث هذه المرأة سليطة اللسان، لقبضا عليها منذ البداية بحجة أنها امرأة مختلةٌ.
بدأت كاري تدرك خطورة الموقف، فلن تستطيع أن تتحمل خسارتها لهذا الرجل. اليوم هي علي موعد مع حبها القديم وأشياء كثيرة حلوة في انتظارها... فجمعت شتات نفسها وأخبرت المدير عن اسم جانغ ورقم غرفته.
ومثل شبح شارد توجهت بخطي متداعية نحو المصعد، واستندت برأسها علي حائطه البارد، وقبل أن ينغلق باب المصعد، تبادلت نظرات عدائية مع الجموع التي أوصلتها للمصعد... إنها تكرههم.. تكرههم بشدة.. أغمضت عينيها وخط من الدموع انسال من عينيها إلي أنفها حتي وصل إلي فمها.. والآن قد أدركت الحقيقة المرة... أنها تكره هذا العالم وتكره من يحيا به!
كبر جانغ! حينما فتح باب الغرفة ووقف أمامها مبتسمًا، شعرت كاري بخيبة أمل كبيرة، كان عليها أن تدرك منذ وقت مبكر أنه قد تقدم بالعمر وتتخيله في مرات كثيرة، وقد خط الشيب رأسه ويتكيء علي عكاز بظهر منحن، لكنه في الحقيقة لم يبدُ بهذا الشكل غيرالمحتمل. كان يبدو رجلا في السادسة والأربعين من عمره، تقدم في العمر بصورةٍ مقبولةٍ؛ جلده قد تراخي بعض الشيء، وأكياس تتدلي أسفل عينيه، وقد امتلأ جسده قليلًا. لم يسعها إلا أن تتنهد من ظلم الزمان، فكيف تفعل عشر سنوات فعلتها برجل حتي يصبح بها الشكل! أين ذهبت أناقته المعهودة؟
كان يرتدي بذلة زرقاء داكنة ويضع يده علي الباب، ويبدو أن العشر سنوات الماضية تجمعت أمام عينيه في هذه اللحظة، فزفر نفسًا طويلًا قائلًا بلطف، »كاري!».
شعرت كاري بالخجل، فدلفت إلي الداخل.. والآن يجلس جانغ أمامها... مضت فترة طويلة دون أن يتفوه أحدهما بكلمة، حتي إنهما لم يجرؤا علي أن تتقابل عيونهما. بالفعل خلال عشر سنوات فائتة قد ضاع كل شيء: المظهر.. والحب.. والحياة.. شردت كاري بفكرها، ولم تصدق أنهما قد تعارفا منذ عشر سنوات! لكن كيف مضت هذه السنوات؟ أومأت رأسها، ولم يتراءي أمام عينيها شيء من ذكريات الزمن الفائت.
مد يده من فوق الطاولة التي تنتصب بينهما، فأمسكت كاري بها. ضغط عليها بقوة، فوضعت رأسها علي رسغه ولم يسعها أن تستدير بجسدها وتتجاوز الطاولة، وفجأة ركعت أمامه.
وضع يده علي شعرها ثم سألها، كاري، »هل كنت علي مايرام طيلة هذه السنوات؟» فجأة اختنق صوتها وأوشكت علي البكاء.. انحني بجسده وألصق وجهه علي رأسها، ثم انزلق من فوق كرسيه وضمها إلي صدره. اختبأت برأسها في صدره، فشمت رائحة جسده، وقد تضوعت هذه الرائحة من عنق سترته التي كانت علي شكل سبعة، وراحت تستنشق هذه الرائحة التي كانت علي كامل جسده؛ أطرافه، صدره، وأنفه، نعم، هذه هي رائحة الشيخوخة.. كان رجلًا في السادسة والأربعين من عمره، قد تسربت مبكرًا هذه الرائحة إلي جسده. قطبت كاري حاجبيها واعتصر الألم قلبها. رمقته سريعًا، فشعرت أن ممارسة الحب مع رجل مثله صار أمرًا مستحيلًا!
بدأت كاري الحديث لتخفف حدة التوتر الذي سببه شدة تأثرهما، في البداية أخذت نفسين عميقين، ثم قالت، لم تسر هذه السنوات علي نحو وردي، وكانت نبرة صوتها هادئة ويعتريها شيء من القلق، وكأنها انغمست في حديث بعيد من الماضي المنسي.. استطردت حديثها وقالت إنها قبل عشر سنوات، عينت بالقسم القانوني لإحدي المؤسسات الحكومية، كان زوجها أحد كوادر اتحاد العمال في نفس المصنع الذي اشتغلت به. لم يكن حينها العائد المادي للمؤسسات الحكومية مجزيًا، فاتفقا الاثنان وعقدا العزم علي أن يؤسس زوجها شركة لتجارة الزهور والأشجار. لم يحقق زوجها ربحًا من هذه الشركة، بينما كان دخلها كبيرًا، وفي النهاية قررا الانفصال. وقبل سنتين، تم إعلان غلق المصنع الذي تعمل به، وهي الآن بدون عمل، أو بمعني آخر؛ موظفة تم تسريحها من العمل.
حينما قالت، »موظفة مسرحة من العمل»، توقفت عن الحديث وضغطت علي صدرها، شعرت أنها بدأت تفقد أعصابها. قطع جانغ حديثها عدة مرات ليسألها عن بعض التفاصيل. لم تغفل كاري أيضًا التفاصيل الصغيرة، وكعادتها دون أن يظهر عليها أية تعبيرات وبوجهٍ متيبس، أخذت تسرسل في حديثها عن أحداث ماضيها المفتعلة. ومن وقت لآخر راحت تتطلع إليه وتحدق به، وأحيانًا أخري ترمقه بطرف عينيها.
جلس جانغ علي السجادة التي كانت بجوار الفراش، ووضع يده علي خده. وهو ينظر إليها بجدية ويستمع إليها بعناية ثم قال:
- كاري
رفعت رأسها نحوه.
- كيف كان يبدو هذا الرجل؟ تردد قليلًا ثم سألها في النهاية.
خمنت كاري مايعنيه؛ فهو لا يرغب في أن يقف عند هذا الأمر كثيرًا؛ رجلان قد جمعتهما علاقة عاطفية بامرأة واحدة، ونهايتان مختلفتان، فلا يمكنه أن يضع نفسه في مقارنة معه.. ولحسن الحظ أنها لم تكن مهتمة بالحديث عنه، فهزت رأسها، بأنها لاترغب في الحديث عن زوجها السابق، واسترسلت في الحديث عن حياتها الفقيرة البائسة.
كانت تجد متعتها الوحيدة في الحديث عن فقرها، فما أن تحدثت عن الفقر، ارتعش كامل جسدها من شدة التأثر، وأخذت تتطلع إليه في نظرات غريبة.. وفجأة تسارعت أنفاسها، فتوقفت مضطرة وسعلت بصوت عال.. أخبرته أنها عملت مدرسة خصوصية، ومستشارًا قانونيًا بإحدي الشركات الخاصة، وتعرضت حينها لضغوط كبيرة. كان أصعب يوم عاشته، حينما لم تتمكن من ركوب الأتوبيس، ولم يكن لديها سوي ثلاثة يوانات، فاضطرت إلي مهاتفة أحد أصدقائها تطلب مساعدته... كانت تظن في عامها الدراسي الرابع، أن الحظ السعيد سيقف علي أعتابها بعد سنوات الألم والشقاء، لكن من منا يصدق هذا الأمر؟!
أطلقت نفسًا عميقًا ولم تستطع أن تسترسل في حديثها. فقد وصفت نفسها بأشياء لا تحتمل وجرحت قلبها. ضمها جانغ إليه، وتردد طويلًا، فلم يجد ما يواسيها به من كلمات.. ثم قال بعد صمتٍ مطبقٍ، »كاري كيف تحملت هذا؟ كيف تحملت هذا؟» أخذت تتفرس بوجهه، وفجأة ألقت برأسها علي كتفه وأجهشت بالبكاء.. شرعت ترثي حالها طيلة السنوات الماضية.
هبطا معًا إلي الأسفل بحثًا عن مطعم، وأثناء تناول الطعام، لم يتحدثا كثيرًا. أخذ يسكب لها الطعام في صحنها، قائلًا، »هذا كبد خنزير، كلي حتي تشبعي» !
شعرت كاري بالامتنان نحوه... فهنا في هذا العالم، لا يوجد شخص مثله يحبها ويعتني بها، وللحظة تمنت أن تقع في حبه مرة أخري... وهي الآن علي استعداد أن تنسي كل شيء قد حدث قبل عشر سنوات. فلا من مبرر لكرهها له، حتي لو كان أنفق عليها حفنة نقود، فأين الرجل الذي لا ينفق علي المرأة نقودا في علاقة حب تجمعهما؟ فهذا أمر طبيعي! وقد آن الأوان ليذوب الثلج الذي يغلف قلبها، وتحرر نفسها من الكراهية، وتطلق لروحها العنان.. فمن قبل، وبسبب فقرها لم تتحمل أن يعطيها نقودًا. ورفضت أن تأخذ الثلاثمائة يوان التي أعطاها لها المرة السابقة في الفندق، فما فعله كان يحمل بين طياته معني لا يمكن أن تنساه ما حيت، وكأنها قد باعت جسدها من أجل حفنة نقود!
احتسي كل منهما الخمر، ثم عادا إلي الغرفة. شعرت كاري حينها أن رأسها تدور، فخلعت معطفها علي الفور واستلقت علي الفراش، ثم توجهت بنظرها إليه، وظنت أنه سوف يأتي بجوارها.. لكنه لم يفعل.. جلس بهدوء علي مقعد بجوارالنافذة وقد غاص بجسده داخله وقد التفت ساقه بساقٍ، وأخذ يدخن سيجارته بنهم شديد. بدا وكأنه يفكر بشيٍء ما، ونور المصباح الأحمر انكب علي وجهه. فجأة رفع رأسه ونظر إليها، فخفق قلبها بشدة، فقد كانت عيناه الداكنتان تحملان الكثير من التساؤلات... مضت فترة، فأطفأ سيجارته وذهب وجلس بجوارها علي الفراش، وتحدث معها في بعض الأمور. ثم سألها متظاهرًا بعدم الاهتمام:
- كاري، علي أي شيء كنت تعتمدين خلال هذه السنوات؟
لم تمانع كاري أن يسألها هذا السؤال، فأجابت ضاحكة:
- علي أي شيء كنت أستطيع أن أعتمد؟ علي الوظائف المؤقتة ومساعدات الأصدقاء، فأحيانًا كنت أقترض منهم بعض النقود.
فضحك عاليًا قائلًا:
- كنت تعتمدين علي مساعدات الأصدقاء؟ أصدقاء رجال أم نساء؟
اعتدلت علي الفور وجلست في الفراش، رمقته طويلًا بنظرات جدية، وابتسمت قائلة:
- من المؤكد أصدقاء رجال!
ضحك عاليًا متظاهرًا بعدم اكتراثه قائلًا وهو يصر علي أسنانه:
- هل هم كثيرون؟
لم تستطع كاري حينها أن تتمالك نفسها ثانية. فقفزت من الفراش وارتدت ملابسها راغبةً في الذهاب. فمنعها علي الفور وضمها إليه بقوة قائلًا:
- كاري، اسمعي أنا سأشرح لك...
دفعته كاري بعيدًا عنها، فتراجع عدة خطوات للوراء حتي وصل إلي الطاولة.. الآن هي لا ترغب في جرح قلبها مرة أخري، فكم مرة بكت فيها اليوم؟ كم مرة خاب أملها؟ كم مرة احتقرها الآخرون؟ فقد تحطمت الأحلام البهيجة علي صخرة رجل أحمق.
ثم نادته قائلة:
- لا داعي للخوف، أنا لا أعاني من أية مرض، ولكن ليس معي شهادة صحية الآن، صدق أو لا تصدق فالأمر، هذا لا يعنيني!
جلس علي الفراش وقد اعتراه خجل شديد، ورفع يديه ومسح جبينه قائلًا:
- كاري قد أسأت الفهم، أنا فقط أمزح معك.
أخذت تنظر بازدراء إلي هذا الرجل، وودت أن تبصق عليه. فهو ليس شخصًا شريرًا، لا.. هو رجل وضيع ونذل وجبان.
والآن قد اتضح شيء أمامهما، ولم يصرحا عنه، فهو يظن أنها تبيع جسدها طيلة هذه السنوات الماضية، والليلة قد انتوت علي فعل هذا معه.
استدارت كاري وتوجهت إلي الحمام وأغلقت الباب خلفها. فقد اتخذت قرار بيع جسدها في لحظة، بل إنه باغتها دون تفكير. نظرت إلي وجهها الذي عكسته المرآة. فما إن تطلعت إليه، شعرت بخيبة أمل كبيرة.. رأت تقدمها في العمر؛ امرأة مقبولة الشكل ترتدي ملابس الموظفات اللاتي نزحن إلي المدينة. فقبل عشرسنوات، قد أغرم بها بسبب شبابها وحيويتها، لكن الآن؟ تذكرت لقائهما الأول عند باب الغرفة منذ قليل، فقد رأت خيبة أمله في حبه القديم، وعلي الرغم من أنه حاول جاهدًا أن يخفيه في قلبه المكلوم.
استندت كاري بيديها علي حوض الغسل وألقت بجسدها عليه.. الآن تذكرت كل شيء... الوقت الذي عاشته مع أسرتها البائسة المناضلة، ونظراته الغامضة الغريبة إليها منذ قليل، وعينيه التي كان يرفعهما عاليًا، وكأنه يفكر في أمر ما... نعم، كان يفكر في النقود.. وكم عليه أن يعطيها حتي تشعر بالرضا.
إنه يحتقرها ويكرهها؛ فبعد مضي عشر سنوات، كان يود أن تكون كاري الذي تخيلها امرأة متألقة، كان يتمني أن يراها قد حققت نجاحات في عملها ولديها أسرة سعيدة. فهو جاء ليراها، ربما لأنه قد اشتاق إلي حبه القديم، لكن الأكثر من هذا أنه قد جاء كي يبحث عن لحظات السعادة معها... فمن الرجل الذي يحب أن يأتي ليري الفقر الذي تعيش به حبيبته السابقة؟ كم تمني أن تصطحبه ويتمشيان معًا في إحدي الحدائق العامة، يجلسان ويحتسيان الشاي، ويتحدثان في أمور خاصة؛ وإذا كان قد حدث هذا، فما المانع أن يجددا الذكري الحلوة من جديد.. لكن اليوم قد انهار كل شيء، وقضت علي حلم بات ينسجه طيلة عشر سنوات. فأكثر شيء احتقره هو أسلوبها الرخيص الذي تحدثت به معه، فقد استشعر الحرج لها وشعر أيضًا أنه في مأزق حقيقي، فهي تجبره كي تأخذ منه نقودًا.
مرت فترة طويلة، ثم عادت إلي الغرفة، وتحدثا بفتور.. والآن ربما يكون أكثر شيء يسبب الحرج لهما هو كلمة نقود، وحتي الآن لم تصل هذه الكلمة علي طاولة الحوار أمامهما؛ فهي تقف بينهما.. عند الحديث تقبع خلف الكلمات.. وعند التوقف عنه تظهر... فهي حاضرة بينهما وفي الوقت نفسه تستتر.. موجودة في كل مكان حولهما ويدوي صوتها.
وفي لحظة، بدأت تشعر أنها لم تعد تحتمل هذا الرجل، حتي إنها رغبت في الانصراف لتعود إلي منزلها وتخلد لفراشها، ففي الصباح الباكر ستذهب إلي عملها بملابس رسمية.. وينبغي أن تنهي هذا الكابوس الذي تعيشه، وكأن شيئًا لم يحدث، فمن المؤكد أنها فقدت عقلها اليوم! لماذا رغبت في أن تتزين بهذا الشكل، وتري حماقة الناس أمامها ويري الناس حماقتها؟ لماذا لا تنتهي من كل هذا الآن؟
سعل جانغ وبدأ يتحدث إليها. ارتعشت شفتاه، فعلي الرغم من أنه فكر مليًا قبل الحديث، لكن ما إن وصلت الكلمات علي لسانه، اهتزت بعض الشيء.. أخبرها بكل صدق، إنه لا يملك نقودًا كافية، فقد أنفق كثيرًا طيلة هذه الأيام، ولم يتبقِ معه سوي القليل.
- كم تبقي معك؟ سألته بصوت ناعم.
- كم أنت ترغبين؟ قطب حاجبيه ولم يستطع أن يخفي دهشته سائلًا.
- فلتقل أنت!
- أنا لا أعرف!
- ألم تدفع إلي بائعات الهوي من قبل؟
هز رأسه نافيًا.
- إنك حقا رجلٌ مستقيمٌ! ضحكت قائلةً.
- أنا لا أحب مضاجعة هؤلاء الفتيات! أجابها ببرود.
- نعم، لأن وقتها ينبغي أن تدفع لها وأنت رجل لا يحب الإنفاق!
في هذه اللحظة ضاق صدره، ورمقها طويلًا بوجه متجهم قائلًا:
- لا تنس أنني قد أنفقت عليك من قبل! وبسط يديه بقوة ثم استطرد:
- أنا لست مدينًا لك!
لم تقل حينها شيئًا، فقط خلعت ثيابها وتدثرت بالغطاء.. أسدل الليل ستاره، وبدأت الجلبة التي كانت تتسلل من النافذة تخبو شيئًا فشيئًا. استطاعت أن تسمع صوت صياح بائع فطائر اللحم المحشوة الواقف علي جانب الطريق، ثم صدي صوته الضبابي حتي تلاشي الصوت في عتمة الليل الحزين.
وفي منتصف الليل، صعد إلي الفراش بجوارها، ففتحت عينيها في العتمة التي لفت الغرفة، كان عقلها مشوشًا وشعرت بالانهاك الشديد، فأغمضت عينيها ثانيةً علي الفور.. غادر في صباح اليوم التالي، ولم يغمض لها جفن طيلة الليل، وقد تظاهرت بأنها غافية، وفي لحظة أن صفع باب الغرفة خلفه، استيقظت لتعرف إذا كان قد ترك نقودًا أم لا... لكنه لم يترك شيئاً! لم تذهب لتبحث عن النقود، فربما رأي أن هذه المرة لا تستحق الدفع؟ أو ربما تكون أكثر تجارب حياته خزيًا! من يدري؟
والآن تمضي وحدها علي الطريق، والسماء بدأت تصفو شيئًا فشيئًا، والمارة يروحون ويأتون علي جانبي الطريق.. وفجأةً هبت ريح ماكرة، فأحكمت ملابسها جيدًا حول جسدها، وارتعش جسدها مثل كلب يرتعش تحت المطر.. وسرعان ما صعدت جسر المشاة، وقد جلس شحاذٌ منذ وقت مبكر يرتدي معطفًا مهترئًا، وكان قد جلس القرفصاء بجانب سور الجسر ينتظر حسنات المارة.. رمقها الشحاذ ببرود ورفع أنفه مستهجنًا، كما لو أن هيئتها لم ترقه، ثم اخفض رأسه يفكر في أحواله.
وقفت كاري وقد تشبثت بسور الجسر، كانت السيارات تروح وتغدو أسفل الجسر، فأخذت تنظر إليها منتشيةً، ثم مالت بجسدها نحو السور، ووقفت تتطلع إلي السيارات.. تتطلع إليها فقط.
وي وي
* جريدة أخبار الادب المصرية
11/10/2018
قبل عشر سنوات، كانت كاري طالبة فقيرة، دائمًا ما كانت تتحدث في تحفظ شديد، وتخرج الكلمات من بين شفتيها علي مهل، وعلي الطريق تمضي بخطي ثقيلة.. كاري فتاة متواضعة الشكل؛ لم تكن قبيحة وفي الوقت نفسه لم تكن فاتنة الجمال ترتدي نظارة سميكة وتشبه معظم فتيات الجامعة. لم تنتبه يومًا إلي هذا السحر الذي يسكن عينيها؛عينان واسعتان وهادئتان يشعان ذكاء. ذات يوم تحدث إليها أحد زملائها قائلًا:
- كاري، ثمة بريق غريب يسكن عينيك!
- ومن منا لا تلتمع عيناه بمثل هذا البريق؟
فنظر إليها وابتسم قائلًا:
- أنا أقصد بريق عقلك!
وحينما أدركت ما يعنيه زميلها، شعرت بالخجل.. لم تكن كاري فتاة معروفة في الوسط الجامعي، فنادرًا ما كانت تثير انتباه أحد.. طالبة عادية، لم تعكف علي الدراسة، ولم تكن كبقية الطالبات تلهث وراء قصص الحب أو شغلتها الموضة والزينة. أفكار وخواطر غريبة راحت تدور في عقلها كل يوم كانت أشبه بفقاعات تتصاعد وتتصاعد... كان بالفعل بريق متوهج مثل نار متأججة تومض عينيها الهادئتين العميقتين؛ تحلق تلك الأفكار في سماء رأسها ولاتفارقها يومًا. أحياناً كانت تخشي أن تدفعها مثل هذه الأفكار للقيام بأشياء غريبة تثير التساؤلات حولها، وأحيانًا أخري كانت تحيا في فيض من السعادة لم تعهده من قبل.
وطوال سنوات الدراسة الأربع نعمت كاري بحياة هادئة لم يعكر صفوها شيئ.. أغلقت باب عقلها علي أفكاره الثائرة، دون أن تطلع أحدًا عليها، وحمدًا للسماء إنها لم تفعل شيئًا من وراء العقل طيلة هذا الوقت!
في خريف عامها الدراسي الأخير انتقلت إلي البلدة المجاورة للتدريب في إحدي المحاكم المتوسطة، وأثناء فترة التدريب التي لم تتجاوز ستة أشهر، عرف الهوي طريق قلبها، فقد وقعت في غرام رئيس القسم الذي تعمل به، وسرعان ما تطورالأمر بينهما. كان يُدعي جانغ، قاضي ماهر قد تجاوز الثلاثين من عمره.. رجل متزوج وأب لصبي في الثامنة من عمره. وقد بدت السعادة علي أسرته في صورة عائلية قد جمعتهم ظهرت من أسفل زجاج مكتبه؛ زوجان في منتصف العمر يتوسطهما طفل صغير وهم يجلسون علي العشب الأخضر الزاهي، وينظرون إلي مكان شاغر أمامهم وترتسم علي شفتيهم ابتسامة حلوة... بينما سكن الحزن في جنبات قلب كاري.. حزن دفين.
وقعت كاري في شرك حب بلا أمل.. فتاة مثلها تسبح دائمًا في دنيا الخيالات، ولم تذق حلاوة الحب من قبل، ولسنوات طوال قد كبحت زمام عواطفها ولم تضعف يومًا أمام زملائها في الجامعة.. لكنها لم تصمد طويلًا أمام نضج رجل أربعيني.. كان مكتبها ينتصب في المقابل من مكتبه، وفي بعض الأحيان كانت تتقابل أعينهم صدفة، لكنها لم تكن تجرؤ النظر إلي عينيه الهادئتين الظاهرتين من خلف نظارته.. رجل لم ينل الزمن منه، فبدا أصغر من عمره الحقيقي.. رجل رزين وهادئ الطباع.
في ظهيرة يوم الخميس تساقطت الأمطار، ويومها غادر الجميع للذهاب إلي حضور القضايا، ولم يتبق سواها في المكتب. كانت حينها تتطلع إلي جريدة قديمة، ومن وقتٍ لآخر تربت علي كتفيها من شدة البرد. وفي هذه اللحظة سمعت صوتًا قد جاء من أمامها قائلًا:
- الجو بارد؟
لم يباغتها صوته ورفت علي شفتيها ابتسامة حلوة. كان يبدو وكأنه قادم من دعوة علي الطعام، فشعره كان رطبًا وجسده اختلطت به رائحتا المطر والنبيذ. ذهب وتفقد سريعًا ما وضع علي مكتبه من ملفات... في هذه اللحظة وقعت عيناه عليها وأخذ يحدق بها، ثم توجه إلي حوض الغسل والتقط المنشفة التي كانت بالجوار، سار بحذائها وتوقف فجأة ليسألها عن بعض الأمورفي العمل.. كانت تستند بمرفقها علي المكتب، فظهر ذراعها الأبيض المرمري من الكم المفتوح للسترة الرقيقة التي كانت ترتديها.. لم تره وقتها لكنها كانت تشعر أن عينيه تتفرس في ذراعها وتزحف إليه كأسراب من النمل...
أرخت كاري ذراعها وقد اعتلي وجهها حمرة الخجل.. وفجأةً تحسس كم السترة التي كانت ترتديها بين إصبعيه قائلًا:
- كيف ترتدين مثل هذه الملابس الخفيفة!
تملكتها الدهشة وأحست حينما همس في أذنها، كأنه قد أطلق نفسًا هادئًا داخلها!
التقيا في مساء يوم الأحد، جاء إلي الغرفة يبحث عنها وهو يحمل عدة ملفات، وقد بدا وكـأنه علي عجلةٍ من أمره، وسرعان ما ألقي التحية علي زملائه، وتحدث إليهم ببعض من الكلمات الروتينية، وحينما دلف إلي الداخل تلاشت كلماته وجلس علي مقعد من الصمت، وراح ينظر إليها دون أن ينبس بكلمة. لم يتقابلا منذ يومين وبدت حالته مزرية؛ فقد ارتدي ثيابًا غير مهندمة وترك ذقنه طويلة، وبدت عليه علامات الإرهاق الشديد. أخبرها بعد ذلك، أنه لم يرف له جفن طيلة الليل، فخفق قلبها في شدة قائلةً:
- ماذا بك؟
فأسبل جفنيه علي عيونه، واستوي واقفا وأحاطها بذراعيه، ثم اقترب بشفتيه من أذنها وهمس ببعض من الكلمات.
كان كل منهما يعلم أنه حب محكوم عليه بالموت، حتي أيامها المتبقية في المدينة باتت معدودة، فكانت بعد شهرين ستعود إلي الجامعة لتتسلم تكليف العمل. ظل يحسب طيلة الوقت أيامها المتبقية... لايزال لدينا ثلاثة وأربعون يومًا.. لم يتبقِ سوي اثنين وثلاثين يومًا...
كرت الأيام وكاد يطير عقله. في بعض الأوقات قد تظاهر بهدوء الأعصاب، ويظل يسبح في جسدها وكأنه لا يعرفها من قبل، فيناديها:
- كاري!
- نعم!
ويناديها مرة أخري:
- كاري
فتجذب شعره وتبتسم قائلةً:
- ماذا بك؟
فيتمتم قائلًا:
- أود فقط الصياح باسمك!
وحينها أدركت أنه يحبها.. عندما كان يستلقيان معًا في الفراش ويسبحان في بحر الحب... نعم، كانت تشعر أنه يحبها.. كان يتحدث إليها بكلاٍم كثير، وفض أسرار قلبه الحزين.. راح يتحدث عن القسم؛ من جيد ومن ليس، وكيف ترقي في المناصب حتي صار رئيسًا للقسم، وكيف أنجب ابنه بعد عناء طويل، وكيف كانت زوجته تلاحقه قبل الزواج، فالجميع يري أنها امرأة صالحة ورغم هذا يكرهها.. يكرهها بشدة! فطيلة زواج قد استمر خمسة عشر عامًا، فلم يكونا زوجين حقيقيين سوي لسبعة أعوامٍ فقط!
لم يتقابلا فوق فراش الهوي سوي مرات قليلة، بل كانا يتقابلان كل يوم صباحًا ومساء، فقط يختلسان النظرات دون أن تسنح الفرصة ليخمدا ثورة الجسد الفائر. وفي بعض الأيام كان يفقد أعصابه، فيتطلع إليها ويتأملها بشهوة جامحة، وكأنه يستنفر قوته... ولم يكن يبالي إذا كان أحدُ يراه أم لا، فسرعان ما تطرق رأسها في خجل، ولا تعبأ بنظراته المتفرسة، فيجن جنونه.
ذهب مرة متذرعًا بأنه يطالع ملفًا ووقف بجوارها يتحدث إليها، وفي الوقت نفسه راح يشير بيده إلي الملف، بينما قد تسللت يده الأخري إلي راحة يدها وتشبثت يده بها بقوة.. تطلعت كاري إلي زملائها وقد تصبب جسدها بعرق بارد. وراحت تفكر في الوحش الذي سيتملك من هذا الرجل بعد سنوات طوال!
وعلي الرغم من ضجيج الجسد المشتعل، إلا أن العمل قد استحوذ علي معظم أوقاته، فكان يحاصره كل يوم الكثير من الناس: رؤساؤه، وأصحاب الدعاوي، وزملاؤه، وأصدقاؤه، وزوجته، وابنه...... فلم يعطها سوي القليل من وقته الثمين. وفي النهاية ينتزع من وقته ويذهبان إلي أحد الفنادق، وبعد الانتهاء من الطعام سرعان ما يعانقها، حتي إنه لايمكنه البقاء للحظة واحدة. فتتنهد كاري، ولأنها تحبه، فكان عليها ألا تظهر استياءها.
لم تكن كاري تعلم ما هي المتعة الحقيقية في مثل هذه العلاقات العاطفية، فقد أحبته لأنه كان يبدو رجلًامختلفًا؛ كان نحيف البدن، وعادة لم يكن الآخرون ينتبهون إلي شعره، وملابسه، وعينيه الهادئتين كهدوء وقت الغسق، وروحه الطفولية. فحينما تلعب الخمر برأسه كان يفقد عقله معها، فيتحدث عن زملائه بمنتهي السوء، ويبدأ بالقرع علي الطاولة، وكأنه يتباهي بنفسه أمام الآخرين... وذات مساء أجهش بالبكاء أمامها وأخبرها أنه رجلٌ تعيسٌ وفاشلٌ......
ورغم أنه لم يكن مخمورًا، ولم تطلب منه زوجته العودة إلي المنزل، واستطاعت يومها كاري أن تشعر بالألم الذي نخر روحه عميقًا، إلا أنه في النهاية تركها وحدها وغادر.
في مساء ذلك اليوم، أدركت كاري أنها تحب معاناة هذا الرجل، تحب هذا الجانب الخفي من حياته الذي لا يعرفه أحد.. في ظهيرة أحد الأيام كانا يقفان في شرفة المبني وذراعاه تطوقانها من الخلف، ويتكيء برأسه علي كتفها مثل طفل صغير، وفجأةً تنهدت كاري بصوت مخنوق، فلبث صامتًا وغطت يده عينيها، فإذا بماء عينيها يسيل علي خديها، فمسح دموعها وجذبها نحوه قائلًا بخجل: »كاري، أنا لا أستطيع أن أقدم لك شيئًا!» .
فابتسمت من خلف دموعها وأومأت برأسها وكأنها تقول له، إنها لا تريد شيئًا.. كانت تري أنها تعيش أجمل فترة في حياتها قد امتلكت جسدًا جميلًا وهي في الثانية والعشرين من عمرها، وبعد مضي سنوات طوال سوف تتذكر هذه الفترة من حياتها، ولن يبرح ذاكرتها هذا الرجل.. الرجل الذي تحرر جسدها علي يديه وتعلمت علي يديه فنون الحب والقتال.
كاري فتاة فقيرة من أسرة متواضعة، فكانت تعتمد علي الحوالة البريدية التي تأتيها من والديها كل شهر لتعينها علي نفقات الحياة.. أبواها عاملان بسيطان يقترضان من أجل نفقات جامعة أختها الكبري وأخيها الصغير... ولاتفارق ذاكرتها صيفية أحد الأعوام التي قضت منها بضعة أيام في منزل زميلتها، وكانت تلك الفتاة تفوقها طولًا، يومها أعطتها والدتها ملابس ابنتها القديمة لترتديها، فرفضت كاري بشدة. فقالت الأم انظري إليها إنها ملابس قديمة لا قيمة لها. فانتابت كاري نوبة من البكاء...
لم تستطع كاري أن تمحو فقرها من ذاكرتها، فهو يسكن قلبها ودائمًا تذكر نفسها به؛ فتأكل أبسط طعام وترتدي ثيابًا متواضعةً وتحيا حياةً صارمةً... وأوقاتا تفكر، ما هو أكثر شيء تحبه في حياتها؟ هل هو رجلٌ؟ هل هي مشاعر حب محفورة علي جدران قلبها؟ لكن لم تكن هذه الأشياء... إنما هو الفقر.. فحينما يطول الزمن منها وتشارف علي الموت، فلا شك أن هذه الفترة السوداء من حياتها ستظل عالقة في ذاكرتها؛ سنوات الجامعة الأربع وأيامها الحالكة التي لم ترِ فيها نهارًا.. كانت شديدة الحساسية عن أي شخصٍ آخر وكثيرًا ما تأذت مشاعرها حتي استوطنت مشاعر الحقد من قلبها.. بغضت كاري فقرها وأحبته في آن واحد، ويا طالما كانت تخشي أن تظل أسيرة هذه الكلمة الموحشة!
وطوال هذه الفترة، وهي تذهب معه إلي فنادق كبري، كان يصطحبها إلي أفخم النوادي الليلية ويدفع مبالغ كبيرة، لكنها كانت تعلم أنه لا ينفق من ماله الخاص؛ فهو لا يملك أية نقود، ونادرًا ما كان يهديها شيئًا، سوي مرة واحدة أهداها خاتمًا بعد عودته من سفرة عمل.. حينها رفضت بشدة أن تقبله، فقد اعتادت الفقر ولا ترغب في أن يزين يدها خاتم ثمين، حتي إنه قد بدا لا يناسب يدها، فلم تكن تفهم شيئًا عن الذهب.. بينما قد ابتاعت عمتها في يوم خاتمًا ذا رأسٍ أكبرٍ من هذا الخاتم، وكان أنيقًا جدًا، وثمنه قد اقترب من ألف يوان. قدرت كاري خاتمه بحوالي ربعمائة أو خمسمائة يوان. وكلما فكرت في ثمنه، أصرت أكثر علي رفضه.
- يومها استاء جانغ كثيرًا قائلًا:
- كاري، أنا لا أقصد بهديتي معني آخر.
- أعلم هذا!
أخذ الخاتم ووضعه في يدها، فضحكت كاري وخلعته، فوضعه مرة أخري، وخلعته ثانيةً، فاستشاط غضبًا، وجلس جانبًا بوجهٍ متجهمٍ دون أن ينطق بكلمة واحدة. فرق قلبها، لكنها لا تستطيع أن تقبل هديته، وهذا خاتم وليس شيئًا هينًا.. فخاتم يعني نقودًا وهي لاتملك أن ترد هذه النقود. خيم صمت مطبق ثم خرج عن صمته قائلًا:
- كاري أنا جادٌ جدًا نحوك، وهذا ما في وسعي أن أقدمه لك، فأنا لا أملك سواه يا عزيزتي، ولا أعلم كيف أعبر لك عن حبي الكبير!
رضخت له في النهاية وقبلت الخاتم.. ومنذ ذلك الحين، ولم يتجرأ أن يهديها شيئًا آخر. كان دائمًا يرغب في أن يشتري لها ملابس جديدة، فلم تكن تكترث إلي مظهرها علي الإطلاق، وقد اعتادت ارتداء الملابس البسيطة. ذات يوم تحدث إليها دون حرج قائلًا:
- كاري إنك جميلةٌ جدًا!
- حقًا! ضحكت كاري عاليًا.
- لكنك في حاجة إلي أن تتزيني قليلًا! أردف قائلًا.
أطرقت كاري، فكان هذا هو سبب معاناتها. فأين المرأة التي لا تحب أن تتزين؟ أين المرأة التي لا ترغب أن ترتدي ثيابًا أنيقةً كل يوم؟ كانت تنظر إلي هؤلاء الفتيات الجميلات الأنيقات علي الطريق.. لا، لم تكن تنظر إليهنّ، بل تحقد عليهنّ وتكرهٌّن من قلبها! المال هو المشكلة الكبري التي تؤرقها كل يوم...
انقضت عدة أيام،ثم ذهب إلي أحد الأسواق التجارية الكبري ليبتاع لها بعض الملابس، كان يخشي أن ترفض أيضًا هذه المرة، فاتفق معها مسبقًا قائلًا: »كاري،لا تبالغي هذه المرة!» فخضعت له بعد تفكير.. لم ترقها الملابس التي أحضرها لها، فقد كانت ملابس ذات طراز قديم وألوانها فاقعة، فساورتها الشكوك في ثمن هذه الملابس. لم تستطع أن تمنع نفسها من الذهاب فيما بعد إلي المتجر لتتحقق بنفسها، فاستاءت وقتها بشدة؛ فقد أيقنت أنه رجل لا يحب الإنفاق، وابتاع لها أرخص الملابس!
كانت هذه هي المرة الوحيدة التي يهديها ملابس.. فقد سبحا معًا في نهر الحب طيلة ستة أشهر وهو يمسك يديه عن الإنفاق!
خلعت الخاتم هذه المرة وذهبت إلي الصائغ لتقدر ثمنه، فضحكت حينها هازئةً، إنه لايساوي شيئًا علي الإطلاق! لكن ما معني هذا؟! فهي ليست مشكلة نقود إذن! الآن كشفت الحقيقة عن وجهها القبيح، إنه لا يحبها، فإذا كان قد أنفق عليها حفنة نقود، فهذا واجب عليه، فحتي بائعات الهوي يتقاضين أجرًا عن عملهن.. كانت تري أنه أنفق علي جسدها طيلة نصف عام ما لا يكفي ليدفعه أجرًا لبائعة هوي في ثلاث مرات.. ثلاث مرات! فكم مرة كانت معها هي...
فجأة انفجرت كاري في البكاء.. فقد أيقنت أن قيمتها لا تضاهي حتي إحدي بائعات الهوي!
ما زالت تحمل ذاكرتها المرة التي تحدثت معه عن الزواج، وقتها سكن وجهه ابتسامة خجلة، وربت برفق علي رأسها قائلًا بحزمٍ إنه لا يمكنه أن ينفصل عن زوجته، وينبغي أن يهتم بعمله في الوقت الحالي، وهي فتاةٌ ذكية وعليها أن تتفهم موقفه. فعلي الرغم من أن زوجته ليست جيدة في جوانب كثيرة، لكن......
سقطت دموعها علي الفور، ثم فاضت عيناها بغزارة وأشفقت علي حالها. فلا أحد سيحبه مثلها.. لا أحد سيهتم به مثلما تفعل هي، إنما هو... يرغب فقط في جسدها!
وفي ظهيرة ليلة رحيلها، اصطحبها إلي المحطة، وكان الوقت لا يزال مبكرًا علي موعد انطلاق القطار، فوضع الأمتعة في المكان المخصص لها، ثم انطلقا عائدين في طريقهما للبحث عن فندق قريب.. ستظل صورة هذا الفندق القذر عالقة في ذهنها أبد الدهر، وخيوط العنكبوت التي تغطي سطح سلالم الدرج المتهالكة، فاستاءت بشدة ووقفت في ذهول تام، فكيف وقعت في شرك حب مثل هذا الرجل! رجل لا يبالي بمشاعر أحد ولا يفكر سوي في رغباته. وقد انتصب سرير واحد في الغرفة وقد بدا علي الشرشف بعض من البقع.
في البداية رغبت كاري في الحديث إليه، فتطلع إلي ساعته وابتسم قائلًا، »ليس لدينا متسع من الوقت»، فعانقته بجنون...... بدا مشهد الربيع الخلاب من الخارج، فظهرت الورود والأزهار من الشرفة الزجاجية، فاندهشت قليلًا، فلم تتوقع أن تري هذا المشهد البديع في مثل هذه البيئة المتسخة!
مضي وقت فوق فراش الحب.. شعرت كاري حينها بمسافة كبيرة بينها وبين ذلك الرجل الشهواني، وكأنها لم تكن تعرفه من قبل، بل لم تعد ترغب في رؤيته مرة أخري. حتي هذه المدينة بدأت تكرهها... فهنا عاشت طيلة ستة أشهر وتنفست هواءً ملوثًا.
أمسك بوجهها بين كفيه وراح يتطلع إليها في حنان دافق، وأشعة الشمس التي تتسلل من الشرفة الغربية تنعكس علي زجاج نظارته.. مرت فترة وكأنها دهر، ويبدو أن مشاعره قد تحركت خلالها، ثم هتك صوته الصمت الطويل قائلاً: - كاري، لن نتقابل مرة أخري بعد الآن؟
فأومأت رأسها بالإيجاب.
فأردف قائلًا:
- أنا سأذهب وأبحث عنك!
كانت تستمع إلي صوته كلمة كلمة، وكأنه أتي بها من عالمٍ آخر سحريٍ. فجأة ضمها إلي صدره، وأخذ يمطرها بقبل الحب الشهية...... ضاعت كاري في هذه اللحظة وغمرتها نشوة حبه، وأشعرها بحبه.. والآن قد أيقنت أنها أخطأت وأساءت الظن به، فشعرت نحوه بأسف شديد، فهي فتاة حمقاء لا تفهم طبيعة الرجال علي الإطلاق.. الرجل هو أغرب الحيوانات التي تحيا بيننا، هو حيوان شرس ولا يجيد التعبير عن الحب، علي الرغم من أنه يكون غارقًا فيه!
بدا وكأنه قد تذكر شيئًا هامًا، فأخرج من ملابسه ثلاثمائة يوانًا، ودسهما في جيب ملابسها، قائلًا: »خذي هذه النقود واشتري بها أغراضًا لك.» نهضت كاري وجلست في الفراش، وأخذت تحدق بعينيها الواسعتين في وجهه دون أن تتفوه بكلمة. فلم تكن تتوقع أن يفعل هذا بعد أن ذاق معها حلاوة الحب منذ قليل... فكيف بعد أن كانا يذوبان كروح واحدة يعطيها نقودًا؟! زمت كاري شفتيها، وأخذت تبكي بصوتٍ خافتٍ.
لم يفهم جانغ قصدها، فارتبك قليلًا، وحاول تهدئتها فجاءت كلماته مرتبكةً مثله: »هذه النقود... كاري خذي هذه النقود، أعلم أنك بحاجة إليها، وأعلم أنك لن تفكري بي بعد الآن»، ثم خفت صوته فجأةً وقد تهدج بعض الشيء، واهتزت الكلمات بين شفتيه قائلاً: »أعتذر منك النقود ليست كافية!» .
قفزت كاري علي الفور من فوق الفراش، ووضعت يديها علي أذنيها، وأطلقت بوجهه صرخةً كاد يسمعها من كان ينتظر ذلك اليوم بالقرب من محطة القطار.....
(2)
وقد نعمت كاري طيلة العشر سنوات الماضية بحياة طيبة. أقامت في المدينة التي كانت بها جامعتها، في البداية غيرت عملها عدة مرات، وقبل أربع سنوات، أسست شركة مع أحد زملائها، ثم انسحب شريكها، فظلت تباشر الأمور بمفردها. وقد تحسنت الأحوال كثيرًا في العامين الماضيين، فابتاعت مكتبًا بمكان متميز في وسط المدينة وعينت بضعة موظفين.. وفي كل يوم كانت تستقل سيارتها السوداء »الأودي» وتسير علي الطريق المؤدي إلي البيوت الريفية.
لم تفهم السبب الحقيقي في الحياة التي تعيشها الآن... حياة فارهة وسطحية، فلا من مانع أنها أصبحت الآن تمتلك نقودًا، ينبغي أن تتمتع بها وتعوض سنوات الحرمان، لكن هناك الكثير من الأغنياء ولا يعيشون مثلها، حياتهم بسيطة وليست فارغة ولا ينفقون أموالهم عبثًا.. لم تكن كاري تحيا مثل هؤلاء الأغنياء، فقد كانت تشعر أن هذه النقود من أجلها فقط، فاعتادت الجلوس في المطعم الدوار لأحد الفنادق ذات الخمس نجوم ولا أحد كان يعرفها، تتناول طعامها في هدوء، وتنفق علي وجبة اللحوم ستمائة أو سبعمائة يوان.
وعلي الرغم من الحياة المترفة التي نعمت بها، إلا أنها لم تعرف معني السعادة يومًا. كانت أحياناً تفكر، لماذا تفقد النقود قيمتها حينما تصبح في قبضتها؟ ألم تحيا طيلة هذه السنوات السوداء تحلم بالثراء؟ لكن ما الجدوي الآن وهي تقضي أيام حياتها في رتابة وملل؟ فلم تكن سوي فتاة بسيطة، تعلمت منذ صغرها كيف تحيا حياةً صارمةً؛ حينها كانت دائمًا تتحدث عن فقرها دون خجل، دون أن يحّقر أحد من شأنها.. نعم، فقد تجرعت من قبل قسوة الحرمان ومرارة الفقر!
في مساء أحد الأيام، كانت تجلس في بيتها بعد عودتها من العمل، وفجأة قفزت إلي ذاكرتها الثلاثون عامًا التي انقضت من عمرها، وزملاؤها في الجامعة الذين كانت تتحدث إليهم، فقد طوي الزمان كل هذه الأشياء. وما زالت تتذكر زميلها الذي امتدح عقلها وخيالها الجامح يومًا، وتلك الأفكار الغريبة التي كانت تصول وتجول في رأسها، وذلك الخيال السارح الذي سكن عقلها... قد ذهب كل شيء الآن ولم يتبقٍ شيء منه.. وفجأة زحف الخوف إلي قلبها ورغبت في البكاء.. جلست علي الأريكة ثم انزلقت إلي الأرض راكعة، وسرعان ما تكورت علي جسدها.
في ظهيرة أحد الأيام تلقت هاتفًا، وما إن التقطت سماعة الهاتف وسمعت »مرحبًا!»، عرفت علي الفور من يحادثها... ورغم مضي عشر سنوات، وحتي لو فارقت روحه الحياة، سوف تعرف صوته. تملكتها الدهشة، كيف عثرعليها! فطيلة هذه السنوات، كان أكثر شيئًا يشعرها بالزهو هو أنها قد نجحت في التخلص من حبه، وطوت صفحة هذا الرجل إلي الأبد.
في السنوات الأولي لم تبرح ذاكرتها صورته، فكانت تستيقظ ليلاً من نومها فجأةً وترقد علي فراشها تفكر به، وأحيانًا أخري في الصباح الباكر وهي في طريقها إلي العمل، وأوقات وهي تنتظر أسفل لافتة محطة الأتوبيس وسط الجموع؛ وعند الغروب وهي تجلس عند محل تصليح الأحذية تصلح حذاءها، دائمًا ما كانت تنسال دموعها. وقتها كان يراها الكثيرمن الناس، لكن لا يعلمون لماذا تبكي، ومن أجل من تبكي؟ ورغم هذا ما هاتفته مرة طيلة هذه السنوات!
في عيد الربيع لأحد الأعوام، هاتفها في منزل والديها، حينها تذكرت كاري أنها قد أعطته من قبل رقم الهاتف الخاص بمنزل أهلها.
ألقي عليها التحية، وتحدث باقتضاب عن بعض أحواله، وفجأة تنهد قائلًا، »كاري، اشتقت إليك!» .
شعرت كاري بالحزن الذي يقرب حد الكراهية، بينما وقف والداها في الزاوية يرمقانها بنظرات تملؤها الشك. لم تدر ماذا تقول له، فوضعت سماعة الهاتف في عجالة ثم طلبت من والديها ألا يبلغا أحدًا عن كيفية الاتصال بها بعد الآن. ويبدو أن والديها قد نسيا ما طلبته منهما، لذلك كان ينجح جانغ في العثور عليها كل ستة أشهر تقريبًا، فيتحدث إليها بصوتٍ حزين... فراودتها الفكرة بأن تغير رقم هاتفها.
كان الاتصال الأخير قبل ستة أعوام، وقتها تعمدت كاري أن تختلق أكذوبة، فأخبرته أنها قد تزوجت. لزم حينها جانغ الصمت.. ثم خرج عن صمته بعد فترة طويلة سائلًا، »هل أنتِ بخير؟».
فأجابته كاري، »أنا في أحسن حال».. ومن ذلك الحين وسماعة الهاتف لم تحرك ساكنًا.
اعتزمت كاري علي مقابلته منذ أن نزلت أقدامه المدينة.. فقد جاء في مهمة عمل، وتحدث إليها عبر الهاتف قائلًا، »إنه دائمًا يفكر بها، وما فارقت فكره طوال هذه السنوات!». استدعي ما يمتلك من شجاعة ليهاتفها هذه المرة، وأخبرها أنه دائمًا يأتي إلي هنا للعمل، كان يأمل وهو يسير أحيانًا علي الطريق أن يقابلها صدفةً وسط الجموع الغفيرة الذين يروحون ويأتون، ويسمع صوتًا يناديه ويشعر بيد تربت علي كتفه من الخلف، فيستدير بجسده ويقول فجأة.
- كاري، لقد تغيرتِ كثيرًا؟
- إنني كبرت! فتخفض كاري رأسها قائلة.
- وأنا أيضاً كبرت!
كانت تحتضن سماعة الهاتف بيد، واليد الأخري التي تمسك بالقلم عالقة في الفضاء، وقد أيقنت أنه قد تقدم في العمر.. فشعرت حينها أنها امرأة قاسية، فكلاهما قد تقدم به العمر.. فهي التي أعطته أكثر فترات عمرها شبابًا وحيويةً، ألم يغلبها الشوق إلي ذلك الرجل؟ ألم يأخذها الحنين إلي تلك الأيام الحلوة؟ وفي هذه اللحظة رق قلبها، فحاكت أكذوبة ثانيةً وأخبرته أنها قد انفصلت عن زوجها.
تنهد جانغ، ولم يعد الهاتف مناسبًا للحديث... والآن هما علي موعد في المساء.
في الرابعة أو الخامسة من بعد الظهيرة، استعدت كاري للذهاب إلي تصفيف شعرها وشراء بعض الملابس، ثم العودة إلي منزلها لترتاح بعض الوقت.. كانت تري أنه لا مفر من إخماد نيران الجسد الثائر لطيلة هذه السنوات، فلم يتقابلا منذ عشر سنوات، وهي الآن امرأة مطلقة. فلن تستطيع ألا تلبي نداء الحب في هذه الليلة المجيدة!
بعد أن انتهت من هذه الأمور، وصلت أمام أحد المحال التجارية التي تبيع الملابس المستعملة ورغبت في الدخول. دفعت الباب بخجل ودلفت إلي الداخل. ظلت السيدة البدينة رئيسة المحل تتعقبها وكأنها المرة الأولي التي تستقبل فيها زبونًا يرتدي ملابس أنيقة. التقطت كاري من سلة البامبو القديمة بعض قمصان الطلاب المتهالكة ذات النقوش المتداخلة، وحذاء جلديًا قديمًا قد فقد بريقه، وسترة سوداء فضفاضة مزدوجة الصدر.. اختبرت الملابس علي جسدها، فاعتلي وجهها ابتسامة رضا.
الآن... تعلم ماذا تود أن تفعل، فهي ترغب في وضع ماكياج لتصبح امرأة أخري، فقبل عشر سنوات كانت تبدو قاتمة وفقيرة وبائسة. والآن ترغب في أن تستعيد تلك الهيئة الشاحبة، حتي لا يعرفها أحد من الناس.. لا أحد يستطيع أن يتذكر تلك الفترة الحالكة التي عاشتها في شبابها.. ذلك الألم الذي اعتصر قلبها.. تلك الإهانات التي تعرضت لها... لا أحد يستطيع أن يتذكرها قبل عشر سنوات حتي والديها وأخيها الصغير، لكن هو وحده من يعرف أوجاعها المريرة.. هو وحده من يستشعر معاناتها الطويلة.
فجأة تسلل الدفء إلي قلبها وسرت في جسدها رعشة، فاستسلم جسدها بأسره إلي تلك الحالة الشعورية، واكتشفت للمرة الأولي أنها طيلة ثلاثين عامًا لم تتأثر إلي مثل هذا الحد. فكانت دائمًا تستقل سيارتها وتسير مسرعةً علي الطريق وتري الريح وهي تهب علي الحقول في موسم ازدهار أوراق الشجر وسنابل القمح. لم تر كاري حياتها في هذا اللون من قبل؟ والآن، تتطلع إلي منظر الحقول وهي تسير مسرعةً علي طول الطريق، فتتنهد وابتسامة حلوة تسكن شفتيها.
كانت كاري في حاجة إلي طيلة النهار لتشعر بالرضا عن نفسها.. الآن تقف أمام المرآة، تتفحص نفسها بعنايةٍ فائقة، وتشعر أنها علي أكمل وجه. هذه المرأة التي تنعكس صورتها في المرآة، هي في الثلاثين من عمرها ترتدي نظارة سميكة (ذلك هو الشيء الوحيد الذي وجدته منذ عشر سنوات في صندوق النفايات)، وعيونها يسكنها قلق مخيف، ووجهها شاحب وجلدها جاف، فما إن تبتسم ستظهر التجاعيد الساكنة حول عينيها.. وعلي الرغم من أن ثيابها كانت نظيفة ومرتبة، وبدت متناسقة، إلا أنها تبدو وكأنها قد ابتاعتها من محل يبيع ملابس مخفضة الأسعار... والليلة هي علي موعد مع شخص فوق العادة، فوضع أحمر الشفاه أمرٌ لا غني عنه، فبدت وكأنها امرأة غير متمرسة وتضع أحمر الشفاه للمرة الأولي، وضعته وأزالته عدة مرات حتي صار لونه وفي النهاية باهتًا يثير الازعاج لمن يراه. ويمكن القول باختصار، إن مثل هذه الفتاة، يمكن أن تقابله كل يوم في الطريق؛ فتاة بسيطة ومتواضعة الشكل، عند النظر إليها للوهلة الأولي ستعرف أنها فتاة فقيرة من طبقة متدنية.
أوه، فتاةٌ فقيرةٌ! فجأة ارتجف جسدها.. فمن منا يستطيع أن يشعر بمعاناة شخص فقير؛ الظلم والكراهية اللذين تعرضت لهما، وخيبة الأمل التي شعرت بها، والظلمة الحالكة التي عاشت فيها فحالت بينها وبين حتي رؤية أصابع يديها... ترقرقت عيناها بالدموع.. والآن هي علي يقين، أنها عادت مرة أخري إلي ذلك الظلام الدامس.. فجأة استعادت العشر سنوات التي طواها الزمن.. عشر سنوات من الكفاح، فقبل ساعتين ثلاث فقط كانت كاري الجديدة؛ الفتاة المتألقة المشرقة... لكن الآن تشعر وكأنها تعيش حلمًا من الزمن الغابر.
تألم قلبها فجأة وأمسكت بالحائط أمامها، ثم مضت بخطوات متعثرة حتي وصلت أمام أريكة غرفة الجلوس، والتوت بجسدها فوقها.. أخذت تنظر إلي كل الأشياء الكائنة في الفضاء الساكن أمامها: الأضواء الساطعة، والبار الفاخر، والتلفاز الكبير، وسجادة الدرج، والحشائش الخضراء التي تظهر من الشرفة، وطفل الجيران والكلب الخاص بهم. كرة تتدحرج فوق العشب الأخضر وأشعة الشمس تركض بصحبتها. راحت تتأمل هذه الأشياء بعناية، وكأن يومًا سيأتي وتفقدها؛ كانت ترغب في أن تحفر علي جدران ذاكرتها كل ما تمتلكه من أشياء.
غادرت كاري المنزل وهي علي هذه الحالة، راحت تمضي بخطوات مترددة، تقدم قدمًا وتؤخر أخري. استقلت سيارتها في البداية ثم تركتها في أحد الأماكن المخصصة للانتظار في المدينة. كان خروجها وقت رحيل الشمس إلي المغيب، وظلال الشفق الأحمر الدامي تنساب علي الطريق، وقد صادف وقت ذروة انتهاء العمل والمارة الذين يروحون ويأتون علي جانبي الطريق أشبه بأوراق الاشجارالمتساقطة.
حينها رأت كاري شخصًا يعبرالطريق من الجهة المقابلة يدعي لي مينغ ليانغ، وكان يرأس منصب المدير التنفيذي لشركة أوراق مالية. وقبل عامين، كان علي اتصال بها لفترة قصيرة بسبب إحدي المنازعات المالية، بعد ذلك تمكنت كاري من كسب الدعوي لصالحه، ومن وقتها وهما علي اتصال. وعلي ما يبدو أنه قد أحس شيئًا نحوها، فكان يهاتفها من وقت لآخر للاطمئنان عليها. ومنذ وقت قريب، دعاها لتناول الشاي معه بعد الظهيرة، وشعر كل منهما حينها ببعض الارتباك، حتي وإن لم يتجاوز حديثهما بعض الأمور في العمل.
لم تتوقع كاري، أنها بمجرد خروجها ستقابل شخصًا تعرفه! الآن سار نحوها ويبدو وكأنه رآها.... وقفت مذعورة علي جانب الطريق، ووقف شعر جسدها من الخوف. وكانت أول فكرة خطرت لها أن تستدير بجسدها، وتنطلق مضيًا في طريقها، لتتجنب كل الناس؛ من يعرفها ومن لا يعرفها، وفجأة سمعت صوتًا، »آنسة» فما إن رفعت رأسها، وجدته يقف أمامها. فاحتبست أنفاسها في صدرها، ونظر كل منهما إلي الآخر فابتسم إليها قائلاً،»معذرة قد أخطأت الشخص!»، فأجابته،»نعم، قد أخطات الشخص!».. وفجأة ارتعش جسدها وأمسكت بأحد أعمدة الإنارة في الطريق، بينما مضي هو في طريقه.. الآن تعلم جيدًا أنه لم يعد أحد يعرفها حتي أصدقائها وأقاربها، وسيأتي يوم ويتخلي عنها الجميع.. نعم، سيتخلي عنها الجميع!
الآن، هي ذاهبة بقلب متلهف لرؤية رجل، ما من أحدٍ غيره سيعرفها.. فمهما كبرت ونال منها الزمن، ومهما ارتدت ثيابًا مهترئة وخرجت تتسول علي الطرقات، سيكون هو الشخص الوحيد الذي يثق بها، وحتي وإن وقفت أمامه، ولم تتفوه بكلمةٍ واحدة، سرعان ما يعرف أنها هي!
ذهبت بخطوات مترددة لركوب الأتوبيس (ولقول الصدق، لم تكن كاري ترغب في أن تستقل سيارة أجرة)، كانت تسير مطأطئة الرأس وكأنها لص هارب يراقب المارة من حوله في حذر، والجميع علي عجلة من أمرهم يمضون دون اكتراث.. كانت هذه المرة الأولي التي تنظر كاري إلي العالم من حولها بنظرة مختلفة؛ هؤلاء الرجال ببزاتهم الأنيقة وأحذيتهم الجلدية، هؤلاء الفتيات الأنيقات اللاتي يهبطن من مكاتبهنّ. عادة كان يتطلع كل منهم إلي الآخر وهو يحمل داخله ميزانًا يقيم به هيئة الآخر، هويته، وظيفته، وراتبه..... لكن اليوم، مهما تطلعت إليهم، لن ينظر إليها أحدٌ بعين الاحترام!
ارتعدت كاري فجأة، ووقفت بعيدًا علي جانب الطريق؛ هؤلاء يحتقرونها ويحتقرون الفقراء.. فهي لا تملك إلا أن تكرههم في داخلها.. ماذا يفعلون؟ من أعطاهم الحق لفعل هذا؟ هؤلاء الموظفون الصغار الذين يعملون بالشركات الكبري يقفون تحت لافتة محطة الأتوبيس في شموخ وعزة، وفي هدوء دون اكتراث لشيء... بينما الغيرة تأكل قلبها بسببهم.. استطاعت بين الحين والآخر أن تختلس النظرات إلي هؤلاء الموظفين من دون أن تنسي من هي، فبصقت عليهم داخلها قائلة، »أنتم، ينبغي أن تتوددون إليّ فربما أكون رئيستكم في العمل يومًا ما!»
جاء الأتوبيس، فاعتصرت وسط الزحام وصعدت إليه بفضل الجموع دون أن تلمس قدماها الأرض. عبق الأتوبيس برائحة عرق كريهة، وهذه الرائحة كانت تألفها جيدًا. رفعت يدها ووضعتها سريعًا علي فمها بسبب رائحة عرق تدعو للتقيؤ قد انبعثت من تحت كتف يحازيها. أخذت تتفرس بتلك الوجوه الكثيرة التي التقتها في الزحام: الوجه الأصفر، والوجه المتوتر، والوجه الدميم...... هذه الوجوه قد أحبتها كثيرًا، فهي جزءٌ من حياتها الماضية، لكنها الآن تعيش بمنأي عن أصحاب هذه الوجوه.. هي وحدها التي تعلم كيف انزلقت إلي مثل هذه الحياة؟! كيف خانت فقرها وخانت هؤلاء الفقراء؟!
انحنت كاري بجسدها إلي الأمام، فمرت بيدها من فوق الرؤوس التي لا تعد ولا تحصي وأمسكت بإحدي الحلقات المعلقة، شعرت حينها بالإثارة، فانتفخ وجهها واعتلاه حمرة. بينما أخذ محصل التذاكر ينادي في مكبر الصوت مرارًا وتكرارًا قائلًا، »رجاء شراء التذاكر، المحطة القادمة آن خوه لي، رجاء شراء التذاكر!».. فاندست كاري وسط الجموع، وأعلنت خفية عن مخطط الهروب من دفع الأجرة...
نعم، إنها لا ترغب في دفع الأجرة. فعلي الرغم من أن يوانًا واحدًا لم يعد يعني لها شيئًا الآن، لكنه يعني إلي شخص فقير الكثير؛ يعني له صحنا صغيرا من اللحم الطازج، أو ثلاث حبات من البسكويت المجفف، أو الذهاب مرة إلي صالون الحلاقة، وإذا استطاع الراكب التهرب مرتين ثلاثا من شراء التذكرة، سوف يقدر علي شراء حذاء رياضي، وقميص وسروال قصير ملون... وهذا يعني لها حياة جديدة تتوق إلي أن تعيشها من جديد.
لم يحدث وتهربت كاري من دفع الأجرة من قبل، والآن قد اندست وسط الجموع، وأذناها حاضرة لتستمع بعناية إلي كل ما يحدث حولها. مالت بجسدها قليلًا، ثم استوت مرة أخري وأخذت تحدق عيناها في هدوء، وهي تنظر إلي مشهد السيارات المارة في الخارج من خلف النافذة.. تقدم الأتوبيس إلي الأمام، ثم انعطف من أحد الشوارع الجانبية الضيقة اختصارًا للطريق. فتنهدت برفق، ولم يسعها إلا أن تفكر في إلي أين سيقود هذا الأتوبيس حياتها؟
توقف الأتوبيس، فتبعت كاري المغادرين. كان المحصل وقتها لا يزال يتفقد تذاكر الركاب، وكانت رأسها أشبه بطبلة صغيرة تتحرك في جميع الاتجاهات؛ فراحت تلتفت نحو الباب الأماميّ والخلفيّ، ويمينًا ويسارًا.. هبطت كاري من باب الأتوبيس الخلفيّ، ولم تكن في مأمن بأن محصل التذاكر سيستدير برأسه نحو الباب الأماميّ في هذه اللحظة، انحشرت سريعًا وسط الحشود وقفزت من العربة كأرنب هارب، وسارت مندفعةً علي الطريق.. وقف كثير من الناس ينظرون إليها بعيون تملاؤها الدهشة، فلم تكترث إليهم، لأنها تعلم أن الليلة الموعودة قد حانت الآن...
(3)
وصلت كاري منهكة إلي الفندق الذي نزل به جانغ، وكانت قد تأخرت علي موعدها أكثر من ساعة.. وقف عامل الاستقبال في زي رماديٍ علي باب بهو الفندق، كان ينحني بجسده قليلًا وهو يضع يده خلف ظهره ويفتح باليد الأخري باب السيارة التي يهبط منها الزوار. لا تعلم لماذا انتابها وقتها شيء من الدهشة. تبادل كل منهما النظرات، وابتسمت إليه متوددةً، وأثناء سيرها في طريقها سمعت صوته يناديها. أخذ يتفحصها في البداية ذلك الشاب الوسيم الواثق بنفسه الذي قد شارف علي العشرين، وراح يتطلع إليها بعيون تملاؤها الشك، ثم سألها إلي أين هي ذاهبة. جمدت كاري مكانها، وسرعان ما انتفخ وجهها واعتلاه حمرة الغضب.. نعم، فهنا ليس مكانها! لم تعبأ بسؤاله ومضت في طريقها إلي الداخل، وفجأةً مد يده أمامها واعترض طريقها، قائلًا في هدوء بالغ:
- معذرة عمن تبحثين؟ فاستشاطت غضبًا، وقطبت حاجبيها ورمقته طويلًا ثم قالت:
- قل لي أنت عمن أبحث؟
فأسبل جفنيه ووضع يديه جانبًا، قائلاً في نبرة تشي بالبرود:
- أنا لا أعلم !
- أنت لا تعلم عن أي شيٍء تسأل؟ فجأة ارتفع صوتها عاليًا، فتوجهت إليها أنظار الأعداد الكثيرة الذين يملأون بهو الفندق. فركض نحوها رجل، وكان يبدو أنه مدير صالة الفندق، وسألها ماذا حدث.
وفجأة انخرطت في البكاء... ماذا يحدث لها اليوم؟ ماذا أصابها؟ أخد يتهامس كل من المدير وعامل الاستقبال للحظات، ثم ابتسم إليها المدير وهو يفرك يديه قائلًا:
- معذرة يا آنسةً، حدث فقط سوء فهم بسيط!
- سوء فهم؟ ما هذا الحقير المغرور المرتزق! ثم أشارت بيدها إلي الأشخاص الذين يروحون ويأتون داخل صالة الفندق قائلةً:
- لماذا لايقع سوء فهم مع هؤلاء؟هل تجرؤون علي فعل هذا معهم؟ سوف أشتكي عليكم أيها السفلة، فأنا محامية.انتظروا وسترون ماذا سأفعل!
فجأة احتبس صوتها في حنجرتها، فماذا قالت! إنها محامية!
تفجرت ضحكات مكتومة من بين الجموع التي تلتف حولها، اكتشفت كاري حينها أنها محاطة بعمال النظافة، وموظفة الاستقبال، وبعض النزلاء الرجال.. يقف الجميع حولها وينظرون إليها نظرات غريبة كأنهم ينتظرون الكلمات التي ستخرج من فمها لتثير ضحكاتهم. ووقف عن يمينها ويسارها رجلان من رجال الأمن الأقوياء، وقد نفد صبرهم منذ وقت طويل، وكانا بين الحين والآخر يغمزان إلي المدير، فلو أنهما لم يريا مبررًا في حديث هذه المرأة سليطة اللسان، لقبضا عليها منذ البداية بحجة أنها امرأة مختلةٌ.
بدأت كاري تدرك خطورة الموقف، فلن تستطيع أن تتحمل خسارتها لهذا الرجل. اليوم هي علي موعد مع حبها القديم وأشياء كثيرة حلوة في انتظارها... فجمعت شتات نفسها وأخبرت المدير عن اسم جانغ ورقم غرفته.
ومثل شبح شارد توجهت بخطي متداعية نحو المصعد، واستندت برأسها علي حائطه البارد، وقبل أن ينغلق باب المصعد، تبادلت نظرات عدائية مع الجموع التي أوصلتها للمصعد... إنها تكرههم.. تكرههم بشدة.. أغمضت عينيها وخط من الدموع انسال من عينيها إلي أنفها حتي وصل إلي فمها.. والآن قد أدركت الحقيقة المرة... أنها تكره هذا العالم وتكره من يحيا به!
كبر جانغ! حينما فتح باب الغرفة ووقف أمامها مبتسمًا، شعرت كاري بخيبة أمل كبيرة، كان عليها أن تدرك منذ وقت مبكر أنه قد تقدم بالعمر وتتخيله في مرات كثيرة، وقد خط الشيب رأسه ويتكيء علي عكاز بظهر منحن، لكنه في الحقيقة لم يبدُ بهذا الشكل غيرالمحتمل. كان يبدو رجلا في السادسة والأربعين من عمره، تقدم في العمر بصورةٍ مقبولةٍ؛ جلده قد تراخي بعض الشيء، وأكياس تتدلي أسفل عينيه، وقد امتلأ جسده قليلًا. لم يسعها إلا أن تتنهد من ظلم الزمان، فكيف تفعل عشر سنوات فعلتها برجل حتي يصبح بها الشكل! أين ذهبت أناقته المعهودة؟
كان يرتدي بذلة زرقاء داكنة ويضع يده علي الباب، ويبدو أن العشر سنوات الماضية تجمعت أمام عينيه في هذه اللحظة، فزفر نفسًا طويلًا قائلًا بلطف، »كاري!».
شعرت كاري بالخجل، فدلفت إلي الداخل.. والآن يجلس جانغ أمامها... مضت فترة طويلة دون أن يتفوه أحدهما بكلمة، حتي إنهما لم يجرؤا علي أن تتقابل عيونهما. بالفعل خلال عشر سنوات فائتة قد ضاع كل شيء: المظهر.. والحب.. والحياة.. شردت كاري بفكرها، ولم تصدق أنهما قد تعارفا منذ عشر سنوات! لكن كيف مضت هذه السنوات؟ أومأت رأسها، ولم يتراءي أمام عينيها شيء من ذكريات الزمن الفائت.
مد يده من فوق الطاولة التي تنتصب بينهما، فأمسكت كاري بها. ضغط عليها بقوة، فوضعت رأسها علي رسغه ولم يسعها أن تستدير بجسدها وتتجاوز الطاولة، وفجأة ركعت أمامه.
وضع يده علي شعرها ثم سألها، كاري، »هل كنت علي مايرام طيلة هذه السنوات؟» فجأة اختنق صوتها وأوشكت علي البكاء.. انحني بجسده وألصق وجهه علي رأسها، ثم انزلق من فوق كرسيه وضمها إلي صدره. اختبأت برأسها في صدره، فشمت رائحة جسده، وقد تضوعت هذه الرائحة من عنق سترته التي كانت علي شكل سبعة، وراحت تستنشق هذه الرائحة التي كانت علي كامل جسده؛ أطرافه، صدره، وأنفه، نعم، هذه هي رائحة الشيخوخة.. كان رجلًا في السادسة والأربعين من عمره، قد تسربت مبكرًا هذه الرائحة إلي جسده. قطبت كاري حاجبيها واعتصر الألم قلبها. رمقته سريعًا، فشعرت أن ممارسة الحب مع رجل مثله صار أمرًا مستحيلًا!
بدأت كاري الحديث لتخفف حدة التوتر الذي سببه شدة تأثرهما، في البداية أخذت نفسين عميقين، ثم قالت، لم تسر هذه السنوات علي نحو وردي، وكانت نبرة صوتها هادئة ويعتريها شيء من القلق، وكأنها انغمست في حديث بعيد من الماضي المنسي.. استطردت حديثها وقالت إنها قبل عشر سنوات، عينت بالقسم القانوني لإحدي المؤسسات الحكومية، كان زوجها أحد كوادر اتحاد العمال في نفس المصنع الذي اشتغلت به. لم يكن حينها العائد المادي للمؤسسات الحكومية مجزيًا، فاتفقا الاثنان وعقدا العزم علي أن يؤسس زوجها شركة لتجارة الزهور والأشجار. لم يحقق زوجها ربحًا من هذه الشركة، بينما كان دخلها كبيرًا، وفي النهاية قررا الانفصال. وقبل سنتين، تم إعلان غلق المصنع الذي تعمل به، وهي الآن بدون عمل، أو بمعني آخر؛ موظفة تم تسريحها من العمل.
حينما قالت، »موظفة مسرحة من العمل»، توقفت عن الحديث وضغطت علي صدرها، شعرت أنها بدأت تفقد أعصابها. قطع جانغ حديثها عدة مرات ليسألها عن بعض التفاصيل. لم تغفل كاري أيضًا التفاصيل الصغيرة، وكعادتها دون أن يظهر عليها أية تعبيرات وبوجهٍ متيبس، أخذت تسرسل في حديثها عن أحداث ماضيها المفتعلة. ومن وقت لآخر راحت تتطلع إليه وتحدق به، وأحيانًا أخري ترمقه بطرف عينيها.
جلس جانغ علي السجادة التي كانت بجوار الفراش، ووضع يده علي خده. وهو ينظر إليها بجدية ويستمع إليها بعناية ثم قال:
- كاري
رفعت رأسها نحوه.
- كيف كان يبدو هذا الرجل؟ تردد قليلًا ثم سألها في النهاية.
خمنت كاري مايعنيه؛ فهو لا يرغب في أن يقف عند هذا الأمر كثيرًا؛ رجلان قد جمعتهما علاقة عاطفية بامرأة واحدة، ونهايتان مختلفتان، فلا يمكنه أن يضع نفسه في مقارنة معه.. ولحسن الحظ أنها لم تكن مهتمة بالحديث عنه، فهزت رأسها، بأنها لاترغب في الحديث عن زوجها السابق، واسترسلت في الحديث عن حياتها الفقيرة البائسة.
كانت تجد متعتها الوحيدة في الحديث عن فقرها، فما أن تحدثت عن الفقر، ارتعش كامل جسدها من شدة التأثر، وأخذت تتطلع إليه في نظرات غريبة.. وفجأة تسارعت أنفاسها، فتوقفت مضطرة وسعلت بصوت عال.. أخبرته أنها عملت مدرسة خصوصية، ومستشارًا قانونيًا بإحدي الشركات الخاصة، وتعرضت حينها لضغوط كبيرة. كان أصعب يوم عاشته، حينما لم تتمكن من ركوب الأتوبيس، ولم يكن لديها سوي ثلاثة يوانات، فاضطرت إلي مهاتفة أحد أصدقائها تطلب مساعدته... كانت تظن في عامها الدراسي الرابع، أن الحظ السعيد سيقف علي أعتابها بعد سنوات الألم والشقاء، لكن من منا يصدق هذا الأمر؟!
أطلقت نفسًا عميقًا ولم تستطع أن تسترسل في حديثها. فقد وصفت نفسها بأشياء لا تحتمل وجرحت قلبها. ضمها جانغ إليه، وتردد طويلًا، فلم يجد ما يواسيها به من كلمات.. ثم قال بعد صمتٍ مطبقٍ، »كاري كيف تحملت هذا؟ كيف تحملت هذا؟» أخذت تتفرس بوجهه، وفجأة ألقت برأسها علي كتفه وأجهشت بالبكاء.. شرعت ترثي حالها طيلة السنوات الماضية.
هبطا معًا إلي الأسفل بحثًا عن مطعم، وأثناء تناول الطعام، لم يتحدثا كثيرًا. أخذ يسكب لها الطعام في صحنها، قائلًا، »هذا كبد خنزير، كلي حتي تشبعي» !
شعرت كاري بالامتنان نحوه... فهنا في هذا العالم، لا يوجد شخص مثله يحبها ويعتني بها، وللحظة تمنت أن تقع في حبه مرة أخري... وهي الآن علي استعداد أن تنسي كل شيء قد حدث قبل عشر سنوات. فلا من مبرر لكرهها له، حتي لو كان أنفق عليها حفنة نقود، فأين الرجل الذي لا ينفق علي المرأة نقودا في علاقة حب تجمعهما؟ فهذا أمر طبيعي! وقد آن الأوان ليذوب الثلج الذي يغلف قلبها، وتحرر نفسها من الكراهية، وتطلق لروحها العنان.. فمن قبل، وبسبب فقرها لم تتحمل أن يعطيها نقودًا. ورفضت أن تأخذ الثلاثمائة يوان التي أعطاها لها المرة السابقة في الفندق، فما فعله كان يحمل بين طياته معني لا يمكن أن تنساه ما حيت، وكأنها قد باعت جسدها من أجل حفنة نقود!
احتسي كل منهما الخمر، ثم عادا إلي الغرفة. شعرت كاري حينها أن رأسها تدور، فخلعت معطفها علي الفور واستلقت علي الفراش، ثم توجهت بنظرها إليه، وظنت أنه سوف يأتي بجوارها.. لكنه لم يفعل.. جلس بهدوء علي مقعد بجوارالنافذة وقد غاص بجسده داخله وقد التفت ساقه بساقٍ، وأخذ يدخن سيجارته بنهم شديد. بدا وكأنه يفكر بشيٍء ما، ونور المصباح الأحمر انكب علي وجهه. فجأة رفع رأسه ونظر إليها، فخفق قلبها بشدة، فقد كانت عيناه الداكنتان تحملان الكثير من التساؤلات... مضت فترة، فأطفأ سيجارته وذهب وجلس بجوارها علي الفراش، وتحدث معها في بعض الأمور. ثم سألها متظاهرًا بعدم الاهتمام:
- كاري، علي أي شيء كنت تعتمدين خلال هذه السنوات؟
لم تمانع كاري أن يسألها هذا السؤال، فأجابت ضاحكة:
- علي أي شيء كنت أستطيع أن أعتمد؟ علي الوظائف المؤقتة ومساعدات الأصدقاء، فأحيانًا كنت أقترض منهم بعض النقود.
فضحك عاليًا قائلًا:
- كنت تعتمدين علي مساعدات الأصدقاء؟ أصدقاء رجال أم نساء؟
اعتدلت علي الفور وجلست في الفراش، رمقته طويلًا بنظرات جدية، وابتسمت قائلة:
- من المؤكد أصدقاء رجال!
ضحك عاليًا متظاهرًا بعدم اكتراثه قائلًا وهو يصر علي أسنانه:
- هل هم كثيرون؟
لم تستطع كاري حينها أن تتمالك نفسها ثانية. فقفزت من الفراش وارتدت ملابسها راغبةً في الذهاب. فمنعها علي الفور وضمها إليه بقوة قائلًا:
- كاري، اسمعي أنا سأشرح لك...
دفعته كاري بعيدًا عنها، فتراجع عدة خطوات للوراء حتي وصل إلي الطاولة.. الآن هي لا ترغب في جرح قلبها مرة أخري، فكم مرة بكت فيها اليوم؟ كم مرة خاب أملها؟ كم مرة احتقرها الآخرون؟ فقد تحطمت الأحلام البهيجة علي صخرة رجل أحمق.
ثم نادته قائلة:
- لا داعي للخوف، أنا لا أعاني من أية مرض، ولكن ليس معي شهادة صحية الآن، صدق أو لا تصدق فالأمر، هذا لا يعنيني!
جلس علي الفراش وقد اعتراه خجل شديد، ورفع يديه ومسح جبينه قائلًا:
- كاري قد أسأت الفهم، أنا فقط أمزح معك.
أخذت تنظر بازدراء إلي هذا الرجل، وودت أن تبصق عليه. فهو ليس شخصًا شريرًا، لا.. هو رجل وضيع ونذل وجبان.
والآن قد اتضح شيء أمامهما، ولم يصرحا عنه، فهو يظن أنها تبيع جسدها طيلة هذه السنوات الماضية، والليلة قد انتوت علي فعل هذا معه.
استدارت كاري وتوجهت إلي الحمام وأغلقت الباب خلفها. فقد اتخذت قرار بيع جسدها في لحظة، بل إنه باغتها دون تفكير. نظرت إلي وجهها الذي عكسته المرآة. فما إن تطلعت إليه، شعرت بخيبة أمل كبيرة.. رأت تقدمها في العمر؛ امرأة مقبولة الشكل ترتدي ملابس الموظفات اللاتي نزحن إلي المدينة. فقبل عشرسنوات، قد أغرم بها بسبب شبابها وحيويتها، لكن الآن؟ تذكرت لقائهما الأول عند باب الغرفة منذ قليل، فقد رأت خيبة أمله في حبه القديم، وعلي الرغم من أنه حاول جاهدًا أن يخفيه في قلبه المكلوم.
استندت كاري بيديها علي حوض الغسل وألقت بجسدها عليه.. الآن تذكرت كل شيء... الوقت الذي عاشته مع أسرتها البائسة المناضلة، ونظراته الغامضة الغريبة إليها منذ قليل، وعينيه التي كان يرفعهما عاليًا، وكأنه يفكر في أمر ما... نعم، كان يفكر في النقود.. وكم عليه أن يعطيها حتي تشعر بالرضا.
إنه يحتقرها ويكرهها؛ فبعد مضي عشر سنوات، كان يود أن تكون كاري الذي تخيلها امرأة متألقة، كان يتمني أن يراها قد حققت نجاحات في عملها ولديها أسرة سعيدة. فهو جاء ليراها، ربما لأنه قد اشتاق إلي حبه القديم، لكن الأكثر من هذا أنه قد جاء كي يبحث عن لحظات السعادة معها... فمن الرجل الذي يحب أن يأتي ليري الفقر الذي تعيش به حبيبته السابقة؟ كم تمني أن تصطحبه ويتمشيان معًا في إحدي الحدائق العامة، يجلسان ويحتسيان الشاي، ويتحدثان في أمور خاصة؛ وإذا كان قد حدث هذا، فما المانع أن يجددا الذكري الحلوة من جديد.. لكن اليوم قد انهار كل شيء، وقضت علي حلم بات ينسجه طيلة عشر سنوات. فأكثر شيء احتقره هو أسلوبها الرخيص الذي تحدثت به معه، فقد استشعر الحرج لها وشعر أيضًا أنه في مأزق حقيقي، فهي تجبره كي تأخذ منه نقودًا.
مرت فترة طويلة، ثم عادت إلي الغرفة، وتحدثا بفتور.. والآن ربما يكون أكثر شيء يسبب الحرج لهما هو كلمة نقود، وحتي الآن لم تصل هذه الكلمة علي طاولة الحوار أمامهما؛ فهي تقف بينهما.. عند الحديث تقبع خلف الكلمات.. وعند التوقف عنه تظهر... فهي حاضرة بينهما وفي الوقت نفسه تستتر.. موجودة في كل مكان حولهما ويدوي صوتها.
وفي لحظة، بدأت تشعر أنها لم تعد تحتمل هذا الرجل، حتي إنها رغبت في الانصراف لتعود إلي منزلها وتخلد لفراشها، ففي الصباح الباكر ستذهب إلي عملها بملابس رسمية.. وينبغي أن تنهي هذا الكابوس الذي تعيشه، وكأن شيئًا لم يحدث، فمن المؤكد أنها فقدت عقلها اليوم! لماذا رغبت في أن تتزين بهذا الشكل، وتري حماقة الناس أمامها ويري الناس حماقتها؟ لماذا لا تنتهي من كل هذا الآن؟
سعل جانغ وبدأ يتحدث إليها. ارتعشت شفتاه، فعلي الرغم من أنه فكر مليًا قبل الحديث، لكن ما إن وصلت الكلمات علي لسانه، اهتزت بعض الشيء.. أخبرها بكل صدق، إنه لا يملك نقودًا كافية، فقد أنفق كثيرًا طيلة هذه الأيام، ولم يتبقِ معه سوي القليل.
- كم تبقي معك؟ سألته بصوت ناعم.
- كم أنت ترغبين؟ قطب حاجبيه ولم يستطع أن يخفي دهشته سائلًا.
- فلتقل أنت!
- أنا لا أعرف!
- ألم تدفع إلي بائعات الهوي من قبل؟
هز رأسه نافيًا.
- إنك حقا رجلٌ مستقيمٌ! ضحكت قائلةً.
- أنا لا أحب مضاجعة هؤلاء الفتيات! أجابها ببرود.
- نعم، لأن وقتها ينبغي أن تدفع لها وأنت رجل لا يحب الإنفاق!
في هذه اللحظة ضاق صدره، ورمقها طويلًا بوجه متجهم قائلًا:
- لا تنس أنني قد أنفقت عليك من قبل! وبسط يديه بقوة ثم استطرد:
- أنا لست مدينًا لك!
لم تقل حينها شيئًا، فقط خلعت ثيابها وتدثرت بالغطاء.. أسدل الليل ستاره، وبدأت الجلبة التي كانت تتسلل من النافذة تخبو شيئًا فشيئًا. استطاعت أن تسمع صوت صياح بائع فطائر اللحم المحشوة الواقف علي جانب الطريق، ثم صدي صوته الضبابي حتي تلاشي الصوت في عتمة الليل الحزين.
وفي منتصف الليل، صعد إلي الفراش بجوارها، ففتحت عينيها في العتمة التي لفت الغرفة، كان عقلها مشوشًا وشعرت بالانهاك الشديد، فأغمضت عينيها ثانيةً علي الفور.. غادر في صباح اليوم التالي، ولم يغمض لها جفن طيلة الليل، وقد تظاهرت بأنها غافية، وفي لحظة أن صفع باب الغرفة خلفه، استيقظت لتعرف إذا كان قد ترك نقودًا أم لا... لكنه لم يترك شيئاً! لم تذهب لتبحث عن النقود، فربما رأي أن هذه المرة لا تستحق الدفع؟ أو ربما تكون أكثر تجارب حياته خزيًا! من يدري؟
والآن تمضي وحدها علي الطريق، والسماء بدأت تصفو شيئًا فشيئًا، والمارة يروحون ويأتون علي جانبي الطريق.. وفجأةً هبت ريح ماكرة، فأحكمت ملابسها جيدًا حول جسدها، وارتعش جسدها مثل كلب يرتعش تحت المطر.. وسرعان ما صعدت جسر المشاة، وقد جلس شحاذٌ منذ وقت مبكر يرتدي معطفًا مهترئًا، وكان قد جلس القرفصاء بجانب سور الجسر ينتظر حسنات المارة.. رمقها الشحاذ ببرود ورفع أنفه مستهجنًا، كما لو أن هيئتها لم ترقه، ثم اخفض رأسه يفكر في أحواله.
وقفت كاري وقد تشبثت بسور الجسر، كانت السيارات تروح وتغدو أسفل الجسر، فأخذت تنظر إليها منتشيةً، ثم مالت بجسدها نحو السور، ووقفت تتطلع إلي السيارات.. تتطلع إليها فقط.
وي وي
* جريدة أخبار الادب المصرية
11/10/2018