كان اليوم عيدا، كالعادة استيقظت مبكرا، فحرفتي لا تعترف بالأعياد دائما أستيقظ مع أذان الفجر وأبدأ في مزاولة عملي .. حتى وأنا في شهر العسل كنت أترك عروسي والحناء مازالت تخضب يديها وأذهب كي أُغسل ميتا وأكفنه، فالموت كما يقول الناس هو الشيء الذي يجب التخلص منه بسرعة، لا يطيق إنسان أن يبقى معه طويلا ..
قبل أن أُوفق لزوجة تعبت كثيرا وانتظرت طويلا حتى وافق أب وزوجني ابنته، في البداية كانت زوجتي تكرهني وتكره عملي وتتقزز منه وتضيق بي، ولكن بمرور الزمن ألِفتنا، صار كلانا عندها شيئا عاديا، فلم تعد تفزع من جسدي وهو يلاصق جسدها، أو تتقزز من يدي وهي تشاركها الطعام، استسلمت أخيرا ربما عن كره أو ربما نزولا على الأمر الواقع، المهم استسلمت في النهاية .. بدوري كنت أضيق بعملي أول الأمر ولكن بمرور الوقت ألفته أنا أيضا، ومع أنني لم أعشقه تماما إلا أنني كنت أمارسه بمزاج وأتفنن فيه .. أخيرا رضيت به ولم أعد أفكر جديا في هجره واحتراف عمل آخر بعد أن لازمني هذا العمر الطويل، أكبر أولادي استدعوه للخدمة بالجيش ـ منذ أيام ـ وأنا أزاول عملي قبل أن يولد بسبعة أعوام، عندما أنجبته وكنت حينها في قمة ضيقي بعملي قررت أن ألحقه عندما يكبر بعمل آخر، حتى لو لم أفكر أنا في هذا ما قبل هو أن يعمل "غسال موتى" كما عملت أنا من قبل مع أبي، لو كان الأمر بيدي منذ البداية لاحترفت حرفة أخرى، ولكن لم يكن لي حيلة فقد ورثت مهنتي عن أبي ضمن ما ورثته عنه، فضلا عن أنني لا أجيد حرفة غيرها، ثم أنها تتكفل بمطالب معيشتي وتدر عليَّ دخلا لا بأس به، بل ربما فاق دخل بعض الحرف الأخرى .. مع الأيام لم تعد تضايقني نظرات الناس لي واحتقارهم لحرفتي، أعتقد أنهم مغفلون لا يفهمون شيئا، حرفتي لم تكن حقيرة في يوم من الأيام، ربما الموت نفسه هو المشكلة، في الماضي ـ أيام أجدادي الفراعنة كما عرفت من أبي وعرف من أبيه ـ كانت حرفتي مقدسة لا يمارسها إلا الكهنة ورجال الدين، كانت سرا من الأسرار المتوارثة، مثلا هي عندي أفضل من حرفة الشرطي، ثم أنا لست مسئولا عن الموت، أقصد لا دخل لي البته في وقوعه، الناس تعرف هذا تماما ولا يريدون أن يعيروا من نظرتهم، لو لم تكن مهنتي ما برح ميت بيته أبدا ولانقلب بكاء الناس على فراق موتاهم بكاءً وضيقا بوجودهم .. وجودي أنا يساعدهم على التخلص مهم بالسرعة التي يرجونها ليتفرغوا لحياتهم من جديد، شيء لا يعرفه ولا يفهمه إلا محترفو مهنتي وهي أن الإنسان الميت في بعض الحالات قد يكون أفضل بكثير منه وهو حي، في البداية يبقى كل شيء في موضعه تماما كما كان قبل الموت، العينان عما العينان، الأنف هو الأنف، الذراعان هما الذراعان، لو عرف الناس هذا لتغيرت نظرتهم إلينا نحن محترفي مهنة "التكفين"، لكل الناس أقارب موتى، أيضا لن يعيش إنسان إلى ما لا نهاية، فلماذا إذن هم يحتقرون مهنتي ويبتعدون عنا؟ .. في الماضي وأبنائي صغار كان الأطفال ينبذونهم ويقذفونهم بالحجارة ولا يسمحون لهم باللعب معهم، كانوا "يزفونهم" كلما رأوهم بنشيد جماعي محفوظ ومتوارث وبصوت منغوم: (ابن الغسال أهو .. هو بعينه أهو)، وكان أبنائي يبكون وهم يجدون أنفسهم عاجزين عن صنع شيء ما إلا النظر إليَّ في حنق كأنهم يستنكرون مني أنني أنجبتهم مع معرفتي بأنني غسال موتى .. أما أنا فقد كان وما يزال لي مع الأطفال شأن آخر، دائما يهربون من وجهي ويختفون عند رؤيتي، ويجرون في فزع ورعب مبتعدين عني كأنني عفريت .. حاليا كل شيء في حرفتي أصبح مألوفا لي بل ومقبولا، ما عاد يضايقني إلا تمسك الأطفال بالخوف مني، لو أحبني الصغار .. لو لم يهربوا من وجهي لكنت قد أحببت مهنتي تماما.
وصلت أخيرا إلى منزل الميت، أخلوا لي حجرة، ابتدأت أمارس عملي فيها بمفردي كان عميلي ممتلئ الجسد بطريقة غير عادية أزعجتني بعض الشيء، كانت أرطال الشحم موزعة على أعضاء جسده بالتساوي إلا ثدييه، فقد تضخما بشكل ملحوظ، كانا أضخم بكثير من ثديي امرأة مرضع، من غير قصد وجدتني أعقد مقارنة بين جسده الضخم المترهل والجسد النحيل الجاف لابني الصغير .. أمس فقط أخرجته من المستشفى كطلب أمه ليقضي معنا أيام العيد، لم أعترض أو أحتج على طلبها هذا، فصحته لم تتقدم منذ دخل المستشفى، كل يوم يمر عليه وهو فيها كان جسده يذبل عن سابقه بصورة واضحة، وأنا أتعامل مع المستشفى يوميا وأعرف أحوال المرضى بها، رتبت أموري على موته، أمه لم تستطع أن تصدق أن يحدث له أمر كهذا .. حاولت إقناعها أن الموت أرحم له ألف مرة من عذاب مرضه ولكني فشلت .. ثارت في وجهي واتهمتني أن لا قلب لي، أصبحت بدورها مجنونة ومغفلة كالآخرين، كنت واثقا أنها ستنظر للأمر ببساطة وسهولة وقد عاشرتني وعاشت معي تلك السنين العديدة، لكنها خيبت ظني، طرحت كل شيء خلف ظهري ولم أهتم، عندما دلفت إلى حجرة الميت سمعت همسا يدور بين اثنين من المعزيين عن وجبة إفطاره، قالا أنه كان يأكل في تلك الوجبة بجانب اللحم والفاكهة البيض والخضر وثلاثة أرغفة، ظل الأمر يقلقني ويلح عليَّ حتى ابتدأت أزاول عملي، شعرت ببعض الارتياح وأنا أقلب جسده الضخم بين يديَّ وأتحكم فيه بإرادتي .. لأول مرة منذ عملت غسال موتى شعرت برغبة جامحة لا طاقة لي بمقاومتها أن أصفعه على خده الأيمن ـ ولماذا الأيمن بالتحديد ـ لا أدري، كان خده لا يزال متوردا لم يفقده الموت بعد حيويته، في مهنتي تعلمنا أن للموت حرمته ولكن رغبتي تلك كانت تؤرقني، كانت أقوى مني .. سمعت من الكثيرين أنه طالما صفع العاملين عنده على أقفيتهم، رفعت كفي المعروقة إلى أعلى ثم هويت بها على خده المكتنز الشحيم، غاصت أصابعي الخمسة في اللحم البارد وتركت آثارا واضحة، انقلب شعوري بالارتياح إلى ما يشبه القرف، فقد غاظني أنه لم يبال، أعرف أنه ميت ولكن ضايقني بروده وعدم مبالاته ..
انتابتني حالة هياج شديد فارتفعت يدي للمرة الثانية وهويت بكفي على خده بصفعة جديدة أشد، كررت محاولتي مرات عدة بينما الضيق والقرف يملآن كل ذرة في جسدي.
انتهيت من عملي بطريقة مرتجلة على غير عادتي، وما زال صدري يفور بالحنق والقرف .. ازداد قرفي عندما أسقط ابن الميت في كفي الممدودة أجري وهو يتحاشى ويحاذر جاهدا أن تلمس أصابعه يدي التي لم تفعل أكثر من ملامستها لجسد أبيه الضخم الذي كان يضمه إلى صدره منذ ساعات، حقير وجاهل كالآخرين، اتجهت إلى منزلي بعد أن مررت على السوق واشتريت لحما بنقود الميت السمين، فاليوم أول أيام العيد، ابتدأ ضيقي يخف وأنا أحلم بأكلة دسمة شهية، فقد كنت جائعا لم أذق طعاما من ليلة أمس .. وصلت إلى البيت، أدهشني صراخ مرتفع صادر منه، استطعت أن أميز صوت امرأتي من بين الأصوات، كانت تشارك الأخريات، صممت أن أزجرها على فعلتها تلك فور رؤيتي لها .. قبل أن أدخل البيت قابلني أوسط ابنائي وهو يبكي استفسرته السبب، قال:
ـ أخي مات.
سألته سؤلا لا معنى له.
ـ أيهم؟
أجابني وهو ما زال يبكي:
ـ محمد.
مع علمي من يكون سألته:
ـ الصغير؟
نظر إلىَّ في دهشة وهو ما يزال يبكي:
ـ نعم محمد ..
ضايقني بكاؤه فصفعته على خده النحيل الأيسر بقسوة، نظر لي في فزع ثم انطلق يجري أمامي وهو يقفز درجات السلم، تابعته أريد اللحاق به وقد انغرست أصابعي دون أن أشعر في قطعة اللحم التي أحملها، ضاع أملي في أكلة شهية، دخلت إلى الحجرة لفوري صُدمت بوجهه الجامد، انتفض جسدي وتقززت من نفسي وأنا أذكر أن عليَّ أن أغسله بنفسي، شعرت أن زوجتي كانت على حق وأن الأمر ليس بالسهولة والبساطة التي تصورتها من قبل .. تدفق في داخلي إحساس قوي أن هناك فرق ما ولكن ما هو؟ .. تأملت صغيري من جديد فرأيت كل شيء في موضعه تماما لم يتغير، ومع هذا ازداد إحساسي بأن هناك فرق ما .. قررت أن أعرف هذا الفرق في يوم ما مهما كلفني الأمر .. انحنيت على الصغير فحركته برفق أولا ثم بشدة لكنه لم يتحرك .. تضايقت، شعرت بغثيان لم أعهده في نفسي من قبل .. ثم ابتدأت في مزاولة العمل.
1962 - نشرت بمجلة الآداب البيروتية سبتمبر 1964
من مجموعة (الحظ) – مايو 1996
قبل أن أُوفق لزوجة تعبت كثيرا وانتظرت طويلا حتى وافق أب وزوجني ابنته، في البداية كانت زوجتي تكرهني وتكره عملي وتتقزز منه وتضيق بي، ولكن بمرور الزمن ألِفتنا، صار كلانا عندها شيئا عاديا، فلم تعد تفزع من جسدي وهو يلاصق جسدها، أو تتقزز من يدي وهي تشاركها الطعام، استسلمت أخيرا ربما عن كره أو ربما نزولا على الأمر الواقع، المهم استسلمت في النهاية .. بدوري كنت أضيق بعملي أول الأمر ولكن بمرور الوقت ألفته أنا أيضا، ومع أنني لم أعشقه تماما إلا أنني كنت أمارسه بمزاج وأتفنن فيه .. أخيرا رضيت به ولم أعد أفكر جديا في هجره واحتراف عمل آخر بعد أن لازمني هذا العمر الطويل، أكبر أولادي استدعوه للخدمة بالجيش ـ منذ أيام ـ وأنا أزاول عملي قبل أن يولد بسبعة أعوام، عندما أنجبته وكنت حينها في قمة ضيقي بعملي قررت أن ألحقه عندما يكبر بعمل آخر، حتى لو لم أفكر أنا في هذا ما قبل هو أن يعمل "غسال موتى" كما عملت أنا من قبل مع أبي، لو كان الأمر بيدي منذ البداية لاحترفت حرفة أخرى، ولكن لم يكن لي حيلة فقد ورثت مهنتي عن أبي ضمن ما ورثته عنه، فضلا عن أنني لا أجيد حرفة غيرها، ثم أنها تتكفل بمطالب معيشتي وتدر عليَّ دخلا لا بأس به، بل ربما فاق دخل بعض الحرف الأخرى .. مع الأيام لم تعد تضايقني نظرات الناس لي واحتقارهم لحرفتي، أعتقد أنهم مغفلون لا يفهمون شيئا، حرفتي لم تكن حقيرة في يوم من الأيام، ربما الموت نفسه هو المشكلة، في الماضي ـ أيام أجدادي الفراعنة كما عرفت من أبي وعرف من أبيه ـ كانت حرفتي مقدسة لا يمارسها إلا الكهنة ورجال الدين، كانت سرا من الأسرار المتوارثة، مثلا هي عندي أفضل من حرفة الشرطي، ثم أنا لست مسئولا عن الموت، أقصد لا دخل لي البته في وقوعه، الناس تعرف هذا تماما ولا يريدون أن يعيروا من نظرتهم، لو لم تكن مهنتي ما برح ميت بيته أبدا ولانقلب بكاء الناس على فراق موتاهم بكاءً وضيقا بوجودهم .. وجودي أنا يساعدهم على التخلص مهم بالسرعة التي يرجونها ليتفرغوا لحياتهم من جديد، شيء لا يعرفه ولا يفهمه إلا محترفو مهنتي وهي أن الإنسان الميت في بعض الحالات قد يكون أفضل بكثير منه وهو حي، في البداية يبقى كل شيء في موضعه تماما كما كان قبل الموت، العينان عما العينان، الأنف هو الأنف، الذراعان هما الذراعان، لو عرف الناس هذا لتغيرت نظرتهم إلينا نحن محترفي مهنة "التكفين"، لكل الناس أقارب موتى، أيضا لن يعيش إنسان إلى ما لا نهاية، فلماذا إذن هم يحتقرون مهنتي ويبتعدون عنا؟ .. في الماضي وأبنائي صغار كان الأطفال ينبذونهم ويقذفونهم بالحجارة ولا يسمحون لهم باللعب معهم، كانوا "يزفونهم" كلما رأوهم بنشيد جماعي محفوظ ومتوارث وبصوت منغوم: (ابن الغسال أهو .. هو بعينه أهو)، وكان أبنائي يبكون وهم يجدون أنفسهم عاجزين عن صنع شيء ما إلا النظر إليَّ في حنق كأنهم يستنكرون مني أنني أنجبتهم مع معرفتي بأنني غسال موتى .. أما أنا فقد كان وما يزال لي مع الأطفال شأن آخر، دائما يهربون من وجهي ويختفون عند رؤيتي، ويجرون في فزع ورعب مبتعدين عني كأنني عفريت .. حاليا كل شيء في حرفتي أصبح مألوفا لي بل ومقبولا، ما عاد يضايقني إلا تمسك الأطفال بالخوف مني، لو أحبني الصغار .. لو لم يهربوا من وجهي لكنت قد أحببت مهنتي تماما.
وصلت أخيرا إلى منزل الميت، أخلوا لي حجرة، ابتدأت أمارس عملي فيها بمفردي كان عميلي ممتلئ الجسد بطريقة غير عادية أزعجتني بعض الشيء، كانت أرطال الشحم موزعة على أعضاء جسده بالتساوي إلا ثدييه، فقد تضخما بشكل ملحوظ، كانا أضخم بكثير من ثديي امرأة مرضع، من غير قصد وجدتني أعقد مقارنة بين جسده الضخم المترهل والجسد النحيل الجاف لابني الصغير .. أمس فقط أخرجته من المستشفى كطلب أمه ليقضي معنا أيام العيد، لم أعترض أو أحتج على طلبها هذا، فصحته لم تتقدم منذ دخل المستشفى، كل يوم يمر عليه وهو فيها كان جسده يذبل عن سابقه بصورة واضحة، وأنا أتعامل مع المستشفى يوميا وأعرف أحوال المرضى بها، رتبت أموري على موته، أمه لم تستطع أن تصدق أن يحدث له أمر كهذا .. حاولت إقناعها أن الموت أرحم له ألف مرة من عذاب مرضه ولكني فشلت .. ثارت في وجهي واتهمتني أن لا قلب لي، أصبحت بدورها مجنونة ومغفلة كالآخرين، كنت واثقا أنها ستنظر للأمر ببساطة وسهولة وقد عاشرتني وعاشت معي تلك السنين العديدة، لكنها خيبت ظني، طرحت كل شيء خلف ظهري ولم أهتم، عندما دلفت إلى حجرة الميت سمعت همسا يدور بين اثنين من المعزيين عن وجبة إفطاره، قالا أنه كان يأكل في تلك الوجبة بجانب اللحم والفاكهة البيض والخضر وثلاثة أرغفة، ظل الأمر يقلقني ويلح عليَّ حتى ابتدأت أزاول عملي، شعرت ببعض الارتياح وأنا أقلب جسده الضخم بين يديَّ وأتحكم فيه بإرادتي .. لأول مرة منذ عملت غسال موتى شعرت برغبة جامحة لا طاقة لي بمقاومتها أن أصفعه على خده الأيمن ـ ولماذا الأيمن بالتحديد ـ لا أدري، كان خده لا يزال متوردا لم يفقده الموت بعد حيويته، في مهنتي تعلمنا أن للموت حرمته ولكن رغبتي تلك كانت تؤرقني، كانت أقوى مني .. سمعت من الكثيرين أنه طالما صفع العاملين عنده على أقفيتهم، رفعت كفي المعروقة إلى أعلى ثم هويت بها على خده المكتنز الشحيم، غاصت أصابعي الخمسة في اللحم البارد وتركت آثارا واضحة، انقلب شعوري بالارتياح إلى ما يشبه القرف، فقد غاظني أنه لم يبال، أعرف أنه ميت ولكن ضايقني بروده وعدم مبالاته ..
انتابتني حالة هياج شديد فارتفعت يدي للمرة الثانية وهويت بكفي على خده بصفعة جديدة أشد، كررت محاولتي مرات عدة بينما الضيق والقرف يملآن كل ذرة في جسدي.
انتهيت من عملي بطريقة مرتجلة على غير عادتي، وما زال صدري يفور بالحنق والقرف .. ازداد قرفي عندما أسقط ابن الميت في كفي الممدودة أجري وهو يتحاشى ويحاذر جاهدا أن تلمس أصابعه يدي التي لم تفعل أكثر من ملامستها لجسد أبيه الضخم الذي كان يضمه إلى صدره منذ ساعات، حقير وجاهل كالآخرين، اتجهت إلى منزلي بعد أن مررت على السوق واشتريت لحما بنقود الميت السمين، فاليوم أول أيام العيد، ابتدأ ضيقي يخف وأنا أحلم بأكلة دسمة شهية، فقد كنت جائعا لم أذق طعاما من ليلة أمس .. وصلت إلى البيت، أدهشني صراخ مرتفع صادر منه، استطعت أن أميز صوت امرأتي من بين الأصوات، كانت تشارك الأخريات، صممت أن أزجرها على فعلتها تلك فور رؤيتي لها .. قبل أن أدخل البيت قابلني أوسط ابنائي وهو يبكي استفسرته السبب، قال:
ـ أخي مات.
سألته سؤلا لا معنى له.
ـ أيهم؟
أجابني وهو ما زال يبكي:
ـ محمد.
مع علمي من يكون سألته:
ـ الصغير؟
نظر إلىَّ في دهشة وهو ما يزال يبكي:
ـ نعم محمد ..
ضايقني بكاؤه فصفعته على خده النحيل الأيسر بقسوة، نظر لي في فزع ثم انطلق يجري أمامي وهو يقفز درجات السلم، تابعته أريد اللحاق به وقد انغرست أصابعي دون أن أشعر في قطعة اللحم التي أحملها، ضاع أملي في أكلة شهية، دخلت إلى الحجرة لفوري صُدمت بوجهه الجامد، انتفض جسدي وتقززت من نفسي وأنا أذكر أن عليَّ أن أغسله بنفسي، شعرت أن زوجتي كانت على حق وأن الأمر ليس بالسهولة والبساطة التي تصورتها من قبل .. تدفق في داخلي إحساس قوي أن هناك فرق ما ولكن ما هو؟ .. تأملت صغيري من جديد فرأيت كل شيء في موضعه تماما لم يتغير، ومع هذا ازداد إحساسي بأن هناك فرق ما .. قررت أن أعرف هذا الفرق في يوم ما مهما كلفني الأمر .. انحنيت على الصغير فحركته برفق أولا ثم بشدة لكنه لم يتحرك .. تضايقت، شعرت بغثيان لم أعهده في نفسي من قبل .. ثم ابتدأت في مزاولة العمل.
1962 - نشرت بمجلة الآداب البيروتية سبتمبر 1964
من مجموعة (الحظ) – مايو 1996