اِشْتَدّي أَزْمَةً تَنْفَرِجِي


أَثْنَاءَ بُزُوغِ الشَّمْسِ سَار الشّابُّ حُسَامٌ بِخُطُوَاتٍ حَثِيثَةٍ و مُتَّزنَةٍ مُوَلّيٍا وَجْهَــهُ الْمُشْرِقَ شَطْرَ مَرْفَئِ الفَلُوكَةِ الْتِمَاسًا لِلرّاحَةِ و الْاسْتِجْمَامِ شَأْنهُ شَأْنَ مَنْ يَعْشِـقُ الْبَحْــــرَ وَ يَجِــــدُ فِيهِ مُتَنَفّسا إِذَا عَصَفَتْ بِهِ الْخُطُوبُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَ أُغْلِقًتْ في وجهه الأبوابُ و ضاقت عليه الأرض بما رحُبت.
يَا حَبّذَا لَوْ تَكُونُ هَذِهِ النُّزْهَةُ رَائِقَةً رَائِعَةً تُزِيلُ عَنْ نَفْسِهِ ضبابَ السَّآمَـــــــةِ وَ عتمَةَ الاغتراب فَيَتَهَلَّلُ مُحَيَّاهُ و يطفح بشرًا و يَنْشَرِحُ صَدْرُهُ فَيَنْسَى بُؤْسَ أُسْرَتِهِ وَ هَرَجَ الصِّبْيَةِ وَ مَرَجَهُمْ وَ رَتَابَةَ صياغـة المُذَكَّـــرَاتِ وَ عَنَاءَ إِعْدَادِ مِثَالِ الْخَطِّ وَ إِصْلاَحِ الْكُرّاسَاتِ بِقَلَمِ جَافٍّ أَحْمَرَ عَلى هدي نور ذَابِلٍ لِفانُوسٍ مُتَدَلٍّ بِسَقْفِ غُرْفَتِهِ المُرَبَّعَة.
السَّمَاءُ فِي بِدَايَةِ هَذَا النَّهَارِ الرَّبِيعِيِّ شَدِيدَةُ الزُّرْقَةِ كَعَيْنَيْ رضِيعٍ مُتنعِّمٍ بِلًبًنِ أمِّهِ و أحضانِها الدّافئةِ. ضَفَائِرُ الشَّمْسِ الْحَرِيرِيَّةُ الذَّهَبِيّةُ انْسَدَلَتْ فِي الْفَضَاءِ الْفَسِيحِ عَلَى مَهَلٍ وَ عَانَقَتْ فِي خُيلاَءَ أَمْواجًا مُجَعّدَةً ، مُتَرَنِّحةً بِخَمْرِ النَّسِيمِ العلٍيلِ ترنُّحا طَفِيفًا . هِيَ أَمْوَاجٌ لَعُوبٌ طَرُوبٌ لَهَا هَمْسٌ مُنَغِّمٌ جَمِيلٌ إِبَّانَ انْكِسَارِهَا المُتّئد، الرَّصِينِ علَى الصُّخورِ النَّاتِئَةِ المُتآكلةِ.
أشْجَارُ الصَّنَوْبَرِ الْمُرَصَّفَةُ وَ المُرصّعةُ عَلَى ضِفَافِ الشّاطِئِ انْحَنتْ فِي إِجْلالٍ تحِيّة لِملكِ النًّبات. ما أًجْملَ هًذِهِ الِعرائِسَ الرّافِلًة فِي ملاحِفَ سُنْدُسِيّةٍ مُطًرّزةٍ بِزُهورٍ صفْراءَ تسُرُّ النّاظرين ! الْأًطيْارُ المُتنقّلةُ مِنْ فننٍ إِلًى آخَرَ فِي مُنْتهى الْحُرِيَّةِ سَحَرَتْنِي بِمعْزُوفَاتِها الشًّجِيَةِ فأصْغيْتُ إِلًيْها فِي زَهْوٍ وَ طَـــــربٍ و أنا معجب بترانِيمِها المُقدّسةِ ، الموشًّحةِ بابتهالات نقِيّةٍ تُجِلُّ ربّ الْوُجُـــــــودٍ وَ تعظِّمُهُ.
لا جدوى من حبس الْأًطْيارِ الوَدِيعَةِ فِي أًقْفَاصٍ حتّى لا تبْتئِس و يُخيّم عليْـــــها وِحشةٌ و ملال و صمْتٌ رهيب كصمت القبور و لا جدوى أًيْضًا من مُصادرةِ الحُرِّياتِ و اسْتِعْبادِ النّاسِ وَ دَوْسِ كرَامَتِهِمْ فمَتَى استَعْبَدْتُمْ النّاسَ وً قدْ وًلَدَتْهُمْ أُمّهاتُهُمْ أًحْرارًا ؟
وَ ما إِنْ أًدْرك حُسامٌ مرْفأ الْفلُوكة شرق جامِعِ سِيدِي زايد حتًّى جلس على صخْرةٍ مُسْتوِيًة تُحاصِرُها الأًمْواجُ مِنْ كُلِّ الجهات دُون أًنْ تُزحْزِحها عنْ موْضِعِها قيْد أًنْمُلةٍ.
كَانَ هذا الشّاب الوسيمُ ذُو القَامَةِ الْمَدِيدَةِ مُنْبهِرا أًيّما انبهار بِروْنقِ البحْرِ فهْوَ تارةَ يُحدِّقُ فيه تحديقا طافحا بالرُّومنْسِيّةِ و طوْرًا يسْترِقُ النًّظرَ إِلًى رِجْلًيْهِ الحافيتين المتنعّمتيْنِ بدبيب الموج و همسه دون أن يغفل عن فتل شارِبيْهِ الأًشْقريْنِ فتْلاً خفِيفا ٍ.
تَنَاوَلَ هَاتِفَهُ الْجَوَّالَ فِي سُرْعَةٍ الْبَرْقِ وَ الْتَقَطَ صُورَةً رَائعَةً لِبَحَّارَةٍ عَائدين من الصّيد هُمْ عَلَى أُهْبَةِ بُلُوغِ المِينَاءِ إِذْ لاَ تَفْصِلُهُمْ عَنْهُ مَا عَدَى عَشَرَات الأَمْتَارِ .
مًا أًبْهى تِلْك الزًّوارِقَ المُتزحْلِقةَ فِي شُمُوخٍ وَ حركِيّةٍ مُذْهِلةٍ علًى ذًلِك الْبِساطِ الأًزْرقِ السّاحِرِ! إِنًّها تحْمِلُ على متْنِها بحّارةَ شِدادا لاحتْ على وُجُوهِهِمْ السّمْراءِ، الكالحة بشائِرُ الْكدِّ و سطًع فِي عُيُونِهِمْ برِيقٌ سنِيٌّ يُترْجِمُ اطْمِئْنانهُمْ عًلًى سخاءِ البحْرِ علًيْهِمْ فرِزْقُ هذا الصّباحِ الأًغرِّ من السّمكِ كفِيلٌ بِتحْقِيقِ أرْباحٍ طائلة تُؤمّنُ لهم قُوت عيالهم لبِضْعةِ أسابيع فكفاهُمْ تذمُّرًا مِن الفقْـــرِ و شظف العيش .
مَشْهَدٌ آَخَرٌ سَحَرَهُ بِجَمَالِهِ الْخَلاَّبِ وَ أَغْراهُ بِالتَّصوِيرِ: قُرْبَ الزّوارِقِ الْمُزْدانةِ ، الرَّاسِيَةِ فِي الْمِينَــــاءِ نوارِسُ و بجعاتٌ حائِمَةٌ ، هائِمةٌ تنْزِلُ بيْن الْفيْنةِ و الأُخْرى إِلى سطْحِ الْماءِ فِي لمْحِ الْبصرِ سابِلةً أًجْنِحتَها الْمُزوَّقَةَ لاخْتِطافِ سمكٍ طرِيِّ يلمع تحت أشعّة الشّمس السّاطعة كصفيحة من اللُّجين . إنّها تلهو به في حبور ثمّ تلتهمه في نهم شديد فالجوع منهك إذا كانت البطون خاوية .
ابْتسم هَذًا الشَّابُّ الأًنِيقُ ذو الْبَشَرَةِ الْقَمْحِيَّةِ وَ الْعَيْنَيْنِ الزَّيْتِيَتَيْنِ فِي سُرُورٍ كشف عن أسْنانٍ نضيدةٍ برّاقةٍ، ناصِعة الْبياضِ كالسُّيُوفِ الْمسْلُولًةِ ثُمَّ شَرَعَ فِي الْتِقَاطِ صُورَةٍ ثَانِيَةٍ لاَ تَقِلُّ رَوْنَقًا عَنْ سَابِقَتِهَا عَلى أَمَلِ أَنْ يَبْعَثَهَا لِرَفِيقَتِهِ نَدَى عَبْرَ الْمِسَنْجَر لَكِنْ عَلَى حِينِ غِرَّةٍ هَوَى الْهَاتِفُ الْجَوَّالُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ فغَمَرَهُ مَاءُ الْبَحْرِ وَ تَلاَعَبَ بِهِ المَوْجُ الْفَاتِرُ يُمْنَةً وَ يُسْرَةً فِي اسْتِخْفَافٍ. عَجَّلَ حُسَامٌ إِلَى انْتِشَالِهِ مِنَ الْمَاءِ بِيَدٍ مُرْتَجِفَةٍ وَ تَنْشِيفِهِ بِتَلاَبِيبِ قَمِيصِهِ الْبُنِيِّ وَ تَفَحَّصُهِ بِبَصَرٍ مِنْ حَدِيدٍ . ضَغَطَ عَلَى أَزْرَارِهِ فَإِذَا هُوَ مُعَطَّبٌ سَاكِنٌ لَمْ تَلُحْ عَلَى شَاشَتِهِ لاَ إِشَارَاتٌ
ضَوئِيَّةٌ وَ لاَ كِتَابَةٌ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ .
مِنْ هَوْلِ الصَّدْمَةِ نَدَبَ حَظَّهُ الْمُتَعَثِّرَ وَ سَدَّدَ صَفَعَاتٍ مُتَلاَحِقَةً لِوَجْهِهِ الْعَابِسِ الْمُمْتَقِعِ كَجِلدِ الْحرْبَاءِ بِأُمِّ يَدِهِ الْيُمْنَى ثُمَّ انْهَالَ عَلَى نَفْسِهِ سَبًّا وَ شَتْمًــــــا وَ هْوَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى كَبْحِ جِمَاحِ غَضَبِهِ : « أَيُّهَا الأَحْمَقُ لِمَاذَا لَمْ تُمْسِكْ هَاتِفَكَ جَيِّدًا حَتَّى لا يَسْقُطَ فِي الْبَحْرِ ؟ أَيُّهَا الأَبْلَهُ أَنْتَ لَمْ تَصُنْ هَذِهِ الْهَدِيَّةَ الثَّمِينَةَ الَّتِي مَنَحَتْهَا لَكَ رَفِيقَتُكَ الْحَمِيمَةُ نَدَى بِمُنَاسَبَةِ صُدُورِ مَجْمُوعَتِكَ الْقَصَصِيَّةِ الْأُولَى تَرَانِيمِ الإِبْدَاعِ وَ نَشْرِهَا فِي الْمَكْتَبَاتِ . نَدَى تِلْكَ الرَّسَّامَةُ الْمَوْهُوبَةُ أَصَرَّتْ بِأُسْلُوبِهَا الرَّاقِي عَلَى مُشَارَكَتِكَ بَهْجَتَكَ وَ تَشْجِيعَكَ عَلى الْإِبْدَاعِ الأَدَبِيِّ. هَلْ نَسِيتَ أَنَّهَا سَحْبَتْ أَلْفَ دِينَارٍ مِنَ الْبَنْكِ لِتَشْرِيَ لَكَ هَاتِفًا جَوَّالاً أَحْمَرَ اللّوْنِ كَعُرْفِ الدِّيكِ صُنِعَ حَدِيثًا فِي اليابانِ ». وَ مَا إِنْ اسْتَفَاقَ حُسَامٌ مِنْ غَفْوَتِهِ حَتَّى اَطْلَقَ آهَاتٍ عَمِيقَةٌ تُتَرْجِمُ أَسَفَهُ البَالِغَ عَلَى غَرَقِ هَاتِفِهِ الْجَوّالِ وَ هَلاَكهُ ثُمَّ فَكَّكَ أَهَمَّ أَجْزَائِهِ وَ نَشَرَهَا بِجَانِبِ بَعْضِهَا فَوْقَ صَخْرَةٍ مُسَطَّحَةٍ لِتَجِفَّ بِحَرَارَةِ الشَّمْسِ . كَانَ أَمَلُهُ وَطِيدًا أَنَّ يَتَعَافَى هَذَا الْهَاتِفُ مِنْ عِلَّتِهِ وَ يَسْتَعِيدَ نَشَاطَهُ الْمَعْهُودَ. تَلَهَّى هَذَا الشَّابُّ الشَّارِدُ الْفِكْرِ بِتَجْمِيعِ أَصْدَافٍ مُخْتَلِفَةِ الأَشْكَالِ وَ الْأَلْوَانِ عَلَى ضِفَافِ الشَّاطِئِ وَ إِيدَاعِهَا بَيْنَ الفَيْنَة وَالْاُخْرَى فِي سَلَّةٍ مُتَهَرّئَةٍ مِنْ سَعَفِ النَّخِيلِ أَكَلَ عَلَيْهَا
الدَّهْرُ وَ شَرِبَ . كَنَ مُصِرًّا عَلى تَكْلِيفِ تَلاَمِيذِهِ بِتَنْظِيفِهَـــــــا وَ تَلْوِينِهَا فِي حِصَّةِ التَّرْبِيَةِ التَّشْكِيلِيَّةِ. وَ بَعْدَ زُهَاءِ ثُلُثِ سَاعَةِ اِنَغَمَسَ فِي تَرْكِيبِ أَجْزَاءِ الْهَاتِفِ الْجَوَّالِ الْوَاحِدَ تِلْوَ الآخَرِ فِي تُؤَدَةٍ تَامَّةٍ وَ تَرْكِيزٍ نَافذٍ ثُمَّ ضَغَطَ عَلَى زِرِّ التَّشْغِيلِ بِإِبْهَامِهِ جَيِّدًا . اِكْتَشَفَ دُونَ أَيِّ مَجَالٍ
لِلشَّــكِّ وَ فِي مَرَارَةٍ كَأنَّهَا مَرَارَةُ الصَّبَّارِ أَنَّ هَاتِفَهُ النَّفِيسَ قَدْ أَتْلَفَهُ الْمَاءُ الْمَالِحُ . فِي لَمْحِ الْبَصَرِ دَسَّهُ فِي جَيْبِ قَمِيصِهِ وَ تَمْتَمَ بِكَلِمَاتٍ لَيْسَتْ كَالْكَلِماَتِ وَ قَدْ لَمَعَ فِي عَيْنَيْهِ الْعَسَلِيَّتَيْنِ نُورٌ مُتَهَالِكٌ وَ اهْتَزَّ فِي قَلْبِهِ الْمَكْلُومِ فَرَجٌ ضَئِيلٌ اتَّسَعَتْ لَهُ شِبْهُ ابْتِسَامَةٍ لاَ تُسْمِنُ وَ لاَ تُغْنِي مِنْ جُوعٍ : « أَيُّهَا الْجِنُّ الْمَارِدُ مَاذَا دَهَاكَ ؟ لاَ بُدًّ أَنْ أُثْنِيَكَ عَنْ غَيِّكَ وَ أُعِيدَ إِلَيْكَ رُشْدَكَ ... لاَ بُدَ ... لاَ بُدَّ... مَهْلاً ... مَهْلاً ... الدَّقَائقُ الْقَادِمَةُ هِيَ خَيْرُ شَاهِدٍ عَلَى ذَلِكَ فَأَنَا مُتَحَلٍّ بِصَبْرٍ جَمِيِلٍ كَصَبْرِ أَيُّوبَ وَ إِذَا أَزْمَعْتُ عَلَى شَيْءٍ فَلاَ بُدَّ أَنْ اُنَفِّذَهُ مَهْمَا كَانَتِ الْعَرَاقِيلُ . مِنْ فَضْلِ اللهِ أَنَّ عَزِيمَتِي صُلْبَةٌ كَالْفُولاَذِ لاَ تَفِلُّ و لاَ تَهِنُ و مْنْ فَضْلِ اللهِ أَيْضًا أَنَّنِي وَاثِقٌ مِنْ قُدُرَاتِي لاَ أَسْتَسْلِمُ حَتَّى وَ إِنْ كَانَتِ الصِّعَابُ فِي حَجْمِ الْجِبَالِ .إِذَا فَكَّرْتُ فِي أَيِّ انْتِصَارٍ فَلَنْ يَهْدَأَ بَالِي وَ يَسْتَقِرَّ حَالِي إِلاَّ بَعْدَ تَحْقِيقِهِ و لَوْ بَعْدَ مِائَةِ مُحَاوَلَةٍ شأني شَأْنَ تُوماس أديسون مُخْتَرِعُ الْكَهْرَبَاءِ »
عَادَ حُسَامٌ أَدْرَاجَهُ إِلَى مَنْزِلِهِ بِخَطَوَاتٍ عَجْلَى وَ هْوَ مَهْمُومٌ ، مَغْمُومٌ عَلَى غَايَةٍ مِنَ الْاِضْطِرَابِ تَارَةً يُخَامِرُهُ يَأْسٌ مَقِيتٌ و طَوْرًا يُرَاوِدُهُ أَمَلٌ نَيِّرٌ كَالْفَلَقِ فَيُشِعُّ فِي نَفْسِهِ المُظْلِمَةِ ابْتِسَامَةً عذَبَةً تُعَزِّزُ ثِقَتَهُ بِنَفْسِهِ وَ الْإِيمَانَ بِمَهَاراتِهِ الْيَدَوِيَّةِ .
نَادَى أُخْتَهُ سِيرِينَ بِصَوتٍ كأنَّه الرعدُ يقرع الآذان ويفجَأ النُّفوسَ وَ يعقد الألسنة عن النطق، وَ يَكُفُّ الأيدي عن الحركة :
- « أَيْنَ أَنْتِ يا سِيرِينُ ؟ أَيْنَ أَنْتِ يا سِيرِينُ ؟ »
- « أَنَا فِي الْمَطْبَخِ بِصَدَدِ تَنْظِيفِ أَوَانِي الأَكْلِ فَكَمَا لاَ يَخْفَى عَنْكَ أَنَّ أُمِّي طَرِيحَةُ الْفِرَاشِ تُعَانِي منْ هَشَاشَةٍ فِي الْعِظَامِ وَ إخْوَتِي الصِّغَارُ يَلْتَهِمُونَ الْغَدَاءَ بِسُرْعَةِ الْبَرْقِ وَ يَنْصَرِفُونَ لِلَّعِبِ تَحْتَ زَيْتُونَةٍ عَرِيقَةٍ ، وَارِفَةِ الظِّلاَلِ . هَلْ أَحْمِلُ إِلَيْكَ صَحْنًا مُكَوَّمًا بِالكُسْكُسي وَ كُوبَ لَبَنٍ
وَ بُرْتُقَالةٌ حُلْوَةً »
- « لاَ أَرْغَبُ فِي تَنَوُلِ الْغَدَاءِ الْآنَ لِأَنَّ مِزَاجِي مُتَكَدٍّرٌ. أَنْقِصِي مــِنَ الْهَذَرِ وَ اِنْطَلِقِي فِي طُرْفَةِ عَيْنٍ إِلَى غُرْفَةِ نَوْمِكِ لإِحْضَارِ ِمُجَفَّفِ الشَّعْرِ»
- « تَمَهَّلْ بِضْعَةَ دَقَائِقَ حَتَّى أُنْزِلَهُ بِوَاسِطَةِ السُّلَّمِ مِنْ أَعْلَى الصِّوَانِ »
- « دُونَ تَرَاخٍ يَا أَنْبَلَ أُخْتٍ فِي الْأُسْرَةِ فَأنا فِي أَمَسِّ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ»
وَ مَا إِنْ تَسَلَّمَ حُسَامٌ مُجَفَّفَ الشَّعْرِ حَتَّى اسْتَعَانَ بِه لِتَخْلِيصِ هَاتِفِهِ الْجَوَّالِ مِنِ قَطَرَاتِ الْمَاءِ وَ ذَرَّاتِ التُّرَابِ الْعَالِقَةِ الَّتِي تَرَاكَمـتْ دَاخِلَهُ. كَانَتْ سِيرِين تُرَاقِبُ حَرَكَاتِهِ الْمُذْهِلَةَ فِي انْدِهَاشٍ انْبِهَارٍ وَ هْيَ تُدَنْدِنُ بِأُغْنِيَةِ مَاجِدَةَ الرُّومِي « كَلِمَاتٍ لَيسَتْ كَالْكَلِمَاتِ» دُونَ أَنْ تَغْفَلَ عَنْ مُدَاعَبَةِ ضَفِيرَتَيْ شَعْرِهَا الطَّوِيلِ ، الْفَاحِمِ بِأَناَمِلِهَا الرَّقِيقَةِ وَ هْيَ تُمِيلُ رَأْسَهَا يُمْنَةً وَ يُسْرَةً زَهْوًا وَ طَرَبًا . وَ قَعَ إِنْشَادُهَا الْمُرْهِفُ فِي نَفْسِهِ
أَرْقَى مَوْقِعٍ وَ ذَابَتْ رُوحُهُ الْمُثَقَّلَةُ بِالْأَوْجَاعِ مِنْ شَجَاهَا وَجْدًا. إِنَّ أَنْغَامَهَا انْفَرَدَتْ بِلَحْنٍ صَقِيلٍ تَعَالَى وَ تَمَاهَى لِيَسْتَقِرَّ فِي عُمْق وِجْدَانِهِ فَطَرٍبتْ نَفْسُهُ وَ انْفَرَجَتْ أَسَارِيرُهُ وَ تَقَشَّعَتْ أَشْجَانُ قَلْبِــــهِ . عِنْدَ انْتِهَائِهَا مِنَ الْغِنَاءِ فَكَّرَ شَقِيقُهَا حُسَامٌ أَنْ يُتْحِفَهَا بِشِعْرٍ رَقْرَاقٍ كَمَاءِ الْيُنْبُوعِ ، نَاعِمٍ كجِيدِ الْحِسَانِ فَاقْتَرَحَ عَلَيْهَا اقْتِرَاحًا وَجِيهًا يَنْسَجِمُ مَعَ مُيُولِهَـــــــا و أَحْلاَمِهَا الْمَعْسُولَةِ .
- « هَلْ تَوَدِّينَ الْإِنْصَاتَ إِلَى قَصِيدِ كَلِمَاتٍ لَيْسَتْ كَالْكَلِمَاتِ بِصَوْتِ الشَّاعِرِ الْقَدِيٍرِ نِزَارٍ قَبَانِي»
- « بِكُلِّ افْتِخَارٍ فَأَنَا مِنَ الْمُتَيَّمِينَ بِشِعْرِهِ الْغَزَلِيِّ إِلَى حَدِّ الْهَوَسِ. إِنَّكَ أَحْسَنْتَ الْاخْتِيَارَ فَمَا أَحْوَجَنِي الْآنَ إِلَى شِعْرٍ رَهِيفٍ شَفِيفٍ يُنْسِينِي فِي شَبَحِ الْبِطَالَةِ وَ مَآسِي أَتْعَابِ النَّهارِ فَالعَمَلُ المَنْزِلِيُّ مُرْهِقٌ لَيْسَ لَهُ آخِرُ »
- « أَكِيدٌ أَنَّ هَذَا الْقَصِيدَ المُوقِدَ لِمَشَاعِرِ الْعُشَّاقِ والرُّومَانْسِيِّينَ سَيُرِيحُ أَعْصَابَكِ الْمُنْهَكَةَ بِجَزَالَــةِ أَلْفَاظِـــهِ وَ خُصُوبَةِ صُوَرِهِ وَ نَبْضِ إِيقَاعِهِ »
- « لاَ تَتَبَاطَأْ فِي إِسْمَاعِي هَذَا الْقَصِيدِ الْبَدِيعَ جَازَاكَ اللهُ إِحْسَانًا »
- « مِنَ الْمُسْتَحِيلِ الْإِصْغَاءُ إِلَى هَذَا الْقَصِيدِ إِذَا بَقِيَ هَاتِفِي الْجَوَّالُ مُعَطَّبًا لَمْ يَسْتَفِدْ مُنْذُ قَلِيلٍ مِنْ عَمَلِيَّةِ التَّنْظِيفِ الَّتِي شَمِلَتْهُ »
- « هَلْ غَاصَ فِي مَاءِ الْبَحْرِ فِي غَفْلَةٍ عَنْكَ دُونَ أَنْ تَهْتَدِيَ إِلَيْهِ »
- « فِعْلاً قَدْ غَمَرَتْهُ مِيَاهُ الْبَحْــرِ وَ أَدَّتْ إِلَى تَبَلُّلِهِ وَ إِتْلاَفِـــهِ و بِالتَّالي إِلَى انْقِطَاعِي عَنْ مُوَاصَلَةِ تَصْوِيرِ مَشَاهِدَ خَلاَّبَةٍ ، فَاتِنَةٍ تَسْحَرُ الأَنْظارً وَ تَسْبِي الْعَقُولَ »
- « اِسْتَنِرْ بِالْحِكْمَةِ الْقَائلَةِ لاَ تَأْسَفَنَّ عَلَى مَا فَاتَ »
- « لَيْسَ لِي هَاتِفٌ آخَرُ مُشَابِهًا لَهُ حَتَّى لَا أَتَحَسَّرَ عَلَيْهِ وَ الَّذِي زَادَ الطِّينَ بَلَّةً هُوَ أَنَّـــــهُ جَدِيـــــــدٌ وَ بَاهِضٌ يَصْعُبُ عَلَيَّ تَعْوِيضُهُ فِي الظُّرُوفِ الرَّاهِنَةِ فَأَنْتِ عَلَى دِرَايَةٍ جَيِّدَةِ أَنَّنِي أَتَولى وَ الْحَمْدُ لِلهِ الْإِنْفَاقَ عَلَى أُسْرَةٍ شَدِيدَةِ الْبُؤسِ ، كَبِيرَةِ الْعَدَدِ مُنْذُ رَحِيلِ وَالِدِيِ مُصْطَفَى فِي السَّنَةِ الْفَارِطَة إِلَى مَثْوَاه الأَخِيرِ »
- « ظُرٍوفُ الْعَائلَــةِ عَسِيـــرَةٌ للْغَايَـــةِ وَ الَّذِي سَاهَـــمَ فِي اسْتِفْحَالِ تَأَزُّمِــهَا و وُصُولِهَا إِلَى حَالٍ حَرِجَةٍ لاَ تُحْتَمَــــلُ مَهْمَا بَلَغَ الصَّبْرُ ذُرْوَتَهُ مَرَضُ وَالِدَتِي خَدِيجَةَ وَ كَثْرَةُ طَلَبَاتِ إِخْوَتِي وَ الْغَلاَءُ الْفَاحِشُ لِلْأَسْعَارِ فِي رُبُوعِ تونــسَ الْخَضْرَاء بَعْدَ الثَّوْرَةِ ».
- « اشتدّي أزمةُ تنفرجي
قد آذَنَ لَيلُكِ بالبَلَـــــجِ
آمَلُ أَنْ يَمُنَّ اللهُ عَلَى وَالِدَتِي بِالشِّفَاءِ الْعَاجِلِ وَ عَلَيكِ بِعَمَلٍ شَرِيفٍ يُنْسِيكِ فِي مآسِي الِبِطَالَةِ وَ يَدْفَعُ عَنْ أُسْرَتِنَا شَبَحَ الْعَوْزِ وَ الْخَصَاصَةِ
وَ الْحِرْمَانِ »
- « كَمْ يُشَرِّفُنِي أَنْ أَكُونَ عَضُدَكَ الْأَيْمَنَ وَ أنَّهُ لَمِنْ دَوَاعِي الْفَخْرِ أَيْضًا هُوَ أَنْ أَكُونَ أُسْتَاذَةَ عَرَبِيَّةٍ فِي أَحَدِ الْمَعَاهِدِ الثَّانَوِيَّةِ بَعْدَ مُعَانَاةٍ مِنَ الْبِطَالَةٍ دَامَتْ ثَلاثَ سَنَـــوَاتٍ بِأَكَمَلِهَا !»
أَرْسَلَ حُسَامٌ زَفَرَاتٍ حَادَّةً تَضْطَرِمُ حُزْنًا وَ اسْتَطْرَدَ قَائِلاً بِصَوْتِ أَبَحَّ مُتَهَدِّجٍ تَخْنُقُهُ الْعَبَرَاتُ:
- « لِنَسْتَمِعْ إِلَى شِعْرٍ وَ غِنَاءٍ يُسَلِّينَا وَ يُنَفِّسُ عَنْ كُرُوبِنَا فَعَلَى هَذِهِ الْأَرْضِ مَا يَسْتَحِقُّ الْحَيَاةً . هَيَّا شَغِّلِي هَذِهِ الْهَاتِفَ اللَّعِينَ يَا سِيرِينُ فَأَنْتِ دَوْمًا مَبْخُوتَةٌ ».
- « إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرٌ . عَلَى بَرَكَةِ اللهِ فَمَا أَضْيَقَ الْعَيْشَ لَوْلاَ فُسْحَةُ الْأَمَلِ »
لاَمَسَتْ أَنَامِلُ سِيرِينَ زِرَّ الـَشْغِيلِ فِي حَذَرٍ فَرَنَّ الْهَاتِفُ الْجَوَّالُ وَ لاَحَ ضَوْءُ شَاشَتِهِ وَ ارْتَسَمَتْ عَلَيْهِ عِبَارَةُ التَّرْحِيبٍ أَهْلاً وَ سَهْلاً بِكُمْ .
رَقَصَتْ سِيرِينُ بِشْرًا وَ حُبُورًا فِي أَرْجَاءِ الْغُرْفَةِ وَ أَحَاطَتْ أَخَاهَا بِيَدَيْهَا الْبَضَّتَيْنِ النَّاعِمَتَيْنِ وَ غَمَرَتْ جَبِينَهُ الأَغَرَّ بِقُبُلاَتٍ نَقِيَّةٍ تَعْبِقُ بِعَبِيرِ الْأُخُوَّةِ .اَمَّا حُسَامٌ فَقَدْ افتَرَّ ثَغْرُهُ عَنْ ابْتِسَامَاتٍ عَرِيضَةٍ فِي نُكْهَةِ الْعَسْجَدِ وَ الْتَمَعَتْ عَيْنَاهُ بِبَرِيقِ النَّخْوَةِ و الْانْتِصَارِ.
وَ حَوَالَيْ السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ بَعْدَ الزَّوالِ الْتَأَمَ شَمْلُ الْاُسْرَةِ دَاخِلَ غُرْفَةِ خَدِيجَةَ . أَصْغَى الْجَمِيعُ إِلَى قَصِيدِ كَلِمَاتٍ لَيْسَتْ كَالْكَلِمَاتِ بِصَوْتِ الشَّاعِرِ نِزَارٍ قَبَانِي فِي سُكُونٍ مُطْبَقٍ وَ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمُ الطَّيْرُ. كَانَ الْإِلْقَاءُ قِمَّةً فِي الْجَوْدَةِ اسْتَحْسَنَ الْجَمِيع فِيهِ عُذُوبَةَ الْأَدَاءِ وَ جَرَسَ الْإِيقَاعِ وَبَسَاطَةَ الْكَلِمَاتِ وَعُمْقَ الْمَضْمُونِ وَ رِقَّةَ الْمَشَاعِرِ وَ تَدَفُّقَهَا تَدَفُّقَ مَاءِ الْيُنْبُــــوعِ فِي جَوْفِ الْبَيْـدَاءِ . وَ مَا إِنْ أَتَمَّ شَاعِرُنَا إِلْقَاءَ قَصِيدِهِ حَتَّى تَهَلَّلَتِ الْأَسَارِيرُ اِبْتِهَاجًا وَ الْتَهَبَتِ الْأَكُفُّ بِالتَّصْفِيقِ وَ سَخَتْ الْحَنَاجِرُ بِالهُتَافِ فَحَتَّى خَدِيجَةَ الَّتِي لَمْ تَطَأْ قَدَمَاهَا سَاحَةً الْمَدْرَسَةَ و لَوْ يَوْمًا وَاحِدًا فَهِمَتْ ألفاظَ الْقَصِيدِ وَ أَفْكَارَهُ فِي يُسْرٍ دُونَ عَنَاءٍ أْوْ لُبْسٍ فَانْتَشتْ مِثْلَ أَبْنَائِهَا وَ عَلَتْ الْابْتِسَامَةُ الْبَرِيئَةُ وَجْهَهَا الشَّاحِبَ . مَا أسْعَدَهَا هَذَا الْأَصِيلَ بِمَا أَنَّهَا قَدْ نَسِيَتْ الْمَرَضَ الْعُضالَ الَّذِي يُؤْلِمُهَا وَ الْقَلَقَ الَّذِي يَعْبَثُ بِقَلْبِهَا وَ الْوَسَاوِس الشَّيْطَانِيَّةَ الّتِي تَنْتَابُهَا مِنْ حِينٍ لِآخَرَ .
وَ أَثْنَاءَ عَوْدَةِ نَدَى مِنَ مَعْهَدِ الْمُوسِيقَى عَرَّجَتْ عَلى دَارِ حُسَامٍ لِزِيَارَةِ وَالِدَتِهِ الْعَلِيلَةِ فَهْيَ لَمْ تَرَهَا مُنْذُ أُسْبُوعٍ . طَرَقَتْ بَابَ الْخَوْخَةِ فَأَذِنَ لَهَا حُسَامُ بِالدُّخُولِ مُرَحِّبًا « أَيَّتُهَـــا الْعَرَبِيَّـــةُ الْأَصِيلَــــةُ حَلَلْــــــتِ أَهْلاً وَ نَزَلْتِ سَهْلا » ثُمَّ رَافَقَتْهُ إِلَى وَالِدَتِهِ لِلتَّسْلِيمِ عَلَيْهَا وَ الْاسْتِفْسَارِ عَنْ حَالِهَا. وَ بَعْـــــدَ اِنْقِضَاءِ وَقْتٍ وَجِيزٍ فِي الْاِسْتِقْبَالِ وَ التَّحِيَّةِ وَ الْمُوَاسَاةِ قَالَتْ سِيرِينُ بِصَوْتٍ عَالٍ وَ وَرْدُ الرَّبِيعِ يَكْسُو وَجْنَتَيْهَا : « أَمّا الْآنَ فَمٍرْحَبًا بِالْمُطْرِبَةِ نَدَى فَهْيَ سَتُنْشِدُ لَنَا بِصَوْتِهَا الرَّخِيمِ قَصِيدَ أحِنُّ إِلَى خُبْزِ أُمِّي مَعَ الْعِلْمِ أنَّ الشَّاعِرَ الْفَلَسْطِينِيَّ محمود درويش كَتَبَ هَذَا الْقَصِيدَ الرَّائعَ دَاخِلَ سُجُونِ الْاحْتِلاَلِ الْإسْرَائيلِيِّ عَلى وَرَقِ الْأَلِمِنْيوم لِعُلْبَةِ سَجائر بَدَلاَ مِنْ وَرَقِ الْكِتَابَةِ وَ عِنْدَمَا اُطْلِقَ سَرَاحُهُ سَلَّمَهُ فِي مُنْتَهَى اللُّطْفِ وَ الرِّقَّةِ إِلَى وَالِدَتِـــــهِ مُعْتَذِرًا لَهَا لِأَنًّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا تُحِبُّه أَقَلَّ مِنْ إِخْوَتِهِ بَيْنَما هِيَ كَانَتْ عَادِلَةً فِي حُبِّهَا لكُلِّ فَلَذَاتِ كَبِدِهَا دُونَ أَيِّ تَمْيِيزٍ » . عِنْدَئِذٍ اِهْتَزَّتِ الْغُرْفَةُ بالتَّصْفِيقِ وَ سَادَ الصَّمْتُ وَ اشْرَأَبَّتِ الأعناقُ وَ احْتَضَنَتْ نَدَى عُودَهَا وَ دَاعَبَتْ أَوْتَارَهُ فِي رِفْقٍ فَانْبَعَثَتْ مِنْهُ أَنْغَامُ شَجِيَّةٌ ، مُتَمَوِّجَةً بَيْنَ صُعُودٍ وَنُزُولٍ . مَا أَرْوَعَ أَنْ تَاْلَفَ بِلْقِيسُ نَفْسَهَا تَعِيشُ فِي عَالَمٍ سِحْرِيٍّ مَحْضٍ تَتَالَى فِيهِ الرَّنَّاتُ عَبْقَرِيَّةً دُونَ الْإِحْسَاسِ بِوُجُودِ الْحَاضرِينَ ! وَ لَمّا جَاءَ دَوْرُ الْغِنَاءِ انْطَلَقَ صَوْتُهَا الشَّجِيُّ بِأَعْذَبِ الأَلْحَانِ و أَجْمَلِ النَّبَرَاتِ فَكَانَ أَدَاؤُهَا بَدِيعًا ذِي رُوحٍ فَتِيَّةٍ ، فَنِيَّـــةٍ ، وَ إِحْسَاسٍ مُرْهَفٍ ، رَقِيقٍ يَقْطُرُ شَجًى . إِنَّهَا سَبَتْ عُقُولَنَا وَ سَحَرَتِ اَلْبَابَنَا فَعَلاَ التَّصْفِيقُ وَ سَخَتْ الْحَنَاجِرُ بِالْهُتَافِ. وَ نَظَرًا لِضِيقِ الْوَقْتِ اِكْتَفَتْ بَلْقِيسُ بِتَقْدِيمِ أُغْنِيَةٍ وَاحِدَةٍ وَ تَنَاوُلِ مَا لَذَّ وَ طَابَ مِنَ الْغِلاَلِ وَ الْمُرَطَّبَاتِ ثُمَّ وَدَّعَت الْحَاضِرِينَ فِي أَدَبٍ وَ انْصَرَفَتْ إِلَى بَيْتِهَا قَبْلَ أَنْ يُبَاغِتَهَا الظَّلاَمُ الْمُوحِشُ بِجِلَبَابِهِ الْأَسْوَدِ . كَانَ الْكَوْنُ الْبَهِيُّ يُشَيِّعُ الشَّمْسَ فِي حَسْـرَةٍ وَ مَرَارَةٍ وهيَ تَخْتَفِي شَيْئَا فَشَيْئا جِهَةً الْغَرْبِ بَيْنَمَا أَمْوَاجُ الْبَحْـــرِ أَمْسَـــــتْ تَسْتَعِـــــدُّ لِاحْتِضَانِهَــــا وَ ابْتِلاَعِ أَشِعَّتِهَا الْأَرْجُوَانِيَّةِ،الْفَاتِرَةِ . كَمْ تَمَنَّتْ نَدَى أَنْ يُشَيِّعَهَا حُسَامٌ عَنْ طِيبَةِ خَاطِرٍ إِلَى مَنزِلهَا فَيُشْعِرِهَا بِالْأُنْسِ وَ الْمَحَبَّةِ ! إِنَّهَا تُرِيدُ أَنْ تَسْتَمِعَ َ وَ هْيَ فِي مُنْتَصِفِ الْعِقْدِ الُّثَّالِثِ مِنْ عُمُرِهَا إِلَى كَلِمَةِ « أُحِبُّكَ» الَّتِي تَأخَّرتْ طَوِيلاً وَ طَوِيلاً دُونَ أَنْ يَبُوحَ بِهَا فَارِسُ أَحْلاَمِهَا . هِيَ تُرِيدُ أَنْ تَعْرِفَ هَلْ هُوَ يُبَادِلُهَا نَفْسَ الْحُبِّ الْجَارِفِ الَّذِي تَكِنُّهُ لَهُ فَيَطْمَئِنَّ قَلْبُهَا وَ تَتَأَكَّدَ دُونَ أَيِّ مَجَالٍ لِلشَّكِّ مِنْ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شَرِيكُ حَيَاتِهَا فِي الْاَيَّامِ الْمُقْبِلَةِ . مَا ضَرَّ لَوْ تَحَيَّنَتْ فُرْصَةَ اخْتِلاَئِهَا بِهِ فِي هَذَا الْغُرُوبِ الْبَدِيعِ لِضَمِّهِ إِلَى صَدْرِهَا الدَّافِئِ ضَمًّا عَنِيفَا يَكَادُ يُهَشِّمُ أَضْلاَعَهُ وَ هْيَ لاَ تَتَوقَّفُ عَنِ الْجُودِ عَلَيْهِ بِبَكُورَةِ قُبُلاَتٍ بِكْرٍ ، مُتَوَهِّجَةٍ كَرِمَالِ الصَّحْرَاءِ عِنْدَ اشتِدَادِ الْقَيْظِ . حُسَامٌ ذَاكَ الشَّابُ الْخَجُولُ ذُو الْعَيْنِ الْبَصِيرَةِ وَ الْيَدِ الْقَصِيرَةِ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يُصَرِّحَ لَهَا بِحُبِّهِ فِي الْوَقْتِ الْحَاضِرِ مُشَافَهَةً وَجْهًا لِوَجْهٍ لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يُشْعِرَهَا بِهِ مِنْ خِلاَلِ الْمُدَاعَبَةِ إِنْ انْتَهَجَهَا مَنْهَجًا لِإِشْبَاعِ بَعْضَ رَغَبَاتِهِ . نَدَى لَنْ تَصُدَّهُ إذَا سَعَى إِلَى اللَّهْوِ بِتُفَّاحَتَيْهَا النَّافِرَتَيْنِ ، الْمَعْسُولَتَيْنِ ، النَّاعِمَتَيْنِ كَرِيشِ النِّعَامِ وَ سَتَزْدَادُ الْتِصَاقًا بِهِ إِذَا رَشفَ مِنْ شَهْــــــدِ رُضَابِهَا وَ هْوَ يُولِجُ لِسَانَهُ بَيْنَ شَفَّتَيْهَا الْمُتَوَرّدَتَيْنِ كَالدِّهَانِ . كِلاَهُمَا فِي أَمَسِّ الْحَاجَةِ إِلَى حُبٍّ طَاهِرٍ ، نَقِيٍّ لاَ تَأْفَلُ شَمْسُهُ وَ لاَ يَخْبُو وَهَجُ حَرَارَتِهِ . هُوَ حُبُّ فَيَّاضٌ ٌ ، مُتَجَدِّدٌ ، غَزِيرُ الْأَحْلاَمِ يُنْبِئُ بِمُسْتَقَبَلٍ زَاهِرٍ يَسُــــــــــودُهُ الْفَرَحُ و التَّفَاؤُلُ الأَمْنُ والاسْتِقْرَارِ.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...