من حين لآخر كان يظهر لها من الود والحب والحنان ما يجعلها تهفو إليه .حسناء قبيلته تسر الناظرين . اختار هذه المرة أن يظهر لها بزي الفارس المغوار، متقمصا شخصيات أجدادها الأشاوس الذين طالما حدثته عنهم، تماما كما يحلو لجدتها من أبيها، وصفهم . لهذا الغرض، ارتدى جلبابا أبيض قديما و سلهاما وامتطى صهوة فكرة "الحريگ" وشرع صدره وأفكاره على مصراعيها للرياح الأربع تدفع به جهة الشمال. .يلف العالم لفا ويجوب الآفاق . قد يظفر بها ويصبح فارس أحلامها، ولو في المنام ، سيعود منتصرا على كل الحواجز الضاربة جذورها بأعماق العرف والتقاليد : المال والنسب و السمعة والفقر والآباء والأجداد وشجرة الأنساب . أصابه الدوار ، كيف باستطاعة، بل من أين لهذا الحارس الأمين القدرة على ترك أيقونته بين أحضان وغدر المتربصين سيموت ببلاد الغربة هما و غما ونكدا . تراءت له عروسا تتهادى، بالحناء مخضبة البنان، موشومة مطرزة بالعقيق والموزون اللماع والودع واللوبان والنقرة الحسنية. من على ظهر فرس مطهم أصيل يعود ربما لملكية أحد الأجداد ورثوه، بالسيف، من عهد السيبة ..فارسة شامخة تطوف بها غيد حسان تزفها عصافير مرفرفة كما حواء، الجدة، يوم أغواها الشيطان فأرسلت إلى هذه الأرض على وجه السرعة لتذيقنا من صنوف العذاب ما لا يتسع له مجال . بيدها سلة كرز وعنب وأزهار .. يعدو باتجاهها فائزا للهرب بها لوحده وسط اعزارى الدوار، كما هي تقاليد القبيلة ويطلق أب العريس كما هي تقاليد القبيلة طلقات البارود من بندقية "بوحبة" إيذانا بانطلاق الأفراح إلى متم الأسبوع، كما هي عادة القبيلة ،لكن إحدى هذه الطلقات تصيب العروس في مقتل، تخر بين أحضانه مدرجة بالدماء. أحس بالسائل دافئا يتدفق بين النحر والصدر، سمع صوت قنبلة يدوي برأسه، يرج جمجمته اشتم رائحة البارود تعفرت مناخيره عطس، بزق، ، تفل،داخ، لعن اليوم الذي ولد فيه . الحاصل من هذا نسي كل شيء واستعد لـ شيئ واحد ووحيد : أن يكتب لها رسالة : ليخبرها بمغامرته إلى بلاد الثلج والضباب، يذكرها بطارق بن زياد. من هناك سيكتب لها خطبة كتلك التي أحرق على إثرها جدها طارق أوراق وقوارب مرافقيه . المصيبة أنه ليس بكاتب رسائل ، لم يكتب طول حياته رسالة قط ولم يتلق رسالة ، عفوا فهو لا يعرف خربشات تلك الحروف الأبجدية ، رآها مرة واحدة من خلال نافذة القسم الوحيد الموجود بالدوار .شدته فكرة كتابة الرسالة، حار في الأمر، فهي مثله لا تعرف القراءة والكتابة . الرسالة لا تكتسب قيمتها إلا من هناك ، هكذا عاوده الإصرار على كتابة الرسالة، وماذا تحمل الرسائل؟ كل الناس يكتبون رسائل. ماذا بهذه الأغلفة المغلّقة ؟ المهم سيكتب لها رسالة من هناك من على قوارب الموت ..من تحت ماء اليم ...من بطون سمك القرش....المهم رسالة من هناك، قد تحملها عروس البحر أو جنياته أو فيروز الشطآن لا يهم فللبحر سعاة بريده . غاب عن الأنظار، طار الخبر في الدوار، ااستفاقت هذا الصباح على الخبر السار.لم تكتب له رسالة ولكن من طول انتظار..تعجل السارد وقال:
« صبنتُ كل صوف القرية بأدمعي وغزلته على مغزل الأماني و برموش الأعين خطتُ لأحلامي فراء دافئا يتسع لصدر حبيبي .
كل ساعات الناس وساعتي سواء إنما ساعتي رعناء لا تضبط الوقت بانتظام ، ولا لتقطع الزمن إلى دقائق وثواني بل إلى موعد مع خفقان قلبه ودقات قلبي .»
علقت آمالها على مشجب العودة ، سوت آهاتها ولواعجها على تيار دبدبات كل نسمة صباح، تبعثها عبر الأثير ، تتحول في مخيالها إلى معسول الكلام ، تذكرها بالحمص المالح زاده ، مكرها، في قوارب الموت.
اهتزت القرية لعودة الغائب ، لم تنبس ببنت شفة، لا أحد يعلم .وصلت قافلة التوابيت الطائرة ، وكان نصيب القرية منها واحد . فتحوه ، وعوض أن يجدوه ، حاروا في الأمر، فبداخل التابوت عثروا على مظروف وسع رسالة مكتوبة ببياض ناصع البياض .
« صبنتُ كل صوف القرية بأدمعي وغزلته على مغزل الأماني و برموش الأعين خطتُ لأحلامي فراء دافئا يتسع لصدر حبيبي .
كل ساعات الناس وساعتي سواء إنما ساعتي رعناء لا تضبط الوقت بانتظام ، ولا لتقطع الزمن إلى دقائق وثواني بل إلى موعد مع خفقان قلبه ودقات قلبي .»
علقت آمالها على مشجب العودة ، سوت آهاتها ولواعجها على تيار دبدبات كل نسمة صباح، تبعثها عبر الأثير ، تتحول في مخيالها إلى معسول الكلام ، تذكرها بالحمص المالح زاده ، مكرها، في قوارب الموت.
اهتزت القرية لعودة الغائب ، لم تنبس ببنت شفة، لا أحد يعلم .وصلت قافلة التوابيت الطائرة ، وكان نصيب القرية منها واحد . فتحوه ، وعوض أن يجدوه ، حاروا في الأمر، فبداخل التابوت عثروا على مظروف وسع رسالة مكتوبة ببياض ناصع البياض .