السيد الرئيس جمال عبد الناصر
عزيزى السيد الرئيس...
تحية حب وشوق
أبلغنى صديقى الأستاذ هيكل رأى سيادتكم فى مجموعة القصص التى نشرتها أخيرًا بعنوان «البنات والصيف»، وقد سبق أن أبلغنى نفس الرأى السيد حسن صبرى مدير الرقابة واتفقت معه على تعديل الاتجاه الذى تسير فيه قصصى.
ورغم ذلك فإننى أريد أن أشرح لسيادتكم الدافع والهدف اللذين يدفعاننى إلى كتابة قصصى لا دفاعًا عن نفسى بل فقط لأكون قد أبلغتكم رأيى. أنا لا أكتب هذه القصص بدافع الربح المادى، فإننى ما زلت أقل كتاب القصة ربحًا، ولا أكتبها بدافع الرغبة فى رفع توزيع المجلة، فقد كنت أكتب هذه القصص فى الوقت الذى لم تكن المجلة فى حاجة إلى رفع توزيعها، وقبل الثورة وعندما كنت أكتب فى قضية الأسلحة الفاسدة وأثير حملاتى على النظام القائم، وكان عدد روزاليوسف يباع بعشرين قرشًا(١٠ أضعاف السعر).. فى نفس الوقت كنت أكتب قصة «النظارة السوداء» وأنشرها مسلسلة، وهى قصة تصور مجتمع المتمصرين تصويرًا صريحًا جريئًا.
وإذا كان رفع توزيع المجلة يعتمد على نشر القصص المسلسلة فإن القصص الاجتماعية الصريحة ليست وحدها التى ترفع التوزيع، وقد سبق أن نشرت فى روزاليوسف قصة «فى بيتنا رجل»، وهى قصة وطنية خالصة ليست فيها مشكلة حب ولا مشكلة جنس، ورغم ذلك فقد رفعت هذه القصة من توزيع المجلة أكثر مما رفعته «قصة لا أنام» مثلًا التى تدور حول مشكلة عاطفية، وذلك كما هو ثابت فى كشوف توزيع المجلة.
فأنا لا أتعمد اختيار نوع معين من القصص أو اتجاه معين، ولكن تفكيرى فى القصة يبدأ دائما بالتفكير فى عيوب المجتمع، وفى العقد النفسية التى يعانيها الناس، وعندما أنتهى من دراسة زوايا المجتمع أسجل دراستى فى قصة، وكل القصص التى كتبتها كانت دراسة صادقة وجريئة لعيوب مجتمعنا، وهى عيوب قد يجهلها البعض، ولكن الكثيرين يعرفونها، وهى عيوب تحتاج لجرأة الكاتب حتى يتحمل مسئولية مواجهة الناس بها، ومنذ سنين عديدة وجدت فى نفسى الجرأة لتحمل هذه المسئولية.
والهدف من إبراز هذه العيوب هو أن يحس الناس بأن أخطاءهم ليست أخطاء فردية بل هى أخطاء مجتمع كامل، أخطاء لها سببها وظروفها فى داخل المجتمع ونشر هذه العيوب سيجعلهم يسخطون، وسيؤدى بهم هذا السخط إلى الاقتناع بضرورة التعاون فى وضع تقاليد جديدة لمجتمعنا تتسع للتطور الكبير الذى نجتازه وتحمى أبناءنا وبناتنا من الأخطاء التى يتعرضون لها نتيجة هذا التطور، وهذا هو الهدف الذى حققته قصصى، فقد بدأ الناس يسخطون، ولكنهم بدلًا من أن يسخطوا على المجتمع سخطوا على أنفسهم، وبدلا من أن يسخطوا على المجتمع سخطوا على الكاتب، أى سخطوا علىّ أنا، ولكننى كنت مؤمنًا مع استمرارى وتصميمى بأنه سينقلب السخط علىّ إلى سخط على عيوب المجتمع، ومن ثم يبدأ الناس فى التعاون على إصلاح ما بأنفسهم.
وإن ما أراه يا سيدى الرئيس فى مجتمعنا لشىء مخيف، إن الانحلال والأخطاء والحيرة والضحايا، كل ذلك لم يعد مقصورًا على طبقة واحدة من طبقات المجتمع بل امتد إلى كل الطبقات، وحتى الطبقة الثورية بدأ الجيل الجديد منها ينجذب إلى مجتمع الخطايا، وأصبحت البيوت المستقرة التى تقوم على الخلق القوى والتقاليد القويمة بيوتًا لا تمثل مجتمعنا بل تمثل حالات فردية متناثرة هنا وهناك.
وقد أبلغنى صديقى هيكل أن سيادتكم قد فوجئت عندما قرأت إحدى قصص «البنات والصيف» بما يمكن أن يحدث داخل الكبائن على شواطئ الإسكندرية، والذى سجلته فى قصصى يا سيدى الرئيس يحدث فعلا، ويحدث أكثر منه، وبوليس الآداب لن يستطيع أن يمنع وقوعه والقانون لن يحول دون وقوعه، إنها ليست حالات فردية كما قلت، إنه مجتمع منحل، ولن يصلح هذا المجتمع إلا دعوة، إلا انبثاق فكرة تنبثق من سخط الناس كما انبثقت ثورة ٢٣ يوليو، لهذا أكتب قصصى.
وفى جميع فترات التاريخ كان هذا دور كتاب القصة، وقد كان الكاتب الفرنسى بلزاك يكتب قصصًا أشد صراحة من قصصى، قصص تدور فى مخادع بنات الداخلية فى المدارس، وفى أقبية الرهبان والراهبات فى الأديرة وفى القصور والأكواخ، وثار الناس على بلزاك فى عصره، ولكنه يعتبر اليوم مصلحًا اجتماعيًا وقصصه تترجم بالكامل فى الاتحاد السوفيتى حيث يعتبر هناك أحد المعاول التى هدمت الطبقات الاجتماعية المنحلة، وغيره كثيرون من كتاب القصة مهدوا بقصصهم للإصلاح الاجتماعى، وبين كتاب العصر الحديث أيضًا تقوم قوة الكاتب على قدرته على إبراز عيوب المجتمع دون أن يطالب بوضع العلاج لها، إن مهمته تقتصر على التشخيص أى إبراز المرض ونتائجه... البرتومورافيا فى إيطاليا وجان بول سارتر فى فرنسا وهمنجواى وفولكنر فى أمريكا، وغيرهم عشرات كلهم يكتبون قصصًا أكثر صراحة وبشاعة من قصصى، ورغم هذا فهم يرشحون لجائزة نوبل.
وحاول كثيرون من الكُتّاب فى مصر أن يحملوا هذه المسئولية... عبد القادر المازنى فى قصته «ثلاثة رجال وامرأة»، وتوفيق الحكيم فى قصته «الرباط المقدس»، ولكن ثورة الناس عليهم جعلتهم يتراجعون، وظهرت طبقة من كتاب القصص فتعرضوا لتصوير عيوب المجتمع وأخطائه وعقده الجنسية ولكنهم صوروها بعيدًا عن الجو الواقعى فلم يتأثر الناس بها، أو صوروها داخل الطبقة التى لا تقرأ، الطبقة الفقيرة فلم تحس بها الطبقة القارئة لأن كل طبقة تعتبر الطبقة الأخرى عالمًا وحده، عالمًا بعيدًا لا يهمها ما يجرى فيه.
وكل ما فعلته أنا بعد ذلك هو أننى تحملت المسئولية بما فيها مسئولية سخط الناس علىّ واعتقدت سواء خطأ أو صوابًا أن قصصى تؤدى دورًا فى التمهيد لإصلاح المجتمع بتجسيم عيوبه.
ولعل سيادتكم تذكر أننى حادثتكم كثيرًا عن الدور الكبير الذى يمكن أن يؤديه الأدب القصصى، وأسهمت تحت رعايتكم بمجهود كبير فى تنشيط الحياة الأدبية فى مصر، سواء بتجميع الأدباء والكُتّاب فى الهيئات الأدبية المختلفة أو برفع مستوى كاتب القصة المادى والأدبى، ولم يكن لى أى كسب شخصى من وراء هذه الجهود ولم أحقق كسبًا أدبيًا أو كسبًا ماديا، بل إن دار روزاليوسف خسرت ثلاثة آلاف جنيه فى مشروع الكتاب الذهبى نتيجة نشر قصص الناشئين، لم يكن لى أى غرض إلا الجرى وراء إيمانى.
يبقى بعد ذلك ما حدثنى به الزميل هيكل عن دعوة الإلحاد فى صحف دار روزاليوسف والمقالات التى ينشرها مصطفى محمود الخاصة ببحث فلسفة الدين، ولكننى أحب أن أرفع لسيادتكم رأيى فى هذا الموضوع حتى أكون قد صارحتكم بكل شىء.
إننى مؤمن بالله ياسيدى، لست ملحدًا، ولعلك لا تعرف أننى أصلى، ولا أصلى تظاهرًا ولا نفاقًا، فجميع مظاهر حياتى لا تدل على أننى أصلى، ولكننى أصلى لأننى أشعر بارتياح نفسى عندما أصلى. ورغم ذلك فإننى أعتقد أن ديننا قد طغت عليه كثير من الخزعبلات والأتربة والتفسيرات السخيفة التى يقصد بها بعض رجال الدين إبقاء الناس فى ظلام عقلى حتى يسهل عليهم استغلال الناس والسيطرة عليهم، فى حين أنه لو تطهر الدين من هذه الخزعبلات ونفضنا عنه هذه الأتربة لصلح ديننا وصحت عقولنا ونفوسنا وسهل على قيادتكم أن تسير بالشعب فى الطريق الذى رسمته له.
ومن أجل هذا بدأت منذ زمن طويل أنشر فى روزاليوسف مقالات تبحث فى الدين، ولم أكن أنا أشترك بقلمى فى هذه المقالات لأننى لست رجل دين، ولكننى دعوت إليها فريقا من رجال الدين المتحررين، ومن الكُتّاب الذين أعتقد أنهم درسوا وقرءوا إلى الحد الذى يتيح لهم الكتابة فى الدين، وقد سبق مثلًا أن نشر الدكتور محمد أحمد خلف الله مقالًا فى روزاليوسف يؤكد فيه أن القرآن لا يمنع زواج المسلمة من الكتابى أو من المسيحى، وهى دعوة جريئة، ولكن الدكتور خلف الله أستاذ فى الدين ودراسته وعلمه يخولان له أن يحمل مسئولية مثل هذه الدعوة.
وهكذا كنت أعطى الفرصة لكثير من الكتاب ليبحثوا فى أمر الدين معتقدًا أن فتح هذا الباب سيؤدى حتمًا إلى رفع مستوى الإيمان الدينى، وقد وقع كثير من الأخطاء نتيجة فتح الباب لمقالات مصطفى محمود مثلًا، ولكن لا شك أننا خرجنا إلى جانب هذه الأخطاء بمقالات جيدة كان لها أثر كبير فى التفكير الدينى، وكان آخر ما حاولته هو أننى حاولت تصفية الأحاديث التى لا يمكن أن تنسب إلى نبينا كحديث» خير اللحم ما جاور العظم» أو «الذبابة على أحد جناحيها داء وعلى الآخر دواء»، وهى للأسف أحاديث معترف بها وتنشر فى المجلة التى تصدر عن وزارة الأوقاف، فدعوت أحد علماء الأزهر وكتب مقالًا عن الأحاديث حذفته الرقابة.
وهذا هو الهدف والدافع اللذان يدفعاننى إلى التعرض للمواضيع الدينية لا لأننى ملحد، بل لأننى مؤمن، ولأننى أعتز بإيمانى من أن يكون إيمانًا لا يقره عقل.
وبعد يا سيدى الرئيس..
إن كل ما قصدته بخطابى هذا هو أن أظل محتفظًا بثقتك فىّ، وأنا محتاج إليك كسند وأخ، وقد عشت حياتى كلها أشعر بالوحدة بين الناس وأكافح وحدى ضد دسائس الناس وظلمهم لى، دون أن آخذ من كفاحى شيئًا إلا استمرارى فى الكفاح.
المخلص
إحسان عبد القدوس
==============
2-
سيادة الرئيس جمال عبدالناصر..
عزيزي السيد الرئيس
تحية إيمان وإخلاص.. أتقدم إليكم ملتمساً أن تصدروا أمركم بالنظر في موضوع اعتقال جمال كامل رئيس قسم الرسم والإخراج بدار روز اليوسف.
وقد عمل جمال كامل في دار روز اليوسف مدة عشر سنوات، استطعت خلالها أن أراقب اتجاهاته السياسية وتفكيره السياسي ونشاطه داخل مجال العمل، وخارج مجال العمل، وتأكدت من صدقه ووطنيته وتحرره من الشيوعية أو من غيرها من المذاهب الدخيلة علينا.. ثم كانت الثورة، فكان دائماً، وفي جميع أطوارها، من أشد المتحمسين والمؤمنين بها، وبدعوتكم وخطواتكم السديدة.
وعبر عن هذا الإيمان بريشته سواء على صفحات مجلات الدار، أو في مجالات العمل الأخرى التابعة للحكومة، وكان آخر ما قام به بجانب عمله في الدار، اشتراكه في إخراج نشرات أصدرتها هيئة المخابرات، بمناسبة الهجرة اليهودية من دول الكتلة الشرقية.. ومعرفتي الدقيقة بتفكير جمال كامل السياسي وإيمانه الوطني، هي التي شجعتني على أن أتقدم لسيادتكم بهذا الالتماس بل إنني على استعداد بأن أضمن تصرفاته مستقبلاً، وواثق بها.
ولا أنكر أن العمل في دار روز اليوسف في حاجة إليه، وأنني أعتمد عليه إلى حد كبير في إدارة الناحية الفنية الخاصة بمجلتي روز اليوسف.. وصباح الخير..
ومع رجائي في أن أكون على صواب في حكمي وتقديري لجمال كامل فإنني أكرر التماسي بأن تشمله بقلبك الكبير وحكمك دائماً هو الأصوب.
وتفضل يا سيادة الرئيس بقبول كل آيات إخلاصي وحبي».
عزيزى السيد الرئيس...
تحية حب وشوق
أبلغنى صديقى الأستاذ هيكل رأى سيادتكم فى مجموعة القصص التى نشرتها أخيرًا بعنوان «البنات والصيف»، وقد سبق أن أبلغنى نفس الرأى السيد حسن صبرى مدير الرقابة واتفقت معه على تعديل الاتجاه الذى تسير فيه قصصى.
ورغم ذلك فإننى أريد أن أشرح لسيادتكم الدافع والهدف اللذين يدفعاننى إلى كتابة قصصى لا دفاعًا عن نفسى بل فقط لأكون قد أبلغتكم رأيى. أنا لا أكتب هذه القصص بدافع الربح المادى، فإننى ما زلت أقل كتاب القصة ربحًا، ولا أكتبها بدافع الرغبة فى رفع توزيع المجلة، فقد كنت أكتب هذه القصص فى الوقت الذى لم تكن المجلة فى حاجة إلى رفع توزيعها، وقبل الثورة وعندما كنت أكتب فى قضية الأسلحة الفاسدة وأثير حملاتى على النظام القائم، وكان عدد روزاليوسف يباع بعشرين قرشًا(١٠ أضعاف السعر).. فى نفس الوقت كنت أكتب قصة «النظارة السوداء» وأنشرها مسلسلة، وهى قصة تصور مجتمع المتمصرين تصويرًا صريحًا جريئًا.
وإذا كان رفع توزيع المجلة يعتمد على نشر القصص المسلسلة فإن القصص الاجتماعية الصريحة ليست وحدها التى ترفع التوزيع، وقد سبق أن نشرت فى روزاليوسف قصة «فى بيتنا رجل»، وهى قصة وطنية خالصة ليست فيها مشكلة حب ولا مشكلة جنس، ورغم ذلك فقد رفعت هذه القصة من توزيع المجلة أكثر مما رفعته «قصة لا أنام» مثلًا التى تدور حول مشكلة عاطفية، وذلك كما هو ثابت فى كشوف توزيع المجلة.
فأنا لا أتعمد اختيار نوع معين من القصص أو اتجاه معين، ولكن تفكيرى فى القصة يبدأ دائما بالتفكير فى عيوب المجتمع، وفى العقد النفسية التى يعانيها الناس، وعندما أنتهى من دراسة زوايا المجتمع أسجل دراستى فى قصة، وكل القصص التى كتبتها كانت دراسة صادقة وجريئة لعيوب مجتمعنا، وهى عيوب قد يجهلها البعض، ولكن الكثيرين يعرفونها، وهى عيوب تحتاج لجرأة الكاتب حتى يتحمل مسئولية مواجهة الناس بها، ومنذ سنين عديدة وجدت فى نفسى الجرأة لتحمل هذه المسئولية.
والهدف من إبراز هذه العيوب هو أن يحس الناس بأن أخطاءهم ليست أخطاء فردية بل هى أخطاء مجتمع كامل، أخطاء لها سببها وظروفها فى داخل المجتمع ونشر هذه العيوب سيجعلهم يسخطون، وسيؤدى بهم هذا السخط إلى الاقتناع بضرورة التعاون فى وضع تقاليد جديدة لمجتمعنا تتسع للتطور الكبير الذى نجتازه وتحمى أبناءنا وبناتنا من الأخطاء التى يتعرضون لها نتيجة هذا التطور، وهذا هو الهدف الذى حققته قصصى، فقد بدأ الناس يسخطون، ولكنهم بدلًا من أن يسخطوا على المجتمع سخطوا على أنفسهم، وبدلا من أن يسخطوا على المجتمع سخطوا على الكاتب، أى سخطوا علىّ أنا، ولكننى كنت مؤمنًا مع استمرارى وتصميمى بأنه سينقلب السخط علىّ إلى سخط على عيوب المجتمع، ومن ثم يبدأ الناس فى التعاون على إصلاح ما بأنفسهم.
وإن ما أراه يا سيدى الرئيس فى مجتمعنا لشىء مخيف، إن الانحلال والأخطاء والحيرة والضحايا، كل ذلك لم يعد مقصورًا على طبقة واحدة من طبقات المجتمع بل امتد إلى كل الطبقات، وحتى الطبقة الثورية بدأ الجيل الجديد منها ينجذب إلى مجتمع الخطايا، وأصبحت البيوت المستقرة التى تقوم على الخلق القوى والتقاليد القويمة بيوتًا لا تمثل مجتمعنا بل تمثل حالات فردية متناثرة هنا وهناك.
وقد أبلغنى صديقى هيكل أن سيادتكم قد فوجئت عندما قرأت إحدى قصص «البنات والصيف» بما يمكن أن يحدث داخل الكبائن على شواطئ الإسكندرية، والذى سجلته فى قصصى يا سيدى الرئيس يحدث فعلا، ويحدث أكثر منه، وبوليس الآداب لن يستطيع أن يمنع وقوعه والقانون لن يحول دون وقوعه، إنها ليست حالات فردية كما قلت، إنه مجتمع منحل، ولن يصلح هذا المجتمع إلا دعوة، إلا انبثاق فكرة تنبثق من سخط الناس كما انبثقت ثورة ٢٣ يوليو، لهذا أكتب قصصى.
وفى جميع فترات التاريخ كان هذا دور كتاب القصة، وقد كان الكاتب الفرنسى بلزاك يكتب قصصًا أشد صراحة من قصصى، قصص تدور فى مخادع بنات الداخلية فى المدارس، وفى أقبية الرهبان والراهبات فى الأديرة وفى القصور والأكواخ، وثار الناس على بلزاك فى عصره، ولكنه يعتبر اليوم مصلحًا اجتماعيًا وقصصه تترجم بالكامل فى الاتحاد السوفيتى حيث يعتبر هناك أحد المعاول التى هدمت الطبقات الاجتماعية المنحلة، وغيره كثيرون من كتاب القصة مهدوا بقصصهم للإصلاح الاجتماعى، وبين كتاب العصر الحديث أيضًا تقوم قوة الكاتب على قدرته على إبراز عيوب المجتمع دون أن يطالب بوضع العلاج لها، إن مهمته تقتصر على التشخيص أى إبراز المرض ونتائجه... البرتومورافيا فى إيطاليا وجان بول سارتر فى فرنسا وهمنجواى وفولكنر فى أمريكا، وغيرهم عشرات كلهم يكتبون قصصًا أكثر صراحة وبشاعة من قصصى، ورغم هذا فهم يرشحون لجائزة نوبل.
وحاول كثيرون من الكُتّاب فى مصر أن يحملوا هذه المسئولية... عبد القادر المازنى فى قصته «ثلاثة رجال وامرأة»، وتوفيق الحكيم فى قصته «الرباط المقدس»، ولكن ثورة الناس عليهم جعلتهم يتراجعون، وظهرت طبقة من كتاب القصص فتعرضوا لتصوير عيوب المجتمع وأخطائه وعقده الجنسية ولكنهم صوروها بعيدًا عن الجو الواقعى فلم يتأثر الناس بها، أو صوروها داخل الطبقة التى لا تقرأ، الطبقة الفقيرة فلم تحس بها الطبقة القارئة لأن كل طبقة تعتبر الطبقة الأخرى عالمًا وحده، عالمًا بعيدًا لا يهمها ما يجرى فيه.
وكل ما فعلته أنا بعد ذلك هو أننى تحملت المسئولية بما فيها مسئولية سخط الناس علىّ واعتقدت سواء خطأ أو صوابًا أن قصصى تؤدى دورًا فى التمهيد لإصلاح المجتمع بتجسيم عيوبه.
ولعل سيادتكم تذكر أننى حادثتكم كثيرًا عن الدور الكبير الذى يمكن أن يؤديه الأدب القصصى، وأسهمت تحت رعايتكم بمجهود كبير فى تنشيط الحياة الأدبية فى مصر، سواء بتجميع الأدباء والكُتّاب فى الهيئات الأدبية المختلفة أو برفع مستوى كاتب القصة المادى والأدبى، ولم يكن لى أى كسب شخصى من وراء هذه الجهود ولم أحقق كسبًا أدبيًا أو كسبًا ماديا، بل إن دار روزاليوسف خسرت ثلاثة آلاف جنيه فى مشروع الكتاب الذهبى نتيجة نشر قصص الناشئين، لم يكن لى أى غرض إلا الجرى وراء إيمانى.
يبقى بعد ذلك ما حدثنى به الزميل هيكل عن دعوة الإلحاد فى صحف دار روزاليوسف والمقالات التى ينشرها مصطفى محمود الخاصة ببحث فلسفة الدين، ولكننى أحب أن أرفع لسيادتكم رأيى فى هذا الموضوع حتى أكون قد صارحتكم بكل شىء.
إننى مؤمن بالله ياسيدى، لست ملحدًا، ولعلك لا تعرف أننى أصلى، ولا أصلى تظاهرًا ولا نفاقًا، فجميع مظاهر حياتى لا تدل على أننى أصلى، ولكننى أصلى لأننى أشعر بارتياح نفسى عندما أصلى. ورغم ذلك فإننى أعتقد أن ديننا قد طغت عليه كثير من الخزعبلات والأتربة والتفسيرات السخيفة التى يقصد بها بعض رجال الدين إبقاء الناس فى ظلام عقلى حتى يسهل عليهم استغلال الناس والسيطرة عليهم، فى حين أنه لو تطهر الدين من هذه الخزعبلات ونفضنا عنه هذه الأتربة لصلح ديننا وصحت عقولنا ونفوسنا وسهل على قيادتكم أن تسير بالشعب فى الطريق الذى رسمته له.
ومن أجل هذا بدأت منذ زمن طويل أنشر فى روزاليوسف مقالات تبحث فى الدين، ولم أكن أنا أشترك بقلمى فى هذه المقالات لأننى لست رجل دين، ولكننى دعوت إليها فريقا من رجال الدين المتحررين، ومن الكُتّاب الذين أعتقد أنهم درسوا وقرءوا إلى الحد الذى يتيح لهم الكتابة فى الدين، وقد سبق مثلًا أن نشر الدكتور محمد أحمد خلف الله مقالًا فى روزاليوسف يؤكد فيه أن القرآن لا يمنع زواج المسلمة من الكتابى أو من المسيحى، وهى دعوة جريئة، ولكن الدكتور خلف الله أستاذ فى الدين ودراسته وعلمه يخولان له أن يحمل مسئولية مثل هذه الدعوة.
وهكذا كنت أعطى الفرصة لكثير من الكتاب ليبحثوا فى أمر الدين معتقدًا أن فتح هذا الباب سيؤدى حتمًا إلى رفع مستوى الإيمان الدينى، وقد وقع كثير من الأخطاء نتيجة فتح الباب لمقالات مصطفى محمود مثلًا، ولكن لا شك أننا خرجنا إلى جانب هذه الأخطاء بمقالات جيدة كان لها أثر كبير فى التفكير الدينى، وكان آخر ما حاولته هو أننى حاولت تصفية الأحاديث التى لا يمكن أن تنسب إلى نبينا كحديث» خير اللحم ما جاور العظم» أو «الذبابة على أحد جناحيها داء وعلى الآخر دواء»، وهى للأسف أحاديث معترف بها وتنشر فى المجلة التى تصدر عن وزارة الأوقاف، فدعوت أحد علماء الأزهر وكتب مقالًا عن الأحاديث حذفته الرقابة.
وهذا هو الهدف والدافع اللذان يدفعاننى إلى التعرض للمواضيع الدينية لا لأننى ملحد، بل لأننى مؤمن، ولأننى أعتز بإيمانى من أن يكون إيمانًا لا يقره عقل.
وبعد يا سيدى الرئيس..
إن كل ما قصدته بخطابى هذا هو أن أظل محتفظًا بثقتك فىّ، وأنا محتاج إليك كسند وأخ، وقد عشت حياتى كلها أشعر بالوحدة بين الناس وأكافح وحدى ضد دسائس الناس وظلمهم لى، دون أن آخذ من كفاحى شيئًا إلا استمرارى فى الكفاح.
المخلص
إحسان عبد القدوس
==============
2-
سيادة الرئيس جمال عبدالناصر..
عزيزي السيد الرئيس
تحية إيمان وإخلاص.. أتقدم إليكم ملتمساً أن تصدروا أمركم بالنظر في موضوع اعتقال جمال كامل رئيس قسم الرسم والإخراج بدار روز اليوسف.
وقد عمل جمال كامل في دار روز اليوسف مدة عشر سنوات، استطعت خلالها أن أراقب اتجاهاته السياسية وتفكيره السياسي ونشاطه داخل مجال العمل، وخارج مجال العمل، وتأكدت من صدقه ووطنيته وتحرره من الشيوعية أو من غيرها من المذاهب الدخيلة علينا.. ثم كانت الثورة، فكان دائماً، وفي جميع أطوارها، من أشد المتحمسين والمؤمنين بها، وبدعوتكم وخطواتكم السديدة.
وعبر عن هذا الإيمان بريشته سواء على صفحات مجلات الدار، أو في مجالات العمل الأخرى التابعة للحكومة، وكان آخر ما قام به بجانب عمله في الدار، اشتراكه في إخراج نشرات أصدرتها هيئة المخابرات، بمناسبة الهجرة اليهودية من دول الكتلة الشرقية.. ومعرفتي الدقيقة بتفكير جمال كامل السياسي وإيمانه الوطني، هي التي شجعتني على أن أتقدم لسيادتكم بهذا الالتماس بل إنني على استعداد بأن أضمن تصرفاته مستقبلاً، وواثق بها.
ولا أنكر أن العمل في دار روز اليوسف في حاجة إليه، وأنني أعتمد عليه إلى حد كبير في إدارة الناحية الفنية الخاصة بمجلتي روز اليوسف.. وصباح الخير..
ومع رجائي في أن أكون على صواب في حكمي وتقديري لجمال كامل فإنني أكرر التماسي بأن تشمله بقلبك الكبير وحكمك دائماً هو الأصوب.
وتفضل يا سيادة الرئيس بقبول كل آيات إخلاصي وحبي».