أدب المناجم محمد عمار شعابنية - " أشباح على مشارف وادي بو شعيب ".. رواية منجَمية لم تدرك نهايتها

تتوفّر المكتبة المغاربية على روايات منشغلة بالشؤون المنجمية لكتّاب من أقطارها إنْ لم تكن تعدّ بالعشرات فقد تجاوزت عناوينها العشرين أغلبها باللغة العربية وقليل منها باللغة الفرنسية .
والملاحظ هو أن من كتبوا هذه الروايات ينتسب معظمهم إلى الربوع المنجمية التي استلهموا منها مواضيعهم لتكون ملتصقة في الواقع التصاقا متينا وقادرا على فصح الحركات والسكنات والحالات والجزئيات فحصا دقيقا يسمح لهم بأن يمعنوا في سرد الأحداث سردا لا يحتمل التعتيم واللف والدوران والاكتفاء برصد الظواهر التي لا تغوص في النفسيات ولا تنغمس في محيط أصحابها بعلاقاته وممارساته وسلوكياته في أربعة أوساط تفضي إلى بعضها البعض وهي:
1) البيت بنسيجه الأُسَري وأواصره العاطفية .
2) الحي بروابطه السكنية والأخلاقية .
3) الأماكن العمومية كالأسواق والمقاهي والساحات والشوارع والمستشفى بمظاهرها وأنشطتها وتفاعلاتها.
4) الفضاءات المهنية وفي مقدمتها الأنفاق بمخاطرها ومتاعبها وانطوائها على الحياة والموت في آن واحد.
وهذه الأماكن التي يفتحها المحيط المنجمي المستوحى منه النص لا تفضي إلى فضاءات خارجية في مدن أو قرى أو جهات أخرى في جميع الروايات التي قرأتها عن مشاغل المنجميين ، انطلاقا من " جرمينال Germinal" التي نشرها الروائي الفرنسي إميل زولا في بلاده سنة 1985، باستثناء أعداد قليلة منها مثل " الحوت البري " للسهلي عويشي التي تحرك شخوصها الأساسيون بين مدينة جرادة الفحمية بالمغرب وبلاد اسبانيا للبحث فيها عن الشغل ليذوقوا الأمرين في المكانين ، أو " الدقلة في عراجينها " و" وراء السراب قليلا " للروائييْن التونسييْن البشير خريف وإبراهيم درغوثي التين يُعتبر أبطالهما مجرد عابرين يأتون من أرض الجريد ليحطوا الرحال في منجم الفسفاط بالمتلوي لأوقات قصيرة يتعرفون فيها على أوضاع الكادحين ويتابعون بعض تحركاتهم الاحتجاجية ثم يغادرونها إلى أماكن أخرى دون أن يحملوا هموما مما لاحظوه.
وفي أقطار المغرب العربي تصاعد الاشتغال على كتابة الرواية المنجمية من طرف ساردين يجمع بينهم عنصر الانتماء البيولوجي إلى أنحاء يتجمع سكانها حول مناجم الفسفاط أو الفحم الحجري أو الحديد أو غير هذه المعادن ليتفردوا بكتاباتهم في هذا المجال على زملائهم الروائيين في المشرق العربي الذين لم يكترثوا بالكادحين الذين يخاطرون بأنفسهم ويبذلون من الجهود البدنية ما يبيد الأجسام لاستخراج ثروات بواطن الأرض ، كما أننا نفتقر إلى كتابات عن أوضاع العاملين في حقول البترول الذين لا يمكن أن لا يكون لهم نسيج مهني مثير.ذلك أن إشارات عبد الرحمان منيف بما كتبه في خماسيته " مدن الملح " ـ التي نشرها خارج بلاده طباعة وترويجا انطلاقا من خبرته العلمية في مجال النفط ـ لا تكفي لتأسيس أدب في هذا المنحي إذ لا يعقل أن لا يوحي المجتمع البترولي بما يسجل روايات تحفظ ذكره أحداثه ومناخاته وظروف حياة عمّاله ..
فهل أنّ تصريح الروائي الإماراتي علي أبو الريش القائل بـ " أعتقد أننا ما زلنا بعدين عن موضوع النفط كمادة روائية " بإمكانه أن يُقنع الذين يؤمنون بأن الأدب مرآة المجتمع بجميع توجهاته وأشكاله وأساليبه ومحتوياته؟
لا أعتقد ذلك .
المهم ـ إذن ـ هو أن جميع الروايات والكتابات القصصية والقصائد والمسرحيات التي استمدت مضامينها من الحياة المنجمية في ألأقطار المغاربية قد صدرت في بلدانها وتوزعت فيها وهي تعدّ بالعشرات وبإمكان عناوينها أن تُحفظ في ذاكرة مكتبة صغيرة مؤهلة لأن تتوسع؟
أعود إلى منطلق موضوعي لأشير إلى أن رواية " أشباح على مشارف وادي بو شعيب " لمحمد الصغير قاسمي قد رصدت حركات وسكنات وانفعالات شخوصها في الأوساط المكانية التي ذكرتها والتي لاحظت ـ كما سيلاحظ القراء ـ أن تحرّك مصطفي فيها أوسع من تحركات الذين لعبوا أدوارا متفاوتة الطول في النص إذ لم يظهر العديد منهم في أكثر من حيّز مكاني واحد من بين ما يزيد عن ثلاثين حيّز آخر ..
فهل يعزى ذلك إلى أن العامل المنجمي مصطفى كان يحمل همّا أضخم من هموم بقية زملائه في منجم الفسفاط بالمتلوي ، أم أن الكاتب محمد صغير قاسمي قد اختار لنا عيّنة من بينهم رأى أنها أقرب إليه إذ ربما أن البطل الضحية في مؤلـَّفه يقاسمه دم القرابة لأن الأحياء و الفئات البشرية في المدينة ينتسب معظم أبنائها إلى نفس العمل ؟
قرأت الرواية مرتين فتأكدت ـ للإجابة عن سؤالي أعلاه ـ إن مصطفى لا يمكن أن يكون إلا رجلا منجميا ذا قرابة مهنية وعاطفية من الجميع لأنه لم يشاكس أحدا ولم يغضب أحدا ولم يتعامل مع شرائح مجتمعه بغير هدوء وحكمة ولم يشـْكُ آلامه ومواجعه لإنسان آخر رغم احتدادها في الكثير من الأحيان لذلك اصطفاه الكاتب وأوكل إليه مَهمة ربط خيوط روايته المذكورة منتظرا منه أن يفعل هو فعله وأن يقول ما يريد قوله .
وهذه الأفعال والأقوال التي تبناها مصطفى حدثت له ولآخرين من بني طينته المهنية منذ انطلاق العمل في ألأنفاق الفسفاطية في أواخر القرن العشرين إلى أواخر ستينيات القرن الماضي أي بُعَيْد استقلال البلاد بسنوات ـ و قبل التحوّل من استخراج المادة من بواطن الأرض التي تشقها الدواميس المعرضة للانهيارات على أجسام العمال لدهسهم حتى الموت أو لكسر عظامهم والتسبب لبعضهم في عجز بدني مضني ـ إلى الاستغلال السطحي بواسطة الجارفات منذ بدايات السبعينيات المنصرمة .
فالرواية إذن لها زمان ظاهري يحاول أولا أن لا ينفلت منه غلق آخر نفق فسفاطي قبل أن يستعرض ما جدّ داخله وما انعكس من مجريات ظروفه خارجه على البيئة المحيطة به ، ويسعى ثانيا أن يذكّر بحوادث الأزمنة السابقة له ليؤكد كاتبها أن وتيرة الحياة المنجمية لا تتغيّر رغم تواتر الأوقات وتنوّع أساليب العيش حولها إذ ما أن تزول معضلة حتى تنتأ معضلة أخرى لا تقل عنها ضراوة وإيلاما لتكون انعكاساتها في جميع الأماكن التي يرتادها العامل المنجمي أو يقيم فيها .
فمصطفى هو الشخصية الرئيسية في الرواية ولكنه لا يرو أحداثها إنما ينظم تسلسلات وقائعها ويمنعها من التشتت حتى عندما تتداخل أو تتباعد أحيانا لأن له أربعة أدوار متكاملة ولا يمكن لأحدها أن ينفصل عن الآخر إلا بما تفرضه خصوصية الموقع الذي هو فيه..
فهو في البيت ابن لأمّه التي تعيش معه.. وهي "التي ترملت في عزّ شبابها بعدما ابتلع هذا الغول أبي ذات عشية رمضانية منذ ما يزيد عن ثلاثين عاما ..." وقد رفضت أن تتزوّج بعد وفاة بعلها مفضلة الانشغال بتربية ولدها إلى أن كبر وأصبح زوج المرأة التي قال عنها " كم حملت معي هذه الطيبة قفة الحياة وكم ذاقت معي الأمرين.. ذاقتهما طيلة سنوات العري والجوع والفاقة ولا يزال حالها كذلك إلى اليوم.." وهو أب البنتين والولد الذي توفاه الأجل المحتوم غريقا في الحوض الكبير الذي يزوّد مغسلة الفسفاط بالماء الصالح لاستخداماتها، لأن البلدة المنجمية لا يتوفر فيها مسبح يغطس فيه الأطفال والشبان صيفا عندما ترتفع حرارة الطقس إلى درجات لا يطاق تحملها ..فالآم تختزن مجريات الماضي بعد موت زوجها الذي سبق انتساب ابنه إلى العمل المنجمي وهي الرامزة إلى الذاكرة التي لا يجوز تناسيها كي لا تتوقف دورة الحياة.. والزوجة تعني الحاضر الذي إن تعطل سيره تعطلت أشياء كثيرة في مسار ذويه ، وقد تعطلت فعلا أغلب أشياء مصطفى بعد اختفائها عن حياته إثر ولادة ابنتها أم السعد .. أما الأبناء فهم سنابل المستقبل و أمل التواصل وحلم الانتصار على الموت وانسداد الأفق وإذ ينقص فرد منهم يتعطل الحلم، وقد نقص الولد " العائش" واعتبرت أم السعد أمَّ نحس لأن ولادتها أوقفت حياة أمها وكسرت أحد جناحيْ الزوج.. أما مبروكة وهي البنت الأولى فقد تطوّعت رغم صغر سنها لتأمين متطلبات والدها وإخوتها وجدتها في المنزل من طبخ وكنس وغسل حرصا منها على أن لا تنكسر أغصان شجرة الأسرة "وما بين يوم وليلة تغيّرت تماما، ورثت عن أمها مشعل المسؤولية وكل مشاعل البيت ، فكبرت قبل أوانها وتقمصت دورا أكبر وأثقل مما هو مناسب لعمرها بكثير ص 62".. ومثلها يضطر الطفل الأزهر الذي لم يتجاوز العمر سنوات من العمر بعد تيتّمه إلى بيع السجائر والوقيد والنفة السوفي للعمال الذين يمتطون القطار المؤدي إلى أنفاق العمل عندما يكون راسيا ويغادره بسرعة عندما يتهيأ للانطلاق فوق السكة ، إلا أن الجرة لا تسلم كل مرة والطفل الذي يناديه المنجميون بكنية " البوتشة " ـ وهي تعني الصغير باللغة الإيطالية التي يتخاطب بها الإيطاليون الوافدون للعمل في قطاع الفسفاط ـ لم يسلم من عجلات القطار التي دارت فوق إحدى رجليْه فوقع نقله على إثرها إلى المستشفى ليتم بتر ساقه المتضررة حسب ما أعلنت عنه الممرضة بين الأصوات المتداخلة .." وضاع آخر كلامها بين التعليقات وولولة امرأة مقعدة كانت تلطم خدّيها حزنا وكمدا على يتيم كان لها السند المعين الوحيد ص 92" .. .. بهاتين الفقرتين ضرب الكاتب بسهم حاد النصل عندما تفرّد في روايته عن بقية الروايات المتناولة للغرض ليفيد قراءه علما بأن الإنسان المنجمي يتدرب منذ الطفولة على الصبر والمعاناة ليكبرا معه توأمين لرحلة وجوده .
ومن البيت إلى الحي لا تنبؤنا الحركة بأنّ للجدة مباركة أو للبنتين مبروكة أو للابن أي ظهور بارز فيه لأنّ أضواء الرواية مسلطة على الشخصية الأولى فيها وهو مصطفى في علاقاته بجيرانه، وهي علاقة محدودة التواصل مع غير زميله وجاره الهمامي الذي يجالسه لاستعراض متاعب العمل وشجون الحياة، ربما لقناعته بأن للمحيطين به وهم عمال منجم مثله مشاغلهم الكثيرة وهمومهم الثقيلة التي لا تسمح لهم بالجلوس إلى بعضهم البعض إلا في مناسبات نادرة ، وخلافا لذلك فإن لنساء الحي ما يحرك سواكنهن لتجمعات الثرثرة التي تحسن عارم تأثيث لقاءاتها بأحاديثها المنسابة أو بجولات الشجار بين بعضهن كالتي حدثت بين امرأتين توصلت إحداهن إلى إسقاط غريمتها أرضها وتعريتها في الشارع ، وعندما سعا مصطفى إلى فض النزاع لحقه أذى المرأة المتطاولة التي أسقطت سرواله من على فخذيه .
وما عدى ذلك فإن للحي حركية أخرى تبرز من خلال ألعاب وهرج ومرج الأطفال الذين لا يجدون فضاءات غيره تحتضنهم لممارسة أنشطة تصقل مواهبهم وتبرز وهواياتهم .
فالحي ـ إذن ـ مشهد مألوف لأنّ عمال المنجم لم يتوصلوا إلى أن ينجزوا فيه غير مساكنهم المتواضعة التي بنوها بأيديهم وهي " مآو طينية بسيطة لا تعلو حيطانها على سطح الأرض إلا بالقدر الذي يسمح لساكنيها بالتحرك داخلها من دون أن ترتطم بأسقفها رؤوسهم ..ص21".. وخارج مسكنه تحرّك ساكن من سواكن مصطفى عندما وقعت عيناه على فطيمة بالقرب من الحنفية وهي ملتحفة بالسواد فانغرس برويتها مسمار في قلبه لتنجذب إليها عواطفه وهو الأرمل وقد وضعتها الصدفة أمامه بعد عشرين عاما من زواجها وقد " عُرف عن زوجها أنه كان سكّيرا حاد الطباع لا يقيم للعلاقات بالا ولا لحسن المعاشرة وزْنًا ، عاشرها كزوج لأكثر من ثلاث سنوات بقليل، تخللت ذلك فترات غياب متراوحة قضى بعضها في السجون وأخرى في التشرد ، وبعدما أنجبت منه بنتا عُثر على جثته ذات صباح ملقاة في واد بو شعيب ص112 "...فهي حسب وصفه لها " لها ملامح الجازية الهلالية وجمال خلقها وهيبة مشيتها ص 113". وهو وصف أملته عليه أحلام اليقظة التي يعرّفها فرويد رائد المدرسة التحليلية في علم النفس بأنّها تعبير الفرد عن أهدافه ورغباته المكبوتة، فهي الحالة الذي يُدخِل فيها نفسه لإشباع تلك الرغبات وتحقيق تلك الأهداف التي قُمِعَت وكُبِتَت في الحاضر أو في الماضي . والمعلوم أن مصطفى قد كُبتت رغباته العاطفية والجنسية بعد وفاة زوجته إلاّ أنه عُرف بحسن سلوكه وقد تواصى بالصبر حفاظا على سمعة أسرته المكونة، بعد فقدان عنصرين منها ، من أمه وبنتيْه وخصوصا منهما مبروكة التي سعت قدر الإمكان أن تؤمن له احتياجاته المتصلة بشؤون المنزل ، لذلك حرص قدر جهده أن يكافئها بما يسعدها ويريحها فتخلى عن تزويجها من ابن عمّه الأبله المسمى البرني متحدّيا العرف والتقليد ، وقد برّر ذلك بقوله لوريدة ابنة خالته وأخت المرحومة زوجته بقوله "كيف أقبل بأن أرمي بابنتي، فلذة كبدي في أحضان تلك العائلة السافلة ص171" وبناء على ما ذكرته تم تزويج البنت من عمار ابن وريدة ليطمئن عنها ويتهيأ بدوره لطلب يديْ فطيمة لتصبح شريكة حياته .
ومن الحي إلى فضاءات البلدة تتعدد الأحداث والتحركات والعلاقات رتيبة وتبرز بعض المشاهد كاشفة عن تفاوتات وتناقضات صارخة ..فالحي الأوروبي الذي ورثه مسيّرو المؤسسة المنجمية العرب ، بعد مغادرته من طرف الأجانب ، إثر استقلال البلاد ـ إلاّ قليل منهم ممّن لهم خبرات في اختصاصات مهنية غير متوفرة لدى التونسيين زملائهم المغاربيين في ذلك الوقت ـ واصل انغلاقه وممارسة طقوسه الإقطاعية دون وعي من ساكنيه بأنه كان يُنتظر منهم أن يذللوا الفوارق بين المسيرين والعملة و بأن البلاد ، في وضعها الجديد، تحتاج إلى تقارب وتآزر وتلاحم بين فئات شعبها باختلاف مستوياتهم ومهامهم لبناء صرحها المنشود ..وقد يثير ذلك الوضع نقمة مصطفى الذي يشعر بأن حياة العامل المنجمي في تردي أوضاعها لا تلفت انتباه أولائك الذين ينعمون تحت أسطح القرميد ، رغم أنهم من أبناء الوطن الواحد، لأنهم أمعنوا في تقليد ما ورثوه عن نظرائهم الاستعماريين بجميع تفاصيله المترفة " أليس وضع كلاب أولائك الذين ينامون تحت أسطح القرميد الأحمر الذي تحيط به الخضرة من كل جانب، في تلك الأحياء العصرية النظيفة ، أفضل من وضعنا التعيس هذا ؟ص 17".
وفي نقيض له تبرز أحباء المستخدمين بسيطة ومهددة بالسقوط "في تلك الأحياء غير المتجانسة تضيق الأزقة ،وتتلاصق المنازل التي لم يطو الدهر من عمرها غير عشرات السنين(...) تراها بالرغم من ذلك تشققت منها الجدر، وتراخت الأسّ واهتزت الدعامات وفترت المقاومة بسبب بساطة مواد بنائها 21" .. وفي تلك الأحياء وبالقرب منها تكثر حركات الناس البسطاء التي لا تختلط بها حركات المترفين .
ـ بيع وشراء بضائع بسيطة لا يقدر العمال على شراء ما هو أعلى منها ثمنا وقيمة .
ـ تجمعات في المقاهي الشعبية لقضاء أوقات الفراغ القليلة .
ـ لقاءات في أماكن تتوزع حلقاتها بين لعب الدومينو والورق والخربقة للتسلية الموهومة ،وبين تبادل الأحاديث حول أوزار العمل وتداعياته .
ـ انزواء في بعض الحانات لتناسي مشاكل الكدح وهموم الحياة ..وقد أوقع بو شلغومة بمصطفى في أحبولتها في لحظات تأزم نفسي جارف ليفرغ ما في جيبه مقابل ما تم استهلاكه من مسكرات وما تابعها إلا أنه لم يقم بالتجربة مرّة أخرى خوفا من أن يضيع فتضيع أسرته التي يحبها ويشفق عليها أو يخرم جيبه من النقود القليلة التي لا تفي بتوفير ضروريات معيشة من هم في كفالته.
ـ تجمعات عمالية في بعض الساحات أو أمام مقر الإدارة المنجمية للتنديد بالظروف المهنية السيئة أو المطالبة بتحسين الأوضاع الاجتماعية للعمال .
ـ تواجدات مكثفة بمستشفى البلدة كلما نقلوا إليه للعلاج عمالا تعرضوا إلى حوادث شغل متفاوتة ، وقد يلتقي هناك من هم من زملائه ومن هم من أهله وأقربائه وجيرانه ومن لا تربطهم به أية صلة مهنية أو دموية أو سكنية ، وفي ذلك تأكيد على التعاطف والتلاحم بين المنتمين إلى البلدة المنجمية ـ في أوقات الشدة ـ رغم تباعد بعضهم عن بعض في أوقات أخرى .
ـ تحركات كثيرة للأطفال والمراهقين يمارسون فيها بعض الألعاب التي يقترب بعضها من العبث أو يلتقون عندما يطلب الكبار بعض الراحة وقت القيلولة للهو الصاخب أو لممارسة السباحة الخطرة في الحوض الكبير الذي تتجمع في المياه التي تحتاج إليها المغسلة لغسل الفسفاط .
أما المنجم فيقول عنه مصطفى " هذا المتغطرس الصلف يأكل منا ونأكل منه نقنع منه بالقليل ويأخذ منا الكثير ص14" .
فجدلية التعايش بين المنجم والعاملين داخل أنفاقه لاستخراج الفسفاط من بواطنه لا ترتبط بأي ميثاق صداقة أو عداوة .. فهم يدركون أنه يوَفر لهم ما يأخذونه منه ليقتاتوا مما يحصلون عليه من مردوده المالي وهو لا يتردد في سحق أجسامهم أو كسر وبتر بعض أعضائها كلما انهارت بعض طبقاته عليهم .. وقد يغادره القليل منهم ولكن الأغلبية لا تجد مهربا منه لأن ضرورة العيش تشدهم إليه رغم المخاطر المتكررة.
ويعتبر مصطفى مغامرا لأنه لم يفكر في الانقطاع عن العمل الشاق والقاتل ، ربما لأنه لم يتعرض إلى حادث شغل طيلة مسيرة كدحه ، وهو شي غريب إذ أن عمال المناجم لم يسلم منهم واحد في أيام أو أسابيع أو أشهر أو سنوات أو عقود عملهم من الابتلاء بضرر مهني مهما كان حجمه . .. ربما لأن الكاتب قد اختار هذا الاستثناء ليؤكد على أن هناك حالات يعيشها العمال أمرّ وأشرس من حوادث الشغل أحيانا وهي التي تتصل بأحوالهم الأسرية والسكنية والمادية والمعيشية التي تتشابك لتستحكم حلقاتها بما لا انفراج لها ،وقد تأكدنا من خلال الاستقراء التاريخي لظروف عمال المناجم بمختلف معادنها ( فسفاط ، حديد ، فحم حجري ، زنك ، رصاص وغيرها )وفي مختلف أصقاع الأرض منذ القرن الثامن عشر أنهم متشابهون في أوضاعهم ومتوفرات محيطاتهم ولا يختلفون في غير اللغات واللهجات التي يتخاطبون بها أو المناخات الجغرافية التي تؤثر على سلوكياتهم وتعاملاتهم مع الأمكنة .
ومن الملفت للانتباه في الرواية أنه باستثناء إعلان ذياب البرّاح ـ المبتور الساق ـ عن وفاة امرأة وفاة طبيعية ليتم تشييع جنازتها إلى إحدى مقابر البلدة، لم يعلن الكاتب عن غير وفاة امرأة وأربعة رجال في ظروف غير عادية :
ـ غادرت زوجته الحياة نتيجة ولادة عسيرة .
ـ أخمدت أنفاس أبيه جرّاء حادث ضغل عندما كان هو طفلا صغير السن .
ـ تم العثور على زوج فطيمة مقتولا ومرميا في وادي بو شعيب .
ـ توفي عامل منجمي إثر انهيار طبقة من الداموس فوقه .
ـ انتحر المهندس الشاب بعد ما " هوت أطنان من التراب و الحجارة على من كان في الأنفاق من عمال وآليات فسُحق من سحق وجرح من جرح...ص 158" لأنه لم يعتبر بتحذيرات ذوي التجارب والخبرات من العمال الذين أعلموه بأنّ أخطارا ستحدث داخل الدواميس و طلبوا منه دعوة الشغالين إلى عدم دخول أنفاق الجبل ، فلم يلتفت إلى تحذيراتهم.
وكأن محمد الصغير قاسمي يريد أن يقول إن أسباب الموت في الأوساط المنجمية تتعدد نتيجة غياب العناية الوقائية والصحية اللازمة وجرّاء الأخطار المتكررة في مواقع العمل ولشعور البعض بالندم على الإخفاق في امتحان ما أو تبعا لحالة تهوّر لا يحمد عقباه .. وكل هذه الحالات تحدث لأن دواعيها تتوفّر بكثرة في المكان الذي تتحرك فيه الأنفس بين الحياة والموت.
أشير قبل وضع نقطة الختام إلى أن محمد الصغير قاسمي قد كتب هذه الرواية وأخرى سابقة لها بعد تقاعده من العمل بسنوات أنجز وأصدر قبلها مجاميع شعرية باللغة الفرنسية إلا أنه قد استطاع أن يحتفي بلغة الحكي التي ارتقت إلى أسلوب واضح وجذاب مكتنز الجمل والعبارات البليغة في الكثير من فقراته وتعززت باستعمال المصطلحات التقنية التي نقلها من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية بما يقرّبها من فهم الناطقين بلغة الضاد لأنّ أصلها أجنبي ووافد علينا من لغة فولتير التي استعمر أصحابها أراضينا واكتشفوا أولى مناجمها فأجبر عمالها الأميون على التخاطب بها مشوّهة النطق فأصبحت كلمة Galerie ، وهي النفق ، تُلفظ " قنّارية " ( ق ثلاث نقط فوقها )وchantier "شانطي "وMineur " مينور " إلى غير ذلك من مئات الكلمات التي شكلت قاموسا مخصوصا يمكن تسميته قاموس اللغة المنجمية .ولئن اعتبرت هذه الرواية ذات منحى واقعي اشتراكي فإن حياد عنوانها عن ضوابط عناوين الأعمال السردية وحتى الشعرية المنتسبة إلى هذا المنحى جعل مؤلفها يختار " أشباح على مشارف وادي بو شعيب " الذي يعتبر جملة اسمية تتكوّن من مبتدأ ( أشباح ) خبرُه جملة تبدأ بجارّ ومجرور( على مشارف" وهي مضاف يتبعها ثلاث مضافين إليه :وادي بو( أي أبو) شعيب .. والعناوين الطويلة التي توضع للمؤلفات السردية أو الشعرية يعتبرها النقاد ثقيلة خاصة عندما تكون مفتقرة إلى فعل ـ وهذا لا يعني أنني أريد أن أتدخل بفعل لأقول " مثلا " أشباح تتحرك على مشارف وادي بو شعيب لأن ذلك يتسبب في ثقل جديد لا تقبله سيمائية العنْوَنة التي تنضبط بنظام علم العنونة Titrologie، ولكنني أصرح بأنني بعد قراءة العمل رأيت أن تكون لي سلطة القارئ عليه لأختار مثلا عنوانا له من طرفي وهو " أحوال مصطفي الفسفاطي " .. ذكرني هذا بعنوان المجموعة الشعرية للصديق السهلي عويشي ابن منجم الفحم الحجري بجرادة المغربية وهو " يوسف الفحمي "، غير أن محمد الصغير قاسمي صاحب النص ،الذي تتهيأ قصته مفتوحة على كلام جديد لم يقله ، سوف يدافع عن اختياره بإيمانه الراسخ بأن " أشباح على مشارف وادي بو شعيب " له دلالات كثيرة تغطّي عن طوله .. فوادي بو شعيب هو المفضي من شرق منطقة المتلوي بالجنوب الغربي التونسي إلى خارجها وكأنه حمّال أخبار عمّا يحدث داخلها .. والأشباح التي تتراءى على مشارفه هي ظلال الناس الأحياء الأموات الذين أرهقهم المنجم وتناساهم باروناته ليعيشوا كأنهم غير مرئيين من طرفهم .
وإذ أعبّر عن اقتناعي بأن الرواية ما زالت مفتوحة على جزء آخر قد يكمل أحداثها ، فإن شخصيتها الرئيسية مصطفى ـ الذي تكرر اسمه في الكتاب أكثر من مجموع الأسماء التي أثثت النص ـ يشاطرني الرأي .. بل أكثر من ذلك اشتكى لي من المعاملة المخجلة له من طرف الكاتب متهما إياه بتوريطه في أحبولة بو شلغومة الذي استدرجه لجلسة خمرية كما زجّ به لفض معركة بين امرأتين أسقطت أحداهما سرواله وختم روايته دون أن يخبر القراء بما إذا كنت قد تزوّجت متيّمتي فطيمة أم لا ليُبقي أمي العجوز منشغلة بوضعي في أواخر أيام حياتها .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(×) شاعر وكاتب مسرحي من تونس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...