مصطفى مراد - ابو محمد.. قصة قصيرة

تمرّ ذكراه في خاطري فيبتهج قلبي. أحيانا.. يحدث العكس. ولكنني اعتقدت دائما أنه هو البطل.
أتذكّره فأحسّ بالأسى والحزن على "أبو محمد"، الذي اختصر حكاية عذابنا وعذابه. الأرض أرض أبونا... كان يقول. كان يردّدها عشرين مرّة في النهار الواحد، ويقرنها أحيانا بجملة التصقت بلسانه يرددها أكثر منها "اللي بِدّو يصير.. يصير".
أتذكّره واقفا بسنواته الستين وقد وضع رجلا على حافّة الصندوق الحديديّ المنخفض، ووضع الثانية على الحافّة المقابلة. يخبط الرمل بالإسمنت والماء. يظلّ يخبط ويخلط، حتّى يتحوّل الخليط إلى بركة طينية من الجدائل السوداء الثقيلة. وعندها يرفع رأسه ويقول: شايف.. هذا العجين لو كان أبيض كنت خبزته.
كان أحيانا يرفع ظهره ويتوقّف عن العمل قليلا ليستردّ أنفاسه. يرتاح ويضيف: هذا العجين الأسود خبزنا.. لولاه ما أكلنا وأحيانا كـان يـقـول: خـبزنا كله أسود. حتى الخبز الأبيض اللّي بنوكله.
يوم قال لي المعلِّم "جبت لك عوزير" (مساعد) لم أصدّقه. اعتقدت أنه يمزح.
أعرفه من سنوات. اشتغلت عنده في كل العطل المدرسية. وأعرف أنه يعصر من يشتغل عنده أكثر بكثير من حبّة الليمون الصفراء. فكيف إذن يمكن أن يعملها ويأتي بشغِّيل آخر ليساعدني؟! هل أحسّ بتعبي؟ هل أشفق على ذراعيَّ وأصابعي التي تتشلّع حين أحمل دِلاء الطين وأكوام البلاط وأصعد بها من مدخل البناية حتى الطابق الثاني وأقدّمها إليه حيث يعمل؟
"إنت شابّ قبضاي" كان يقول مرة أو مرتين أو أكثر كل يوم. فيما كنت أسابقه حتى يتوفّر عنده دائما ما يحتاجه من رمل يفرشه على باطون المسطبة، وطين يفرشه على الرمل ليضع بعدها البلاطة في موضعها. وكنت عندها أبتسم أو أضحك.
كان بلاّطا ماهرا. صاحب صنعة، كما يقولون، ولكنه لم يكن يملك قلعة. ومن هو مثله يحتاج الى مساعِد قويّ يستطيع أن يمدُّه بكل ما يحتاجه دون تأخير أو تقصير. وكان واضحا أنّ هذا المديح الذي يكيله لي، ليس مجانيا. وكيف يستطيع أن يجعلني أظلّ أسابقه فلا ينقطع عنه شيء مما يحتاجه دون هذا المديح؟! كما أنّ هذا المديح يمنعني من الاحتجاج إذا تأخّرنا في العمل واشتغلنا ساعة إضافية أو ساعتين أو ثلاث؟! أنا شاب "قبضاي"... فكيف أشكو من التعب؟! واليومية هي نفس اليومية طبعا!
كنا في الطريق إلى موقع العمل. ورغم أنه أكّد لي أنه لا يمزح إلاّ أنني لم أصدّق حديثه عن "العوزير". ابتسم. قال إنّه يجب أن يتم انجاز العمل في تلك البناية خلال أسبوعين. حين وصلنا لموقع العمل كان الصندوق الذي نعدّ فيه الطين مليئا بالرمل. لم يستغرب المعلم. نادى بصوت عالٍ: "أبو محمد"!
جاء أبو محمد من داخل البناية يهرول.
ـ صباح الخير.
ـ صباح الخير... وين الطين؟!
ـ كيف أحضِّر طين؟! بلكي ما جيتو؟! إسَّا.. دقيقة..
ـ هيك بتعطِّلنا؟!
ـ عطّلتك؟! بدِّي أعطّلك يا أخي.. وِاللِّي بدُّو يصير.. يصير..
وضحك المعلم.. وقال مجاملا:
ـ وِاللي بِدّو يصير.. يصير.. يا سيدي..
كان واضحا أنه يعرفه منذ مدّة طويلة. اعتقدت أنه في الخمسين من عمره، أو يزيد قليلا. عمره، وزِيُّه، القمباز والحطّة والعقال، ذكّراني بجدّي.
رفع الحطّة عن رأسه فبان ما تبقّى على جانبيّ وخلف رأسه من شعر رأسه الأبيض. زاد عمره عشر سنوات. علّق حطَّته على شجرة الليمون القريبة، عند مدخل الفيلاّ التي نعمل فيها. رفع أذيال قمبازه وربطها حول وسطه. حمل الطورية وقال "يا ألله". ووقف وسط صندوق الرمل، وبدأ يخبط ويخلط.
قال المعلم:
ـ إنتِ أُنقل البلاط.. بدنا نشتغل.
لم تدم فرحتي بالشغِّيل الذي أحضره المعلِّم لمساعدتي سوى دقائق. كنت أمنِّي نفسي أنّ العمل سيكون سهلا من الآن فصاعدا بعد أن نتقاسمه أنا و"أبو محمد". اعتقدت طيلة الوقت أنّ هذا العمل يحتاج الى عاملين. ولا يكفيه عامل واحد حتّى لو كان "قبضاي".
حين وصلت بالحِمل الأوّل من قِطَع البلاط الى داخل البناية، اكتشفت سبب إحضار عامل جديد. واكتشفت أيضا، لماذا كان "أبو محمد" ينتظر داخل البناية حين وصلنا الى هناك. كان المعلِّم قد أحضر أيضا معلِّما آخر مثله. وكان هو و"أبو محمد" ينتظران وصولنا لبدء العمل. فهمت عندها حديث معلِّمي عن ضرورة انجاز العمل في البناية خلال أسبوعين.
حدّثتُ نفسي: تماما كما عرفته. وحدّثتُ نفسي: وماذا سيضرُّني؟! معلمان وشغِّيلان. لم يتغيّر شيء.

* * * * * * *

أتذكّرك يا "أبو محمد".
قامة طويلة. نحيفة مثل رقبة زرافة. محنيّة قليلا عند أعلى الظهر. وساعدان تبرز العظام فيهما مثل سكاكين اللحام الطويلة، ولكنّ اللحم فيهما قليل!
أتذكّر الأوف الطويلة.. "أوف.. الأرض أرض أبونا". ضحكت حين سمعتها لأوّل مرة. كان قد مضى نصف النهار الأوّل.. نظر إليّ وسأل: مالَك بتضحك؟ بَضْحَكِشْ. لا ضحكت. مضحكتش.. إضحك يا سيدي.. واللّي بِدُّو يصير يصير.
نقلت عددا كبيرا من قِطَع البلاط التي تكفي المعلّمين الاثنين لنصف ساعة أو أكثر، وتوجّهت لنقل بعض دِلاء الرمل. أخذ "أبو محمد" يزوِّد المعلّمين بدِلاء الطين. كان يجب أن أنجز نقل الرمل بسرعة، للتفرّغ لإعداد صندوق آخر من الطين. توجّهت نحو كومة الرمل وعندها، تنبّهت لما يفعله "أبو محمد". كان يرفع يديه للأعلى، يمدُّهما وينزلهما. يكرر ذلك مرة أو مرتين، ثم يقبض أحد ساعديه ويمرِّر كفّ اليد الأخرى عليه من الرسغ حتى الكوع ويضغط. ثم يعود ويرفع ساعديه للأعلى.
ـ عمِّي "أبو محمد"!
رفع عينيه الغائرتين.
ـ نعم أيها البطل. قالها بعربية فصيحة، وابتسامه مازحة تلوح على وجهه.
ـ أُنقل إنتِ الرمل، وأنا أنقل الطين.

* * * * * * *

عندما بدأت بتحضير الطين من جديد ساعدني بنقل الرمل إلى الصندوق الحديديّ. وقفت على حافّتي الصندوق وأخذت أخلط المواد.
ـ أُضْرُب.. قال، أُضرُْبْ.. واللي بدُّو يصير.. يصير...
ابتسمت دون أن أرفع ظهري.
ـ هات أساعدك أيُّها البطل.
ـ خلِّيك واقف.. أنا شابّ..
ـ وأنا شابّ.
ولكنني لم أتنازل عن الطورية.
ولأنّ الطين المجبول أثقل من الرمل، اتفقنا: الرمل عليه والطين عليّ. أما البلاط فنتقاسم كلانا نقله.
ـ اتفقنا؟!
ـ اتفقنا. واللّي بدُّو يصير يصير.
كنت أنقل عشر بلاطات أو أكثر في المرّة الواحدة. نظر إليّ بعد أن حمل عشر بلاطات مثلي وقال: يا زلمه إحمِل ستِّه.. سبعه..
ـ يا "أبو محمد" إنتِ مِشْ شابّ..
ـ أنا شابّ..
ـ إنتِ مش شابّ. إحمِل ستِّه..
لم يكن ممكنا أن أحمل ستّ بلاطات. كنت أدرك أنّ حمل مثل هذا العدد من قطع البلاط يعني أن أحمل في نقلتين ما أقدر على حمله في نقلةٍ واحدة. وكان يدرك أنّ هذا معناه أن نتعب أكثر، بدل أن نستريح. المطلوب من الشغِّيل أن يزوِّد معلِّمه بما يحتاجه. فإذا استطاع سدّ كل حاجاته بسرعة، تظلّ لديه بعض الدقائق، بين فترة وأخرى، للاستراحة والتقاط الأنفاس.
عندما التقينا داخل البناية وفي يديّ دلوان من الطين، وفي يديه ستّ بلاطات قال المعلِّم:
ـ أبو محمد.. كيف حالك؟! والله زمان يا زَلَمِه!
ـ الحمد لله.. جبل على جبل.. وإحْنا مِش جبال..
نظر المعلِّم إليّ وقال:
ـ هذا شابّ "قبضاي"..
ـ هذا شابّ بطل..
ورفع المعلِّم الثاني عندها رأسه عن البلاطة التي كانت بين يديه، ونظر جيدا إلى الشاب "القبضاي" والبطل.
في اليوم التالي شاهدت مع "أبو محمد" منشارا صغيرا. رأيته يدسّه بين الأعشاب تحت الليمونة المهملة القريبة من صندوق الطين. أمضى أوّل النهار وهو ينظر إليها. ثم صار كلما توقف عن العمل ليرتاح، لا يرتاح بل، يقترب من الشجرة ويقطع أحد أغصانها الصغيرة المهملة وهو يغنّي: الدار دار أبونا.
ـ مِنْ وين دار أبوك يا زَلَمِه؟! إنتِ من حيفا؟! سألته.
ـ أنا فلاّح أيها البطل. كلّ شجرة في هَالأرض إلي.
وفي صباح الغد كانت شجرة الليمون قد تغيّرت. كانت أغصانها منتظمة ومشذّبة وصارت فتية ومهذّبة وكلّ ما تحتها وما حولها نظيف. شذّب "أبو محمد" أغصانها بأنامل فلاّح ماهر. كان ينام في موقع العمل في البناية الجديدة التي نعمل بها التي كانت بلا أبواب.
وقفت أمام الشجرة أنظر اليها بإعجاب. لاحظ ذلك واقترب وأخذ ينقل نظراته إليّ وإليها: كيف؟!
لم يقل "أيها البطل". كان هو البطل الآن، وكانت إمارات الزهو واضحة على وجهه.
ـ إنتِ مِش فلاّح، قلت، إنتِ جنايني.
انفرجت أساريره.
ـ بِتْخافِش من النوم لَحالَك هون؟!
ـ أخاف؟! من شو؟! إللّي بِدو يصير يصير..
بعد أسبوع كان أكثر من نصف العمل قد تم إنجازه. وصل صاحب الفيلا إلى موقع العمل. حين مرّ من جانبنا قال "شالوم". ردّ أبو محمد "شالوم". لم ينتبه للتغيير الذي طرأ على شجرة الليمون. حين ابتعد أخذ أبو محمد يغنّي اللازمة: الدار دار أبونا...
ابتسمت. هل غضب لأنّ "الخواجا" لم يلاحظ التغيير الكبير الذي طرأ على شجرة الليمون؟!
ملأ دلوين من الرمل وحملهما وسار الى داخل البناية. في وسط الطّريق قال وهو يتابع سيره دون أن يدير ظهره:
ـ أنا عارف ليش إنتِ مبسوط أيّها البطل.. بدَّك تقبض اليوم..
كان واضحا أنّ صاحب الفيلاّ الذي جاء يتفقّد ما أنجِز من العمل، جاء أيضا ليدفع مبلغا على الحساب للمعلم الذي سيدفع لنا. وكان "أبو محمد" سعيدا. اليوم يوم الجمعة. سوف يقبض أسبوعيته، وسوف يسافر إلى بلده التي نسيت اسمها، التي تقع بالقرب من جنين.
في ساعات العصر المبكّرة جمعنا عدّة الشغل. غسلناها كما نفعل في آخر كلّ يوم، واجتمعنا عند شجرة الليمون.
أخرج المعلِّم من محفظته المنتفخة رزمة كبيرة من الأوراق النقدية. عدّ: واحد اثنين ثلاثة اربعة خمسة ستة. ناولها للمعلم الثاني الذي يشتغل عنده.
حسدته.
ستمائة ليرة يعني ضعف أجرتي بالضبط.
ناولني المعلم ثلاث ورقات جديدة من فئة المائة ليرة قائلا: "تفضّل يا قبضاي".
قال أبو محمد الذي كان ينتظر دوره: هذا بطل. تناول الأوراق الثلاث من المعلّم. عدَّها، مع أنّها لم تكن بحاجة الى ذلك، وظلّ واقفا. قال بعد برهة: بَعِد ستّين.
ـ شو؟!
ـ بَعِد ستِّين.. عشر ليرات كل يوم على الحراسة.
ـ أيّ حراسة؟!
ـ هيك اتفقت مع معلِّمي. عشر ليرات على الحراسة.
ـ ما قلِّيش.
ظلّ المعلِّم الثاني صامتا. لا يريد أن يؤكّد أو ينفي اتفاقه مع "أبو محمد"، واتّفاقه مع المعلم على ذلك.
كان أبو محمد قد بدأ ينظر اليه بطرف إحدى عينيه. ثم بدأ وجهه يغضب. عندما قال له المعلم: "إنتِ كنت تُحرس وِلاّ تْنام؟"، وَلّع. أجاب بحدّة:
ـ كنت أحرس.. أقولَّك، كنت أنام... ضاع إلك إشي؟!
ـ لازم يضيع؟!
ـ طيِّبْ.. هات الباقي.
كان وجه المعلّم قد بدأ يتغيّر، ولكنّه أضاف بشيء من اللين:
ـ أبو محمد.. إنتِ أخذت مثل ما أخذ الـ"عوزير الثاني".
ـ والحراسة؟!
ـ أيّ حراسة؟! إنت بتحمل أربع بلاطات ونص سطل رمل.. فِكْرَك مِش شايفين؟.. وأعطيناك نفس الأَجار..
لم يجب أبو محمد.
رفع طرفيّ قمبازه، وربطهما عند وسطه، فعاد كما يكون طيلة نهار العمل. هرول إلى داخل البناية. همس المعلِّم الثاني عندما ابتعد: "يا زلمه أعطيه مصريّاتو". عاد يحمل شاكوش المعلّم الكبير. صاح المعلم:
ـ شو بِتساوي؟! رجِّع الشاكوش محلُّو..
ـ حُطّهِن قبِل ما أكسِّر البلاط..
تحرّك المعلِّم الثاني من مكانه استعدادا لأيّ تطوّر وهو يقول: "بْتِحْرِزِشْ..". لم يغيِّر المعلم وقفته. وجهه فقط كان قد تغيّر. صار أسود مثل الطين.
ـ بِدَّك تكسِّر البلاط؟!
ـ بَكَسّرو..
ـ تْكَسّرو؟!
ـ آه.. بَكَسّرو..
ـ إسّا بَجيبلَك البوليس..
طار صواب أبو محمد. اندفع نحو مدخل الفيلا وهو يهربد:
بوليس؟!..
بَكَسّرو..
بوليس؟!...
طز فيك.. وفي البوليس... واللّي بِدّو يصير يصير..
توقّف لثوانٍ. نظر إلى المعلِّم بعينين قالتا كلّ شيء، وتابع اندفاعه وهو يقول:
ـ طز فيك.. وفي البوليس.. وفي اسرائير.. واللّي بِدّو يصير يصير..
كان المعلِّم الثاني قد استطاع اللحاق به. وكان المعلِّم الأول يضحك وهو يناوله ورقة بخمسين ليرة.
ـ ظلّ عشرة. قال.
ـ ظلّ إلَك عشرة. تعال بكِّير يوم الحدّ. بِدِّي آجي ألاقي صندوق الطين جاهز.
تركنا وأذيال قمبازه ما تزال حول وسطه. قال "بخاطركو". وكنا جميعا نضحك.
كنت سعيدا، رغم أنه لم يقل "بخاطرك أيّها البطل". حدّثت نفسي: "مِين البطل يا أبو محمد؟". نظرت الى المعلِّم والمعلِّم الثاني. كانا ما يزالان يضحكان. بدا لي أنهما كانا سعيدين، هما أيضا..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...