جمال الدين علي - خل أبيض... قصة قصيرة

هذا ما حصل بالضبط وليخسف بي الله إلى سابع أرض. مارادونا قال في تلك اللعبة أنها يد الله أما هو فقد قال أنه يد الله ولم يرف له جفن.
لا أعرف أين أنا وما الذي أتى بي إلى هنا بل لا أعرف كم من الوقت مضى وأنا أعب زجاجات الخمر في خيالي حتى ثملت تماما وبات عقلي مشوشا و لساني ثقيلا.
تتراقص الجدران بنظري مع سيل الظلام المنهمر; أكاد أفقد بصري والعتمة تمد أصبعها تفقأ عين الروح.
صوت موسيقى صاخبة ينطلق في توقيت واحد; حزمة من الحناجر اتحدت صارت حنجرة واحدة ضخمة بطول وعرض نفق المانش العظيم ذلك الذي خلد في ذاكرة العالم والفتى السوداني يشق عمق الموج و يهتك ستر كاميرات المراقبة في الظلام وينفذ إلى النور. الظلام يطبق بثقله و رائحته الكريهة; قائد الأوركسترا يمسك بعصاته الرقيقة; يشير لفرقته; يبدأ العزف على أجسادنا وتنطلق أصوات الجوقة ويا ويل تلك الآلة التي يخرج صوتها مشروخا أو مبحوحا أو مكتوما. يتم دوذنتها في الحال بمزيد من الشد والمط حتى تستطيل إلى خفوت. ومع أن حفلاتنا في الخارج لها زمن محدد; تم ضبط إيقاعنا عليه منذ مدة; حفلاتهم تستمر إلى آذان الفجر. من يمسك بالقلم لا يكتب نفسه شقي. وهم يمسكون بالقلم والريشة وأعواد العزف وأرواحنا أيضا كما قال قائد الأوركسترا ذات نشوة.
- منذ متى تتاجر بالخمر يا واطي؟
سأل القائد والعازف ينقرش ظهري يدوذن نغمتي ليطربه.
- أنا يا سيدي... ولم يدعني أكمل لا هو ولا العازف.
- ألا تعلم أنها أم الكبائر.
- ولكن...
صوتي مبحوح والعازف يشد أوتاري يضبط النغمة; صوتي مشروخ; يشد أكثر; يصبح لينا ومائعا..
- هذا يكفي..
يقول القائد و يطلق الأدلة والبراهين من السنة والكتاب; يخطئ في الآية; أخاف أن أصوبه فأتهم بتحريف القرآن. الكتاب المقدس له رب يحميه ولكن من يحميني من لساني وثرثرته الكثيرة؟ ها أنا أثرثر بالترهات معكم مع أنه حذرني بعدم التفوه بحرف مما رأيته هنا. وآمل أن يكون فيكم من يكتم السر ولا يفشيه حتى لو كان يوما آلة في يد أحد أفراد تلك الفرقة الموسيقية الماهرة و التي تجيد العزف على الأوتار الحساسة في أحلك ظلام. أنا أحذركم ها وأجري على الله. هناك الضرب على الأوتار ليس كنعال الأم ولا يد الأب ولا سوط الأستاذ تلك ضربات رحيمة من قلب عطوف. هناك لا تجوز عليك الرحمة حتى لو مت كما قال لنا القائد في حفل الأستقبال الذي أقيم على شرفنا. ( ضعوا آلهتكم تحت أقدامكم وأمشوا حافي القدمين حاسري الرؤوس. أنتم كفار ملحدون وشذاذ آفاق). وكانت الكلمة الأخيرة جديدة عليّ ولكن لا تقلقلوا فقد فهمت المعنى المقصود بيانا بالعمل. هناك عزف جماعي وعزف منفرد وهو الأخطر ولا يؤديه إلا عازف يملك أنامل شمسون وإحساس هتلر. عندما ينطلق الصوت من تلك الحنجرة الضخمة بطول وعرض المانش; تتداعى الجدران ويطير السقف وتصعد الأرواح إلى سماء مجهولة تعج بالشياطين والملائكة ثم تضيق كرامتك في ملابسك المبللة حتى تخال نفسك مجرد هواء عفن يمكنك العبور بكل سهولة ويسر من خرم إبرة ولا تقدر. حذرتكم ها قبل أن نخوض في التفاصيل.
وأنا معصوب العينين والأنفاس الساخنة تسلخ جلدي; يمرر فوهة المعروضات التي ضبطوها معي أمام أنفي ويسأل:
ما هذه؟ . جن وهذه. كونياك. وهذه شيري.. و. براندلي. فودكا.
- خبير عالمي في المشروبات الروحية و تدعي البراءة; صدقني تعبت معي.
والعازف يترك ظهري وينقرش أوتار حساسة وتخرج نغمتي مائعة ولزجة لا تطرب القائد. يصرخ تبقت زجاجة واحدة لو عرفتها سأدعك ترحل حتى تحدث معجبيك كم أنا مرهف; لا فرق بيني وبين أي مؤلف موسيقى عالمي.
يوقف العازف الماهر النقرشة على أوتاري الحساسة; يمرر الزجاجة أمام أنفي أشعر به استطال حتى أصبح كخرطوم الفيل.
- هيا أحكي ما الذي جمعك مع هؤلاء الصعاليك; تديرون تنظيما سريا لتقويض النظام أم أنك تتاجر في الخمر أيهما أخف إختار واحدة؟
سمعته سحب نفسا ثقيلا; نظف به حنجرته وقذفه في... ليس بالأرض ولا علقه بالجدار. ولكن ذلك الشيء اللزج دهن تروس ذاكرتي فدارت.
كنت يا سيدي أقوم بعملي الروتيني; وصلت إلى الفيلا الفخمة وبدأت بجمع الزجاجات الفارغة; خرج رجل بربطة عنق أنيقة وكان لطيفا دعاني للدخول; ثمة رجل أصلع بدين يتحدث للجمع. قال كلاما كثيرا شيء فهمته وشيء جهلته ومع أن خدوده نادية ووجهه الأملس يبرق مع أضواء الحفل و لم يكن يمت لنا بصله ولم أطلب منه التحدث بلساني و لكن الحق يقال الرجل عبر عني تماما كما لو أنه نام بلا عشاء وأفاق الصبح وليس في جيبه مصروف المدارس. ثم هاجوا وماجوا. سكروا كأنهم شربوا البحر; غنوا مبتهجين كأنهم عبروا المحيط.
كان الرزق وفيرا. الله حليم ستار يقطع من هنا ويوصل من هناك; جمعت الرزق زجاجات الخمر الفارغة وهممت بالخروج; فدخلني الشك وأنا برفقتكم معلق بين السماء والأرض ماذا كنت أفعل هناك ومن أنا; حي أم ميت؟
أمد خرطومي أشم رائحة الزجاجة الأخيرة التي سوف تخرجني من هذا الكابوس. أهتف... خل... خل.. إنها زجاجة خل يا سيدي; وأنفجر باكيا. أنا يا سيدي ألتقط الزجاجات الفارغة من القمامة; في البيت تقوم زوجتي بغسلها من النجاسة ونعب فيها بضاعتي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...