تعادل اهمية (بيوولف) في الادب الانكليزي اهمية الاوديسة والالياذة في الادب الاغريقي. ولعلها نظمت في النصف الاول من القرن الثامن. وربما كان مؤلفها الذي لا نعرف شيئا من اخباره من اواسط انكلترة، مع ان المخطوطة الوحيدة للقصيدة عثر عليها في جنوب انكلترة. وبسبب ما طرأ على اللغة الانكليزية من تغيير وما طرأ من تغيير كذلك على التهجئة والخطوط فان من المرجح ان يكون عامة القراء قد وجدوها عصية على القراءة والفهم بعد كتابتها بمئتي سنة. ولكن المخطوطة التي في حوزتنا (وهي موجودة في المتحف البريطاني بلندن) ظهرت الى الوجود بعد عدة قرون من نظم القصيدة. واشارت الابحاث الى ان القصيدة نسخت عدة مرات في مختلف انحاء انكلترة. وحظيت بكثير من الرواج بين عامة الناس. ولا شك انه كان لها مكانة عالية في الاوساط الادبية بدليل ان كثيرا من الكتاب حاولوا تقليدها شعرا ونثرا. وقد اطلق اسم (بيوولف) عليها في عام 1805، وطبعت اول مرة عام 1815. وهي تقع في 3182 بيتا من الشعر مما يجعلها اطول قصيدة في الادب الانكليزي القديم.
وفي عام 1731، وقبل ان ينسخ نص القصيدة نسخا جديدا، شب حريق في مكتبة السير روبرت كوتون بلندن حيث كانت المخطوطة فاحترق قسم كبير منها مع مجموعة رائعة من مخطوطات الادب الانكليزي الوسيط. وبسبب ذلك الحريق وما اعقبه من تدهور في المخطوطة فقدت عدة ابيات وكلمات من القصيدة. ولا ريب في ان القصيدة صعبة لصعوبة الشعر الانكلوسكسوني في اسلوبه وفي افكاره البعيدة عن المفاهيم الحديثة. وازدادت صعوبة القصيدة بسبب ما لحق بها من فساد وتشويه في اثناء اعادة نسخها بعد مئتين وخمسين سنة من نظمها.
ولكن بالرغم من صعوبة القصيدة فانها قادرة على هز مشاعر قرائها. فهي تحتل مكانة عالية في الشعر الانكليزي لبراعتها في تصوير البطولة والوطنية في العصور البعيدة. وبالرغم من انها انكليزية اللغة والاصل فانها لا تتحدث عن الانكليز، ولكنها تتحدث عن القبائل الجرمانية، وبخاصة قبيلتين من القبائل الاسكندنافية الجنوبية، الدانماركيين والجيتيين. وكانت الاولى تعيش في جزيرة زيلاند الدانماركية والثانية في جنوب السويد. ولذلك نستطيع القول ان القصيدة تتناول احداثا وقعت قبل كتابتها بنحو قرنين من الزمن، اي عقب طلائع الغزو الجرماني لانكلترة عام 449.
تبدأ قصة الملحمة في بلاد الدانماركيين في عهد الملك هروثغار. ويرمز القصر الذي شيده الملك وسماه هيوروت الى المجد والفخامة والنفوذ الذي كان يتمتع به. ويقول الشاعر ان هذا القصر "قد انار بلادا كثيرا"، مما يعني ان سلطان الملك هروثغار تجاوز حدود بلاده. وكانت البلاد تنعم برخاء وازدهار. ولكن ما لبثت ان واجهت خطرا جسيما. فقد حل في القصر وحشان لهما شكل انسان عملاق ويمتازان بوحشية تمتنع على الوصف. واثارت الغارات التي كانا يقومان بها الذعر في قلوب الرجال، وانقصت عدد المحاربين، وجعلت من القصر مكانا مروعا ومظلما ومهجورا. ودام هذا الحال اثني عشر عاما.
ووصلت اخبار الكارثة التي حلت بالدانماركيين الى بلاد الجيتيين في جنوب السويد. وما ان علم بها الشاب المغامر بيوولف حتى شد الرحال الى الدانمارك بصحبة جمهرة من رجاله الشجعان ليختبر قوته وشجاعته في مواجهة الوحشين، خدمة لملك صديق وطمعا في الشهرة والسمعة الطيبة.
واستقبل بيوولف وصحبه في قصر هيوروت، واوكلت اليهم مهمة تخليص القصر مما يواجهه من شر. وعندما هبط الليل انتشر بيوولف ورجاله في ارجاء القصر واسلحتهم في ايديهم. ولم يمض وقت طويل قبل ان يخرج من الضباب والظلمة الوحش غرندل والشرر يتطاير من عينيه كاللهب. وسرعان ما امسك باحد رجال بيوولف وراح يمزقه تمزيقا، ويلتهمه قطعة قطعة. وانطلق بيوولف الذي آلى على نفسه ان يصارع الوحش دون سلاح فاصاب الوحش في مقتل بعد معركة عنيفة. ففر الوحش وهو ينزف الى بحيرة الشر وغاص الى الاعماق لتستقبله الجحيم.
وبحلول الفجر اضيئت انوار القصر وحضر الملك هروثغار وحاشيته للاحتفال بالقضاء على الوحش غرندل. وانشدت قصائد تتغنى ببطولة بيوولف وشهامته.
ولكن ما ان هبط الليل من جديد حتى كان على بيوولف ان يشتبك مع الوحش الانثى التي جاءت لتنتقم لمقتل غرندل. فقتلت (أشير) رفيق الملك ومستشاره، واخذت جثته الى وكرها تحت البحيرة. فأحس الدانماركيون بألم شديد لهذا الانتقام السريع. ولكن بيوولف اعد نفسه لخوض معركة ثانية وتعهد للملك هروثغار ان ينتقم لمقتل (أشير) قائلا: "إن من الافضل للمرء ان يثأر لصديقه من ان يحزن عليه."
اعتمر بيوولف بخوذته واستل سيفه والقى بنفسه في البحيرة. ومضى يوم كامل قبل ان يصل الى قاعها. وحاولت الوحوش البحرية عرقلة مسيرته. ولكنه تمكن من شق طريقه الى ان بلغ قصرا عظيما خاليا من الماء يشع منه وهج كالنار. وهناك وقعت المعركة الحاسمة، وهناك وقفت العناية الالهية الى جانب بيوولف فهزم الوحش هزيمة نكراء.
وقف الدانماركيون على شاطئ البحيرة ينتظرون عودة البطل بيوولف. ولكن عندما رأوا مياه البحيرة وقد تلونت بالدم ظنوا ان بيوولف قد قتل، وتوجهوا الى القصر. اما رجاله من الجيت فقد ظلوا على الشاطئ ينتظرون بطلهم بيوولف. ولم يمض وقت طويل قبل ان يخرج بيوولف من البحيرة حاملا رأس غرندل وما تبقى من السيف العظيم الذي ذاب نصله في دم الوحش الانثى الملوث بالسم. ورافق البطل رفاقه الى قصر هيوروت في فرح وحبور. واحتفل القصر بتطهير البلاد من الشر باقامة مهرجانات خطابية ومآدب فاخرة وبتوزيع مكافآت وهدايا.
في صباح اليوم التالي كان على بيوولف ان يعود الى بلاده، فاهداه الملك هروثغار اثنتي عشرة هدية وودعه وداعا حارا وحزينا.
وعاد بيوولف الى جنوب السويد وقص على الملك هيغلاك والملكة هيغد مغامراته. واهداهما بعضا من الهدايا التي منحه اياها ملك الدانمارك. واكرم الملك هيغلاك البطل بيوولف بسخاء فمنحه قصرا فارها واطيانا.
وتمر سنوات كثيرة بعد انتصار بيوولف على الوحشين وهزيمته للتنين. وربما تزيد هذه السنوات على الخمسين اذا فهمنا ما يقوله الشاعر حرفيا من ان بيوولف حكم بلاده خمسين شتاء. ويقول الباحثون ان الرقم (خمسين) لا بد ان يكون تقريبيا وان يكون اشارة الى مرور مدة طويلة.
ولا نقرأ في القصيدة عن طبيعة حكم بيوولف لبلاده، ولكننا نعلم ان بيوولف كان حاكما صالحا. ويبلغنا الشاعر بان التنين بطبعه يسعى الى نبش الكنوز المخبأة. والتنين في القصيدة يكتشف كنزا مخبأ بعد محاولات استغرقت ثلاثمئة سنة. وثارت ثائرة التنين بعد ان اكتشف الكنز وسرقت منه كأس نفيسة. ويوصف نهب الكنز وصفا غير واضح تماما لان النص عند هذه النقطة لحق به فساد غير قليل ويحتاج الى دراسات طويلة لاعادته الى اصوله. ولكننا نفهم من النص ان مجرما فارا من العقاب يكتشف الوكر الذي وضع فيه التنين كنزه. ومن هذا الكنز يسرق كأسا نفيسة ويذهب بها الى سيده ثمنا للعفو. وهذا اثار غضب التنين الذي راح يعيث في البلاد فسادا انتقاما لسرقة الكأس.
واستعد بيوولف لمواجهة هذا الخطر. وتسلح بسيفه ودرعه الحديدي ليصد نيران التنين، واصطحب ثلة من رجاله، وسار الى حيث يعيش التنين مستعينا باللص سارق الكأس. وقف البطل عند مدخل الكهف الحجري، وكان يخرج منه هواء بالغ السخونة، واطلق صيحة التحدي. فاقبل التنين لصد الهجوم عن كهفه.
ونقرأ وصفا مفصلا للصراع بين بيوولف والتنين. اصر بيوولف ان يصارع التنين وحده. وكانت المعركة من العنف بحيث انها اثارت الرعب في قلوب الرجال. فما كان منهم الا ان فروا الى الغابة لحماية انفسهم. ولم يبق الى جانب بيوولف الا الشاب ويغلاف. وانقض التنين على بيوولف وامسك بخناقه غارسا مخالبه في حلقه، فاصابه في مقتل. فما كان من بيوولف الا ان اخرج خنجره وطعن التنين فقتله.
لقد اصيب الملك بجرح قاتل. واصبحت النهاية قريبة. فاعطى ويغلاف درعه وتمنى له الخير في عبارات توحي بان ويغلاف سيخلفه في حكم البلاد. لقد مات بيوولف وحيدا. ولم يكن له ولد يرث منه العرش. ولم يكن معه الا ويغلاف عندما لفظ انفاسه الاخيرة. وتجمهر الرجال الذين فروا من المعركة وتخلوا عن ملكهم في ساعة الشدة.
واعلن رسول خبر سقوط بيوولف، وتنبأ بوقوع حروب وكوارث بعد ان فقدت القبيلة ملكها. والقي بالتنين القتيل في البحر. واشعلت النيران لحرق جثمان الملك البطل على الصخور الشاهقة المطلة على البحر. بينما ركب المحاربون المخلصون صهوات جيادهم وطافوا حول النيران التي راحت تلتهم جثمان الملك وهم ينشدون القصائد التي تحكي مآثره ومغامراته وخصاله الطيبة. ويطفوا على السطح شعور بان القدر لا بد آت بشيء. فملك عظيم ونبيل قد سقط والمستقبل حالك وغير آمن.
في هذا المجتمع الذي تتحدث عنه القصيدة نجد ان اهم العلاقات الانسانية هي بين المحارب وملكه. وهي علاقة لا تقوم على خضوع انسان لارادة انسان آخر بقدر ما هي علاقة قائمة على الثقة والاحترام المتبادلين. فعندما يخلص المحارب الولاء لسيده لا يغدو خادما له بقدر ما يغدو رفيقا يفتخر بالدفاع عنه وبخوض حروبه. بالمقابل يفترض بالسيد ان يرعى محاربيه ويكافأهم بسخاء على شجاعتهم وولائهم. ففي القصيدة نجد ان الشاعر يشير الى الملك هروثغار او الملك بيوولف بانه"حامي المحاربين" و"معطي الهدايا الثمينة". اما اذا لم يكن الملك كذلك فانه يشار اليه بانه لئيم وجشع، الامر الذي يسبب النفور بينه وبين اتباعه ورعيته. فالاساس المادي الذي تقوم عليه العلاقة بين الملك ومحاربيه اساس واضح، ولكن الملك الصالح هو الذي يجعل الجانب المعنوي والعاطفي للعلاقة اقوى واشمل من الجانب المادي. لذلك فان الغنائم التي يحصل عليها الملك من اعدائه ويوزعها على محاربيه تعتير اكثر من مجرد ثروة ترفع من مستوى معيشة المحاربين، بل تعتبر برهانا على ان جميع الاطراف يحققون انفسهم بكل ما يعني ذلك روحيا ومعنويا من وحدة ومصالحة ونقاء سريرة. لذلك فان الاهمية المعنوية للثروة يشرحها الشاعر بالاشارة الى المكافأة التي يمنحها بيوولف لجندي دانماركي والتي تجلب للجندي الشرف والرفعة بين رفاقه.
كذلك فان العلاقة بين الاقارب لها مغزى كبير في هذا المجتمع، وتضفي قيمة عاطفية اخرى على الشعر البطولي الانكليزي القديم. فاذا قتل رجل من الرجال، فان على اقاربه اما ان يقتلوا القاتل او ان يرغموه على دفع "ثمن الرجل". ولكل رجل ثمن حسب الفئة التي ينتمي اليها في المجتمع. ولا بد للقاتل من دفع "ثمن الرجل" لاقارب القتيل اذا شاء ان يتجنب دفعهم الى الانتقام حتى وان كان القتل قد وقع بالخطأ. مرة اخرى نجد ان "الثمن" هذا تكمن قيمته الحقيقية في كونه برهانا على ان الاقارب قاموا بما يقتضيه الواجب نحو القتيل. اما الاقارب الذين لا يأخذون "ثمن الرجل" ولا ينتقمون فلا امل لهم بالشعور بالراحة والامان لانهم لم يجدوا طريقة عملية للتخلص من الحزن الذي يعتمل في صدورهم بسبب مقتل قريبهم. فالثأر لمقتل صديق افضل من الحزن عليه.
اما البطل بيوولف فانه لا يعبأ بالنزاعات القبلية بقدر ما يعبأ بمواجهة الشر القاتل. فغرندل والتنين خطران على امن البلاد. ولكنهما ليسا جزءا من النظام الاجتماعي. وبما انهما كذلك فان قتلهما يستلزم ممن يواجههما شيئا اعظم مما يستلزمه القتال العادي. ومن واجب الملك واتباعه ان يضعوا حدا للشر. ولكن الملك الدانماركي هروثغار رجل طاعن في السن ورجال حاشيته ليسوا من المغامرين. وبالرغم من ان هروثغار ملك عظيم الا انه يفتقر الى تلك الخاصة التي تدفع بيوولف الى مواجهة التنين الذي يهدد شعبه. والقصيدة لا تنتقد هروثغار لهذا العيب. فهو لا يبدو قادرا على ان يطور امكاناته البشرية الى الحدود التي يجيزها القدر. هذا هو الدور الذي يقدر لبيوولف القيام به. ان بيوولف عندما يقتل غرندل يختبر علاقته بالمصير المجهول. انه يدرك ادراكا كاملا ان الحظ قد يخونه، وانه قد يموت. ولكن سواء قتل او كتبت له الحياة فانه سيكون قد قام بما يجب ان يقوم به الرجال ليرتقوا الى مستوى البطولة.
والشجاعة هي الوسيلة التي يحقق بها البطل ذاته. يقول بيوولف: "ان القدر غالبا ما ينقذ الرجل الشجاع اذا لم يكن قد كتب عليه الموت." ومعنى ذلك انه اذا لم يكن القدر قد كتب الموت سلفا على رجل من الرجال فان شجاعة هذا الرجل هي الخاصة التي ربما تستطيع التأثير في القدر فتحول دون ان يكتب عليه الموت في المعركة. وهذه المقولة هي التي يسعى بيوولف الى التحقق منها: انه يذهب وحده الى المعركة مع الوحوش. والقدر المحتوم لا مفر منه في آخر الطريق بطبيعة الحال، ولكن ليس قبل ان يحقق المثل الاعلى للبطولة الى اقصى الحدود الممكنة، وقبل ان يحقق الخلود في ذاكرة الاجيال اللاحقة. ان القصيدة تعبير نبيل عن ذلك الخلود.
zedhakim@yahoo.co.uk
وفي عام 1731، وقبل ان ينسخ نص القصيدة نسخا جديدا، شب حريق في مكتبة السير روبرت كوتون بلندن حيث كانت المخطوطة فاحترق قسم كبير منها مع مجموعة رائعة من مخطوطات الادب الانكليزي الوسيط. وبسبب ذلك الحريق وما اعقبه من تدهور في المخطوطة فقدت عدة ابيات وكلمات من القصيدة. ولا ريب في ان القصيدة صعبة لصعوبة الشعر الانكلوسكسوني في اسلوبه وفي افكاره البعيدة عن المفاهيم الحديثة. وازدادت صعوبة القصيدة بسبب ما لحق بها من فساد وتشويه في اثناء اعادة نسخها بعد مئتين وخمسين سنة من نظمها.
ولكن بالرغم من صعوبة القصيدة فانها قادرة على هز مشاعر قرائها. فهي تحتل مكانة عالية في الشعر الانكليزي لبراعتها في تصوير البطولة والوطنية في العصور البعيدة. وبالرغم من انها انكليزية اللغة والاصل فانها لا تتحدث عن الانكليز، ولكنها تتحدث عن القبائل الجرمانية، وبخاصة قبيلتين من القبائل الاسكندنافية الجنوبية، الدانماركيين والجيتيين. وكانت الاولى تعيش في جزيرة زيلاند الدانماركية والثانية في جنوب السويد. ولذلك نستطيع القول ان القصيدة تتناول احداثا وقعت قبل كتابتها بنحو قرنين من الزمن، اي عقب طلائع الغزو الجرماني لانكلترة عام 449.
تبدأ قصة الملحمة في بلاد الدانماركيين في عهد الملك هروثغار. ويرمز القصر الذي شيده الملك وسماه هيوروت الى المجد والفخامة والنفوذ الذي كان يتمتع به. ويقول الشاعر ان هذا القصر "قد انار بلادا كثيرا"، مما يعني ان سلطان الملك هروثغار تجاوز حدود بلاده. وكانت البلاد تنعم برخاء وازدهار. ولكن ما لبثت ان واجهت خطرا جسيما. فقد حل في القصر وحشان لهما شكل انسان عملاق ويمتازان بوحشية تمتنع على الوصف. واثارت الغارات التي كانا يقومان بها الذعر في قلوب الرجال، وانقصت عدد المحاربين، وجعلت من القصر مكانا مروعا ومظلما ومهجورا. ودام هذا الحال اثني عشر عاما.
ووصلت اخبار الكارثة التي حلت بالدانماركيين الى بلاد الجيتيين في جنوب السويد. وما ان علم بها الشاب المغامر بيوولف حتى شد الرحال الى الدانمارك بصحبة جمهرة من رجاله الشجعان ليختبر قوته وشجاعته في مواجهة الوحشين، خدمة لملك صديق وطمعا في الشهرة والسمعة الطيبة.
واستقبل بيوولف وصحبه في قصر هيوروت، واوكلت اليهم مهمة تخليص القصر مما يواجهه من شر. وعندما هبط الليل انتشر بيوولف ورجاله في ارجاء القصر واسلحتهم في ايديهم. ولم يمض وقت طويل قبل ان يخرج من الضباب والظلمة الوحش غرندل والشرر يتطاير من عينيه كاللهب. وسرعان ما امسك باحد رجال بيوولف وراح يمزقه تمزيقا، ويلتهمه قطعة قطعة. وانطلق بيوولف الذي آلى على نفسه ان يصارع الوحش دون سلاح فاصاب الوحش في مقتل بعد معركة عنيفة. ففر الوحش وهو ينزف الى بحيرة الشر وغاص الى الاعماق لتستقبله الجحيم.
وبحلول الفجر اضيئت انوار القصر وحضر الملك هروثغار وحاشيته للاحتفال بالقضاء على الوحش غرندل. وانشدت قصائد تتغنى ببطولة بيوولف وشهامته.
ولكن ما ان هبط الليل من جديد حتى كان على بيوولف ان يشتبك مع الوحش الانثى التي جاءت لتنتقم لمقتل غرندل. فقتلت (أشير) رفيق الملك ومستشاره، واخذت جثته الى وكرها تحت البحيرة. فأحس الدانماركيون بألم شديد لهذا الانتقام السريع. ولكن بيوولف اعد نفسه لخوض معركة ثانية وتعهد للملك هروثغار ان ينتقم لمقتل (أشير) قائلا: "إن من الافضل للمرء ان يثأر لصديقه من ان يحزن عليه."
اعتمر بيوولف بخوذته واستل سيفه والقى بنفسه في البحيرة. ومضى يوم كامل قبل ان يصل الى قاعها. وحاولت الوحوش البحرية عرقلة مسيرته. ولكنه تمكن من شق طريقه الى ان بلغ قصرا عظيما خاليا من الماء يشع منه وهج كالنار. وهناك وقعت المعركة الحاسمة، وهناك وقفت العناية الالهية الى جانب بيوولف فهزم الوحش هزيمة نكراء.
وقف الدانماركيون على شاطئ البحيرة ينتظرون عودة البطل بيوولف. ولكن عندما رأوا مياه البحيرة وقد تلونت بالدم ظنوا ان بيوولف قد قتل، وتوجهوا الى القصر. اما رجاله من الجيت فقد ظلوا على الشاطئ ينتظرون بطلهم بيوولف. ولم يمض وقت طويل قبل ان يخرج بيوولف من البحيرة حاملا رأس غرندل وما تبقى من السيف العظيم الذي ذاب نصله في دم الوحش الانثى الملوث بالسم. ورافق البطل رفاقه الى قصر هيوروت في فرح وحبور. واحتفل القصر بتطهير البلاد من الشر باقامة مهرجانات خطابية ومآدب فاخرة وبتوزيع مكافآت وهدايا.
في صباح اليوم التالي كان على بيوولف ان يعود الى بلاده، فاهداه الملك هروثغار اثنتي عشرة هدية وودعه وداعا حارا وحزينا.
وعاد بيوولف الى جنوب السويد وقص على الملك هيغلاك والملكة هيغد مغامراته. واهداهما بعضا من الهدايا التي منحه اياها ملك الدانمارك. واكرم الملك هيغلاك البطل بيوولف بسخاء فمنحه قصرا فارها واطيانا.
وتمر سنوات كثيرة بعد انتصار بيوولف على الوحشين وهزيمته للتنين. وربما تزيد هذه السنوات على الخمسين اذا فهمنا ما يقوله الشاعر حرفيا من ان بيوولف حكم بلاده خمسين شتاء. ويقول الباحثون ان الرقم (خمسين) لا بد ان يكون تقريبيا وان يكون اشارة الى مرور مدة طويلة.
ولا نقرأ في القصيدة عن طبيعة حكم بيوولف لبلاده، ولكننا نعلم ان بيوولف كان حاكما صالحا. ويبلغنا الشاعر بان التنين بطبعه يسعى الى نبش الكنوز المخبأة. والتنين في القصيدة يكتشف كنزا مخبأ بعد محاولات استغرقت ثلاثمئة سنة. وثارت ثائرة التنين بعد ان اكتشف الكنز وسرقت منه كأس نفيسة. ويوصف نهب الكنز وصفا غير واضح تماما لان النص عند هذه النقطة لحق به فساد غير قليل ويحتاج الى دراسات طويلة لاعادته الى اصوله. ولكننا نفهم من النص ان مجرما فارا من العقاب يكتشف الوكر الذي وضع فيه التنين كنزه. ومن هذا الكنز يسرق كأسا نفيسة ويذهب بها الى سيده ثمنا للعفو. وهذا اثار غضب التنين الذي راح يعيث في البلاد فسادا انتقاما لسرقة الكأس.
واستعد بيوولف لمواجهة هذا الخطر. وتسلح بسيفه ودرعه الحديدي ليصد نيران التنين، واصطحب ثلة من رجاله، وسار الى حيث يعيش التنين مستعينا باللص سارق الكأس. وقف البطل عند مدخل الكهف الحجري، وكان يخرج منه هواء بالغ السخونة، واطلق صيحة التحدي. فاقبل التنين لصد الهجوم عن كهفه.
ونقرأ وصفا مفصلا للصراع بين بيوولف والتنين. اصر بيوولف ان يصارع التنين وحده. وكانت المعركة من العنف بحيث انها اثارت الرعب في قلوب الرجال. فما كان منهم الا ان فروا الى الغابة لحماية انفسهم. ولم يبق الى جانب بيوولف الا الشاب ويغلاف. وانقض التنين على بيوولف وامسك بخناقه غارسا مخالبه في حلقه، فاصابه في مقتل. فما كان من بيوولف الا ان اخرج خنجره وطعن التنين فقتله.
لقد اصيب الملك بجرح قاتل. واصبحت النهاية قريبة. فاعطى ويغلاف درعه وتمنى له الخير في عبارات توحي بان ويغلاف سيخلفه في حكم البلاد. لقد مات بيوولف وحيدا. ولم يكن له ولد يرث منه العرش. ولم يكن معه الا ويغلاف عندما لفظ انفاسه الاخيرة. وتجمهر الرجال الذين فروا من المعركة وتخلوا عن ملكهم في ساعة الشدة.
واعلن رسول خبر سقوط بيوولف، وتنبأ بوقوع حروب وكوارث بعد ان فقدت القبيلة ملكها. والقي بالتنين القتيل في البحر. واشعلت النيران لحرق جثمان الملك البطل على الصخور الشاهقة المطلة على البحر. بينما ركب المحاربون المخلصون صهوات جيادهم وطافوا حول النيران التي راحت تلتهم جثمان الملك وهم ينشدون القصائد التي تحكي مآثره ومغامراته وخصاله الطيبة. ويطفوا على السطح شعور بان القدر لا بد آت بشيء. فملك عظيم ونبيل قد سقط والمستقبل حالك وغير آمن.
في هذا المجتمع الذي تتحدث عنه القصيدة نجد ان اهم العلاقات الانسانية هي بين المحارب وملكه. وهي علاقة لا تقوم على خضوع انسان لارادة انسان آخر بقدر ما هي علاقة قائمة على الثقة والاحترام المتبادلين. فعندما يخلص المحارب الولاء لسيده لا يغدو خادما له بقدر ما يغدو رفيقا يفتخر بالدفاع عنه وبخوض حروبه. بالمقابل يفترض بالسيد ان يرعى محاربيه ويكافأهم بسخاء على شجاعتهم وولائهم. ففي القصيدة نجد ان الشاعر يشير الى الملك هروثغار او الملك بيوولف بانه"حامي المحاربين" و"معطي الهدايا الثمينة". اما اذا لم يكن الملك كذلك فانه يشار اليه بانه لئيم وجشع، الامر الذي يسبب النفور بينه وبين اتباعه ورعيته. فالاساس المادي الذي تقوم عليه العلاقة بين الملك ومحاربيه اساس واضح، ولكن الملك الصالح هو الذي يجعل الجانب المعنوي والعاطفي للعلاقة اقوى واشمل من الجانب المادي. لذلك فان الغنائم التي يحصل عليها الملك من اعدائه ويوزعها على محاربيه تعتير اكثر من مجرد ثروة ترفع من مستوى معيشة المحاربين، بل تعتبر برهانا على ان جميع الاطراف يحققون انفسهم بكل ما يعني ذلك روحيا ومعنويا من وحدة ومصالحة ونقاء سريرة. لذلك فان الاهمية المعنوية للثروة يشرحها الشاعر بالاشارة الى المكافأة التي يمنحها بيوولف لجندي دانماركي والتي تجلب للجندي الشرف والرفعة بين رفاقه.
كذلك فان العلاقة بين الاقارب لها مغزى كبير في هذا المجتمع، وتضفي قيمة عاطفية اخرى على الشعر البطولي الانكليزي القديم. فاذا قتل رجل من الرجال، فان على اقاربه اما ان يقتلوا القاتل او ان يرغموه على دفع "ثمن الرجل". ولكل رجل ثمن حسب الفئة التي ينتمي اليها في المجتمع. ولا بد للقاتل من دفع "ثمن الرجل" لاقارب القتيل اذا شاء ان يتجنب دفعهم الى الانتقام حتى وان كان القتل قد وقع بالخطأ. مرة اخرى نجد ان "الثمن" هذا تكمن قيمته الحقيقية في كونه برهانا على ان الاقارب قاموا بما يقتضيه الواجب نحو القتيل. اما الاقارب الذين لا يأخذون "ثمن الرجل" ولا ينتقمون فلا امل لهم بالشعور بالراحة والامان لانهم لم يجدوا طريقة عملية للتخلص من الحزن الذي يعتمل في صدورهم بسبب مقتل قريبهم. فالثأر لمقتل صديق افضل من الحزن عليه.
اما البطل بيوولف فانه لا يعبأ بالنزاعات القبلية بقدر ما يعبأ بمواجهة الشر القاتل. فغرندل والتنين خطران على امن البلاد. ولكنهما ليسا جزءا من النظام الاجتماعي. وبما انهما كذلك فان قتلهما يستلزم ممن يواجههما شيئا اعظم مما يستلزمه القتال العادي. ومن واجب الملك واتباعه ان يضعوا حدا للشر. ولكن الملك الدانماركي هروثغار رجل طاعن في السن ورجال حاشيته ليسوا من المغامرين. وبالرغم من ان هروثغار ملك عظيم الا انه يفتقر الى تلك الخاصة التي تدفع بيوولف الى مواجهة التنين الذي يهدد شعبه. والقصيدة لا تنتقد هروثغار لهذا العيب. فهو لا يبدو قادرا على ان يطور امكاناته البشرية الى الحدود التي يجيزها القدر. هذا هو الدور الذي يقدر لبيوولف القيام به. ان بيوولف عندما يقتل غرندل يختبر علاقته بالمصير المجهول. انه يدرك ادراكا كاملا ان الحظ قد يخونه، وانه قد يموت. ولكن سواء قتل او كتبت له الحياة فانه سيكون قد قام بما يجب ان يقوم به الرجال ليرتقوا الى مستوى البطولة.
والشجاعة هي الوسيلة التي يحقق بها البطل ذاته. يقول بيوولف: "ان القدر غالبا ما ينقذ الرجل الشجاع اذا لم يكن قد كتب عليه الموت." ومعنى ذلك انه اذا لم يكن القدر قد كتب الموت سلفا على رجل من الرجال فان شجاعة هذا الرجل هي الخاصة التي ربما تستطيع التأثير في القدر فتحول دون ان يكتب عليه الموت في المعركة. وهذه المقولة هي التي يسعى بيوولف الى التحقق منها: انه يذهب وحده الى المعركة مع الوحوش. والقدر المحتوم لا مفر منه في آخر الطريق بطبيعة الحال، ولكن ليس قبل ان يحقق المثل الاعلى للبطولة الى اقصى الحدود الممكنة، وقبل ان يحقق الخلود في ذاكرة الاجيال اللاحقة. ان القصيدة تعبير نبيل عن ذلك الخلود.
zedhakim@yahoo.co.uk