إبراهيم الحسيني - العصفور.. قصة قصيرة


خرجوا جميعاً وبقيت وحدي , وعلى غير العادة رمقني الحارس بمودة :
- تصبح على خير .
وضرب المفتاح في الباب, تك.. تك, أغلق الزنزانة.
والحق, الحق , أقول لكم :
كنت أتطلع إلى الورقة في يد الحارس, وهو ينادى اسما اسما ,إلى أن انتهى, تلفت حولي, وكد ت أنفجر في البكاء, لكنى تماسكت, فهؤلاء أحبة, وأنت رجل . تمددت على فراشي,في بلادة وشجن, كتلة شمعية باردة مخنوقة بالبكاء.
ما أقسي هذه اللحظة.. لحظة انعدام اليقين , بين الفرحة بانعتاق الآخرين, وحزن الأسر والفراق, شددت البطانية على وجهي , لكنى – صدقوني- لم أنم, ولم تغمض عيناى , ولم تنتبني ولو غفوة, كنت في كامل الإدراك وتمام اليقظة, ضعف, انكسار, وهم ,خيال, حقيقة, قوة , بهجة, تمزق , انفجار, انشطار, لم أدر إلا وأنا مازلت ممددا على فراشي, واقفا أدور في الزنزانة , أجمع ملابسي والمنشفة وفرشاة ومعجون الأسنان وماكينة الحلاقة , في الحقيبة , التي نفضت, أو نفض هو, عنها الغبار, ورأيتني أخرج, والأبواب لا تزال مغلقة, من باب الزنزانة إلى العنبر, ومن بوابة العنبر إلى الفناء الكبير, ومن بوابة الفناء الكبير إلى الإدارة, ومن بوابة الإدارة إلى السور الخارجي, ومن بوابة السور الخارجي إلى الشارع .
اندفع الهواء إلى صدري , تنفست بعمق .
" الله.. الهوا جميل "
ورأيتني, من هنا, بمفردي أسير, والطريق يمتد, أبريل والخضرة ورائحة الورد والرياحين و حفيف أوراق الشجر الكثيف و سمرة الإسفلت وومضة الليل وبقع الضوء البعيد .
" ما أحلاك هذه الأيام حبيبتي "
إلى أن وصلت مفترق طرق, ظلت تتقاسمني, أو تتقاسمه, الحيرة : في أي طريق أمشى ؟ حتى سمعت قطارا يدخل محطة, وتذكرت عندما كان صوت عجلاته الحديدية يأتينا خفيضا في الزنزانة, يثير الرغبات والأشواق, يوقظ الأحلام, ويلهب الذكريات, جريت بكل ما أوتيت من قوة وعزم, و بالكاد تمكنت من اللحاق بالقطار, يتحرك ببطء, ألقيت الحقيبة في العربة قبل الأخيرة, وقفزت وراءها .
وكنت على فراشي – هنا – بالزنزانة ألهث
" على بلد المحبوب وديني طال شوقي
والبعد كاويني "
-عد يا شهاب.
- انهض أنت يا شهاب
- إنه الوهم, ولا داعي لخداع النفس يا شهاب
- هذا طريق الموت أو الجنون يا شهاب
- تمتع أنت بالعقل والحكمة والحياة يا شهاب
- أنا الأصل يا شهاب
- أنت خائر وبليد يا شهاب
- سأخسف بك الأرض يا شهاب
صياح وضجيج وصهيل وصليل وقعقعة ونيران و لهاث وحجارة وحصى ورمال ساخنة وأرض تنشق: لأغور.. وأغور, فأراني,هناك, في القطار, يشق الهواء, ويندفع : جسد هنا, وجسد هناك, المعادى, روح هنا, روح هناك, مارى جرجس, نار هنا, ونار هناك, الملك الصالح, نفق هنا, ونفق هناك, السيدة زينب, مشدود لخيول هنا, وخيول هناك.
يا الله , من أنا؟ وأين موقع قدمي الآن بالتحديد ؟
في ميدان التحرير , والساعة تدق العاشرة , كل الشوارع الآن لك فامض كيفما تشاء .
" بهتيم زهرة المدائن "
سيقان وأفخاذ وأرداف وخصور ونهود وعيون وخدود وشفاه وشعور طويلة قصيرة, مخنوقة ومرسلة, كل النساء الآن لك,متع بصرك , واملأ جفنيك .
" فاطمة ما أجملك حبيبتي , عندما تأخذيني في صدرك , وتفتحين بوابتك السحرية " وهاهو أتوبيس " 935 " يقبل , أراه من هنا يدخل المحطة , قلبي يرفرف ويكاد ينخلع من ضلوعي. أنت منى, وأنا منك, تمهل قليلا يا شهاب , الحرية أو الموت, اقفز يا شهاب , نط و لا تلتفت إليه, فاطمة الآن تتساءل عن سر خروجهم وبقائي, القلق يأكل لحمها, وينهش عظامها, طال الزمان والغياب,قد تنهار وتصاب بصدمة عصبية . أسرع يا سائق لقد أخذوني منها ليلة زفافنا, الشوارع أمامك خاوية, هات آخر ما عندك , أنا قادم حبيبتي, لحظات وأصير بين يديك :
ضميني .. ضميني ..
رمسيس.. كوبري غمرة.. شادر السمك.. الوايلي.. الأميرية.. مسطرد, حفر, مطبات.
آه.. بهتيم زهرة المدائن حقاً .
أختنق يا شهاب .. عـد .
البيوت القديمة, الشوارع المتربة, الحواري الضيقة .
الدنيا تدور بي يا شهاب عـد .
حكيم البقال, عبد اللاه الفكهاني , طه الحلواني, الصهاريج القديمة, الصهاريج الجديدة .
لساني يتدلى يا شهاب عـد .
صلاح الطعمجي, حمدي الكبابجي, عبد المنعم القماش, إمام الجزمجي, سيد العصيري .
أقبل الأرض تحت قدميك يا شهاب عــد .
شعراوي اللبان, كشك سعيد الأعرج, مقهى الغنام, مخابز الدمهوجي, عمال أسكو, هاهو بيتنا .
هواء.. هواء
صعدت درجات السلم, وبأخر قطرة من دمى, ضغطت الجرس, ولمحت طيف فاطمة خلف زجاج الباب الذي انفتح.. وغامت الدنيا .
في الصباح وجد الحارس عصفورا ممزقا عند أسياخ النافذة .
التفاعلات: محمد الجرادي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...