لحظات وتغادر الفراش ..
دقـائق وتغادر البيت ..
الساعة الآن تجـاوزت التـاسعة ..
إلى أيـن ؟ ليس مهما ، مـع من ؟ ليس مهما .
" رشـا في حـاجة الآن إلى فنجـان قهـوة على الريحة أو كبـاية شـاي سـكر خفـيف "
غـرفة عـطنة ، شـرفة متربة ، سـتائر متربة ، وسـائد متربة ، سجـادة متربة ، مرآة وتسريحة متربة، منضدة فرمايكا متربة ، ملابس ملقاة على حافة سرير وأٍسـفل مشجب ، دولاب متهالـك ، حذاء مقلوب ، هواء شحيح له نكهة الرماد " شـايط "
بقايا جبن وزيتون ولانشون وخبز فينو، زجاجة براندي فارغة ، كباية بها أعقاب سجائر ، كمدينو ، أباجورة ، هاتف رمادي حقيبة يد سوداء ، ولاعة صيني ، علب سجائر مريت فارغة ، منفضة سجائر ، نظارة طبية ، كيس مناديل ورقية فلورا ، آثار شمعة ذاوية ، علب وأقراص أدوية ، زجاجة مياه معدنية " حياة " فارغة .
الشعر جف وخف ابيض وتقصفت أطرافه ، انطفأ وميض العيون ، وتهدلت الجفون ، تساقطت أسنان وناب من الفك اليمين وضروس من الفك الشمال ، زحفت التجاعيد ملأت الوجه ، والبشرة ترهلت وتغضنت ، وصارت للفم رائحة بغيضة .
أول مرة رأينا ـ معا ـ لا وقت للحب ، قالت :
ـ لا وقت إلا للحب " 1 " .
ـ ترن .. ترن .
ـ ألو .
ـ ............
ـ النمرة غلط .
دعكت عينيها بإبهاميها ، مازالت على قيد الحياة ، هرشت قفاها بمودة
" تخشى رشا أن تستيقظ ذات يوم لتجد نفسها ميتة " 2 " .
أول مرة ذهبنا ـ معا ـ إلى شقة صديقي رحمي ، أطلت من النافذة ـ بعد زخة مطر ـ وقالت :
أنا سيدة السماء .
وأشارت ـ هنا ـ إلى صدرها ، وقالت :
وأنا النار الملتهبة " 3 ".
أردفت :
وأنا سيدة الريح .
ثم أدارت شهرزاد " كورساكوف" " 4 " ورقصت .
أشعلت سيجارة مريت زرقاء ، ثم نفثت دخانا ظلت تتابعه يتلاشى رويدا ، وخدر لطيف يدغدغ أطرافها ، أدخلت قدميها في خف ، ثم ألقت منشفة على كتفيها ، ومضت .
ردهة طويلة شبه معتمة ، أبواب عديدة مغلقة ، نجفة ضخمة ـ هي أيضا متربة ـ تتوسط سقف بهو كبير ، تتصدره صورة جنرال بزيه العسكري ، يسند رأسه على إبهام يده اليسرى وسبابتها ، وصور أخرى لفتاة وشابين ..
" في إحدى بروفات عطيل ـ وكانت تلعب ديدمونة ـ مع فرقة كلية الآداب المسرحية ، وجدت رشا نفسها في مفترق طرق ، بين الشاعر مندور الزين والكولونيل شفيق رضا ، هذا تفتنها قصائده ، وهذا يغويها نسره ونجومه ، قلبها مع الشاعر ، وعقلها مع الكولونيل ، الشاعر صعلوك وقصيدته تحلق بعيدا عن الأرض ، لا يملط من الدنيا إلا الترمس والذرة المشوي ورصيف النيل وكلمات وقصائد عذبة وأبياتا شعرية لا يقطن فيها احد ، والكولونيل خطواته منظمة تدب على الأرض بدقة صارمة ، وهذا زمن الضباط ، معهم سلطة يوليو ومجد الثوار وثروات الأمة "
لوحة زيتية متربة : صحراء مترامية .. رمال تتماوج ، تزحف على بحر سكنت أمواجه .. مراكب ممزقة الأشرعة ومحطمة القلاع .. شواهد قبور .. مسلة ورأس مومياء .
علب الشاي والسكر والبن فارغة ، أنبوبة الغاز فارغة ، الثلاجة فارغة ، مطبخ بارد لم تشتعل فيه نار منذ أسابيع ولا شهور ، عناكب تملأ سقفه وزواياه ، قوافل نمل وصراصير تروح وتجئ على جدرانه .
دقائق وتغادر البيت ..
إلى أين ؟ ليس مهما ، مع من ؟ ليس مهما .
ليل القاهرة ـ وسط البلد ـ ساحر وجميل ، تروق من الزحام ، تتندى ويصفو الجو ، يتلاشى ضجيج الكلاكسات ودمدمة الموتورات ، تتلألأ إعلانات النيون بألوان الطيف .
لن تركب مترو الأنفاق ـ الليلة ـ رغم ما في سلمه من متعة ، تغمض عينيها ، وتسند مرفقها على درابزينه ، وتستسلم ، تغفو وتصحو ، أحلى غفوة وأحسن صحو ، وهو يصعد بمفرده ويهبط ، تشتاق إلى شارع شبرا وتقاطع خلوصي وميدان أحمد حلمي وواجهة سينما دوللي ، تستدعي صباها وشبابها ، تجوب شوارع مسرة شبرا وشيكولاني ،تتأمل الأزياء والأحذية والإكسسوارات في الفتارين ، تنتقل مع زميلاتها من شبرا بالاس إلى دوللي ، وفي أمسيات الربيع والصيف سينما أمير ، سبارتكوس .. الطلقة 41 .. عالم مجنون مجنون .. أفلام شكسبير كوزنتسيف الروسية ـ تمقت الأمريكية والإنجليزية ـ امرأة في الطريق .. شباب امرأة .. الحرام .. باب الحديد .. زقاق المدق .. بداية ونهاية ، تلك الأفلام تقدرها ، ولا تمل من مشاهدتها ، إلا عطيل ودعاء الكروان لهما مكانة خاصة عندها .
ـ القهوة بتاعتي وشيشة يا حامد .
ـ باكو بسكوت يا عم مرسي .
وفي ركن قصي معتم ، تختار رشا مقعدا بمفردها ، تحت شجرة فيكس ، بممر البستان ـ المقهى الذي صدر منه بيان الطلبة ، وأقام مصر وأقعدها سبعينيات القرن العشرين ، صار وكرا للخرتيه والمحتالين والمومسات والقوادين ـ تفضم قطع بسكوت مملح ، تحتسي فنجان قهوة دوبل ، تدخن شيشة التفاح وهي تقلب الجمر بالماشة ، تستعيد أيام مجدها ، أيام تألقها ، وهي تطل على ملايين المشاهدين من شاشة التلفاز ، تحاور نجوم الأدب والفن والعلوم والسياسة والمجتمع ، تستضيف الملوك والرؤساء والأمراء والوزراء والثوار ، ترتاد المسرح ومعارض الرسم والنحت ، وفي السهرة تتبادل الأنخاب ـ شمبانيا ويسكي كونياك ـ مع الكتاب والمخرجين والممثلين والممثلات في الفنادق الكبرى والكازينوهات .
ما أجمل وسط البلد آخر الليل وأول النهار ، هدوء وندى وزرقة الأحلام . ساعة مبنى مصر للتأمين تشير إلى الخامسة واثنتا عشر دقيقة . مكتبة مدبولي مغلقة ، والشروق أيضا مغلقة . القاهرة تغتسل من زحام وضجيج وعوادم يوم مضى : سيارة رش الصباح ترش ميدان طلعت حرب وتقاطعاته مع شوارع قصر النيل ومحمود بسيوني وصبري أبو علم . نسيم يرطب الجو وينعشه . عمال جروبي ينظفون رخام الأرض .. يلمعون زجاج الفتارين . مقهى ريش يوارب بابه . محلات ملابس سيمون وموندكس مغلقة . الخطوط الجوية الفرنسية مغلقة . البنك المصري الأمريكي مغلق . محلات إكسسوارات ومصارف مغلقة . معرض للذهب والمجوهرات مغلق . معرض الزهور إنفان دي نيس مغلق . سيارات شرطة وأمن مركزي تطوق الميدان ، ضباط وجنود صغار متثاقلين متثائبين مقطبين في استرخاء حذر . يندر مرور سيارات وتاكسيات تتمهل أمام قليل من العابرين : عشاق صغار وكبار .. مصريون عرب وأجانب .
تغادر رشا الجريون ، قامة ممشوقة فارعة منسجمة بضة نحيلة الخصر مدملجة الساقين ، لبت نداء الصباح :
صباح الخير يا ربنا .
الليلة كانت عيد الميلاد ـ ميلادها ـ ودعت الثامن والأربعين لتستقبل عامها التاسع والأربعين بقدم ثابتة ، لا تخش الزمن ولا تهاب المجهول ، ترتدي ثياب سهرة أنيقة ـ تايير كحلي .. تي شيرت أصفر .. حذاء أحمر وحقيبة يد حمراء ـ تحاول الإيماء إلى أنوثة خارقة لا تكف عن التفجر والانفجار : شعر مسترسل عيون شفاه أنف ورقبة صدر بطن مؤخرة أفخاذ وسيقان ، أشارت إلى تمثال طلعت حرب ، وهمست في أذني :
توت .. توت " 5 ".
ثم تطلعت إلى السماء ، وصاحت :
ما ترد يابو خيمة زرقة .
وركضت بي نحو التمثال :
ـ تيجي ننام مع بعض هنا .
مجنونة ..
شربت حتى الثمالة ، سكرت ، تعملها ، ولن يحد منها حد .
أشرت إلى تاكسي ، دفعتها بغلظة :
ـ الدقي يا أسطي .
ـ أنزل .
ـ نروح .
ـ حد يزق الآلهة .
ـ حقك على .
ـ أنزل .
ـ نتكلم في البيت .
ـ حا اروح لوحدي .
ـ أنت مجنونة .
ـ وأنت ضعيف .
ـ أطلع يا أسطي .
ـ تكنش فاكر إني بحبك .
ـ أنا بحبك .
ـ أنت راجل والسلام .
دقائق وتغادر البيت ..
" رشا في حاجة الآن إلى فنجان قهوة على الريحة أو كباية شاي سكر خفيف "
دخلت الحمام ، تغتسل من أوساخها ، عرق وأتربة ، تعرت ـ الجسد الذي كان بضا وممشوقا رهرت وانتفخ ـ طقطت أصابعها ثم تحسست آثر الثدي المبتور ، وفتحت الدش ، تستعذب المياه :
قالوا لي هان الود عليه
ونسيك وفات قلبك وحداني " 6 " .
...........................................
ـ نفسي في أكلة سمك .
ـ بلطي ولا بحاري .
ـ على شط النيل أو البحر مش مهم .
ـ أنت مجنونة .
ـ في أحلى من الجنون .
ـ وحشتيني .
ـ نقوم .
ـ في سماك في القناطر .
ـ ممكن يكون فاتح ؟
ـ ولو نايم ، نصحيه .
ـ جنون بجنون نروح إسكندرية ؟
ـ نتفاهم في الطريق .
ـ عندي فكرة أجن .
ـ خير .
ـ أعرف صياد .. ينزل بينا الميه .. يقدف ويصطاد .
ـ الدنيا برد .
ـ صيد السمك غية .
ـ الدنيا ليل .
ـ النار في قلب الميه .. دفا ونور وعفا .
ـ البحر غريق .
ـ بلطي وبياض .. مشوي وكمان مقلي .
ـ خلينا على الشط .. كبرنا .
ـ آه يا جنية .. عشقك سحرني .. وموالك قتلني .
ـ فاكر .
ـ عمري ما نسيت .
ـ كان زمان .
ـ لسه في العمر بقية .
ـ ونسمع الست .. رق الحبيب .
ـ ومحمد قنديل .. بين شطين وميه .
ـ بحب اتنين سوا .
ـ الميه والهوا .
ـ ادخل جنتي .
ـ انفجر شظايا .
ـ حا لملم جسمك جوايا .
ـ روحي تتقطع .
ـ كل من فاكهتي ، كل من ثماري .
ـ ثمرة محرمة .
ـ اشرب خمري .
ـ أخشى الإدمان .
ـ أستظل بظلي .
ـ قربك نار .
ـ طفي ناري .
اطفي الشمس ؟
ـ خليك نار .
ـ ريقي ناشف .
ـ نبعي قدامك .
ـ نروح الإسماعيلية .
ـ قلنا القناطر أو إسكنرية .
ـ عندي شاليه .
ـ أحد .. أحد .. بركاتك يا مولانا .
خمسة أيام مرت ، في غمضة عين وانتباهتها ، جابا معا مدن دلتا مصر وسواحلها ، جناين وشاليهات القناطر ، طنطا والسيد البدوي ، إسكندرية قلعة قايتباي .. يود الفجر والمرسي أبو العباس ، الإسماعيلية السفن والبواخر ، استردت رشا خريف صباها وربيع شبابها ، ومضت عيناها ، تألقت بشرتها ، استعاد صوتها جلجلته ، غنت ، رقصت ، تفجرت أنوثتها ، عاشت ، اختارت الزمن الذي تحياه ، والرجل الذي دفنت عشقه ربع قرن :
إيزيس .. عشتار .. سالومي .. فينوس .. بلقيس ..
امرأة من الأساطير ..
من الحكايا والمواويل ..
محرقة ..
تحرق وتحترق ..
ذات لون نحاسي .. ومذاق حريف .. ونكهة البحر ..
لبؤة ضارية تمارس القتال والقنص في الفراش ..
امرأة من نار ..
عاصفة ..
توحش عينيها ، تهدج أنفاسها ، ملمسها ، مذاقها ، غنجها ، شخيرها ، تدميه عضا ومصا ولحسا ، تخمش وتخدش، تشهق .. وتنشب أظافرها في بدنه ، تؤلمه صفعا على جنبيه وإليته ، تحب الإيلاج من أمام ومن خلف .. من أعلى ومن أسفل .. تجحظ عيناها .. تتقلص عضلات وجهها .. وتنفث نارا هي قبس من الفردوس .. كانت تجأر :
عطشانة .. عطشانة ..
ثم تتنهد ، وترق العيون ، تشف الملامح ، وتمنح الوجه استرخاءا وسلاما وتهيم صبا .
" العشق جليس ممتع ، وأليف مؤنس ، ملك الأبدان وأرواحها ، والقلوب وخواطرها ، والعيون ونواظرها ، والعقول وآراءها ." " 7 "
نعم .. المرأة لا تعط نفسها إلا لمن تحب ، ولا تجد نفسها إلا مع من تحب ، وهي لم تكن كذلك مع الجنرال أو مع غيره .
أه .. لو كنت إلها لخلقت كل النساء على شاكلتها .
فقدت القدرة على البكاء ، فقدت القدرة على الضحك ، لا أحد هنا يؤنس وحدتها ، مريم الوحيدة هاجرت مع زوجها إلى كندا ، ومندور الكبير رحل إلى المجر ، والولد الصغير زكريا ضابط شرطة في الأقصر ، وفي أجازاته يحاصرها بالسين والجيم ، يراقب نظراتها ، يعد عليها أنفاسها ، يلاحقها بالاتهامات والاستفسارات ثم يمضى إلى أبيه ، يرتاح للحياة مع زوجة أبيه الكوافيرة ـ النتافة ـ التي خطفته مني ، مكثت في معهد الأورام ستة أشهر ، خضعت خلالها لجلسات إشعاعية وعلاج كيماوي مدمر ، لم يبق لها إلا براويز صور معلقة على الجدران وسخرية مريرة وامتعاض وقصائد وطنية مباشرة ، تلقيها في المظاهرات والندوات ورواد الأتيلييه ومقاهي المثقفين ، ريش .. البستان .. الحرية .. الندوة الثقافية .. ورصيف نقابة الصحفيين ، يوسعون مكانا بينهم :
أهلا بالخنساء " 8 ".
هم .. هم .. رفاق كل ليلة ، نفس الأسماء ، نفس الوجوه ، نفس المناقشات ، من لفظته المؤسسة ، ومن اختار اجتنابها ، شعراء قصاصين روائيين كتاب صحف وتشكيليين ، ماركسيين .. ناصريين .. بعثيين .. قوميين ،، ليبراليين .. عسس ومرشدين ، سأمت مثلث الرعب ، التحرير .. باب اللوق .. وطلعت حرب ، أين المفر ؟ لم يعد في المدينة غير عمرو بن العاص .. معاوية بن أبي سفيان .. إيفان كرامازوف ، قتلة محـتالين وملاحدة ، إلحـاد إيفان كرامازوف " إذا لم يكن الله موجودا فكل شيء مباح " " 9 "
ـ شيـش بيش .
ـ دوبـارة .
ـ دش .
تسحب قرصا من باكو هولز مخبأ في حقيبتها ، تدسه في زاوية من فمها ، وتنضم إليهم .
" كـل واحـد منهم عاوز ينام معايا بعشوة وقـزازة بيرة ، أنا مش مومس يا أولاد القحـبة "
ـ مين شايل المشاريب ؟
ـ تلعـبي ؟
ـ حاقطعك .
ـ أنا اللي نفسي مرة اقطعك .
ـ هات طاولة يا احمد .
ساعة ساعتين تحنى رأسها ، تدقق قراءة الزهر ، وتخطء كثيرا ، فهي تأبى ارتداء نظارتها الطبية ، تحتسي فنجان قهوة وراء فنجان ، تدخن بشراهة سيجارة من سيجارة ، تختلس من حين إلى آخر قرص هولز ، تدسه في فمها ، وفجأة تغلق الطاولة بعصبية ، ثم تزيح الكرسي للخلف ، وتنهض ، تحمل حقيبتها وأوراقها :
ـ حد رايح الأتيليه ؟
ـ حنحصلك .
وتمضي تشيعها نظرات ساخرة وتعليقات هامسة .
" بن الأتيليه مذاقه حريف ، قعدته أشيك وألطف ، وهواءه أرق وأطرى ، وعمال البوفيه ذوق نظاف ومهذبين ، يعرفون قـدر الأدباء والفنانين ، يقدمون المشاريب بأدب وابتسام :
ـ القهوة يا هانم .
ـ حمص الشام يا أستاذة .
تمر من ميدان طلعت حرب إلى شارع كريم الدولة ، تلقي نظرة آسيانة على مكتب زعيم حزب التجمع المظلم ، لسنوات عديدة عملت مديرة مكتب أحد ضباط يوليو الكبار ، كلهم تمنوها واشتهوها وراودوها من وراء ظهر الكولونيل شفيق رضا " اخدني لحم ورماني عضم "
كانت شديدة الجمال ، تخطف الأبصار ، ، تسلب الألباب ، شامية الملامح .. فارعة .. رشيقة بيضاء .. ملونة العينين .. وشعرها أصفر كثيف .
شـاخت وهـرمت ..
تدخل رشا الأتيليه ، يستقبلها عم زكي بابتسامته الودودة .
ـ حد سأل على يا عم زكي ؟
ـ ما حدش سأل يا هانم .
ـ في جوابات عشاني يا مجدي ؟
ـ ما فيش يا أستاذة .
تتـجه إلى لوحة الإعلانات ، تتـابع أخبار الحياة الثقافية ، المعارض الندوات نوادي السينما المسرحيات الجوائز المسابقات ، ثم تتـحول إلى عرض الكتب ، تتـأمل ديوانها " سوناتا الألم والشجن " تطمئن لوجوده في صدر الفاترينة وتبدي دهشة ، فالديوان لم يوزع مئة نسخة ، ومعظم النسخ ذهبت هدايا ، الناس فقدت التذوق !! فقدت الحس بالجمال !! لم يعد الشعر ديوان العرب ، لقد تجاوزت نازك وفدوي !! والنقاد يتجاهلون وجودها !! مؤامرة تحاك ضدها ، تغزل خيوطها الكوافيرة ـ النتافة ـ تحاصرها ، بنفوذ الجنرال ، وزوجة رجل الشرطة الأول في مصر ، تستعيد ثلاثاء ندوتها ، أجرت اتصالات هاتفية مع ناقد له شنة ورنة ودكتورة في آداب عين شمس ، نشرت الخبر في الجرائد القومية والحزبية والمستقلة ، وجهت الدعوة في الأماكن التي ترتادها ، واستعدت ليوم عرسها ، فإذا كان أحمد شوقي أمير الشعراء ، لم لا تكون هي الأميرة !! تكتب كل الشعر : الفصحى ـ عامودي وحديث ـ والعامية والزجل ، تحتقر قصيدة النثر والشعراء الشباب ، تكتب العاطفي والوطني والاجتماعي ، تزن وتقفي !! تصور وتشبه !! استعارات مركبة !! إيقاع منضبط مشدود كالوتر ! موسيقى الجناس والطباق تكسب قصيدتي مهابة وفخامة !! ومصحح اللغة نادرا ما يجد عندي خطأ نحويا !! من يكون درويش والسياب وعبد الصبور بجواري !! لا أمل ولا مطر !! أنا أحسن شاعرة عربية في العصر الحديث !! في قامة المتنبي وأبو نواس وبشار !! اللغة والمجاز ملك يميني !! لا قامة شعرية تطال قامتي !! رغم أنف الجنرال والنتافة امرأته !! أفسد الندوة !! اتصل بالنقاد والجمهور ، حجبهم عن الحضور !! امرأته عميلة للموساد والسي آي إيه ومباحث أمن الدولة !! حتى منظم الندوة تخلف ، هاتفني يعتذر في العشر دقائق الأخيرة ، أصيب بنوبة برد أقعدته في الجريون والنادي اليوناني طوال الليل !!
ـ الويسكي والبيرة أحسن علاج للبرد يا مدام .. خدي كاس !!
الأتيلييه بيت الكتاب والفنانين يفتح أبوابه الخامسة عصر كل يوم ، ويغلق الثانية عشر منتصف الليل ، يزدحم برواده كتاب وكاتبات .. فنانين وفنانات .. وطلبة وطالبات كليتي الفنون الجميلة والتطبيقية ، الأحد والثلاثاء والخميس من السابعة حتى العاشرة ، يأتون من القاهرة الكبرى والإسكنرية والمحلة ، الأحد افتتاح معارض الفن التشكيلي ـ الرسم والنحت ـ بقاعات الفن الأربع : راتب صديق .. انجي أفلاطون .. محمد ناجي .. وقاعة الشباب ، والثلاثاء أهم ندوة أدبية في مصر ، والخميس ليلة الجمعة وصباحه عطلة الأسبوع ، حفنة قليلة تأتي كل ليلة ونادرا ما يأتي أحدهم قبل العاشرة : سيناريست .. كاتب مسرح .. قاص فنان تشكيلي .. ممثل مغمور .. مخرج تليفزيوني .. طبيب عظام .. سمسارة لوحات .. صحفية .. مترجم ومدرسة فلسفة ، هذه شلة السهر ما بين الجريون والنادي اليوناني وروف الاوديون ، وتستكمل رشا سهرتها حتى الصباح في .AFTER 8
بمجرد انفصالها عن الجنرال ، ارتادت أماكن تعتقد تردده عليها : هيئة الكتاب ، المجلس الأعلى للثقافة ، نادي القصة ، اتحاد الكتاب ، حزب التجمع ، الأتيلييه ، مقاهي الأدباء والمثقفين ، أرادت استدعاء ماض قفز بغتة ، داهمتها تفاصيله ، تطاردها وتسهدها ، يجرفها حنين لسنوات مضت ، تشعر بقوة للإمساك بالزمن والسيطرة عليه وتحريكه ، يتملكها يقين أنه سوف يرتمي بين يديها ، هو لها محب ، لم يبرح عشقه ، أليس شعره قصيدتها ، ألا تقول قصيدته إنه يذوب شوقا وحنينا لأيامي معه ، ألا تزال جميلة كما كان يهمس :
أجمل نساء الأرض .
" عجبا لغزال قتال .. عجبا
يخطر بدلال فيثير .. الشهبا " " 10 "
تستعيد رشا لقاءها الأخير مع الشاعر مندور الزين ، الذي اختفى ، لوح لها من نافذة سيارته ، خجلت ، لم تطلب منه أن ينام معها تحت تمثال سعد زغلول أو طلعت حرب أو حتى إبراهيم باشا ، وقال :
وداعا .
كان لقاءا داميا ، أخذها للسماء في ملاهي العاشقين ، غمرها بالمطر والسحب ، مكنها للحظة من الزمن ، ثم أنزلها غرة إلى طين الأرض ووحلها ، ومضى .
سألت عنه في الحزب والجريدة .
أنكر نفسه .
هاتفته .
لم يرد .
اتصلت بمنزله مرات عديدة .
وأخيرا .. ردت زوجته بعصبية :
ـ عيب يا مدام رشا .
دقـائـق وتغـادر البـيـت ..
إلـي أيـن ؟ ليـس مهمـا ، مـع مـن ؟ ليـس مهمـا .
" رشا في حاجة الآن إلى فنجان قهوة على الريحة أو كباية شاي سكر خفيف "
أخفت رشا أثر جرح ما كان ثديا بارتداء مشد الصدور ، وثياب الخروج : تايير أحمر طويل .. بالطو أخضر ثقيل ، تزينت .. تعطرت ، ثم عقدت إيشارب أخضر ، أزاحته للخلف ، لتطل خصلة ميش هي كل ما تبقى من شعرها ، تبحث عن حذاء هنا وهنا ينسجم مع زيها ، ثم تنقلت بين الغرف ، غرفة تلو غرفة ، تشم رائحة مريم ومندور وزكريا ، تغمرها ذكريات تترى ، تجرحها وتدميها ، تنزف وخزا مؤلما في الروح والنفس ، تطالع آثار أولادها ومتعلقاتهم ، يتملكها شوق وحنين وأسى ورغبة عارمة في الخروج ، البيت بارد برود الموتى :
وحشوني ولاد الكـلب .
وتناولت قرص هولز بطعم الفراولة ، وهي تطفئ الأضواء ، لمبة تلو أخرى ،ثم تصفق الباب ، وصورة الجنرال تشيعها بنظرات لاهـية .
الهوامش :
1 ـ فيلم قصة يوسف إدريس وإخراج صلاح أبو سيف .
2 ـ الفيلسوف الوجودي كيركيجورد .
3 ـ أسطورة عشتار الفارسية .
4 ـ موسيقار روسي .
5 ـ إله فرعوني .
6 ـالموسيقار محمد عبدالوهاب .
7 ـ مصارع العشاق .
8 ـ شاعرة عربية قديمة .
9 ـ دوستويفسكي الأخوة كرامازوف .
10 ـ الموسيقار فؤاد عبد المجيد .
دقـائق وتغادر البيت ..
الساعة الآن تجـاوزت التـاسعة ..
إلى أيـن ؟ ليس مهما ، مـع من ؟ ليس مهما .
" رشـا في حـاجة الآن إلى فنجـان قهـوة على الريحة أو كبـاية شـاي سـكر خفـيف "
غـرفة عـطنة ، شـرفة متربة ، سـتائر متربة ، وسـائد متربة ، سجـادة متربة ، مرآة وتسريحة متربة، منضدة فرمايكا متربة ، ملابس ملقاة على حافة سرير وأٍسـفل مشجب ، دولاب متهالـك ، حذاء مقلوب ، هواء شحيح له نكهة الرماد " شـايط "
بقايا جبن وزيتون ولانشون وخبز فينو، زجاجة براندي فارغة ، كباية بها أعقاب سجائر ، كمدينو ، أباجورة ، هاتف رمادي حقيبة يد سوداء ، ولاعة صيني ، علب سجائر مريت فارغة ، منفضة سجائر ، نظارة طبية ، كيس مناديل ورقية فلورا ، آثار شمعة ذاوية ، علب وأقراص أدوية ، زجاجة مياه معدنية " حياة " فارغة .
الشعر جف وخف ابيض وتقصفت أطرافه ، انطفأ وميض العيون ، وتهدلت الجفون ، تساقطت أسنان وناب من الفك اليمين وضروس من الفك الشمال ، زحفت التجاعيد ملأت الوجه ، والبشرة ترهلت وتغضنت ، وصارت للفم رائحة بغيضة .
أول مرة رأينا ـ معا ـ لا وقت للحب ، قالت :
ـ لا وقت إلا للحب " 1 " .
ـ ترن .. ترن .
ـ ألو .
ـ ............
ـ النمرة غلط .
دعكت عينيها بإبهاميها ، مازالت على قيد الحياة ، هرشت قفاها بمودة
" تخشى رشا أن تستيقظ ذات يوم لتجد نفسها ميتة " 2 " .
أول مرة ذهبنا ـ معا ـ إلى شقة صديقي رحمي ، أطلت من النافذة ـ بعد زخة مطر ـ وقالت :
أنا سيدة السماء .
وأشارت ـ هنا ـ إلى صدرها ، وقالت :
وأنا النار الملتهبة " 3 ".
أردفت :
وأنا سيدة الريح .
ثم أدارت شهرزاد " كورساكوف" " 4 " ورقصت .
أشعلت سيجارة مريت زرقاء ، ثم نفثت دخانا ظلت تتابعه يتلاشى رويدا ، وخدر لطيف يدغدغ أطرافها ، أدخلت قدميها في خف ، ثم ألقت منشفة على كتفيها ، ومضت .
ردهة طويلة شبه معتمة ، أبواب عديدة مغلقة ، نجفة ضخمة ـ هي أيضا متربة ـ تتوسط سقف بهو كبير ، تتصدره صورة جنرال بزيه العسكري ، يسند رأسه على إبهام يده اليسرى وسبابتها ، وصور أخرى لفتاة وشابين ..
" في إحدى بروفات عطيل ـ وكانت تلعب ديدمونة ـ مع فرقة كلية الآداب المسرحية ، وجدت رشا نفسها في مفترق طرق ، بين الشاعر مندور الزين والكولونيل شفيق رضا ، هذا تفتنها قصائده ، وهذا يغويها نسره ونجومه ، قلبها مع الشاعر ، وعقلها مع الكولونيل ، الشاعر صعلوك وقصيدته تحلق بعيدا عن الأرض ، لا يملط من الدنيا إلا الترمس والذرة المشوي ورصيف النيل وكلمات وقصائد عذبة وأبياتا شعرية لا يقطن فيها احد ، والكولونيل خطواته منظمة تدب على الأرض بدقة صارمة ، وهذا زمن الضباط ، معهم سلطة يوليو ومجد الثوار وثروات الأمة "
لوحة زيتية متربة : صحراء مترامية .. رمال تتماوج ، تزحف على بحر سكنت أمواجه .. مراكب ممزقة الأشرعة ومحطمة القلاع .. شواهد قبور .. مسلة ورأس مومياء .
علب الشاي والسكر والبن فارغة ، أنبوبة الغاز فارغة ، الثلاجة فارغة ، مطبخ بارد لم تشتعل فيه نار منذ أسابيع ولا شهور ، عناكب تملأ سقفه وزواياه ، قوافل نمل وصراصير تروح وتجئ على جدرانه .
دقائق وتغادر البيت ..
إلى أين ؟ ليس مهما ، مع من ؟ ليس مهما .
ليل القاهرة ـ وسط البلد ـ ساحر وجميل ، تروق من الزحام ، تتندى ويصفو الجو ، يتلاشى ضجيج الكلاكسات ودمدمة الموتورات ، تتلألأ إعلانات النيون بألوان الطيف .
لن تركب مترو الأنفاق ـ الليلة ـ رغم ما في سلمه من متعة ، تغمض عينيها ، وتسند مرفقها على درابزينه ، وتستسلم ، تغفو وتصحو ، أحلى غفوة وأحسن صحو ، وهو يصعد بمفرده ويهبط ، تشتاق إلى شارع شبرا وتقاطع خلوصي وميدان أحمد حلمي وواجهة سينما دوللي ، تستدعي صباها وشبابها ، تجوب شوارع مسرة شبرا وشيكولاني ،تتأمل الأزياء والأحذية والإكسسوارات في الفتارين ، تنتقل مع زميلاتها من شبرا بالاس إلى دوللي ، وفي أمسيات الربيع والصيف سينما أمير ، سبارتكوس .. الطلقة 41 .. عالم مجنون مجنون .. أفلام شكسبير كوزنتسيف الروسية ـ تمقت الأمريكية والإنجليزية ـ امرأة في الطريق .. شباب امرأة .. الحرام .. باب الحديد .. زقاق المدق .. بداية ونهاية ، تلك الأفلام تقدرها ، ولا تمل من مشاهدتها ، إلا عطيل ودعاء الكروان لهما مكانة خاصة عندها .
ـ القهوة بتاعتي وشيشة يا حامد .
ـ باكو بسكوت يا عم مرسي .
وفي ركن قصي معتم ، تختار رشا مقعدا بمفردها ، تحت شجرة فيكس ، بممر البستان ـ المقهى الذي صدر منه بيان الطلبة ، وأقام مصر وأقعدها سبعينيات القرن العشرين ، صار وكرا للخرتيه والمحتالين والمومسات والقوادين ـ تفضم قطع بسكوت مملح ، تحتسي فنجان قهوة دوبل ، تدخن شيشة التفاح وهي تقلب الجمر بالماشة ، تستعيد أيام مجدها ، أيام تألقها ، وهي تطل على ملايين المشاهدين من شاشة التلفاز ، تحاور نجوم الأدب والفن والعلوم والسياسة والمجتمع ، تستضيف الملوك والرؤساء والأمراء والوزراء والثوار ، ترتاد المسرح ومعارض الرسم والنحت ، وفي السهرة تتبادل الأنخاب ـ شمبانيا ويسكي كونياك ـ مع الكتاب والمخرجين والممثلين والممثلات في الفنادق الكبرى والكازينوهات .
ما أجمل وسط البلد آخر الليل وأول النهار ، هدوء وندى وزرقة الأحلام . ساعة مبنى مصر للتأمين تشير إلى الخامسة واثنتا عشر دقيقة . مكتبة مدبولي مغلقة ، والشروق أيضا مغلقة . القاهرة تغتسل من زحام وضجيج وعوادم يوم مضى : سيارة رش الصباح ترش ميدان طلعت حرب وتقاطعاته مع شوارع قصر النيل ومحمود بسيوني وصبري أبو علم . نسيم يرطب الجو وينعشه . عمال جروبي ينظفون رخام الأرض .. يلمعون زجاج الفتارين . مقهى ريش يوارب بابه . محلات ملابس سيمون وموندكس مغلقة . الخطوط الجوية الفرنسية مغلقة . البنك المصري الأمريكي مغلق . محلات إكسسوارات ومصارف مغلقة . معرض للذهب والمجوهرات مغلق . معرض الزهور إنفان دي نيس مغلق . سيارات شرطة وأمن مركزي تطوق الميدان ، ضباط وجنود صغار متثاقلين متثائبين مقطبين في استرخاء حذر . يندر مرور سيارات وتاكسيات تتمهل أمام قليل من العابرين : عشاق صغار وكبار .. مصريون عرب وأجانب .
تغادر رشا الجريون ، قامة ممشوقة فارعة منسجمة بضة نحيلة الخصر مدملجة الساقين ، لبت نداء الصباح :
صباح الخير يا ربنا .
الليلة كانت عيد الميلاد ـ ميلادها ـ ودعت الثامن والأربعين لتستقبل عامها التاسع والأربعين بقدم ثابتة ، لا تخش الزمن ولا تهاب المجهول ، ترتدي ثياب سهرة أنيقة ـ تايير كحلي .. تي شيرت أصفر .. حذاء أحمر وحقيبة يد حمراء ـ تحاول الإيماء إلى أنوثة خارقة لا تكف عن التفجر والانفجار : شعر مسترسل عيون شفاه أنف ورقبة صدر بطن مؤخرة أفخاذ وسيقان ، أشارت إلى تمثال طلعت حرب ، وهمست في أذني :
توت .. توت " 5 ".
ثم تطلعت إلى السماء ، وصاحت :
ما ترد يابو خيمة زرقة .
وركضت بي نحو التمثال :
ـ تيجي ننام مع بعض هنا .
مجنونة ..
شربت حتى الثمالة ، سكرت ، تعملها ، ولن يحد منها حد .
أشرت إلى تاكسي ، دفعتها بغلظة :
ـ الدقي يا أسطي .
ـ أنزل .
ـ نروح .
ـ حد يزق الآلهة .
ـ حقك على .
ـ أنزل .
ـ نتكلم في البيت .
ـ حا اروح لوحدي .
ـ أنت مجنونة .
ـ وأنت ضعيف .
ـ أطلع يا أسطي .
ـ تكنش فاكر إني بحبك .
ـ أنا بحبك .
ـ أنت راجل والسلام .
دقائق وتغادر البيت ..
" رشا في حاجة الآن إلى فنجان قهوة على الريحة أو كباية شاي سكر خفيف "
دخلت الحمام ، تغتسل من أوساخها ، عرق وأتربة ، تعرت ـ الجسد الذي كان بضا وممشوقا رهرت وانتفخ ـ طقطت أصابعها ثم تحسست آثر الثدي المبتور ، وفتحت الدش ، تستعذب المياه :
قالوا لي هان الود عليه
ونسيك وفات قلبك وحداني " 6 " .
...........................................
ـ نفسي في أكلة سمك .
ـ بلطي ولا بحاري .
ـ على شط النيل أو البحر مش مهم .
ـ أنت مجنونة .
ـ في أحلى من الجنون .
ـ وحشتيني .
ـ نقوم .
ـ في سماك في القناطر .
ـ ممكن يكون فاتح ؟
ـ ولو نايم ، نصحيه .
ـ جنون بجنون نروح إسكندرية ؟
ـ نتفاهم في الطريق .
ـ عندي فكرة أجن .
ـ خير .
ـ أعرف صياد .. ينزل بينا الميه .. يقدف ويصطاد .
ـ الدنيا برد .
ـ صيد السمك غية .
ـ الدنيا ليل .
ـ النار في قلب الميه .. دفا ونور وعفا .
ـ البحر غريق .
ـ بلطي وبياض .. مشوي وكمان مقلي .
ـ خلينا على الشط .. كبرنا .
ـ آه يا جنية .. عشقك سحرني .. وموالك قتلني .
ـ فاكر .
ـ عمري ما نسيت .
ـ كان زمان .
ـ لسه في العمر بقية .
ـ ونسمع الست .. رق الحبيب .
ـ ومحمد قنديل .. بين شطين وميه .
ـ بحب اتنين سوا .
ـ الميه والهوا .
ـ ادخل جنتي .
ـ انفجر شظايا .
ـ حا لملم جسمك جوايا .
ـ روحي تتقطع .
ـ كل من فاكهتي ، كل من ثماري .
ـ ثمرة محرمة .
ـ اشرب خمري .
ـ أخشى الإدمان .
ـ أستظل بظلي .
ـ قربك نار .
ـ طفي ناري .
اطفي الشمس ؟
ـ خليك نار .
ـ ريقي ناشف .
ـ نبعي قدامك .
ـ نروح الإسماعيلية .
ـ قلنا القناطر أو إسكنرية .
ـ عندي شاليه .
ـ أحد .. أحد .. بركاتك يا مولانا .
خمسة أيام مرت ، في غمضة عين وانتباهتها ، جابا معا مدن دلتا مصر وسواحلها ، جناين وشاليهات القناطر ، طنطا والسيد البدوي ، إسكندرية قلعة قايتباي .. يود الفجر والمرسي أبو العباس ، الإسماعيلية السفن والبواخر ، استردت رشا خريف صباها وربيع شبابها ، ومضت عيناها ، تألقت بشرتها ، استعاد صوتها جلجلته ، غنت ، رقصت ، تفجرت أنوثتها ، عاشت ، اختارت الزمن الذي تحياه ، والرجل الذي دفنت عشقه ربع قرن :
إيزيس .. عشتار .. سالومي .. فينوس .. بلقيس ..
امرأة من الأساطير ..
من الحكايا والمواويل ..
محرقة ..
تحرق وتحترق ..
ذات لون نحاسي .. ومذاق حريف .. ونكهة البحر ..
لبؤة ضارية تمارس القتال والقنص في الفراش ..
امرأة من نار ..
عاصفة ..
توحش عينيها ، تهدج أنفاسها ، ملمسها ، مذاقها ، غنجها ، شخيرها ، تدميه عضا ومصا ولحسا ، تخمش وتخدش، تشهق .. وتنشب أظافرها في بدنه ، تؤلمه صفعا على جنبيه وإليته ، تحب الإيلاج من أمام ومن خلف .. من أعلى ومن أسفل .. تجحظ عيناها .. تتقلص عضلات وجهها .. وتنفث نارا هي قبس من الفردوس .. كانت تجأر :
عطشانة .. عطشانة ..
ثم تتنهد ، وترق العيون ، تشف الملامح ، وتمنح الوجه استرخاءا وسلاما وتهيم صبا .
" العشق جليس ممتع ، وأليف مؤنس ، ملك الأبدان وأرواحها ، والقلوب وخواطرها ، والعيون ونواظرها ، والعقول وآراءها ." " 7 "
نعم .. المرأة لا تعط نفسها إلا لمن تحب ، ولا تجد نفسها إلا مع من تحب ، وهي لم تكن كذلك مع الجنرال أو مع غيره .
أه .. لو كنت إلها لخلقت كل النساء على شاكلتها .
فقدت القدرة على البكاء ، فقدت القدرة على الضحك ، لا أحد هنا يؤنس وحدتها ، مريم الوحيدة هاجرت مع زوجها إلى كندا ، ومندور الكبير رحل إلى المجر ، والولد الصغير زكريا ضابط شرطة في الأقصر ، وفي أجازاته يحاصرها بالسين والجيم ، يراقب نظراتها ، يعد عليها أنفاسها ، يلاحقها بالاتهامات والاستفسارات ثم يمضى إلى أبيه ، يرتاح للحياة مع زوجة أبيه الكوافيرة ـ النتافة ـ التي خطفته مني ، مكثت في معهد الأورام ستة أشهر ، خضعت خلالها لجلسات إشعاعية وعلاج كيماوي مدمر ، لم يبق لها إلا براويز صور معلقة على الجدران وسخرية مريرة وامتعاض وقصائد وطنية مباشرة ، تلقيها في المظاهرات والندوات ورواد الأتيلييه ومقاهي المثقفين ، ريش .. البستان .. الحرية .. الندوة الثقافية .. ورصيف نقابة الصحفيين ، يوسعون مكانا بينهم :
أهلا بالخنساء " 8 ".
هم .. هم .. رفاق كل ليلة ، نفس الأسماء ، نفس الوجوه ، نفس المناقشات ، من لفظته المؤسسة ، ومن اختار اجتنابها ، شعراء قصاصين روائيين كتاب صحف وتشكيليين ، ماركسيين .. ناصريين .. بعثيين .. قوميين ،، ليبراليين .. عسس ومرشدين ، سأمت مثلث الرعب ، التحرير .. باب اللوق .. وطلعت حرب ، أين المفر ؟ لم يعد في المدينة غير عمرو بن العاص .. معاوية بن أبي سفيان .. إيفان كرامازوف ، قتلة محـتالين وملاحدة ، إلحـاد إيفان كرامازوف " إذا لم يكن الله موجودا فكل شيء مباح " " 9 "
ـ شيـش بيش .
ـ دوبـارة .
ـ دش .
تسحب قرصا من باكو هولز مخبأ في حقيبتها ، تدسه في زاوية من فمها ، وتنضم إليهم .
" كـل واحـد منهم عاوز ينام معايا بعشوة وقـزازة بيرة ، أنا مش مومس يا أولاد القحـبة "
ـ مين شايل المشاريب ؟
ـ تلعـبي ؟
ـ حاقطعك .
ـ أنا اللي نفسي مرة اقطعك .
ـ هات طاولة يا احمد .
ساعة ساعتين تحنى رأسها ، تدقق قراءة الزهر ، وتخطء كثيرا ، فهي تأبى ارتداء نظارتها الطبية ، تحتسي فنجان قهوة وراء فنجان ، تدخن بشراهة سيجارة من سيجارة ، تختلس من حين إلى آخر قرص هولز ، تدسه في فمها ، وفجأة تغلق الطاولة بعصبية ، ثم تزيح الكرسي للخلف ، وتنهض ، تحمل حقيبتها وأوراقها :
ـ حد رايح الأتيليه ؟
ـ حنحصلك .
وتمضي تشيعها نظرات ساخرة وتعليقات هامسة .
" بن الأتيليه مذاقه حريف ، قعدته أشيك وألطف ، وهواءه أرق وأطرى ، وعمال البوفيه ذوق نظاف ومهذبين ، يعرفون قـدر الأدباء والفنانين ، يقدمون المشاريب بأدب وابتسام :
ـ القهوة يا هانم .
ـ حمص الشام يا أستاذة .
تمر من ميدان طلعت حرب إلى شارع كريم الدولة ، تلقي نظرة آسيانة على مكتب زعيم حزب التجمع المظلم ، لسنوات عديدة عملت مديرة مكتب أحد ضباط يوليو الكبار ، كلهم تمنوها واشتهوها وراودوها من وراء ظهر الكولونيل شفيق رضا " اخدني لحم ورماني عضم "
كانت شديدة الجمال ، تخطف الأبصار ، ، تسلب الألباب ، شامية الملامح .. فارعة .. رشيقة بيضاء .. ملونة العينين .. وشعرها أصفر كثيف .
شـاخت وهـرمت ..
تدخل رشا الأتيليه ، يستقبلها عم زكي بابتسامته الودودة .
ـ حد سأل على يا عم زكي ؟
ـ ما حدش سأل يا هانم .
ـ في جوابات عشاني يا مجدي ؟
ـ ما فيش يا أستاذة .
تتـجه إلى لوحة الإعلانات ، تتـابع أخبار الحياة الثقافية ، المعارض الندوات نوادي السينما المسرحيات الجوائز المسابقات ، ثم تتـحول إلى عرض الكتب ، تتـأمل ديوانها " سوناتا الألم والشجن " تطمئن لوجوده في صدر الفاترينة وتبدي دهشة ، فالديوان لم يوزع مئة نسخة ، ومعظم النسخ ذهبت هدايا ، الناس فقدت التذوق !! فقدت الحس بالجمال !! لم يعد الشعر ديوان العرب ، لقد تجاوزت نازك وفدوي !! والنقاد يتجاهلون وجودها !! مؤامرة تحاك ضدها ، تغزل خيوطها الكوافيرة ـ النتافة ـ تحاصرها ، بنفوذ الجنرال ، وزوجة رجل الشرطة الأول في مصر ، تستعيد ثلاثاء ندوتها ، أجرت اتصالات هاتفية مع ناقد له شنة ورنة ودكتورة في آداب عين شمس ، نشرت الخبر في الجرائد القومية والحزبية والمستقلة ، وجهت الدعوة في الأماكن التي ترتادها ، واستعدت ليوم عرسها ، فإذا كان أحمد شوقي أمير الشعراء ، لم لا تكون هي الأميرة !! تكتب كل الشعر : الفصحى ـ عامودي وحديث ـ والعامية والزجل ، تحتقر قصيدة النثر والشعراء الشباب ، تكتب العاطفي والوطني والاجتماعي ، تزن وتقفي !! تصور وتشبه !! استعارات مركبة !! إيقاع منضبط مشدود كالوتر ! موسيقى الجناس والطباق تكسب قصيدتي مهابة وفخامة !! ومصحح اللغة نادرا ما يجد عندي خطأ نحويا !! من يكون درويش والسياب وعبد الصبور بجواري !! لا أمل ولا مطر !! أنا أحسن شاعرة عربية في العصر الحديث !! في قامة المتنبي وأبو نواس وبشار !! اللغة والمجاز ملك يميني !! لا قامة شعرية تطال قامتي !! رغم أنف الجنرال والنتافة امرأته !! أفسد الندوة !! اتصل بالنقاد والجمهور ، حجبهم عن الحضور !! امرأته عميلة للموساد والسي آي إيه ومباحث أمن الدولة !! حتى منظم الندوة تخلف ، هاتفني يعتذر في العشر دقائق الأخيرة ، أصيب بنوبة برد أقعدته في الجريون والنادي اليوناني طوال الليل !!
ـ الويسكي والبيرة أحسن علاج للبرد يا مدام .. خدي كاس !!
الأتيلييه بيت الكتاب والفنانين يفتح أبوابه الخامسة عصر كل يوم ، ويغلق الثانية عشر منتصف الليل ، يزدحم برواده كتاب وكاتبات .. فنانين وفنانات .. وطلبة وطالبات كليتي الفنون الجميلة والتطبيقية ، الأحد والثلاثاء والخميس من السابعة حتى العاشرة ، يأتون من القاهرة الكبرى والإسكنرية والمحلة ، الأحد افتتاح معارض الفن التشكيلي ـ الرسم والنحت ـ بقاعات الفن الأربع : راتب صديق .. انجي أفلاطون .. محمد ناجي .. وقاعة الشباب ، والثلاثاء أهم ندوة أدبية في مصر ، والخميس ليلة الجمعة وصباحه عطلة الأسبوع ، حفنة قليلة تأتي كل ليلة ونادرا ما يأتي أحدهم قبل العاشرة : سيناريست .. كاتب مسرح .. قاص فنان تشكيلي .. ممثل مغمور .. مخرج تليفزيوني .. طبيب عظام .. سمسارة لوحات .. صحفية .. مترجم ومدرسة فلسفة ، هذه شلة السهر ما بين الجريون والنادي اليوناني وروف الاوديون ، وتستكمل رشا سهرتها حتى الصباح في .AFTER 8
بمجرد انفصالها عن الجنرال ، ارتادت أماكن تعتقد تردده عليها : هيئة الكتاب ، المجلس الأعلى للثقافة ، نادي القصة ، اتحاد الكتاب ، حزب التجمع ، الأتيلييه ، مقاهي الأدباء والمثقفين ، أرادت استدعاء ماض قفز بغتة ، داهمتها تفاصيله ، تطاردها وتسهدها ، يجرفها حنين لسنوات مضت ، تشعر بقوة للإمساك بالزمن والسيطرة عليه وتحريكه ، يتملكها يقين أنه سوف يرتمي بين يديها ، هو لها محب ، لم يبرح عشقه ، أليس شعره قصيدتها ، ألا تقول قصيدته إنه يذوب شوقا وحنينا لأيامي معه ، ألا تزال جميلة كما كان يهمس :
أجمل نساء الأرض .
" عجبا لغزال قتال .. عجبا
يخطر بدلال فيثير .. الشهبا " " 10 "
تستعيد رشا لقاءها الأخير مع الشاعر مندور الزين ، الذي اختفى ، لوح لها من نافذة سيارته ، خجلت ، لم تطلب منه أن ينام معها تحت تمثال سعد زغلول أو طلعت حرب أو حتى إبراهيم باشا ، وقال :
وداعا .
كان لقاءا داميا ، أخذها للسماء في ملاهي العاشقين ، غمرها بالمطر والسحب ، مكنها للحظة من الزمن ، ثم أنزلها غرة إلى طين الأرض ووحلها ، ومضى .
سألت عنه في الحزب والجريدة .
أنكر نفسه .
هاتفته .
لم يرد .
اتصلت بمنزله مرات عديدة .
وأخيرا .. ردت زوجته بعصبية :
ـ عيب يا مدام رشا .
دقـائـق وتغـادر البـيـت ..
إلـي أيـن ؟ ليـس مهمـا ، مـع مـن ؟ ليـس مهمـا .
" رشا في حاجة الآن إلى فنجان قهوة على الريحة أو كباية شاي سكر خفيف "
أخفت رشا أثر جرح ما كان ثديا بارتداء مشد الصدور ، وثياب الخروج : تايير أحمر طويل .. بالطو أخضر ثقيل ، تزينت .. تعطرت ، ثم عقدت إيشارب أخضر ، أزاحته للخلف ، لتطل خصلة ميش هي كل ما تبقى من شعرها ، تبحث عن حذاء هنا وهنا ينسجم مع زيها ، ثم تنقلت بين الغرف ، غرفة تلو غرفة ، تشم رائحة مريم ومندور وزكريا ، تغمرها ذكريات تترى ، تجرحها وتدميها ، تنزف وخزا مؤلما في الروح والنفس ، تطالع آثار أولادها ومتعلقاتهم ، يتملكها شوق وحنين وأسى ورغبة عارمة في الخروج ، البيت بارد برود الموتى :
وحشوني ولاد الكـلب .
وتناولت قرص هولز بطعم الفراولة ، وهي تطفئ الأضواء ، لمبة تلو أخرى ،ثم تصفق الباب ، وصورة الجنرال تشيعها بنظرات لاهـية .
الهوامش :
1 ـ فيلم قصة يوسف إدريس وإخراج صلاح أبو سيف .
2 ـ الفيلسوف الوجودي كيركيجورد .
3 ـ أسطورة عشتار الفارسية .
4 ـ موسيقار روسي .
5 ـ إله فرعوني .
6 ـالموسيقار محمد عبدالوهاب .
7 ـ مصارع العشاق .
8 ـ شاعرة عربية قديمة .
9 ـ دوستويفسكي الأخوة كرامازوف .
10 ـ الموسيقار فؤاد عبد المجيد .