إبراهيم الحسيني - فالس.. قصة قصيرة

تحليل دم , تحليل بول , تحليل براز , وظائف كبد , وظائف كلى , رائحة اليود , جدران بيضاء , أسرة بيضاء , ملابس بيضاء , ممرضات , حكيمات , أطباء , أشعة بيضاء وسوداء, أشعة بالصبغة , أشعة مقطعية , حقن , أقراص, مراهم , مساحيق , مطهرات.
فجأة أتاه بنعومة ورقة كخيوط العنكبوت , تسلل إليه , حاصره, تمكن منه , تجسد تحت جلده , يتغذى من دمائه وأحشائه , لقد رآه , شم رائحته , يحس دبيبه في أوصاله , ليس مخيفا كما كان يظن , هو أدنى إليه من ملامحه وأنفاسه وأوردته , يسكن – هنا – في القلب , يطل من العينين : وداعة وسكونا ورضا , سيلازمه في صحوه ونومه وقيامه وقعوده , لن يفارقه مهما راح أو جاء سيأخذه عنوة , في رحلة غامضة بلا عودة , ليس له اختيار, هو المصير, عليك من الآن أن تتأهب , ستغادر وفاء , نجيب , سميرة من يكون لهم من بعدى ؟ من يمنع عنهم ذل اليتم وذل الحاجة ؟ وفاء بمفردها هل تقوى وتمكنهما من الشموخ والاعتداد بالنفس ؟ ستحرم من لقاء نجيب بعد عودته من المدرسة , معفرا متربا , يلقى الحقيبة من كتفه , يشب على أطراف قدميه , ليقبلك , ومن ثأثـأة سميرة , وركوبها ظهرك كالجمل , ومن وفاء تدخلك في أحشائها .
سترحل ..
إلى أيـن ؟
لا مجيب .
بين الشهيق والشهيق يأتي , بين الهمسة والهمسة يأتي , بين النظرة والنظرة يأتي , يزحف كالليل , ينهض كالطود , يجثم كالجبل , ينقض كالنسور , عمى فهيم لم يكمل نكته , كان يلقيها على مسامعنا , في أمسية صيفية , شخر شخرة كبيرة , ومات.
سرطان في الكبد , هكذا قال الطبيب , و لا مفر , كن شجاعا ونبيلا لا تبك يا زاهر , اغتسل من عشق الدنيا , لا تئن , لا تضجر, لا تتمدد هكذا تتوجع , اذهب إليه , كن شفافا كضوء الضحى , رقيقا كوردة في الصباح ,املك بيدك الرحيل , كن نسمة سحابة , هو قادم لا محالة , ماكر مخادع قاس غليظ القلب , لن تجدي هذه الأشعة والتحاليل , لن تجدي تلك الأدوية والعقاقير.
وفر دوائك يا طبيب.. جدي لأمي أصابه في المثانة , فجز الأطباء خصيتيه , وظل صراخه- بضعة أيام- يهز قلوب ألد أعـدائه , وأبى تمكن من رئتيه, قوسه قرفصه نحل بدنه ثم مات, إما خالتي إنصاف : قطعوا بزها الأيمن مرة , قطعوا بزها الأيسر مرة , بتروا ذراعها اليسرى مرة , وساقها اليمنى مرة , استأصلوا رحمها مرة , فصارت- خلال بضعة شهور- مسخا مشوها , وماتت.
غراب أسود , بومة , حداية , هل تنتظر نفس المصير؟ هل تحتمل الشفقة في عيون الآخرين ؟ وحدك تموت , وحدك تمضى , سوف تتعفن وتدود ويأكلك التراب يا زاهر, أين الشمس و القمر و النجوم ؟ أين النهار؟ أين الهواء؟ أين البشر؟
جثث جماجم هياكل عظمية , قبور وعـدم , الموسيقى تغادر أوتارها والألوان لوحاتها , والأسماك تهجر بحارها وأنهارها , كل الزهور والورود والفراشات فارقتك , تقدم يـا زاهر, لا تجبن سر إليه : مرفوع القامة والجبين , هي لحظة , وينتهي كل شيء , ستصرعه وتسخر منه , سوف تتخلص من سجن البدن وآلامه التي تزحف عليك.
أوصيك يا وفاء.. أوصيكم يا أهل يا أصحاب بنجيب وسميرة , إما بدني فهو لكم , احفظوه قطع غيار في ثلاجة , أو احرقوه وانثروا رماده مع الهواء والريح .. لكنى.. أرجوكم لا تقبروه.
في الصباح: تحلق الأطباء , الممرضات , رجال الشرطة في الغرفـة 405 , يتأملون جثة زاهر, معلقة في مشنقة , ولسانه يتدلى بطول الأرض.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...